issue17177.1

شعرية محمود البريكان المركبة تنطوي على عدة طبقات للمعنى والدلالة الثقافة CULTURE 18 Issue 17177 - العدد Monday - 2025/12/8 الاثنين قصص قصيرة من أفريقيا ضـــمـــن ســلــســلــة «آفـــــــاق عـــالمـــيـــة» الــتــي تصدرها «الهيئة المصرية العامة لقصور الـــثـــقـــافـــة»، صــــــدرت «أنـــطـــولـــوجـــيـــا الـقـصـة القصيرة السواحيلية» التي تضم عددا من النصوص الإبداعية لمجموعة متنوعة من الأدباء مكتوبة جميعا باللغة السواحيلية الـــتـــي تــمــيــز دول شـــــرق أفـــريـــقـــيـــا، تـرجـمـة وتقديم الدكتور محمد يسري محمد. وتــــتــــعــــدد الـــقـــضـــايـــا والــــهــــمــــوم الـــتـــي يـــطـــرحـــهـــا مـــؤلـــفـــو المـــجـــمـــوعـــة، مــــن الــقــتــل المــــجَّــــانــــي، وعـــنـــف الــــحــــروب الأهـــلـــيـــة، إلـــى التعبير الـشـاعـري عــن الطبيعة، والـتـديـن الـشـكـلـي، ونــفـاق الـبـعـض للسلطة، وتـوتـر العلاقات الأسرية، وصراع الأجيال، وتبدُّل المفاهيم بين الماضي والحاضر. وأشــــــار المـــتـــرجـــم فـــي مــقــدمــتــه إلــــى أن الترجمة هي الوسيلة الأكثر فاعلية التي مــــن خــالــهــا تــمــتــد جـــســـور الـــتـــواصـــل بـن الشعوب والثقافات المختلفة، لافتا إلى أن اللغة السواحيلية لغة أصيلة فـي الشرق الأفـــريـــقـــي تـــتـــحـــدث بـــهـــا تـــنـــزانـــيـــا وكـيـنـيـا وأوغـــنـــدا وروانـــــدا وبـــرونـــدي (دول منابع الـــنـــيـــل)، كــمــا أنــهــا تــعــد الــلــغــة الــثــانــيــة في الـــقـــارة الأفـريـقـيـة بـعـد الـعـربـيـة؛ لافــتــا إلـى أن الـسـواحـيـلـيـة تــعــد كــذلــك الــلــغــة الأولــــى لعدد من الأدباء الأفارقة المرموقين الواردة نصوصهم في الكتاب، مثل: كلارا موماني، وشـــــافـــــي آدم، وجــــــــون هــــــابــــــوي، وكـــيـــالـــو أمـيـتـيـا، وواريـــــا تـيـمـامـي، وغــيــرهــم ممن قدموا أعمالا أدبية في جميع فـروع الأدب المكتوب، من قصة قصيرة ومسرح ورواية وشعر. وتــــعــــد تـــلـــك المـــــخـــــتـــــارات الــقــصــصــيــة بمنزلة خطوة أولى على درب الترجمة عن السواحيلية، وما تتضمنه من أدب مجهول لــــدى الـــقـــراء الـــعـــرب، يــتــمــاس مـــع الـبـيـئـات العربية بشكل أو بآخر، ولا سيما أن الأدب الأفـريـقـي لا يـــزال خـصـبـا، وفـــي حـاجـة إلـى مزيد من البحث والتنقيب؛ خصوصا بعد أن حاز الأفريقي التنزاني عبد الرازق قرنح . ومــن 2021 جـــائـــزة نـــوبـــل فـــي الأدب عــــام أجــواء المجموعة القصصية نقرأ في قصة «اللاجئ» للكاتب الكيني جون هابوى: «حـــن غـــادر قـطـاع الــطــرق المــنــزل بعد انتهائهم من جريمتهم الوحشية، غـادرت الـردهـة، وتحركت فـي منزلنا الــذي أصبح مــكــشــوفــا؛ إذ دُمــــــرت أبــــــواب المـــنـــزل كـلـهـا، واستطعت أن أرى جثث إخوتي بالإضافة إلى جثة أمي الحبيبة التي توفيت بمرارة شــديــدة وهـــي تـعـض عـلـى شفتها السفلى بــأســنــانــهــا، وعــيــنــاهــا جــاحــظــتــان كـالـتـي كانت تحارب العالم الذي أعطاها ظهره. أصــــابــــت جـــســـدي الـــــبـــــرودة الـــشـــديـــدة بــرؤيــة تـلـك الـجـثـث، وقـفـت مـصـدومـا مــدة، حتى سمعت صوتا من الخارج، فتملَّكني الخوف فجأة، وهرولت خارج المبنى الذي كان منزلنا منذ مدة قصيرة قد مضت. مـــــــررت بـــســـرعـــة ودخــــلــــت غـــابـــة كــانــت مــــوجــــودة أســـفـــل المــــنــــزل، وأخـــفـــيـــت نفسي بــداخــلــهــا. رأيـــــت مــجــمــوعــة مـــن الــخــنــازيــر البرية التي تجري هنا وهناك، وقد أدخلت في نفسي حالة من الخوف. تمنيت الهروب إلـى مكان آخـر بسبب الرعب الــذي أدخلته علي تلك الحيوانات ذات الأسـنـان الحادة الـــبـــارزة إلـــى الـــخـــارج كــالمــقــص، ولــكــن أيـن سأهرب؟ لم يعد هناك أي مكان آخر يُطلق عـلـيـه مـــنـــزل. أصـبـحـت بـــا إخــــوة أو حتى أبوَيَّ، أصبحت وحيداً». القاهرة: «الشرق الأوسط» علاقته بالطبيعة وجودية في جوهرها الشاعر البصري والروحية الحداثية جــــــرى الإعـــــــــان مـــنـــذ أيــــــــام عـــــن عـــرض قــــريــــب لــفــيــلــم ســـيـــنـــمـــائـــي جــــديــــد لــتــيــرنــس مـالـيـك اســمــه «طـــريـــق الــــريــــاح»، يــــدور حـول حـيـاة المـسـيـح، ولـــذا سنكتب شيئا عــن هـذا الذي أسمّيه «الشاعر البصري». هذا الفنان الفريد في تاريخ السينما المعاصرة، يعيد صــيــاغــة الـــوجـــود عــبــر الــكــامــيــرا والـــصـــورة والــــضــــوء والإيـــــقـــــاع، ويـــجـــعـــل مــــن الــشــاشــة مـجـالا لتجربة تأملية تمس تخوم السؤال الفلسفي والــروحــي معاً. فسينماه لا تُبنى على منطق الحكاية بقدر مـا تتأسس على منطق الكشف، ولا تسعى إلـى سـرد أحـداث بـقـدر مـا تفتح أفـقـا إدراكــيــا يُــعـاد فيه تأمل الحياة بوصفها لغزا محيّراً، لا حدثا عابراً. هــنــا تـصـبـح الـــصـــورة ضــربــا مـــن التفلسف الـــصـــامـــت، وتـــغـــدو الـلـقـطـة لـحـظـة انـكـشـاف تتجاور فيها الحساسية الشعرية مع القلق الوجودي. ينتمي عالم ماليك إلـى ذلـك النمط من الـــرؤيـــة، حـيـث نـجـد الإنـــســـان كـائـنـا مقذوفا بـــه فـــي الـــعـــالـــم، مــحــمــولا بـــن حـــضـــور هــش ومـصـيـر غـــامـــض، وهـــو مـــا يــقــرّبــه بـوضـوح مــن الـتـصـور الـهـايـدغـري لــلــدازيــن، الإنـسـان المهموم بوجوده، ذلك الكائن الذي لا يعيش العالم بوصفه موضوعا محايداً، بل بوصفه زمــنــا مـنـفـتـحـا عـلـى الـقـلـق والمـــــوت والمـعـنـى المؤجَّل. غير أن ماليك لا يترجم هذه الرؤية بمفاهيم فلسفية مـبـاشـرة، رغــم أنــه أستاذ فـلـسـفـة ومــتــرجــم، بـــل يجعلها تـتـجـسـد في حركة كاميرا شبيهة بالتنفس، وفي أصوات داخلية هامسة لا تفسّر الواقع بل تلامسه، كــمــن يـــمـــر عــلــى الأشـــيـــاء بــإصــغــاء رحـــيـــم لا بسطوة تحليلية. تـــتـــجـــلـــى الــــســــمــــة الأســـــاســـــيـــــة فـــــي فـنـه فـــي هـيـمـنـة الـــصـــوت الـــداخـــلـــي، الــــذي يشبه المناجاة الصامتة أو الصلاة المترددة، حيث لا تـتـكـلـم الــشــخــصــيــات بــلــســان الــــســــرد، بل بلسان الضياع. إنـه صـوت كائن يبحث عن موضعه بين النعمة والسقوط، بين الطبيعة والـروح، بين القسوة والرأفة. هذه الثنائية، الــتــي تـظـهـر بــوضــوح فــي «شــجــرة الـحـيـاة» تُحيل إلى تصور أخلاقي عميق يربط سلوك الإنسان بموقعه الـوجـودي، والـصـراع ليس بين خير وشـر بسيطَين، بل بين نمطَين من الــــوجــــود: نــمــط يـثـقـل الــــــروح ويـــشـــدّهـــا إلــى الأرض، وآخر يفتحها على الضوء واللطف والشفافية. إن عــــاقــــة مـــالـــيـــك بـــالـــطـــبـــيـــعـــة لـيـسـت تـجـمـيـلـيـة ولا تــوثــيــقــيــة، بــــل وجــــوديــــة فـي جــــوهــــرهــــا، إذ تـــتـــحـــول الأشـــــجـــــار والمــــيــــاه والغيوم إلـى شهود صامتين على هشاشة الإنــســان وانــكــســاره الـــذي كـــان دائــمــا يـعـود، نـــــراه فـــي مـــرايـــا تــعــكــس صـــراعـــه مـــع الــزمــن والـــفـــنـــاء. الـــزمـــن لــيــس خــطــا مـتـسـلـسـاً، بل نسيج مشروخ من الذكريات، حيث تتقاطع الطفولة مع الشيخوخة، والحلم مع الواقع، والندم مع الرجاء. هذا التمزق الزمني ليس تقنية سردية فحسب، بل تعبير عن كينونة قلقة لم تعد تثق بتتابع الـزمـن، بل تعيشه بوصفه تيارا داخليا متكسّراً. سينما ماليك تستحضر مناخا قريبا مما يسميه الصوفية «الليل المظلم للروح»، فـــهـــي كـــثـــيـــرا مــــا تـــتـــحـــرّك فــــي تـــلـــك المــنــطــقــة الـرمـاديـة بـن الـنـور والانـطـفـاء، بـن الـرجـاء والـــتـــيـــه، حـــيـــث تُـــمـــحـــى الـــســـيـــطـــرة الـعـقـلـيـة وتتفتت الأنــا أمــام إحـسـاس بحضور أعظم منها. غير أن هذا الحضور، بخلاف الخبرة الــصــوفــيــة، لا يـتـجـلّــى فـــي صــــورة رؤيــــا ولا يقود إلى يقين ختامي، بل يظهر في صمت طويل وامتداد بصري يجعل المشاهد شريكا فــي تـجـربـة الـتـوقـف والإنـــصـــات والــتــســاؤل، دون أن يَـــعِـــده بـكـشـف نـهـائـي أو طمأنينة مكتملة. من هنا يمكن القول إن تيرنس ماليك لا يصنع سينما بل يبني تجربة وجودية تُرى أكثر مما تُفهم، وتُحس أكثر مما تُفسَّر. إنه شاعر بصري يعيد للفن قدرته على التأمل، ويــذكّــرنــا بـــأن السينما ليست فـقـط وسيلة للتحدث، بل إمكانية عيش للدهشة، ومدخل إلــــى مـــواجـــهـــة الــــــذات أمـــــام الـــزمـــن والمــصــيــر والجمال. إنها تقيم في السؤال، ونحن معه، على تخوم المعنى، حيث يتجاور الضوء مع الظل، والحنين مع الفقد، والإنسان مع هاوية وجــــوده، فـي لحظة شفيفة تـذكّــرنـا بأننا لا نعيش لنفهم العالم فحسب، بل لننصت إلى سره الخفي أيضاً. أن ندعه يتكلم. ومــمــا يــمــيّــز تــجــربــة مــالــيــك كــذلــك ذلــك الإصرار على تفكيك مركزية الإنسان وعقله، وإزاحـــتـــه عــن مــوقــع الــســيــادة لـصـالـح رؤيــة أوســع تــرى فـي الـوجـود شبكة مترابطة من الـــعـــاقـــات، ولــيــس مـسـرحـا لـهـيـمـنـة بشرية مــغــلــقــة عـــلـــى ذاتـــــهـــــا. فـــالـــكـــامـــيـــرا كـــثـــيـــرا مـا تنصرف عن الوجه الإنساني إلـى تفاصيل مهملة: حشرة تزحف على ورقة، ذبذبة ضوء على سطح مـــاء، عشب ينحني تحت وطـأة الــريــح. هــذه اللقطات ليست زيـنـة جمالية، بل إشـارات فلسفية تذكّر بأن الإنسان ليس محور الكون، بل جزء هش من نسيج كوني أوسع وأعمق منه. كـــمـــا أن الـــحـــضـــور الــــدائــــم لـــلـــمـــوت فـي أفلامه لا يُــقـدَّم بوصفه نهاية مأساوية، بل بـوصـفـه أفــقــا وجـــوديـــا يـضـفـي عـلـى الـحـيـاة معناها الـهـش والـعـابـر. فـالمـوت عند ماليك ليس قطيعة مفاجئة، بل ظل صامت يرافق كـــل لـحـظـة مـــن لـحـظـات الــجــمــال، ويجعلها أكثر شفافية وأشـد إيلاما في الوقت نفسه. وهذا الحضور يعمّق البعد الوجودي لفنه، ويـضـع المشاهد أمـــام وعــي مـؤلـم بــأن كـل ما يُــــحَــــب مـــعـــرّض لــــلــــزوال، وأن الـــجـــمـــال ذاتـــه محكوم بالتلاشي. بـــهـــذا المـــعـــنـــى، تــصــبــح ســيــنــمــا مـالـيـك ممارسة روحية حداثية، لا تعظ ولا تُبشّر، لكنها تفتح نــافــذة عـلـى مــا ســمّــاه هايدغر «انـــكـــشـــاف الــكــيــنــونــة»، وعــلــى مـــا عــبّــر عنه الــــصــــوفــــيــــون بـــوصـــفـــه «لـــحـــظـــة تــــمــــاس مـع المطلق»، وعلى ما عبّر عنه إنغمار برغمان بــــوصــــفــــه «صـــــمـــــت الـــــســـــمـــــاء أمــــــــــام صــــــراخ الإنـسـان». غير أن ماليك يختار طريقا أكثر رهافة، يمر عبر الضوء والسكينة والحنين، لا عـــبـــر الـــعـــنـــف أو المـــواجـــهـــة أو الانـــكـــســـار الدرامي الفجّ. ومن هنا يترسخ موقعه بوصفه شاعرا يجد للشعر وسيلة كاشفة جديدة. لا يكتفي بـــأن يــصــوّر الــعــالــم، بــل يعيد مـسـاءلـتـه من الـداخـل، ويقترح على المتلقي أن يـرى بعين أبــطــأ، وقــلــب أرهــــف، ووعــــي أكــثــر اسـتـعـدادا لـلـدهـشـة. فـمـشـاهـدة أفـــامـــه لـيـسـت تجربة استهلاك، بـل رحلة بطيئة فـي عمق الزمن، حيث تذوب الحدود بين الفن والفلسفة، بين الصورة والتأمل، بين الواقع والحلم، ليغدو الــــســــؤال نــفــســه هـــو الـــغـــايـــة، والـــدهـــشـــة هي المعنى، والإنصات هو الطريق. خالد الغنامي حان الوقت لكي يستعيد مكانته التي يستحق محمود البريكان... شعرية الاغتراب تــجــربــة الــشــاعــر مــحــمــود الــبــريــكــان، بـوصـفـه أحـــد شــعــراء الـحـداثـة الـعـراقـيـن، المـــجـــايـــلـــن لـــلـــشـــاعـــر الــــــرائــــــد بــــــدر شـــاكـــر الـسـيـاب، مـنـذ خمسينات الـقـرن المـاضـي، تــجــربــة شــعــريــة مـــتـــفـــردة إلــــى حــــد كـبـيـر، وكما يقال فالشاعر نسيج وحـــده. وهـذه الـتـجـربـة الـفـنـيـة والـعـمـيـقـة تـتـيـح للناقد والقارئ، على حد سواء، الفرصة للولوج إلى عالمه السراني، وربما الإشراقي، وشبه الكابوسي، مـن مـداخـل عــدة، تشجع على تقديم مقاربات نقدية وثقافية جديدة من زوايا يتفرد بها البريكان وقصيدته معاً. فمثلما ظل الشاعر في حياته اليومية حبيس بيته، وربما رهين محبسه الأليف، مـــثـــل المــــعــــري، كـــمـــا أشــــــار الـــشـــاعـــر نـفـسـه إلــى ذلــك فـي إحـــدى المـــرات، ظلت قصائده حبيسة أسراره وشعريته. هــذا التعاضل فـي الكتابة الشعرية، بقدر ما يشكل معضلة شائكة للناقد، فإنه يتيح له إمكانية الحفر عميقا في الأُسس الـلـسـانـيـة والمـعـرفـيـة والـفـلـسـفـيـة لتجربة الـــشـــاعـــر. والـــنـــاقـــد أمـــــام مـعـضـلـة الـــقـــراءة وتــفــكــيــك شـــفـــرات الـــنـــص الـــشـــعـــري لشعر الـبـريـكـان يـجـد نفسه فــي امـتـحـان عسير وتحد غير مسبوق، ولذا فهو يجتهد في أن يــرى مـا لا يــرى، مـا دام يجد نفسه في بكل معنى visionary حضرة شاعر رؤيوي الكلمة. الـــشـــاعـــر مـــحـــمـــود الـــبـــريـــكـــان شــاعــر ، بــمــعــنــى أنــــــه لا problematic إشـــكـــالـــي يستطيع أن يتصالح بسهولة مع العالم الخارجي، ولذا فهو يصطنع له قوة ذاتية وروحية يحتمي بها من الآخر والمجتمع. فهو يعيش بصورة دائمة في حالة اغتراب روحـــــي، حــيــث نـلـحـظ تـمـاهـيـا كــبــيــرا بين شخصية الشاعر وشعره. إنـه يعاني من «فــوبــيــا» الآخــــر و«فــوبــيــا» الـــخـــارج، معاً، وهـذا ما يتجسد بشكل مثير في تجربته الشعرية. حـــيـــاة الــشــاعــر وتــجــربــتــه الـشـعـريـة، alienation يعانيان معا من حالة اغـتـراب شــــامــــل، وهــــــو اغـــــتـــــراب زمــــانــــي ومـــكـــانـــي وسيكولوجي وفلسفي في آن واحد. ولـــــذلـــــك لـــكـــي يـــحـــتـــمـــي الــــشــــاعــــر مـن ضغوط الخارج يصطنع له قوقعة خاصة يــتــمــتــرس داخــــهــــا، وهـــــي قـــوقـــعـــة الــــــذات، وقــوقــعــة الـقـصـيـدة المــلــغــزة، الــتــي تعاني مثل الشاعر حالة انكفاء وإحباط، وخوف يصل حد الرعب من كل شيء. ومثلما كان الشاعر على المستوى الحياتي واليومي يغلق أبوابه أمام الآخرين نراه أيضا يغلق الأبواب أمام قراء قصائده الذين يضطرون إلـى ولــوج بـاب التأويل بحثا عن الأســرار المخبأة. شـــعـــريـــة مـــحـــمـــود الـــبـــريـــكـــان المــركــبــة تــــنــــطــــوي عــــلــــى عــــــــدة طــــبــــقــــات لــلــمــعــنــى والدلالة، وهو ما يدعو الناقد إلى البحث عـــن مـفـاتـيـح جـــديـــدة نــقــديــة وسـيـمـيـائـيـة قــد يتمكن بـهـا مــن فـتـح مـغـالـيـق قصائد الــشــاعــر، الــتــي تــبــدو أحـيـانـا عـصـيـة على البوح والاستنطاق والاستسلام لمجسات النقد. وتـطـفـو فـــي قـصـائـد الــشــاعــر ظـاهـرة الاغـــــتـــــراب كـــــواحـــــدة مــــن ثـــيـــمـــات الــشــاعــر المركزية. واستطاع البريكان بفضل هذه الآلــيــة فــي الـكـتـابـة الـشـعـريـة، أن يخلق له عبر كتاباته الشعرية وحياته، أسطورته الـــــخـــــاصـــــة، الـــــتـــــي لا تـــشـــبـــه غــــيــــرهــــا مــن الأساطير. ويـمـكـن أن نـعـد قـصـيـدتـه «الـــبـــدوي» مانيفستو اغترابه. «ضائع في الزمان ضائع في العوالم فاقد للبصيص من الذاكرة سادر في شوارع لا يتذكر أسماءها تائه في زحام المدن». ويتوسل الشاعر بـالـرب أن يساعده في استعادة روحه الضائعة وفي استعادة وجهه الغريب: «هبني الشجاعة» أن أتأمل وجهي الغريب أعني لكي أتنفس ثانية في سمائي لكي أستعيد روائح أرضي أعني لكي أعثر يوما على روحي الضائعة أعني لكي أعبر الفاجعة». يــتــقــمــص الـــبـــريـــكـــان قــــنــــاع الــــبــــدوي ومحنته في مواجهة الصحراء والمجهول والـــضـــيـــاع، فــقــد كــتــب الــلــه ألا يــمــوت هــذا البدوي وألا يرى وجهه أحد: «وجهه الأول المستدير البهي الذي غضنته المهالك وافترسته الحروب وحــــــطــــــت عــــلــــيــــه المـــــــآســـــــي عـــــامـــــاتـــــهـــــا». )150 (المجموعة الكاملة، ص إنـــه يـعـيـش غــربــة هـــذا الـــبـــدوي الـــذي رفضته الصحارى والقصور «أنا هو ذاك أنا البدوي الذي لفظته الصحارى الذي رفضته القصور )150 . (ص الذي أنكرته الشموس» فـي هــذه القصيدة الـتـي هـي قصيدة قــنــاع، يبحث الـشـاعـر عــن اسـمـه ومسقط رأسه، وقد ضاع منه كل شيء. وفـــــــــي قـــــصـــــيـــــدة «حـــــــــــــارس الـــــفـــــنـــــار» يتقمص الشاعر شخصية حــارس الفنار الـــذي ينتظر على الـشـاطـئ، دون جــدوى، سفينة الأشباح: «أنـــا فـي انتظار سفينة الأشـبـاح تحدوها .)51 (صالرياح». لكنه لا يلمح ظلا لأي سفينة: «الأفــــــــق الـــطـــويـــل خــــــال ولـــيـــس هـــنـــاك ظـل .)51 (صسفينة». ويـعـلـن أنـــه «الــشـاهــد الــوحــيـد» الــذي رأى كل المآسي والحروب: «شــاهــدت مــا يكفي وكـنـت الـشـاهـد الحي الوحيد في ألف مجزرة بلا ذكرى .)53 . (صوقفت مع المساء» ويــظــل ربــمــا مــثــل غــــودو فـــي انـتـظـار عبثي لا نهاية له: «أنا في انتظار اللحظة العظمى سينغلق المدار/ سينغلق المدار الـسـاعـة الـــســـوداء ســـوف تُــشــل تـجـمـد في .)54 (صالمدار». وفـــــــي قــــصــــيــــدة «تــــدمــــيــــر رجـــــــل مــــا» ) يـشـعـر بـــأنـــه أمـــســـى غــريــبــا على 92 (ص ذاته، بعد أن مل من الانتظار: «هنا رجل تم تدميرهُ/ والهب بالسم تفكيره هـنـا رجـــل مـــل مــا يـنـتـظـر/ وأمــســى غريبا على ذاته ففي كل ثانية ينشطر .)92 (صوما من مدى لانقساماته». وفي إحدى قصائده يتحدث الشاعر عـن مـوت الإنـسـان فـي داخـلـه خلافا لبقية المــــخــــلــــوقــــات، حــــيــــث يــــقــــتــــرب هـــــــذا المـــــوت بغيبوبة الذكرى: «وحده يموت في داخله الإنسان في العالم الباطن في مركز السريرة الساكن يموت في غيبوبته الذكرى يموت في لحظة .)158 يكابد القيامة الكبرى». (ص يـــنـــظـــر الــــبــــريــــكــــان إلــــــى الــــعــــالــــم عـبـر منظور فلسفي شخصي اجترحه لنفسه أداة ومجسا لسبر غور العالم الخارجي. لذا يمكن أن نصفه بالشاعر المتفلسف أو الشاعر الفيلسوف. فكل المرئيات والوقائع والشخصيات تمر عبر عدسة الفيلسوف الشعرية. وشـــعـــر مــحــمــود الــبــريــكــان مـغـمـوس بــفــلــســفــة شــخــصــيــة عــمــيــقــة هــــي فـلـسـفـة الشاعر في الحياة على وفق قيمه وثقافته وخـبـرتـه الـيـومـيـة، حـتـى ليمكن أن نــدرج شــعــره ضـمـن الـشـعـر الـفـلـسـفـي أو الشعر المتفلسف، أو الشعر الذي يحلق بجناحي الخيال والفلسفة معاً. لـو قيض لشعرية محمود البريكان أن تكتشف وتنتشر فـي وقــت مبكر، قبل الـسـيـاب، أو بالتزامن معه، ربما لأعيدت كــــتــــابــــة تـــــاريـــــخ حـــــداثـــــة الــــشــــعــــر، وجـــــرى التساؤل حول الريادة في الشعر الحداثي في العراق. يخيل لـي أن تجربة الـبـريـكـان أعمق وأغـــــزر وأخـــصـــب مـــن تـــجـــارب الـكـثـيـر من مـجـايـلـيـه وربــمــا يــقــف، فــي هــــذا، منافسا خطيرا للسياب نفسه، وهــو يختلف عن السياب الذي كان يفتقد هذا الانغماس في الهم الفلسفي والرؤيوي والكوني، المجرد أحيانا ً. تـــجـــربـــة الـــبـــريـــكـــان تــبــتــعــد إلـــــى حـــد كبير عن النزعة الغنائية، التي وجدناها حاضرة أيضا في شعر بدر شاكر السياب ونـــــازك المــائــكــة وعــبــد الـــوهـــاب الـبـيـاتـي، فالشاعر ينحو نحو لون من الموضوعية الـتـي دعــا إليها فـي وقــت مبكر فـي مطلع الـــقـــرن الــعــشــريــن الــشــاعــر ت. س. إلــيــوت بوصفها أحــد أبـــرز مـقـومـات الـحـداثـة في الـشـعـر. لـكـن مـوضـوعـيـة الـبـريـكـان تنحو منحى أسطوريا ورؤيويا وفلسفيا أيضاً، ولكنها لا تتجاوز الأطر السردية لحكاية الــخــلــق والـــتـــكـــويـــن، فــهــي مـعـجـونـة بـهـذه الكينونة السرية التي تتلبس كل شيء. كما نجد لدى الشاعر، من جهة أخرى، مـــيـــا إلــــى الــتــجــريــد واخــــتــــزال الــكــائــنــات والمرئيات إلى علامات مجردة تتلاشى في سيرورة التاريخ والزمن. واللغة التي هي تشكيل علامي تبدو له مخادعة: «فزعت من خديعة اللغة هنيهة؟ من ملمس العالم في القرار .)1 ،ج 198 . (صوكتلة الموت الهلامية» فــــي قـــصـــيـــدة «أســـــطـــــورة حــقــيــقــيــة»، يــشــعــر الـــشـــاعـــر بــالــغــربــة المــطــلــقــة، حيث تـنـكـره الأشـــيـــاء، ويــنــكــره الـــواقـــع، ويـبـدو طافيا فوق بحيرة ذاكرة آفلة: «عدت إلى بيتي فلم أجد بيتي في مكانه المعهود وهز بي الجميع رؤوسهم بيت كهذا لم يكن موجودا قلت لهم بيتي أمام الشجرة كان هنا قالوا جميعا ولم تكن هناك يوما شجرة». .)215 (ص ويزداد رعب الشاعر وهو يواجه هذا الإقصاء في المكان والزمان، فراح يتساءل بوجع فاجع: «والآن ماذا ينبغي علي أن أفعل؟ .)213 (صوكيف لي أن أنسف الذاكرة» ويتساءل الشاعر بخوف فيما إذا كان كل شـيء مجرد عبث. فـالأسـود والأبيض على حـد ســواء، عواطف الآبــاء والأمهات، وقوة اللغات، عبث ليس إلا: «أكان الحزن والفرح ذاكرة من التاريخ وقوة اللغات .)223 (صجميعها عبث؟» يــحــس الــشــاعــر أحـــيـــانـــا، بــــأن الـعـالـم قـد مزقه مـزقـا، فقد جــاء أنــاس واقتسموا جـسـده، وجــاء الأصـدقـاء فسرقوا هويته، وارتدوا ثيابه: «وجاء أصدقائي فاختلسوا هويتي .)228 (صثم ارتدوا ثيابي». فاضل ثامر النص الكامل على الموقع الإلكتروني

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky