يوميات الشرق ASHARQ DAILY 22 Issue 17178 - العدد Tuesday - 2025/12/9 الثلاثاء صورة لـ«عروس المتوسط» 50 معرض فني يضم عاما من ذاكرة الإسكندرية 70 «أرشيف بدوي»... فوتوغرافيا تُسجل الــتــجــوّل فــي حــي «كــــوم الـــدكـــة» بمدينة الإسكندرية (شمال مصر) يبدو اليوم أشبه بـرحـلـة فــي ذاكــــرة الـثـغـر؛ فـحـوائـط البنايات والمــــــنــــــازل فــــي هــــــذا الــــحــــي الـــعـــتـــيـــق تـكـتـسـي بمجموعة من الصور الفوتوغرافية النادرة لشخوص وأمـكـنـة تـعـود إلــى الـقـرن المـاضـي، عاما ً. 70 وتمتد لما يزيد على وقد جاءت هذه الصور ضمن احتفالية «أيـام التراث السكندري» بعنوان «بـدوي من كـوم الـدكـة»، التي انطلقت فـي نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وكان من المقرر رفعها نوفمبر (تـشـريـن الـثـانـي) بـعـد انتهاء 8 فــي المعرض، غير أن الجمهور رفض ذلك، وتمسّك ببقائها جزءا من معالم المكان، بعدما لامست مشاعرهم وأيقظت ذكريات لم تفلح السنوات الطويلة فـي محوها مـن وجـدانـهـم، على حد تعبير بعضهم. أمـا المـعـرض، الــذي يضم أعمال المصوّر الفوتوغرافي المصري أحمد بدوي، المولود في حي كـوم الدكة والــذي أسّــس فيه الاستوديو الــخــاص بـــه، فـقـد شـكّــلـت صــــوره ذاكــــرة حيّة للمدينة تعكس مراحل من تاريخها وتحفظ ملامحها القديمة. جـــــــاءت الــــفــــكــــرة انــــطــــاقــــا مــــن «الـــرغـــبـــة فـــي تـقـديـم مــعــرض مـمـيّــز يــخــرج مـــن جـــدران الـــغـــالـــيـــريـــهـــات الـــفـــنـــيـــة والــــقــــاعــــات والمــــراكــــز المتخصصة إلـى بــراح الــشــوارع؛ ليذهب إلى الـــنـــاس حـيـث يـعـيـشـون ويــعــمــلــون، أو حتى يمرّون مصادفة، بدلا من انتظار أن يتوجّهوا هم إليه في مكان مغلق وأنيق»، وفق المصوّر الـــصـــحـــافـــي عـــبـــد الــــعــــزيــــز بـــــــــدوي، مـــســـؤول الأرشيف وحفيد صاحب الاستوديو الراحل. وقـد رأى عبد العزيز، ومعه الصديقان الصحافيان حازم جودة وأحمد ناجي، اللذان يـشـاركـانـه تـرمـيـم وإدارة «أرشـــيـــف بــــدوي»، أن الـفـكـرة غـيـر مـسـبـوقـة فــي المــديــنــة، وربـمـا فــي مـصـر كـلـهـا؛ لــذلــك تـحـمّــسـوا لـهـا بــشــدّة، وطرحوا المشروع على إدارة احتفالية «التراث السكندري»، التي رحّبت بتنفيذه على الفور. ويقول عبد العزيز لـ«الشرق الأوســط»: صـــــــورة فــــي الــــبــــدايــــة مـن 25 «طـــبـــعـــنـــا نـــحـــو أرشــــيــــف بــــــــدوي، وعـــلّـــقـــنـــاهـــا عـــلـــى حـــوائـــط البنايات والمقاهي والمتاجر في منطقة كوم الدكة، متّبعين المسار نفسه الذي كان يسلكه جدّي ذهابا إلى الاستوديو الخاص به، بدءا من منزله في الحي وصولا إلى المحل الكائن فــــي مــنــطــقــة مــحــطــة الــــرمــــل. وفـــوجـــئـــنـــا يـــوم الافتتاح بترحاب كبير من أبناء المكان، حتى بدا الأمر وكأنه مناسبة عائلية». ويـــشـــيـــر إلــــــى أن أبـــــنـــــاء الــــحــــي أخــــــذوا يرددون أن الصور تُجسِّد قصصهم وحكايات عـائـاتـهـم وذكــريــاتــهــم، بـــل طــالــبــوا بتعليق المــزيــد مـنـهـا. ويــتــابــع: «اسـتـجـبـنـا لـهـم حتى صــــورة، وعندما 50 وصـــل عــددهــا إلـــى نـحـو جـاء موعد رفعها تمسّكوا ببقائها وطلبوا أن تظل معلّقة بشكل دائـــم؛ وقــد كــان لهم ما أرادوا». ويعتقد عبد العزيز أن سِر تعلّق الأهالي بـــهـــذه الـــصـــور هـــو أنـــهـــا «لامـــســـت قـلـوبـهـم»، مــضــيــفــا: «إنـــهـــا تــجــسّــد فـــعـــا حـــيـــاة الــنــاس وجــذورهــم وامــتــدادهــم، كما أن مَــن التقطها كـــان واحــــدا مـنـهـم». ويـشـيـر عـبـد الـعـزيـز إلـى لفتة طريفة حين كان سكان الحي، بعد أن رأوا المنظمين يعلّقون صور الأرشيف، «هم الذين يــعــرّفــونــنــا بـالـشـخـصـيـات المــــوجــــودة فـيـهـا، ويـــــروون حــكــايــات آبــائــهــم وأجــــدادهــــم بـفـرح وحنين وشجن». ومــن المــواقــف الـتـي لا ينساها الحفيد، تلك السيدة التي جــاءت إليه وهـي تحتضن صـــورة بـيـدهـا، وقـالـت لــه: «هـــذه آخــر صـورة لشقيقي... التقطها لـه جــدّك فـي الاستوديو قبل أن يتطوّع للخدمة، واستُشهد في حرب أكتوبر بيوم واحـد فقط، وكأنه أراد أن يترك لنا ذكرى لا تزول». يرى عم أحمد السيد، أحد سكان الحي، أن من أهم المكاسب التي حققها هذا المعرض الدائم أنه «أعاد الإحساس بالدفء إلى المكان، واستعاد المجتمع المصري كما كان في الزمن الــجــمــيــل، كــمــا أعـــــاد الإحــــســــاس بــالــجــمــال». ويقول لـ«الشرق الأوســط»: «أصبحت الناس تـسـيـر فـــي شـــــوارع الــحــي وتـــمـــارس حياتها الـطـبـيـعـيـة، تـبـيـع، وتــشــتــري، وتـجـلـس على المـــقـــاهـــي، والـــذكـــريـــات تـحـيـط بــهــم فـــي هيئة صــــــور. وأصـــبـــحـــوا يـــتـــطـــوعـــون لـــســـرد قـصـة المعرض والحديث عن شخوص الصور لكل مــن يـمـر بـالمـكـان بـفـخـر. إنـــه بـمـثـابـة تنشيط للسياحة، وأتوقّع زيـادة المترددين على هذه المنطقة التي تُعد نقطة جذب سياحي لتعدّد معالمها». لـكـن كـيـف وقـــع الحفيد وصـديـقـاه على هذا الكنز من الصور الفوتوغرافية النادرة؟ يـقـول عبد الـعـزيـز: «كـنـا نـذهـب للعمل داخـل اســتــوديــو جـــــدّي، وكــــان أمــامــنــا أرشـــيـــف من الـــصـــور يــعــود إلــــى الــثــمــانــيــنــات. وذات يــوم نزلنا إلـى الـسـرداب بحثا عن كاميرا قديمة، فـــإذا بنا نعثر على مـئـات الآلاف مـن الصور التي يعود بعضها إلى الأربعينات من القرن الماضي». ويـــضـــيـــف: «نُـــــرمّـــــم الآن هـــــذه الأعــــمــــال، ونـــحـــاول الــحــصــول عـلـى مـنـح لمــواصــلــة هـذا المشروع. ولم يقتصر الأمر على الصور؛ فقد اكـتـشـفـنـا أيـــضـــا مـــراســـات بـــن جـــــدّي وأحـــد أصـدقـائـه المــداومــن على السفر إلــى أوروبـــا، عرفنا منها أنه كان يطلب أحدث الكتالوغات والكاميرات المتوفرة آنـــذاك؛ مـا يــدل على أنه كــــان مــواكــبــا لــعــصــره. وقــــد تــضــافــر ذلــــك مع مــوهــبــتــه، فــكــانــت الـنـتـيـجـة تـــمـــيّـــزه مـــصـــوّرا فوتوغرافيا يتفوّق علينا نحن الجيل الجديد رغم التطور واستخدامنا للتصوير الرقمي». وتــــابــــع: «داخـــــــل الاســــتــــوديــــو شــاهــدنــا جانبا مـن أرشـيـف بـــدوي الـــذي عمل مـصـوّرا رسميا لديوان المحافظة، ومصوّرا صحافيا لأشهر الصحف المصرية، مما أتاح له توثيق الأحـــداث المهمة في الإسكندرية أيضاً. وكان مـــن أبـــرزهـــا الــجــنــازة الــرمــزيــة المـــوازيـــة الـتـي شهدتها المدينة عند رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، إضافة إلى صور لرموز مصرية في مؤتمرات ومهرجانات مختلفة». وتغطي الصور فترة زمنية واسعة تمتد ،2005 من أربعينات القرن الماضي حتى عام حين توقف الجد عن التصوير إلى أن رحل في ، وفق ما يوضحه الحفيد. 2013 عام يـشـرح عـبـد الـعـزيـز أن «الــصــور تعكس نـــبـــض المــــديــــنــــة وتــــشــــكّــــل ذاكــــرتــــهــــا الـــحـــيّـــة؛ فـــهـــي تــــوضّــــح الــــطــــرز المـــعـــمـــاريـــة والأمــــاكــــن الــتــي انــــدثــــرت، كــمــا تُـــبـــرز مـــوضـــات المــابــس وتـــســـريـــحـــات الـــشـــعـــر. وتُـــظـــهـــر كـــيـــف كــانــت الأسـرة المصرية تحرص بين حين وآخـر على الــتــقــاط (صـــــورة الأســــــرة) داخــــل الاســتــوديــو توثيقا لتاريخها». ويتابع: «وتعكس كذلك حـــــرص الـــعـــائـــات عـــلـــى الــــخــــروج الــجــمــاعــي والتنزه معا في المعالم السياحية». ومن الصور التي لا ينساها عبد العزيز، وأثـــــــارت داخـــلـــه كــثــيــرا مـــن الأســـئـــلـــة، صــــورة لــطــفــل مـــصـــري يــــرتــــدي بــيــجــامــة «كـــســـتـــور» أنيقة وحـذاء أسود كلاسيكياً، يلعب بدراجة صغيرة أمام «ساعة الزهور». وقد نُشرت هذه الصورة في جريدة «الأهرام» خلال العيد عام . ويقول عبد العزيز إنه يتمنَّى أن يعرف 1964 أين أصبح هذا الطفل اليوم؟ وهل وصلت إليه صورته يوماً؟ ومــن المـقـرّر أن يـشـارك «أرشـيـف بــدوي» بمجموعة مـن الـصـور المتنوعة فـي فعاليات عدّة بالقاهرة والإسكندرية، ليتعرَّف جمهور أوسع على حكايات من ذاكرة «عروس البحر المتوسط». طفل يرتدي بيجامة «كستور» وحذاء أسود أمام ساعة الزهور (الشرق الأوسط) امرأة يلامسها التاريخ من دون أن يمحو أثرها أجساد مُعلّقة بين شهيق الماضي وصخب الشارع (الشرق الأوسط) أحد أهالي حي «كوم الدكة» يشرح للزائرين حكايات الصور (الشرق الأوسط) الإسكندرية: نادية عبد الحليم أهالي الحي رفضوا إزالة الصور المعلّقة بعد انتهاء المعرض لأنها أيقظت ذكرياتهم فنانا في قراءة شُجاعة لذاكرة الحرب والانفجار 36 يجمع المعرض «الحرّية المُستذكرة»... يفتح جروح بيروت المُغلَقة على أسئلة العدالة يستقبل «بيت بـيـروت» زائــره هـذه المرة كأنه يدخل إلى ذاكـرة مفتوحة على جرحها. فـــي مـــعـــرض «الـــحـــرّيـــة المُـــســـتـــذكـــرة»، تُـــعـــرَض الأعــمــال الـفـنّــيـة مـثـل أدلّــــة فــي مـلـف قضية لم يُغلَق بعد. قضية بلد عاش الحروب والعفو إلـى 1975 الــعــام والانـــفـــجـــارات المـتـتـالـيـة، مــن انفجار المرفأ، من دون أن يُجرّب طريق العدالة. منذ الخطوة الأولــى، يُفكّر الزائر بمدى مسؤوليته عن تذكُّر ما جرى، ويتساءل إن كان النسيان حقا دفاعيا أخيراً. المعرض يضعنا وسط منطقة التوتّر بين الذاكرة والعفو. كأن عنوانه «الحرّية المُستذكرة» يُلمح إلى حرّية كانت هنا ثم انتُزِعت، فصار استعادتها فعلا مؤلما بقدر ما هو ضرورة للشفاء. تــــتــــوزَّع الأعــــمــــال عـــلـــى الــطــبــقــة الــثــالــثــة للمبنى الــــذي كـــان يــومــا خـــط تـــمـــاس. وإنـمـا «الخط الأخضر» الذي فَصَل بين شرق بيروت وغـربـهـا، تـحـوّل إلــى مـسـار نـبـاتـات وأشـجـار يقود الزائر من المدخل حتى الطبقة الأخيرة. كأن اللون الأخضر الذي يتسلَّل بين الأسمنت يُحاول إعادة اختراع قلب جديد للمدينة. قلب يُداوي ولا يكتفي بتوثيق الألم. على الـجـدار، تتناثر شظايا بـاط أزرق فـــوق دفــاتــر قـديـمـة وصـفـحـات مـمـلـوءة بخط الـيـد. تـبـدو القطع الأسمنتية كأنها سقطت لتوّها من سقف مُهدّم واستقرَّت فوق الكلمات لـتـطـمـسـهـا جـــزئـــيـــا. الـــعـــمـــل يــخــتــصــر عــاقــة اللبناني مع أرشيفه الشخصي، من مذكّرات ومــــــراســــــات وخــــطــــط حــــيــــاة، تـــنـــهـــال فــوقــهــا الأنقاض في لحظة انفجار، فيُترك صاحبها لجَمْع ما تبقّى من اللغة بين الخراب. عـمـل آخـــر يـقـف فـــي مـنـطـقـة بـــن النحت والـنـسـيـج، فـتـتـدلَّــى خــيــوط زرقــــاء كثيفة من أعلى الإطار لتُكوّن ما يُشبه ستارا مضطرباً، تـــتـــســـرَّب مـــنـــه مــــامــــح جـــســـد إنــــســــانــــي. هـنـا تــــتــــحــــوَّل الــــخــــيــــوط إلــــــى اســــتــــعــــارة لــلــجــهــاز الـعـصـبـي المُـــرهَـــق ولـتـلـك الـــــذات الــتــي عـاشـت الـــحـــرب والانـــفـــجـــار فــهــربــت إلــــى الــــداخــــل، ثم وجــــــــدت نـــفـــســـهـــا مُـــــحـــــاصَـــــرة فـــــي شـــبـــكـــة مـن الذكريات المُتشابكة. الجسد لا يظهر كاملاً، لأن الإنــســان فــي هـــذا الـبـلـد لا يـعـود كـمـا كـان بعد الـصـدمـة، وقـــدره الـبـقـاء فـي حـالـة ظهور واختفاء بين طبقات الزمن. أما العمل المُثبت عـلـى إطــــار خـشـبـي مـــشـــدود بـالـحـبـال فيبدو مثل سرير إسعاف قديم أو نافذة أُقفلت قسراً. صور وألياف وشَبَك مُحاصَرة تحت أشرطة قــمــاشــيــة تــمــتــد مــثــل غَــــــرْز عــلــى جــــرح كـبـيـر. يــتــجــاور الــجِــلــد الـخـشـبـي مـــع الـــلـــون الأحــمــر اللامع في الداخل، فتتكوَّن صـورة عن مدينة عاجزة عن الحركة، تدور في حلقات من إعادة البناء والانـهـيـار. الحبال علامة على القيود الــقــانــونــيــة والــســيــاســيــة الـــتـــي كــبَّــلــت إمــكــان الـــوصـــول إلــــى الـحـقـيـقـة، مــنــذ نــهــايــة الــحــرب الأهلية حتى اليوم. فـــي زاويـــــة أخــــرى مـــن المـــعـــرض المـسـتـمـر يناير (كانون الثاني) المقبل، يحتل 11 حتى عـمـل دائـــــري ضـخـم مـسـاحـة الــقــاعــة. خريطة لبيروت مُغطّاة بشبكة من الخطوط البيضاء، تـتـقـاطـع فـوقـهـا نــقــاط مــلــوَّنــة تُــشـبـه رقــاقــات الــلــعــب، تُــحــيــط بــهــا صــــور ووثـــائـــق ووجــــوه سـيـاسـيـة. يـقـف الـــزائـــر عـنـد الـحـافـة مـثـل مَــن يــقــف أمــــام لــوحــة تـحـقـيـق مُــعــمَّــق فـــي تــاريــخ المـديـنـة الــحــديــث، تـظـهـر فـيـهـا عــاقــات الـقـوة والمـــصـــالـــح الاقـــتـــصـــاديـــة والـــــقـــــرارات الــدولــيــة ومـــامـــح نـــاس عـــاديـــن اخــتــفــوا تـحـت عـنـوان «خسائر جانبية». وتـظـهـر فــي مـسـاحـة أخـــرى صـــورة وجـه نـسـائـي مُــغـمـض الـعـيـنـن، يـعـلـوه أثـــر الـزمـن والـــخـــدوش والــطــبــقــات. الــبــشــرة مـثـل قـمـاش جدار قديم تسرَّبت إليه الرطوبة. هذا الوجه، بغطائه القرمزي وملامحه الهادئة، يُحيل إلى ضحايا مجهولين، وإلى مدينة تحاول النوم فــي حــن آثــــار الــكــارثــة لا تــــزال مــحــفــورة على جِلدها. تكسر لـوحـة نـيـون مـلـوَّنـة ثقل المَشاهد السابقة. أحــرف مُضيئة وقـلـوب وإشـــارات لا نـهـائـيـة، ودمـــــاغ وكــلــمــات مــتــداخــلــة. الـضـوء مُبهر، لكن كثافته تُولّد أيضا صداعا بصرياً. هـنـا، كـمـا فــي وســائــل الـتـواصـل الاجـتـمـاعـي، يـــخـــتـــلـــط خــــطــــاب الـــــحـــــب بـــــالألـــــم والـــفـــكـــاهـــة بالتهديد. كــأن المـعـرض يُلمح إلـى أن معركة الذاكرة لم تعد تدور فقط في أرشيف الجرائد ومــحــاضــر المـــحـــاكـــم، وإنـــمـــا أيــضــا فـــي فـضـاء رقـمـي مـشـحـون تُــعــاد فـيـه كـتـابـة الـتـاريـخ كـل ثانية. ولا يمكن أن يخرج الـزائـر مـن دون أن يــواجــه صــــورة صــوامــع المـــرفـــأ. هـــذه المــــرة في لقطتَين بـالأبـيـض والأســــود تــبــدوان كأنهما اســتُــخــرجــتــا مـــن فـيـلـم قـــديـــم. الـــخـــدوش على سطح الــصــورة تعيدنا إلــى خـــدوش الـزجـاج فـــــي الــــبــــيــــوت وإلــــــــى الـــــخـــــدوش فـــــي الـــنـــفـــس. الـــصـــوامـــع مـنـحـنـيـة ومـــمـــزَّقـــة، كــأنــهــا شـاهـد يرفض أن ينهار بالكامل قبل أن يُعيد التذكير بـأن الانفجار شكَّل لحظة مفصلية في علاقة اللبناني مع دولته ومعنى حياته. ثـــم يُــســقِــط المـــعـــرض عــلــى زجــــاج المـبـنـى أجسادا تتحرَّك ببطء. رجال ونساء يظهرون مثل أطياف شفَّافة، كأنهم يخرجون من طبقة زمـنـيـة أخــــرى لـيُــخـاطـبـوا المــديــنــة المــعــاصــرة. الانـــعـــكـــاس الــــــذي تُـــحـــدِثـــه الإضــــــــاءة والمــــــرور المـــتـــواصـــل لــلــســيــارات يـجـعـل المــشــهــد مُــعـلَّــقـا بـــن الــحــيــاة والـــغـــيـــاب. فــمَــن يــــــؤدّون حـركـات تُشبه الاستغاثة أو محاولات العبور، يظلّون مــحــبــوســن خـــلـــف الـــســـطـــح الـــزجـــاجـــي الــــذي يفصلهم عن الضجيج الخارجي. هنا الماضي يــقــف عــنــد الـــواجـــهـــة، يـــرفـــع يـــــده، ويــطــلــب أن نــراه ولـو على شكل طيف، عـوض أن نطالبه بالخروج من المشهد. عـلـى امـــتـــداد الـطـبـقـة الـثـالـثـة مـــن «بـيـت تجربة فـرديـة فـي نَسْج 36 بــيــروت»، تُــشــارك هذا السرد المفتوح. فنانات وفنانون يُحوّلون الــــذاكــــرة إلــــى صـــــورة والــــخــــوف إلــــى مـحـاولـة فَهْم. المعرض لا يَعد بالعدالة ولا يقدّم حلولا سياسية، لكنه يُعلن أن الـعـدالـة قـد تـبـدأ من السماح للذاكرة بأن تستعيد مكانها. المـــــعـــــرض قـــــائـــــم عــــلــــى هــــنــــدســــة فـــكـــريـــة وبصرية دقيقة نقلت «بيت بيروت» من كونه مبنى شاهدا إلى مساحة تُعاد فيها صياغة الأســـئـــلـــة الــوطــنــيــة الـــكـــبـــرى. هـــو ثـــمـــرة رؤيـــة القيّمة الفنّية آنـي فارتيفاريان التي جمعت مُــشـاركـة ومُــشـاركـا ضمن سـرديـة واحـــدة، 36 ومنحت لكل صـوت فضاءه الخاص من دون أن تفقد الفكرة وحدتها الداخلية. وإلــــى جــانــب هـــذا الإطــــار الــفــكــري، تبرز الـــســـيـــنـــوغـــرافـــيـــا الـــتـــي صــمَّــمــتــهــا يـاسـمـيـنـا واكــيــم بـوصـفـهـا عـنـصـرا أعــــاد تـرتـيـب علاقة الـــزائـــر بــالمــكــان، وفــتــح أمــــام المـــعـــرض طبقات جديدة من القراءة. هذا الجهد لم يكن منفرداً، فـقـد شـــاركـــت فـــي صـيـاغـتـه وتـحـقـيـقـه أسـمـاء حملت المشروع إلـى مستوى لائـق من التأمُّل والاستعادة: جويل حجار، ومحمود الحمود، ورجــــاء عــبــود، وقسطنطين ســامــة، وبــاربــرا بولا، والمعهد الفرنسي للشرق الأدنى. هؤلاء جميعا حـــوَّلـــوا الـــجـــدران إلـــى طـبـقـات زمنية والمـــمـــرّات إلـــى نـقـاط عـبـور بــن المـحـو وإعـــادة الاكــــتــــشــــاف. وأصـــبـــحـــت زيـــــــارة المـــبـــنـــى أقــــرب إلى رحلة داخـل ذاكـرة تتقاطع فيها التجربة الفردية مع الرواية الجماعية من دون أن تلغي إحداهما الأخرى. بيروت: فاطمة عبد الله الصوامع شاهدة على انفجار لم يُطو ملفّه بعد (الشرق الأوسط) الحفيد يُرمِّم بعض صور الأرشيف وفي الخلفية صورة للجد أمام الاستوديو (الشرق الأوسط)
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky