issue17177.1

4 تحقيق FEATURES Issue 17177 - العدد Monday - 2025/12/8 الاثنين ASHARQ AL-AWSAT السوريون يحتفلون بـ«حق العودة»... و«المغيبون» أبرز الحاضرين أن تــــزور دمــشــق بـعـد عـــام عـلـى سقوط نـــظـــام الأســـــديـــــن، وعـــشـــيـــة اســـتـــعـــداد الـــبـــاد 8 لإحـــيـــاء الـــذكـــرى الأولـــــى لـــ«الــتــحــريــر» فـــي ، فأنت تعايش 2025 ) ديسمبر (كانون الأول أياما أقـرب إلى «وقفة عيد»، وتمشي حاملا مـــجـــهـــرا يـــغـــرقـــك فـــــي تـــفـــاصـــيـــل ومــــقــــارنــــات لا تـــنـــتـــهـــي. مــــقــــارنــــات لا تــقــتــصــر عـــلـــى مـا عــايــنــتــه وشـــهـــدتـــه بــعــن خـــارجـــيـــة قــبــل عــام عـامـا مـن أثقال 15 فحسب، بـل بما تختزنه وأهـــوال، ومـا تتفتح عنه ذاكــرة محدثيك من تجارب شخصية وعامة و«تروما» متراكمة باختلاف الأجيال. «وقفة عيد» عبارة قد تختصر المشهد العام في وسط العاصمة السورية في الأيام القليلة الماضية، بكل ما تحمله من تجهيزات وزيــنــة وفــــرح، كـمـا وغــصّــة وتـعـطـيـل للعمل وتــســيــيــر الأمــــــــور، حـــيـــث يـــقـــابـــل أي تـرتـيـب بسيط بعبارة «إن شالله لبعد الاحتفالات». وأجواء الاحتفالات تلك تبدأ منذ نقطة الـــعـــبـــور الـــحـــدوديـــة مـــن لــبــنــان لـجـهـة معبر المــصــنــع؛ لافـــتـــات كـبـيـرة عـلـى طـــول الـطـريـق المـــــؤدي إلـــى دمــشــق تــرفــع شـــعـــارات «انـتـهـت الــحــقــبــة الــــــســــــوداء... وأشــــــرق وجــــه الـــبـــاد» و«كتف بكتف، يد بيد، نبني الوطن»، و«وطن واحـد... شعب واحـد» وغيرها من الملصقات الحديثة التي صممت كلها بحسب «الهوية البصرية» الجديدة ذات العقاب الذهبي. تـــلـــك الــــشــــعــــارات والـــعـــلـــم الـــجـــديـــد كـمـا وشـــعـــار الــنــســر، خــطّــت عـلـى أســـــوار المــواقــع الــعــســكــريــة الـــتـــي أخـــاهـــا الـــنـــظـــام الــســابــق، وعند مدخل الـبـلـدات ومـركـز الفرقة الرابعة عــلــى طـــريـــق بـــيـــروت - دمـــشـــق فــحــلّــت محل شــــعــــارات «أمــــــة عـــربـــيـــة واحـــــــدة ذات رســـالـــة خــالــدة» و«قـائـدنـا إلــى الأبـــد» وغـيـر ذلــك من صور وعبارات انطبعت في اللاوعي الجمعي السوري. ولـئـن لاقــت الـهـويـة البصرية الجديدة انـــتـــقـــادات 2024 الـــتـــي أعـــلـــن عــنــهــا صـــيـــف واسـعـة لجهة أنـهـا «ليست مـن الأولــويــات» فــــي بـــلـــد مــنــهــك ومــــدمــــر، لـــكـــن الــــواقــــع عـلـى الأرض يجانب تلك الحقيقة وقد لا يصيبها تماماً. ذاك أن «الهوية البصرية» في النظام السابق كانت عملا ممنهجا ودؤوبـا وجزءا أســـاســـيـــا مــــن تـــركـــيـــز الـــنـــفـــوذ وتــثــبــيــتــه فـي الـنـفـوس، يـبـدأ مـن دفـاتـر تـامـذة الـروضـات وصـــبـــورات الـصـفـوف المــدرســيــة ولا ينتهي عند صور وتماثيل هائلة احتلت الساحات والفضاءات العامة. لــــذا لــيــس مـــن قـبـيـل الــصــدفــة أن يـكـون أول مــــا بـــــدأ تـهـشـيـمـه وتـــكـــســـيـــره وتــمــزيــقــه لحظة سقوط النظام السابق هو «أيقوناته» ورموزه البصرية، فكان لا بد من إشغال ذلك الـفـراغ البصري بما يعكس طبيعة السلطة الجديدة عوضا عن تركه عرضة لعشوائية فصائلية ومناطقية كانت بدأت تظهر مطلع الــعــام المــاضــي. وبــشــيء مــن الـسـخـريـة يقول قـــائـــل إنــــه لــــولا الــحــاجــة لـلـتـعـامـل بـــــالأوراق الــنــقــديــة والــعــمــلــة الــســابــقــة لـعـمـد كـثـيـرون إلى إحـراق الأمــوال التي تحمل رمـوز النظام السابق. لـــكـــن، وفــــي ســـيـــاق نــبــذ كـــل مـــا لـــه صلة بما مضى وتجذير ما حضر، ذهب كثيرون خـطـوات أبـعـد فـي تبني «الـهـويـة البصرية» الــــجــــديــــدة فــــي المـــلـــبـــس والمـــظـــهـــر والـــســـلـــوك الاجـــتـــمـــاعـــي. فـــفـــي حــــن «تـــشـــذبـــت» الـلـحـى وقــصــر طـولـهـا وخـــف إلـــى حـــد بـعـيـد مظهر مـقـاتـلـي «هــيــئــة تــحــريــر الـــشـــام» بـشـعـورهـم الطويلة وأزيـائـهـم الغريبة، كما كــان الحال قبل عـام مـن الـيـوم فـي دمـشـق، باتت اللحية عـــمـــومـــا خــفــيــفــة مــنــمــقــة أو شـــبـــه مــحــفــوفــة الــــــشــــــوارب، هــــي الـــســـمـــة الـــطـــاغـــيـــة لـلـشـبـاب والرجال. وتحوّل النسر الذهبي إلـى أزرار تعلق على الأكمام والياقات لألبسة رسمية تغلب عليها التصاميم التركية، ولا تقتصر على الموظفين الحكوميين، وإنـمـا امـتـدت إلــى أي شاب مدني يعمل في القطاع الخاص وراغب بأن يشبه عصره. وإذ صـــهـــرت أجــــهــــزة الــــدولــــة الــنــاشــئــة المــقــاتــلــن الــســابــقــن فـــي قــنــواتــهــا الـرسـمـيـة وأبـــــرزهـــــا جــــهــــازي الـــشـــرطـــة والأمـــــــن الـــعـــام، تبدلت أزيـاء العسكريين السابقين أيضا من قـمـيـص وشــــــروال أو بـــــزّات مــمــوهــة بحسب الـفـصـيـل الـعـسـكـري، وانـسـحـبـت مــن المشهد الــــعــــام لــيــحــل مــحــلــهــا لـــبـــاس أســــــود مــوحــد وأوجــــــــه مـــكـــشـــوفـــة وســـــــاح غـــيـــر ظــــاهــــر ولا محتفى بــه. وهـــؤلاء هـم «مــوضــة» المراهقين واليافعين الذين شـاع بينهم اللون الأسـود، وباتوا غير صابرين على نمو لحاهم، تطبعا بنموذج رجل السلطة الجديد. هذا التغيير المشهدي، البسيط ربما في سياق التحولات الكبرى التي تشهدها سوريا اليوم، امتص جـــزءا كـبـيـرا مــن غـضـب الدمشقيين المكبوت وتوجسهم حـيـال حكامهم الـجـدد القادمين مــن أريــــاف ومـحـافـظـات بـعـيـدة. فمعلوم أنـه فـــي بـلـد شــديــد المــركــزيــة كــســوريــا، لا نـجـاح في امتحان عام قبل اجتياز اختبار دمشق. ودمـــــشـــــق الــــــيــــــوم، وعــــلــــى رغـــــــم الـــتـــحـــديـــات والانتظارات الكثيرة... في وقفة عيد. رايات بيض ازدحــامــات خانقة تحيل الـوصـول إلى أي مــكــان أشــبــه بــمــعــجــزة، ومـــواكـــب جــوالــة بالأعلام ورايات التوحيد البيضاء، وشوارع تـغـلـق عـــصـــرا فـــي مـحـيـط ســـاحـــة الأمـــويـــن، فـتـزيـد اخــتــنــاق الـــشـــوارع الــداخــلــيــة. شبكة الهاتف مثقلة. الفنادق متخمة. حجوزاتها مغلقة بـأسـعـار صــاروخــيــة حـتـى تـلـك التي كـانـت عريقة وفـاخـرة ذات يــوم وتـوقـف بها الزمن في نهاية الثمانينيات فبقيت اليوم مجرد أطلال شاهدة على العصر. رواد الفنادق يتراوحون بين مغتربين ســـوريـــن، ومــشــاركــن فــي نــــدوات وورشــــات عمل لناشطين فـي المجتمع المــدنــي، ووفــود أجنبية ودبلوماسية على أرفع المستويات، وصحافة محلية وعالمية، وتجار ومقاولون وعناصر أمن وفدوا من المحافظات والمناطق الـبـعـيـدة، ومـجـرد فضوليين يتسكعون في البهو ما أتيح لهم ذلك. أحــــــد الــــقــــواســــم المـــشـــتـــركـــة بــــن هــــؤلاء كــلــهــم وغـــيـــرهـــم مـــمـــن غـــصّـــت بـــهـــم دمـــشـــق، أنهم كانوا قطعوا الأمــل بالعودة يوما إلى بلدهم، واليوم يغرفون منها ما استطاعوا. عــــائــــات بــأكــمــلــهــا أتــــيــــح لـــهـــا خـــــال الـــعـــام المــــاضــــي احـــتـــضـــان أبــــنــــاء وبــــنــــات مـنـفـيـن مـنـذ أكــثــر مــن عــقــد، ولــقــاء أحــفــاد لــم يشهد الأجـــداد على ولادتـهـم، وفـي أحسن الأحــوال تعرفوا إليهم عبر شاشات الهواتف. شباب وشـــابـــات غـــــادروا يـافـعـن هــربــا مــن اعـتـقـال وموت محتم، وعادوا اليوم رجالا ونساء في منتصف العمر يـحـاولـون حشر أجسادهم الكهلة في أسرّة الصبا. وكــمــا فـــي وقــفــة كـــل عــيــد، فــــإن مـشـاعـر الـبـهـجـة والــحــبــور لا تــطــرق بـعـض الأبــــواب إلا محمّلة بدمع كثير. ولعل سكان المناطق المــدمــرة ســـواء فـي المخيمات البعيدة أو في الأحــــيــــاء المـــحـــاذيـــة لمــنــصــة الاحـــتـــفـــالات في ساحة الأمويين، وأهالي المفقودين والمغيبين قسرا أكثر من تبتلع الغصة فرحتهم اليوم وهـــم مـــدركـــون أن طـريـقـهـم طــويــل وعـسـيـر. إنـهـم أبـــرز الـحـاضـريـن فــي هـــذه الـــذكـــرى، إذ لا تـخـلـو عـائـلـة مــن فـقـيـد أو مـفـقـود لا تــزال تبحث له عن أثر أو رفاة لإتمام مراسم الدفن والعزاء. لكن أيضا فـإن تجمعات الأهلية سواء لأهالي المفقودين أو المنظمات الحقوقية كما وأصـحـاب الأعـمـال وغيرهم من التجمعات، عـــــادوا ونــقــلــوا نـشـاطـهـم إلــــى داخــــل بـلـدهـم وعقدوا اللقاءات ورفعوا المطالب من وسط عاصمتهم. وفي ذلك لا شك كسب كبير. غلبني الشوق أكـثـر مــن أي شـــيء، هــو احـتـفـاء بــ«حـق الـــعـــودة» الــــذي حـــرم مـنـه الــســوريــون لعقود . يـقـول 2011 مــضــت وســبــقــت أحــيــانــا ثـــــورة 13 رجل أربعيني عاد واستقر في دمشق بعد عاما قضاها في إسطنبول: «أنا عائد لأنني بـبـسـاطـة مــشــتــاق. مـشـتـاق لأهــلــي وحــارتــي وحـيـاتـي الــتــي وإن كـرهـتـهـا آنـــــذاك، تركتها مرغما ومـــطـــروداً». وفــي مـعـرض حديثه عن بعض مـن يـحـاولـون تأطير خـيـارات الأفـــراد في سياقات سياسية عامة كـ«المساهمة في بـنـاء ســوريــا الــجــديــدة» وغــيــره مــن عناوين برّاقة يقول: «أعتقد أنني كنت أساعد بلدي وناسي بأشكال كثيرة حتى وأنا في الخارج. ولكني اليوم عدت لأنه غلبني الحنين. ويجب أن يكون الحق بالشوق حجة كافية للعودة. الحق في أن أختار عودتي بمعزل عن درجة الرضا أو عـدم الرضا عن شكل الحكم وأداء السلطة الوليدة». تــلــك عـــبـــارة تـخـتـصـر الــكــثــيــر مـــن حــال الـــســـوريـــن الـــيـــوم، داخــــل دمــشــق وخــارجــهــا ممن التقيناهم حتى في المحافظات البعيدة. كأن الناس يحتفلون عمليا باستعادة حقهم في تقرير مصائرهم. وفيما يبدو أنـه ليس لـلـسـيـاسـة حــيّــز كـبـيـر الـــيـــوم، غـيـر أن الفيل الــحــاضــر فـــي كـــل مـجـلـس قــــــرارات الـحـكـومـة والأداء الإعلامي والحقوقي وسلوك الشرطة وأحـــــــــداث الـــســـاحـــل والـــــســـــويـــــداء والـــعـــاقـــة بـــ«قــســد» وارتـــفـــاع الأســـعـــار وتـــجـــاور الفقر والـثـروة وإغـفـال ملفات المغيبين والمخفيين في السجون، ذلـك كله وغيره الكثير يجري تــشــريــحــه ويــــوضــــع تـــحـــت المـــجـــهـــر بــصــوت عــــالٍ، فــي الـــشـــارع والمـقـهـى والمـطـعـم كـمـا لو أنــــه فـــعـــا لـــم يــعــد لـــلـــجـــدران آذانـــــــا. يضحك محدثي مـن هـذا التشبيه ويـقـول: «بالفعل، لم يعد للجدران آذان... ولكن لغير الجدران أيضاً. كل يفعل ما يشاء. الأفراد والجمعيات والـــــوزارات والمـحـافـظـون ورجـــل الـشـرطـة في ســــوق الـــحـــمـــيـــديـــة... كــــأن الــجــمــيــع اسـتـعـاد لسانه وقطع أذنيه». فتاة تحمل العلم السوري خلال الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لإطاحة نظام الأسد في دمشق (أ.ب) في الذكرى السنوية الأولـى للتغيير في سوريا، تعود دمشق إلى الواجهة كمدينة تستعيد صوتها وملامحها بـمـشـهـديـن يـــبـــدوان مـــتـــوازيـــن ومــتــداخــلــن فـــي آن مــعًــا: سوريون يحتفلون اليوم بـ«حق العودة» بعد أعوام طويلة مـن المنفى والــخــوف، وآخـــرون تــذكّــروا كيف استنهضوا أنـفـسـهـم لـيـلـة هـــــروب بـــشـــار الأســـــد لـيـحـمـوا شــوارعــهــم وأحياءهم من الفوضى المُحدِقة. بين فرح مستعاد وجرح لم يندمل، وبين هوية بصرية جديدة غيّرت وجه العاصمة، ومع ذاكـرة مثقلة بالمغيبين قسرًا، تتشكل صورة دمشق ما بعد العاصفة: مدينة في «وقفة عيد»، وثمّة أطلال ليال قاوم فيها السكان الانهيار بأنفسهم. وفي هذا التوقيت الحساس، يبدو أن السوريين يعيدون اكتشاف قوّتهم الجماعية وقدرتهم على حماية مدينتهم وصياغة مستقبلهم، بعدما استعادوا أغلى ما فقدوه: حق القرار وحق العودة، حتى مع الغصّات الناتجة عن سلوك الشرطة وارتفاع الأسعار وتجاور الفقر والثروة وإغفال ملفات المغيّبين والمخفيين في السجون. في جولات ميدانية عشية ذكرى سقوط الأسد دمشق: بيسان الشيخ أول ما بدأ تهشيمه وتكسيره وتمزيقه لحظة سقوط نظام الأسد هو أيقوناته ورموزه البصرية كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟ «فـي تلك الليلة لم يُكسر قفل محل واحـد في حينا»، يقول وائـــــل، طـبـيـب فـــي الأربـــعـــن مـــن عـــمـــره، وهـــو يـقـف أمــــام عـيـادتـه الصغيرة في شارع بغداد وسط دمشق. يروي لحظة لن ينساها : «شاهدنا لصوصا في 2024 ) ديسمبر (كانون الأول 8 من يوم طريقهم لاقتحام البنك المـركـزي فـي سـاحـة السبع بـحـرات. كنا بين صدمة وخوف وفرح، ثم أدركنا أن أحدا لن يحمينا... فبدأنا نحمي أحياءنا بأنفسنا». كانت تلك الساعات الأولــى بعد انهيار نظام بشار الأسـد، حـن عـم الـخـوف وبـــات شبح الـفـوضـى يخيم على المـديـنـة. لكن دمشق، بطريقة ما، حمت نفسها. نـــور الــديــن تــرجــمــان، المـــعـــروف بــــ«أبـــو جــبــريــل»، أحـــد أبــرز المتطوعين في لجنة حماية الجسر الأبيض والروضة القريبين مـــن المـــقـــرات الأمــنــيــة والــقــصــر الـــرئـــاســـي، يــتــذكــر مـــا حــــدث عند الثانية بعد منتصف الليل: «شاهدنا عناصر من النظام السابق يخلعون بزاتهم ويرمونها في حاويات القمامة قبل أن يفروا». بــعــد دقــــائــــق، وصـــلـــت مــجــمــوعــات مـسـلـحـة عــلــى مـــن ســـيـــارات وشاحنات ودخلت المقر الأمني المعروف بـ«قسم الأربعين». نـهـبـوا كــل شـــيء؛ الــســاح، الـحـواسـيـب، الأقــــراص الصلبة، الـوثـائـق، وحـتـى خـزانـات الــوقــود. لكن رغــم مـوقـع القسم وسط الــســوق الـتـجـاريـة والــفــوضــى الــتــي غـمـرتـهـا، لــم تُــقـتـحـم أي من المحال. يــقــول أبـــو جـبـريـل لــــ«الـــشـــرق الأوســــــط»: «إن أطـــفـــالا كـانـوا يلعبون بالسلاح والقذائف وسط إطـاق نـار. الأهالي عاجزون عن التدخل. لكن عندما اندلع حريق داخـل القسم، هـرع الناس لإخماده خوفا من انفجار أكبر». لم تهدأ المنطقة إلا مع وصول عناصر من «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر. قناص في «واتساب» مع اتساع حـوادث السرقة، خصوصا السيارات، بدأ شباب الـــحـــي، وبـيـنـهـم أطـــبـــاء ومــهــنــدســون وأصـــحـــاب مــحــات وطـــاب جامعيون، يتجمعون. يقول أبو جبريل: «بعد عشرين يوما من 75 سقوط النظام بدأ العمل ينتظم». وارتفع عدد المتطوعين من . اشتروا أجهزة اتصال، وقسموا إلـى مجموعات، 300 إلـى نحو وزودتهم السلطة الجديدة بقطعتي سلاح لكل مجموعة مع كلمة سر للتعريف. واعتمدت اللجان على مجموعات «واتساب» للتواصل بين أفراد اللجان أنفسهم، وبين اللجان والأهالي. في بعض الأحياء تجاوز عدد المشتركين الآلاف. كانت المشاركة شخصية ومباشرة للإبلاغ عن تحركات مريبة، تصوير السلوكيات الخطرة، والمراقبة المستمرة. ولا تخلو تلك المجموعات من خروقات، كما حصل لدى اكتشاف قناص من النظام السابق ضمن لجان الحماية نفسها. القصاع وباب توما فــي حــي الـقـصـاع ذي الـغـالـبـيـة المـسـيـحـيـة، بـقـي الــخــوف من التجييش الطائفي حـاضـراً، خـاصـة بعد كتابة عـبـارات طائفية على جدار كنيسة القديس كيرلس. يوسف، أحد شبان «الفزعات» في باب توما والقصاع، يقول إن المتطوعين لعبوا دورا حاسما في احتواء الانفلات الأمني منذ اللحظة الأولى: «بدأت الفوضى عند الخامسة فجرا واستمرت حتى الثانية ظـهـراً. كانت المؤسسات الأمنية والحكومية تُنهب بالكامل، بعضها تعرض للحرق مثل مبنى الهجرة والجوازات في الزبلطاني». ويضيف: «رأيت أطفالا يعرضون أسلحة للبيع ولصوصا يسرقون السيارات». أغلق شباب الحي الـحـارات بالسيارات حتى وصـول «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر. الخوف الأكبر كـان من احتمال وقوع مـجـازر. يقول يوسف: «فجأة وجدنا أنفسنا أمـام مسلحين (...) ذهبنا إليهم وطلبنا وضع حد للفوضى. وكانوا متعاونين». وبـــحـــســـب شــــهــــادة يــــوســــف، فـــــإن أعــــمــــال الـــعـــنـــف لــــم تــحــدث بالمعنى المنظم في الأشهر الأولى، بل كانت هناك حوادث بالفعل واستفزازات، بسبب الخوف المسبق وسوء الفهم والجهل المتبادل بالآخر. رفـــض أهــالــي الأحــيــاء المسيحية تسلم الــســاح مــن السلطة الجديدة خشية أن يجر ذلك إلى «خراب»، مفضلين الاعتماد على «الكثرة العددية» في حال حدوث طارئ، واللجوء إلى قوى الأمن لمواجهة الخطر عند الحاجة. وقـد ساعد ذلـك فـي إحـبـاط هجوم مسلح والتصدي لسيارات رفعت شعارات طائفية. لص» 200 «أوقفنا بعد عام على سقوط النظام، يقول سكان من الجسر الأبيض إن لـجـان المجتمع الأهــلــي الـتـي تشكلت لعبت دورا أسـاسـيـا في سد الفراغ الأمني إلى حد ما، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولـى، لص أُوقفوا في ذلك الحي وحده. 200 مشيرين إلى أن أكثر من محمد الفقي يـــروي: «فــي تلك الأشـهـر عملنا فـي كـل شـيء؛ تنظيم الـسـيـر، الـحـراسـة، ملاحقة الـعـصـابـات، الإســعــاف، تأمين ذهاب الأطفال للمدارس. لم يكن هناك خيار آخر لحماية أهلنا». ويـضـيـف الـفـقـي أن الـتـحـدي الأكــبــر كـــان غــيــاب الـــقـــدرة على التمييز بين رجال السلطة الحقيقيين ومنتحلي الصفة. يضحك أبــو جبريل وهــو يستعيد ذكـريـات الأسـبـوع الأول: «كنا مجانين. نحمي الحي بلا سلاح ولا تدريب. تعرضنا لإطلاق نار مرات عدة، ومع ذلك واصلنا السهر كل ليلة على أمن الحارات». هـكـذا، فـي تلك الليلة الرهيبة الـتـي سقط فيها نـظـام بشار الأسـد وعمت الفوضى، لم تنزلق دمشق إلـى الهاوية التي خاف منها الجميع. وقام أهلها بحمايتها عبر ارتجال قرار جماعي. دمشق: سعاد جروس

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky