الثقافة CULTURE 17 Issue 17179 - العدد Wednesday - 2025/12/10 الأربعاء ميرزا الخويلدي أوان فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين تـــحـــوي مــمــلــكــة الـــبـــحـــريـــن ســلــســلــة مـن المــقــابــر الأثـــريـــة، تُـــعـــرف بــاســم «تــــال مـدافـن دلمـــون»، سُجلت ضمن قائمة الـتـراث العالمي الــتــابــعــة لــ«مـنـظـمـة الأمـــــم المــتــحــدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) فـي صيف . تــــضــــم هـــــــذه الـــســـلـــســـلـــة فـــــي الــــواقــــع 2019 مجموعات عــدة مـن المــدافــن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور 25 قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» ، حـيـث عـمـد بـاحـثـان يعملان 1965 فــي عـــام لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هــذه الناحية مـن الخليج خــال تلك الفترة، فباشرت دراســة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة مـن الأوانــــي الـفـخـاريـة تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن. تحمل «تـــال مـدافـن دلمـــون» اســم إقليم بــــرز شــــرق الـــجـــزيـــرة الــعــربــيــة خــــال الألـفـيـة الـــثـــالـــثـــة قـــبـــل المــــيــــاد، كـــمـــا تــشــهــد المـــصـــادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الـذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنـى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة مـن القطع مصدرها حقل «مـدافـن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوان تتميز بحلل زخرفية تـبـدو غير مـألـوفـة فـي محيطها، منها آنـيـة على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهـي اليوم من محفوظات متحف البحرين الـوطـنـي بـالمـنـامـة. يبلغ طـــول هـــذه الـزهـريـة 9 ســـنـــتـــيـــمـــتـــراً، وعــــرضــــهــــا 12 المــــخــــروطــــيــــة سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي. تُـــزيـــن الـقـسـم الأعـــلـــى مـــن هـــذه الـزهـريـة شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي فــــي وســـطـــهـــا خـــطـــا مـــتـــعـــرّجـــا. خُــــطــــت هـــذه الـشـبـكـة بــالــلــون الأســـــــود، وتــقــابــلــهــا شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتل القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طــــرازا مــكــرّســا، يُــعــرف في قــامــوس الـفـنـون بـاسـم «بــيــبــال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأســود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقا لنسق فني اعتُمد بشكل واســـــع فـــي المـــنـــاطـــق الــشــمــالــيــة الــغــربــيــة من جـنـوب آسـيـا، وبـــات مـن خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مــدى قـرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا. تبدو زهرية دار كليب على الأرجـح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المـــتـــواصـــلـــة الـــتـــي جــمــعــت بــــن هـــــذا الــــــوادي وإقـلـيـم دلمـــون. لا نجد مـا يماثل هــذه الآنية فـــي هـــذا المـــيـــراث، غـيـر أنــنــا نـقـع عـلـى قطعة تـشـابـهـهـا بـشـكـل كــبــيــر، مــصــدرهــا المـنـاطـق الــشــرقــيــة مـــن المــمــلــكــة الــعــربــيــة الــســعــوديــة، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفا بها ضمن كتاب ، تـــنـــاول مـجـمـوعـة من 1984 لــهــا صــــدر عــــام اللقى الأثـريـة تـم اكتشافها في هـذه المناطق الشرقية. خــــرجــــت مـــــن مـــــدافـــــن دار كـــلـــيـــب كـــذلـــك مــجــمــوعــة مـــن الــقــطــع الـــفـــخـــاريـــة تـــعـــود إلــى الـــحـــقـــبـــة الــــتــــي أطــــلــــق فـــيـــهـــا المــســتــكــشــفــون الإغــــريــــقــــيــــون عـــلـــى جــــزيــــرة الـــبـــحـــريـــن اســـم تايلوس، وهـي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلـى فترة دخـول الإسـام. تُــشـكّــل هــذه القطع مجموعة مـن مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعا تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة مـن الفخار المــزجّــج، عُــثـر عليها وعام 1993 خلال حملة محليّة تمّت بين عام ، وهـي من محفوظات المتحف الوطني 1994 بالمنامة. قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب محمود الزيباوي السجن بين السياسي والمثقف! (اليوم) هو موعد صـدور كتاب «يوميات سجين» الـذي ألفّه الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ســاركــوزي، بعد أن أمضى فـي سجن «لاسانتيه» فـي بـاريـس نحو سنوات بتهمة التورط في مؤامرة 5 يوما فقط، حيث كان يقضي عقوبة بالسجن 20 تتعلق بتمويل حملته الرئاسية بأموال ليبية، وأصبح بذلك أول رئيس فرنسي، في )، يدخل السجن، وهـو أيضا الرئيس الوحيد في 1958 الجمهورية الخامسة (منذ الاتحاد الأوروبي، الذي تنفذ فيه هذه العقوبة. يوما ليواجه القضاء من جديد، 20 لكن الرئيس استأنف الحكم، وخــرج بعد ووجدها فرصة لكي يصدر كتابا متوسط الحجم يتوقع أن يحقق مبيعات عالية. حــكــى الـــرئـــيـــس المــتــهــم بـتـشـكـيـل «عـــصـــابـــة أشــــــــرار»، فـــي مــقــابــلــة مـــع صحيفة «لوفيغارو»، عن تجربته القاسية والمؤلمة والقصيرة في هذا السجن. كاشفا عن أنه خط الكتاب بمعظمه في أثناء وجـوده خلف القضبان «بقلم حبر جاف على طاولة نوفمبر (تشرين الثاني). 10 خشبية صغيرة يومياً»، وأنهاه بعد إطلاق سراحه في وحسب الصحيفة، يقول سـاركـوزي: «كنت أكتب بقلم حبر على طاولة صغيرة من الـخـشـب، كــل يـــوم، أعـطـي الأوراق لمـحـامـيّ، فيعطونها لسكرتيرتي لكتابتها على الحاسوب». الـرئـيـس الـــذي تمتع بـنـظـام غــذائــي فــي محبسه يـتـكـوَّن مــن «مـنـتـجـات الألـبـان وألواح حبوب الشوفان والشعير والمياه المعدنية وعصير التفاح وبعض الحلويات»، وفي ليلته الأولى داخل الزنزانة، ركع ساركوزي وصلى بعد مشاهدة مباراة كرة قدم. يقول في هذا الكتاب: «دعوت الله أن يمنحني القوة لأتحمل صليب هذا الظلم». وعن تجربته في السجن، قـال: «سيطر اللون الرمادي على كل شـيء، والتهم بشراهة كل شيء، وغطى كل سطح»، متابعاً: «كنت سأعطي كل شيء مقابل أن أتمكن من النظر عبر النافذة أو للاستمتاع بمشاهدة السيارات وهي تمرّ». لـيـس بـعـيـدا عــن فـرنـسـا؛ عـبـر جـبـال الألــــب، تـقـع إيـطـالـيـا، حـيـث سُــجـن المثقف والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، في سجن رهيب اختاره له زعيم النظام الفاشي ، أمضى فيه العشر سـنـوات الأخـيـرة مـن عمره قبل أن يموت 1926 موسوليني عـام . وفي تلك الظروف القاسية كتب «دفاتر 1937 ) أبريل (نيسان 27 تحت التعذيب في الـسـجـن»، الـتـي تـعـد أهـــم أعـمـالـه، تــنــاول فـيـه مفاهيم الـثـقـافـة، والهيمنة الثقافية، وشكلّت كتاباته إسهاما جوهريا في الفكر السياسي، وتُعد نصوصه تحديا فكريا عميقا بسبب استخدامه لـرمـوز ولـغـة مشفرة لمواجهة رقـابـة السجن، فقد استفاد صاحب نظرية «المثقف العضوي» من فترة انتقاله من السجن إلـى مصحة للعلاج حين تدهورت حالته لكتابة هذه المذكرات قبل أن يموت. لم يجادل غرامشي في ظروف السجن، كانت الفكرة تستّبد باهتمامه أكثر، كتب نقدا للنظرية الماركسية التي تبناها، وحـاول كشف ما عدّه أساليب الرأسمالية في الهيمنة الثقافية، وأكـد أهمية التعليم خاصة للطبقات الدنيا في المجتمع، ثم ميّز باهتمام بين المجتمع السياسي الذي تمثله الدولة، والمجتمع المدني الذي يتشكل من خلاله نظام المجتمع المحلي. يمكن القول إن السجن مثّل فرصة أمام غرامشي لتوليد أفكاره الكبرى، أو إنه امتحن في السجن تلك الأفـكـار والقناعات، مثله مثل نيلسون مانديلا، الــذي دخل السجن ثائرا وخــرج منه إصلاحياً، ومثل الأديــب الـروسـي فـيـودور دوستويفسكي الـذي كتب في سجن «كاترجا» بسيبيريا روايــة «منزل الأمـــوات»، وهـي شبه سيرة ذاتية، تصور تجاربه بوصفه سجينا سياسياً، ومثل جواهر لال نهرو، أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند، الذي كتب من سجنه (في أثناء الحكم البريطاني)، كتاب «اكتشاف الهند»، وكتابه «لمـحـات مـن تـاريـخ العالم» عبر رسـائـل إلـى ابنته أنديرا غاندي. وبالمناسبة، فإن الأب الروحي للهند المهاتما غاندي هو الآخر دخل السجن وأنتجت سنوات سجنه فيما بعد كتاب «قصة تجاربي مع الحقيقة». مثّلت تجربة السجن مراجعة نفسية وفكرية، منحت أصحابها، مهما اختلفت مشاربهم، فرصة للتأمل وإعادة اكتشاف الأنساق الثقافية التي آمنوا بها، أو إحداث مـراجـعـات أفضت إلــى تغييرات جوهرية فـي المنهج، بعض تلك الـتـحـولات صنعت مــســارات واعــيــة نـحـو فـكـر أكـثـر تقدمية وواقــعــيــة، مثلما فعلت مــع غــانــدي وبـعـده مانديلا اللذين وجدا في حركة الحقوق المدنية بديلا عن العنف والمواجهات الدموية، وبعض التحولات ارتــد أصحابها نحو الأفكار الماضوية والمـتـشـددة... (فـي سجنه، تحوّل سيد قطب، فكرياً، من النقد الأدبي والاجتماعي إلى تأسيس فكرة «الجاهلية» و«الحاكمية»، ومثّل كتابه «معالم في الطريق» منعطف التحول في فكره من طور الاعتدال إلى طور التشدّد). مــا يجمع الـسـيـاسـي ســـاركـــوزي بـمـئـات المثقفين الــذيــن سـكـنـوا الـسـجـون أنهم جميعا اكتشفوا في السجن قوة الحرية وقوة العقل وقوة الروح، وهي قوى جامحة لا تقيّد بقيود، واكتشفوا القدرة على تحويل الزمن في السجن إلى أداة وعي، وتحويل العزلة إلى فرصة لإعادة التركيب من جديد. فيلم صوّره أميرالاي مع الكاتب المسرحي قبل فترة قصيرة من وفاته آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس» مــصــعــد المــســتــشــفــى لا يـــكـــف عــــن الـــرنـــن، بـيـنـمـا المـــرضـــى وزوارهــــــم يــخــرجــون ويـدخـلـون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صـــــورة شــعــاعــيــة، قــبــل أن تــظــهــر لــنــا الــكــامــيــرا الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس على سـريـر المـــرض شـاحـبـا، متعباً، هــزيــاً، وقـــد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه. هكذا يبدأ «الـوثـائـقـي» المـعـنـون: «هـنـاك أشـيـاء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج الــــســــوري عــمــر أمـــــيـــــرالاي، مــــع صــديــقــه الــكــاتــب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من .1997 ) مايو (أيار 15 وفاته يوم الكلمة الأخيرة الــفــيــلــم بــمــثــابــة وصــــيــــة، أو لــنــقــل الـكـلـمـة الأخــــيــــرة الـــتـــي تــركــهــا لــنــا هــــذا الـــكـــاتـــب الـكـبـيـر بنصوصه كما بـانـخـراطـه الـكـامـل فـي القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونــوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لـتـكـون لـسـان حــال جيلنا فـي هذا الصراع». الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المـــرض، بـل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونـوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخـــرى. عندها التاريخ قـد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. 1948 نكبة «أقولها حرفيا إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفـسـدت على إنسان عاش خمسين عـامـا، مـثـاً، الكثير مـن الـفـرح، والكثير مـن الإمــكــانــات»، يـقـول ونـــوس فـي مطلع الفيلم الــــــذي عـــــرض فــــي ســيــنــمــا «مـــتـــروبـــولـــيـــس» فـي بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ســانــدرا إيشيه تـتـحـاور فيه مـع عمر أمـــــيـــــرالاي ضـــمـــن فــعــالــيــة «حـــــــــواران عـــلـــى أهــبــة المـوت» لـ«سينماتك بيروت». مات «رائـد المسرح السياسي»، سعد الله ونـوس بعد صـراع طويل مـع سـرطـان فـي البلعوم كــان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطـبـاء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سـنـوات. ومن حسن حظنا أنـهـا كـانـت مـن أغـــزر فـتـرات حياته إبــداعــا، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشــارك فـي هــذا «الـوثـائـقـي» البديع الـــذي تـحـدث خلاله عـــن الــعــاقــة الــعــضــويــة الـــتـــي ربــطــتــه بالقضية الـفـلـسـطـيـنـيـة، وأحـــــــداث المــنــطــقــة كــيــف عـاشـهـا بـروحـه وضـمـيـره ووجـــدانـــه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه. أميرالاي الساخر حد البكاء بـــقـــدر مـــا يـــبـــدو ســعــد الـــلـــه ونـــــوس حـزيـنـا ومـــكـــفـــهـــراً، نـــــرى صـــديـــقـــه عـــمـــر أمـــــيـــــرالاي حـن تـحـاوره المخرجة الفرنسية، فـي الفيلم الثاني، ســـاخـــرا هــزلــيــا بــــمــــرارة، حــتــى تـخـتـلـط الـــدمـــوع بـالـقـهـقـهـات. ويــجــيــب عــلــى الأســئــلــة بـاعـتـبـاره خـاصـة وأن كـل التوقعات 2030 يعيش فـي عــام فـي الخمسين سنة المـاضـيـة، حصلت، ولــم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غــدا نعرفه الــيــوم. فهو كـسـوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون والـلـبـنـانـيـون يـتـقـاسـمـون الـــشـــيء نـفـسـه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس». «أشـيـاء كثيرة كـان يمكن أن يتحدث عنها ) يـكـتـسـب أهــمــيــتــه مـــن حــيــث أنــه 1997( » المــــــرء اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية حيث فتح ونوس عينيه 48 مكثفة. تبدأ من نكبة عــلــى قــصــة شـــابـــن مـــن قــريــتــه «حـــســـن الـبـحـر» تطوعا فـي جيش الإنــقــاذ، لـيـحـررا فلسطين من الـــذيـــن جــــــاءوا لـيـحـتـلـوهـا. كــــان تـــرقّـــب مـغـمّــس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا». يـــســـيـــر الـــفـــيـــلـــم عــــلــــى وقـــــــع نـــــقـــــاط المـــصـــل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كـنـا بـــادا فـقـيـرة» لكن مـع كـل الـهـمـوم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة». لحظة حاسمة بعد أن استقر 1967 هزيمة في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، 1948 وأنها لم تكن أبدا بسبب ضعف القدرة القتالية عـنـد الــجــنــدي الــعــربــي. «زرعـــــوا فــي أذهــانــنــا أن مسألة هزيمة إسـرائـيـل هـي مسألة ممكنة، في أي لحظة». مدويّة. «لم أتصور 67 لذلك جـاءت هزيمة أن القوات العربية في مصر بـالـذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بـــدت فـيـه خـــال الأيــــام الــســتــة». وعــــدت الأنـظـمـة الـعـربـيـة بـأنـهـا ستحمي الــوطــن وأنــهــا المـؤهـلـة للقتال، ولم تفعل شيئا إلا مراكمة الهزائم. البكاء مع بلوغ النهاية مــشــاهــد اســـتـــســـام الـــجـــنـــود كـــانـــت مــؤلمــة. «الصدمة حـادة وعنيفة، إذ أحـس الجميع أنهم مـــطـــعـــونـــون بــكــبــريــائــهــم، أنـــهـــم مـــهـــانـــون حـتـى الـعـظـم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الــشــاي، عبد الـنـاصـر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بـــالـــطـــائـــرات، جـــنـــود عــــرب يـسـتـسـلـمـون. تـتـالـى المــشــاهــد الــتــي تــدعــو كـلـهـا لمــزيــد مـــن الانــكــســار. يكاشفنا ونـوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشـعـر أنـهـا الـنـهـايـة. وأن عـمـرا قــد انـتـهـى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى. أنــهــا كـشـفـت بـعـد هزيمة 73 أهـمـيـة حـــرب ســاحــقــة، أن إســـرائـــيـــل لـيـسـت حـصـنـا مـنـيـعـا لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تــجــرح وتـخـسـر مـــعـــارك. «لـــذلـــك صـفـقـنـا كـثـيـراً. . مـجـرد شـعـورنـا بـأن 1973 عـنـدمـا قـامـت حـــرب جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعـاد لنا شيئا من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات». لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ، وربما 67 ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد أنـــهـــا كـــانـــت فـــي ذهــــن بــعــض مـــن شــــاركــــوا فيها مقدمة لما أتى بعدها. لم يبق سوى الانتحار حـن زار أنـــور الــســادات إسـرائـيـل أصـاب ونــــوس الـــذهـــول. جـلـس وكــتــب «أنــــا الـجـنـازة والمــشــيــعــون مـــعـــا». كـــان ذلـــك آخـــر نـــص، ومـن بــعــده الـــتـــزم سـعـد الــلــه ونــــوس الــصــمــت. كـان مــتــوتــرا ولا يـسـتـطـيـع الــســيــطــرة عــلــى نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة الـــنـــوم، وحـــاولـــت أن أخــــرج مـــن حــالــتــي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توترا وضيقا وكـانـت الظلمة شاملة أمـامـي. فـي تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية». فـــــي فــــتــــرة الـــصـــمـــت الـــطـــويـــلـــة المــغــمــســة بــالاكــتــئــاب، أمــضــى مـعـظـم وقــتــه فـــي الـــقـــراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، 1989 إلــــــى أن أنـــعـــشـــت مـــشـــاعـــره انـــتـــفـــاضـــة وحــفــزتــه عـلـى كـسـر الــصــمــت. فــي تـلـك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريبا أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل. عندما راودته فكرة المصالحة نـــهـــايـــة المـــســـرحـــيـــة، أثـــــــارت الــــجــــدل، لأنــهــا تـــضـــمـــنـــت حــــــــــوارا بـــيـــنـــه وبـــــــن طـــبـــيـــب نــفــســي إسرائيلي، يــردد طــوال المسرحية مقتطفات من ســفــر إرمـــيـــة مــســتــنــزلا الــلــعــنــات عــلــى الـسـيـاسـة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً. يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح بابا على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُـــــرُم. «مــجــرد أن أقــــدم فــي المـسـرحـيـة شخصية يـهـوديـة إيجابية تحتج على مـا يـحـدث، وعلى مـــمـــارســـات (الــــشــــن بـــيـــت) إزاء الـفـلـسـطـيـنـيـن وعـمـلـيـات الـتـعـذيـب الــتــي يــقــومــون بــهــا، مجرد أن أقـدم شخصية من هـذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفا مع الإسرائيليين». المـشـكـلـة فـــي الـــبـــاد الــعــربــيــة أيـــضـــا، بـهـذه الــبــنــى المـتـخـلـفـة الـــتـــي لـــم تـــحـــدّث و«تـــجـــعـــل من شعوبها كما بشريا مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه». العلاقة بين القصف والسرطان يــعــتــقــد ســـعـــد الـــلـــه ونــــــوس أن ثـــمـــة عــاقــة مــبــاشــرة بـــن حـــرب الـخـلـيـج الــتــي أجـــهـــزت على بقية الآمـال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بـالـورم أثناء الـحـرب، وخــال القصف الـجـوي الوحشي الـــذي كـانـت تـقـوم بـه الـولايـات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثـــم جــــاءت مــفــاوضــات مـــدريـــد بـعـد هزيمة الـــعـــراق الــتــي يصفها بـــ«الاســتــســام» لأنــهــا «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هـذه الـحـرب الـدائـرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل». إســرائــيــل غـــدت حقيقة تـاريـخـيـة، غـيـر أنـه بــقــراءة متأنية يستنتج أنـهـا لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يـدمّــر المنطقة، ويجعلها ممرغة بـاسـتـمـرار في الهزيمة والتخلف والتفتت». يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟» يجيب: «على الأقـل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث». . ولـم 2011 أمـــيـــرالاي رحـــل هـــو الآخــــر عـــام يشك ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مد عمره. لأن إسـرائـيـل ستكون باقية حـن يـذهـب جيلنا إلى نهاية حياته». سعد الله ونوس كما بدا في آخر أيامه عمر أميرالاي بيروت: سوسن الأبطح النص الكامل على الموقع الإلكتروني
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky