issue17178

مـنـذ ســقــوط الــنــظــام الــقــديــم ودخـــــول سـوريـا مـرحـلـة انـتـقـالـيـة، يـعـيـش الــســوريــون إحــــدى أعقد تـــجـــارب الـــتـــحـــوّل فـــي المــنــطــقــة؛ فـــــإرث الاســـتـــبـــداد والـحـرب لـم يخلّف فقط بلدا مثخنا بـالـجـراح، بل أورث المجتمع شبكة كثيفة من الـشـروخ الطائفية والعرقية والسياسية، تجعل مهمة أي نظام بديل أقـــرب إلــى السير فـي حقل ألــغــام، والــســؤال الـيـوم: هل ينجح النظام الجديد في إقناع السوريين، كل السوريين، بأنه حامل مشروع دولة عادلة؟ فـــي الـــعـــام الأول بــعــد الــتــغــيــيــر، يـمـكــن رصــد بـــعـــض الـــصـــعـــوبـــات. فــــي الــــســــاحــــل، عـــــرف بـعـض القرى والأحياء حوادث واشتباكات متفرقة تركت انـطـبـاعـا لـــدى الـطـائـفـة الـعـلـويـة بـأنـهـا تــدفــع ثمن اقترانها التاريخي بالنظام السابق، رغم محاولات الـحـكـومـة الــجــديــدة إرســـــال رســائـــل طـمـأنـة بأنهم مـكـوّن أصـيـل فـي سـوريـا الـجـديـدة، وأن المحاسبة ســتــطــول فــقــط الأفـــــــراد المـــتـــورطـــن فـــي الـــجـــرائـــم لا الجماعة بأكملها، لكن شبكات النظام القديم في الــداخــل والـــخـــارج ومـسـاعـي بـعـض رمــــوزه تسعى إلى إعـادة توظيف أحـداث الساحل ورقـة ضغط أو مشروع كيان منفصل. فــي الــجــنــوب، تــحــوّل حــــراك الــســويــداء من احـــتـــجـــاجـــات مــطــلــبــيــة ضــــد تــــــــردّي الأوضــــــاع الاقتصادية إلى حركة سياسية رفعت شعارات إســـقـــاط الاســـتـــبـــداد أولاً، ثـــم دخــلــت لاحــقــا في مـــواجـــهـــات مـــســـلّـــحـــة... فــقــد شـــهـــدت المـحـافـظـة مواجهات دامية واقتحاما لمقار رسمية، قبل أن تفرض القوى المحلية نوعا من الإدارة الذاتية الـــواقـــعـــيـــة وتــــدخــــل فــــي مـــفـــاوضـــات شـــاقـــة مـع دمشق بشأن موقع الدروز في المعادلة السورية المقبلة. أما الملف الكردي - وهو من أعقد عُقد سوريا - فقد دخل مرحلة جديدة مع المفاوضات بين حكومة دمشق و«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» بشأن دمـــج الــقــوات الــكــرديــة، ومـعـهـا مـؤسـسـات «الإدارة الـذاتـيـة»، فـي البنية الرسمية لـلـدولـة مـع التأكيد عـلـى وحــــدة الأراضـــــي الــســوريــة ورفــــض التقسيم. ورغــــم أن مــا أُنــجــز حـتـى الآن يـمـثّــل خــطــوة مهمّة نحو تسوية تاريخية، فـإن مفاوضات التفاصيل مـــازالـــت عـالـقـة فـدمـشـق تـتـحـفّــظ عـلـى الـفـيـدرالـيـة وعلى مصطلح «اللامركزية السياسية»، فيما تصر «قــســد» عـلـى إدارة لا مــركــزيــة واســعــة وضـمـانـات دستورية للهوية والحقوق الكردية، وسط ضغوط تركية وأميركية متعاكسة، لذلك تبدو علاقة دمشق - القامشلي الـيـوم خليطا مـن التنسيق العسكري والشد السياسي، لا شراكة واضحة المعالم بعد. فــي خلفية هـــذا المـشـهـد الــداخــلــي، بـــرز الـــدور الــســعــودي، خـصـوصـا بــقــيــادة ولـــي الـعـهـد الأمـيـر محمد بن سلمان، بوصفه عاملا كابحا للانهيار ودافعا نحو «سوريا جديدة» لا تعود إلى أحضان الـــفـــوضـــى أو المـــــحـــــاور الــــراديــــكــــالــــيــــة، فـــالـــريـــاض قــــادت عـمـلـيّــة إنـــهـــاء الــعــزلــة الــعــربــيــة عـــن دمــشــق، ورعــــت إعـــــادة ســـوريـــا إلــــى الــجــامــعــة الــعــربــيــة، ثم تـحـوّلـت إلــى منصّة لــقــاءات بـن الـقـيـادة السورية الـــجـــديـــدة والــــقــــوى الإقــلــيــمــيـــة والــــدولــــيــــة، وعــلــى رأســـهـــا الــــولايــــات المـــتـــحـــدة. ومــــع هــــذا المـــســـار، بــدأ يتغيّر تدريجيا توصيف النظام الجديد وبعض فــصــائــل المـــعـــارضـــة الــتــي شــكّــلــت عـــمـــوده الــفــقــري؛ إذ جــرى دمــج كثير مـن تشكيلاتها فـي مؤسسات الــدولــة، وتخلّت عـن خطابها الـسـابـق؛ مما أفسح المجال لرفع عدد من تصنيفات الإرهـاب وتخفيف الـعـقـوبـات الاقــتــصــاديــة، تمهيدا لانــدمــاج سـوريـا فــي الاقــتــصــادَيــن الـعـربـي والـــدولـــي، مـقـابـل الـتـزام واضح بمحاربة التنظيمات المتطرفة ووقف تجارة السلاح والفوضى. لذا فإن سوريا الجديدة لن تُبنى على الإقصاء أو الانتقام أو عسكرة السياسة. تجربة العراق بعد ماثلة أمام الجميع: الانغماس في المحاصصة 2003 الطائفية، والاستثمار السياسي في المظلوميّات، أطــالا أمـد الفوضى، وأضعفا ثقة الناس بالدولة. لكن التجربة ذاتها أفـرزت، رغم تكلفتها الباهظة، دســــتــــورا يــعــتــرف بـــالـــتـــنـــوّع، وتـــعـــدديّـــة سـيـاسـيـة نسبية، ومـسـاحـة أوســـع لـحـريـة الــــرأي والتعبير. المــشــكــلــة لـــم تــكــن فـــي الاعــــتــــراف بـــالـــتـــعـــدّد، بـــل في تحويله إلى حصص جامدة وأدوات صراع، بدل أن يكون إطارا لعقد مواطنة متوازن. الــــــــدرس الأهـــــــم مــــن الـــــعـــــراق أن الانــــتــــقــــال مـن الشمولية إلى التعددية لا يتحقق بخطاب «الغالب والمـغـلـوب»، بل بـإعـادة تأسيس العقد الاجتماعي عــــلــــى قــــــاعــــــدة الـــــعـــــدالـــــة والمــــــواطــــــنــــــة المــــتــــســــاويــــة. ســـــوريـــــا الـــــجـــــديـــــدة لا تـــســـتـــطـــيـــع تـــــكـــــرار أخــــطــــاء التهميش والاسـتـئـثـار، بــل تـحـتـاج إلـــى الاعــتــراف بالخصوصيات الدينية والقومية والمناطقية - لكل المكونات - من دون أن يتحوّل إلى بازار محاصصة أو مــقــدمــات لتقسيم مــقــنّــع، وهــــذا يقتضي حسم الــعــاقــة بـكـل أبـــنـــاء المــكــونــات بـوصـفـهـم مـواطـنـن شركاء، مع محاسبة صارمة فردية، لكل من تورّط فـي الـجـرائـم أيــا تكن طائفته. وكـذلـك التعامل مع حــــراك الـــســـويـــداء بـوصـفـه «طـلـبـا عـلـى المــواطــنــة»، وليس تـمـرّدا طائفياً، عبر صيغ لا مركزية إداريـة وأمــنــيــة تـضـمـن شـــراكـــة فـــي إدارة المــنــاطــق ضمن الـــدولـــة لا خـــارجـــهـــا. كــمــا أنــــه لا بـــد مـــن اسـتـكـمـال مسار التفاهم مـع «قـسـد» إلـى اتـفـاق مـلـزِم يضمن دمـــج «الــــقــــوات» والإدارات فـــي مــؤســســات الـــدولـــة، مــع اعـــتـــراف دســـتـــوري صــريــح بـالـحـقـوق القومية والثقافية لهم وإطار واضح للامركزية. إن بناء سوريا الجديدة يتطلب حوارا وطنيا شاملا يعترف بجرائم الماضي من دون تحويلها وقــــــودا لـــثـــأر جـــديـــد، وإصــــاحــــا دســـتـــوريـــا يــكــرّس الــتــعــدديــة الـسـيـاسـيـة والــامـــركـــزيـــة، مـــع منظومة عدالة انتقالية تمنع الإفلات من العقاب وتفتح في الوقت نفسه بـاب المصالحة الواقعية لا المتخيَّلة. والـــرهـــان الـحـقـيـقـي يـكـمـن فـــي قــــدرة الـسـلـطـة على فـــرض هـيـبـتـهـا، ولــكــن بــإقــنــاع الــســوريــن جميعا - دون استثناء - بأنها تتجاوز الـحـزب والطائفة والــــســــاح، وتـــرســـو فـــي الـــوقـــت ذاتـــــه عــلــى ركــيــزة عــربــيــة وإقــلــيــمــيــة مـتـيـنـة تـــقـــودهـــا الــــريــــاض، بما يفتح الطريق نحو دولة آمنة حـرّة، يتساوى فيها الـجـمـيـع فــي الـحـقـوق والـــواجـــبـــات، وتـنـتـهـي فيها الحاجة إلى الاحتماء بالطوائف لمصلحة الاحتماء بعقد المواطنة. Issue 17178 - العدد Tuesday - 2025/12/9 الثلاثاء انــتــهــى زمــــن «تــقــطــيــع الــــوقــــت»، و«تـــدويـــر الزوايا» لم يعد بضاعة قابلة للتسويق. التحدي كبير وواضـــح، فإما خطوات متكاملة تستعيد مـــعـــهـــا الـــــدولـــــة ســـيـــادتـــهـــا وقـــــرارهـــــا أو تـتـسـع الاستباحة الإسرائيلية؛ فالاحتلال قد يتجاوز جنوب الليطاني: بـدأ العدو الإسرائيلي يظهر حجم المنطقة الـعـازلـة مـتـجـاوزا احتلاله التلال الخمس، إلـى إقـامـة مناطق عـازلـة محرمة على بلدة حدودية 18 أهل الأرض تمتد على أنقاض وفق تقرير عسكري للجيش اللبناني. وتوازياً، ازدهــــرت المـقـاومـة الـصـوتـيـة بـوهـم الــقــدرة على أكـتـوبـر (تشرين 8 الــعــودة بـالـزمـن إلــى مـا قبل ، ليبقى لـبـنـان مُـــصـــادَر الــقــرار من 2023 ) الأول جانب «حزب الله». ولأن التسليم بالأمر الـواقـع كـان سيصبح الخيار الأســـوأ؛ كونه يتجاهل التحدي الفعلي وهو أبعد من سلاح لا شرعي انتهت صلاحيته، سقط في الاستحقاقات، لا إمكانية لاستخدامه ضـــد الـــعـــدو الإســـرائـــيـــلـــي فـــي أي وقــــــت... حتى أن أمـــن عـــام «حـــزب الــلــه» نعيم قـاسـم «طـمـأن» المــســتــوطــنــن فـــي شـــمـــال إســـرائـــيـــل بــأنــهــم غير مستهدفين، وهـو القائل: «لسنا جاهزين لشن مـعـركـة، ولا يـوجـد لدينا قـــرار بـمـبـادرة قـتـال». وشـدد النائب محمد رعـد على «الالـتـزام بشكل حـازم بإعلان وقف النار رغم استباحة العدو»، وغــــابــــت كـــلـــيـــة ســــرديــــة الادعــــــــــاء بــــــأن «الــكــلــمــة للميدان»... فإن المسؤولية تحتم على أصحاب القرار الإقدام لملاقاة طموح اللبنانيين بالانتقال بالبلد من وضع مأزوم غير طبيعي، طوى زمنه زلـــــزال المـنـطـقـة والــــزلــــزال الــلــبــنــانــي، إلــــى وضــع البلد العادي، الـذي تأخر لبنان عقودا قبل بدء الانتقال إليه. فـــي هــــذا الــتــوقــيــت اتـــخـــذت بـــيـــروت الـــقـــرار الأهــــم مـنـذ بـــدء رئــاســة نــــواف ســـام للحكومة، وقـــضـــى بـتـعـيـن ســيــمــون كــــرم رئــيــســا لـلـفـريـق اللبناني في لجنة «الميكانيزم»، وهـو سياسي مـــجـــرب يـمـتـلـك الـــكـــفـــاءة والـــصـــابـــة الــوطــنــيــة. فـــأثـــار الـتـعـيـن الارتـــيـــاح والــتــأيــيــد الــواســعــن. وبمعزل عـن أن الـقـرار لاقــى المطالبة الأميركية بـالـذهـاب إلــى الـتـفـاوض الــذي أكــده اتـفـاق وقف ، فــإنــه وضـــع فـــي التنفيذ 13 الـــنـــار فـــي الـبـنـد الــــــ تعهد البيان الوزاري بخوض مواجهة سياسية ودبلوماسية مع العدو الإسرائيلي لضمان أمن البلد والحفاظ على حقوقه الوطنية. لــقــد تـــم وضــــع كــــرة نــــار بـــن يــــدي سـيـمـون كـرم، الـذي ستكون أولويته فرملة الهزيمة عند الحدود التي بلغتها، ووقف تراكم الخسائر التي باتت فوق طاقة البشر... كرة نار، على المفاوض اللبناني الموثوق أن ينهض بأعبائها، في تجربة معقدة ليست مضمونة النجاح في اختبار آفاق ،1949 القدرة على العودة إلى اتفاق الهدنة لعام بالتوازي مع الحاجة الوطنية إلى تطبيق جدي لاتـفـاق وقــف الأعــمــال الـعـدائـيـة، وتجنيب البلد أخطار ذهـاب إسرائيل إلـى ما يسميه نتنياهو «اسـتـكـمـال المــهــمــة»، أي اسـتـكـمـال تـدمـيـر البلد بــذرائــع مـن نــوع الـقـضـاء على مــحــاولات «حـزب الله» ترميم قدراته العسكرية. حــالــة الإنـــكـــار الــتــي يعيشها «حــــزب الـلـه» وغــربــتــه عـــن الـــواقـــع وعــــن الـــوجـــع الــــذي تسبب فــيــه لــكــل لـــبـــنـــان، والأذيـــــــة المـــبـــاشـــرة والـعـمـيـقـة لـــلـــجـــنـــوبـــيـــن، دفـــعـــتـــه إلــــــى الـــقـــفـــز إلــــــى الأمــــــام ملبيا «رغــبــات» ومـشـاريـع إقليمية، وأن يهدد بــمــواجــهــة الـــدولـــة دفـــاعـــا عـــن الـــســـاح ورافــضــا تـسـلـيـمـه لــلــجــيــش. مــــا ســيــمــثّــل عــنــصــر إعــاقـــة جدية للمفاوض اللبناني، يحتم على السلطة، والأمــــر متيسر ولا يقبل لــو، الــخــروج كلية من الــســيــاســات الـــرمـــاديـــة إلــــى الـــحـــزم فـــي التمسك بالقرار السياسي نزع السلاح حماية للخطوات الميدانية ودفعا للتفاوض. لقد بات تحصيل حاصل طي زمن التلطي أحـيـانـا خـلـف الــعــنــوان الـتـقـنـي لـلـتـفـاوض، فما لــبــنــان بـــصـــدده الـــيـــوم أبـــعـــد وأصـــعـــب فـــي زمــن الـهـزيـمـة والانـــكـــســـار الـعـمـيـق والــخــلــل المـخـيـف بــــمــــوازيــــن الـــــقـــــوى. لـــــــذا؛ إن كــــــان أول أهــــــداف المفاوضات وقـف الاعــتــداءات كأولوية لا يتقدم عليها أي أمــر آخـــر؛ لأنـهـا تفتح بــاب استكمال بـسـط الــســيــادة، فـــإن المـمـر الإلـــزامـــي لـذلـك يكمن بـالأداء السياسي الميداني الداخلي لتكامله مع عملية الــتــفــاوض، أي وقـــف الأســبــاب المـبـاشـرة لــهــذه الاعــــتــــداءات، وهــــذا مـــا شــــدّد عـلـيـه اتـفـاق وقــــــف الــــنــــار فــــي مـــقـــدمـــتـــه عـــنـــدمـــا خـــلـــص إلـــى حصر الـسـاح على كـل الأراضـــي اللبنانية بيد قـــوى الــشــرعــيــة. وكـــذلـــك بتنفيذ الـبـنـد الـسـابـع من الاتفاق الداعي إلى تفكيك البنى العسكرية الــرديــفــة ومـــصـــادرة تـجـهـيـزاتـهـا وعــتــادهــا، أي إقفال الأبــواب والنوافذ على أي تفكير بالقدرة على العودة إلـى ما كـان عليه الحال قبل إعلان حرب 2023 أكتوبر 8 الراحل حسن نصر الله يوم «المشاغلة» فـ«الإسناد». إلــــى ذلـــــك، يـــــدرك مـــن بــيــدهــم الــــقــــرار أن ما حملته الوفود الزائرة، كما ما تردد على مسامع المسؤولين في زياراتهم الخارجية، حمل دعوات صـــريـــحـــة لمـــواجـــهـــة الاقـــتـــصـــاد المـــــــــوازي. كــذلــك المسؤولية عـن تفكيك منظومة خطرة تداخلت فـيـهـا مــصــالــح المـيـلـيـشـيـا مـــع المــافــيــا الـنـاهـبـة، فـاسـتـمـر إمـسـاكـهـا بـمـفـاصـل اقـتـصـاديـة مالية وإداريـة وحتى أمنية، تمنع الاستعادة الفعلية لـــلـــدولـــة الــــقــــادرة والـــعـــادلـــة صــاحــبــة المـرجـعـيـة الوحيدة للشرعية والانتماء. تــــــوازيــــــا مـــــع بـــــــدء المــــرحــــلــــة الـــــجـــــديـــــدة مــن المــفــاوضــات، فـــإن الـخـطـى المـنـتـظـرة داخـلـيـا هي الـتـي يمكنها خـلـق الاحـتـضـان الـعـربـي للبنان مـــدخـــا لــتــوافــق مـــع الأمــيــركــيــن، لـبـنـان بـأمـس الـحـاجـة إلـيـه لصد الكثير مـن عـربـدة إسرائيل وأطماعها. تطرح استراتيجية الأمن الوطني الأميركية تـــحـــوّلا جـــذريـــا فـــي طــريــقــة مـقـاربـة 2025 لـــعـــام واشــنــطــن لــلــشــرق الأوســـــط ودوره فـــي مـعـادلـة الأمن العالمي، بما يتجاوز أي مقاربة سابقة منذ نهاية الحرب الباردة. فبعد ما يقارب نصف قرن مـن الانـغـمـاس الأمـيـركـي فـي صــراعــات المنطقة، تـقـدّم الوثيقة رؤيـــة جــديــدة، مـفـادهـا أن الشرق الأوســط لم يعد ذلـك المسرح المُلتهب الــذي يُلزم الولايات المتحدة بالبقاء فيه، بل منطقة تتراجع فيها دوافــــع الـتـدخـل الـعـسـكـري وتـتـعـاظـم فيها فــــرص الـــشـــراكـــات الاقـــتـــصـــاديـــة والاســـتـــثـــمـــارات المتقدمة. والـــــســـــؤال: كــيــف نـــقـــرأ هــــذا الـــتـــحـــول الـــيـــوم؟ بالتأكيد أنه لا يعكس فقط إعادة ترتيب أولويات واشنطن عقب التوسع في إنتاج الطاقة والانتقال إلى التركيز على التنافس مع القوى الكبرى، بل يعكس أيضا إدراكا أميركيا بأن القوى الإقليمية، وفــي مقدمتها الـسـعـوديـة، بـاتـت أكـثـر قـــدرة على إدارة التوازنات والمحافظة على الاستقرار من دون الحاجة إلى إشراف أميركي مباشر أو دائم. ولـــلـــمـــرة الأولــــــى مــنــذ عـــقـــود، تـــبـــدو مـصـالـح واشـــنـــطـــن أقــــــل ارتـــبـــاطـــا بــــــــإدارة الأزمــــــــات الآنـــيـــة والـتـفـاصـيـل فـــي المـنـطـقـة، وأكـــثـــر رغــبــة فـــي بـنـاء عــــاقــــات تــحــالــفــيــة قـــائـــمـــة عـــلـــى تـــقـــاســـم الأعـــبـــاء وترتيبات اقتصادية واستثمارية مستدامة، أو على الأقل طويلة الأمد. بحسب نص الاستراتيجية المنشور مؤخراً، فإن جزءا من العوامل التي دفعت الولايات المتحدة، تـاريـخـيـا، إلـــى اعـتـبـار الــشــرق الأوســــط منطقة لا يمكن الانسحاب منها، قد تغيّر بصورة جوهرية. فاعتماد العالم على نفط الشرق الأوســط تراجع بفعل تنويع مصادر الطاقة عالمياً، كما أصبحت الـــولايـــات المــتــحــدة نـفـسـهـا مُـــصـــدّرا لـلـطـاقـة، بما يقلّص أحد أهم دوافـع الوجود العسكري المكثف وفق منظورها الاستراتيجي. مـن جهة أخـــرى، لـم يعد التنافس الـدولـي ذا طبيعة قطبية صفرية كما كان في الحرب الباردة، بل تحوّل إلى تدافع بين قوى كبرى تختلف أدوارها وحدود تأثيرها، في حين تحتفظ واشنطن بقدرة تفوق نوعية وبمسافة تجعلها في موقع «الأكثر جاذبية»، بحسب تعبير الوثيقة. وما دامت البيئة الاستراتيجية العالمية تـدفـع بـالـولايـات المتحدة نـحـو آســيــا وتــجــاهــل أوروبــــــا الــشــرقــيــة، فـالأكـيـد أن الــشــرق الأوســــط لــن يصبح منطقة بــا قيمة، لكنه وفق المقاربة الأميركية الجديدة أقل إلحاحا عــلــى مــســتــوى الـــتـــدخـــل، وأكـــثـــر فــرصــة لــشــراكــات اقتصادية. المـــلـــف الإيـــــرانـــــي كـــــان حــــاضــــرا فــــي الــوثــيــقــة بوصفه نموذجا للتحول، فليست طهران التهديد الإقــلــيــمــي الأكـــبـــر كــمــا كــــان الـــخـــطـــاب الـتـقـلـيـدي؛ إذ تــؤكــد الاسـتـراتـيـجـيـة أن إيـــــران تـــم إضـعـافـهـا وتـهـشـيـمـهـا بــعــد الـــســـابـــع مـــن أكـــتـــوبـــر (تــشــريــن ، لكن عملية «مطرقة منتصف الليل» 2023 ) الأول كانت لحظة 2025 ) الأميركية في يونيو (حزيران فاصلة في تراجع قـدرات البرنامج النووي؛ لذلك فطهران يعاد توصيفها وفـق هـذه المقاربة كقوة إقليمية تستدعي الاحــتــواء، وكعامل خطر قابل للتحييد، أو بعبارة أخرى من الردع إلى الاحتواء النسبي، وهو ما سيجعل فرص السعودية الدولة الــصــاعــدة والــفــاعــل الأهـــم فــي الــشــرق الأوســــط أن تستفيد مــن الـــفـــراغ الـنـسـبـي، بـاعـتـبـارهـا فرصة نادرة ومهمة لإعادة ترتيب التوازنات في المنطقة. وكما هو متوقع حضر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في المقاربة الجديدة لواشنطن، لكن من دون تصور لحل نهائي، وإنما للتأكيد على مرحلة سلام طويلة يتم الالتزام فيها بعدم إطلاق الــنــار، وهـــذه أيـضـا فـرصـة ثانية لـــدول الاعــتــدال، وفي مقدمتها السعودية، بما يمتلكونه من ثقل سـيـاسـي وتــفــاوضــي لـلـعـب دور فــي أي مــســارات تسوية مستقبلية، في ظل إشــارات واضحة على تـفـضـيـل أمــيــركــا لــــدور الإشـــــراف وضــبــط الإيــقــاع وتــــــرك الــتــفــاصــيــل لـــاعـــبـــن الأســـاســـيـــن بـسـبـب التعقيدات البنيوية لهذا الملف. ســوريــا الــجــديــدة عـلـى الــرغــم مــن توصيفها بــ«مـصـدر قلق محتمل»، لكنها تـجـاوزت مرحلة الـــتـــهـــديـــد، بــــل عـــلـــى الـــعـــكـــس هـــنـــاك رغـــبـــة كـبـيـرة عكسها التقرير لإمكانية وضرورة استقرارها من خلال دعم مشترك، وصولا لدمجها في التوازنات الإقليمية. الأهم في الوثيقة من وجهة نظري هو التخلي الأميركي الواضح عن فرض ملفات حساسة قيمية أو سياسية، من استغلال شماعة حقوق الإنسان أو استنبات الديمقراطية الشكلانية، بل تعترف صـراحـة بــأن هــذه المـقـاربـة كـانـت خـاطـئـة، وتؤكد في الوقت ذاته أن نجاح العلاقات مع دول الشرق الأوســـط يـقـوم على «قـبـول المنطقة وقـادتـهـا كما هم، والعمل معهم ضمن إطار المصالح المشتركة». هــذا الاعــتــراف ومــا سيتلوه مـن نهج فرصة مـهـمـة جــــدا لإعـــــادة مــوضــعــة الـــشـــراكـــة بــنــاء على استحقاقات مبنية على «الاســتــقــرار، والتنمية، والــتــحــولات الاقــتــصــاديــة»، خـصـوصـا مــع إدراك واشــــنــــطــــن وإشـــــادتـــــهـــــا بــــالــــتــــجــــارب الــخــلــيــجــيــة والـعـربـيـة المـسـتـقـرة، والـتـي صـبّــت كفاءتها على محاربة التطرف والإرهاب. أخــــــيــــــراً، تــــحــــدثــــت الــــوثــــيــــقــــة عـــــن تـــوجـــهـــات واشنطن الجديدة صـوب الاستثمار فـي التقنية والذكاء الاصطناعي، وهو أيضا ما يعزز الفرصة لـــدول المـنـطـقـة، ولـلـسـعـوديـة بشكل خـــاص بحكم مـــشـــروعــهــا الـــوطـــنـــي الــــرائــــد المــتــمــثــل فــــي «رؤيـــــة » فــي مــســاره الاقــتــصــادي، والــــذي عـبّــر عنه 2030 ولـي العهد الأمير محمد بن سلمان منذ سنوات بتحويل المملكة إلى إحدى أهم مناطق الاستثمار المــتــقــدمــة فـــي مـــجـــالات الــطــاقــة الـــنـــوويـــة والـــذكـــاء الاصطناعي والتقنيات الدفاعية وسلاسل الإمداد العالمية، وهو ما يعني أن تكون الرياض العاصمة المتجددة بشكل مذهل مركزا محوريا في الإقليم للمشاريع المشتركة التي تبحث عنها واشنطن، كما هو حال الدول الكبرى. الأكـيـد أن الوثيقة تعطينا مـامـح المستقبل الـقـريـب مــن وجـهـة نـظـر الأمـــن الـقـومـي الأمـيـركـي «إعــادة الإقليم للإقليم»، وتحول الشرق الأوسـط إلـــى منطقة تـــوازنـــات مـتـعـددة المــراكــز تـقـوم على إعادة بناء العلاقات البينية، وتطوير التحالفات الاقتصادية والتكنولوجية. وهو ما يجعل لحظة الازدهــــــــار الـــراهـــنـــة لــلــســعــوديــة فـــرصـــة تـاريـخـيـة لاســـتـــمـــرار صـــعـــود دورهــــــا ومــوقــعــهــا بـوصـفـهـا بوصلة الاستقرار لمنطقة سئمت الفوضى. حنا صالح يوسف الديني كفاح محمود OPINION الرأي 14 تحولات استراتيجية للأمن الوطني الأميركي مفاوضات تحديد الخسائر! سوريا الجديدة وعقد المواطنة

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky