issue17177.1

السوشيال ميديا آلة الدعاية السياسية الأساسية في الزمن المعاصر، بالمعنى المحايد للدعاية: الأداة التي يخوض بها أي كيان مواجهته السياسية والفكرية والاجتماعية. إذا كـنـت مــســؤولا عــن دور سـيـاسـي عـلـى «الـسـوشـيـال ميديا»، فأول ما يواجهك هو التعقيد والتشعّب الذي يشبه حـــرب عـصـابـات مــن كـائـنـات لا مـرئـيـة. وأول مــا يـلـزمـك هو تبسيط هذا العالم إلى خريطة ذهنية واضحة يمكن العمل داخلها. ولنأخذ المواجهات الإعلامية مثالاً، وهي تقريبا أهم تحديات عالم «السوشيال ميديا». فــــي المــــواجــــهــــات الإعـــامـــيـــة أنـــــــتَ، بـــبـــســـاطـــة، فــــي أحـــد حالَيْ: مهاجم أو مدافع. إن كنت مهاجماً؛ فهدفك الأول هو السبق إلـى خلق الانطباع عـن حــدث مـا وتكريسه. جمهور الـسـوشـيـال مـيـديـا لــن ينتظر حـتـى يـشـاهـد الـفـيـلـم قـبـل أن ينتقده، أو يقرأ المقال قبل أن يشارك في الحفلة على كاتبه، أو يطالع التحليلات قبل أن يساهم برأيه في حدث جارٍ. يريد أن يشارك الآن، في هذه اللحظة. هذه هي لحظة الصراع على مَن يكتب «تضبيطات المصنع» التي يراها المتصفح بمجرد أن يفتح الموضوع أو يقترب من الجدل. الصراع في السوشيال ميديا ليس شاغله عمق الـحـجـج، بـل الــقــدرة على ترسيخ الانطباع الأول. هذا لا يتحقق بالضخ الكثيف وحده؛ واللايكات ليست مـــيـــزان نـــجـــاح. الــجــمــاعــات الآيــديــولــوجــيــة تـمـتـلـك «مــشــاة» جاهزين لإعادة النشر، والمؤسسات الإعلامية تمتلك لجانا تـقـوم بــالــدور نفسه. الــفــارق بـن جـهـاز دعـائـي نـاجـح وآخـر فاشل يتجلى في التشكيل. قـــبـــل عـــصـــر الـــســـوشـــيـــال مـــيـــديــا بــقــلــيــل، كــــان الــجــهــاز الإيـرانـي المـثـال الأبــرز على النجاح فـي الـدعـايـة. لـم يعتمد على خطّه الآيديولوجي وحـده، بل على شبكة واسعة من الأصــوات تتفق في الرسالة وتختلف في الأسـلـوب: شاعر لا عـاقـة لـه بــالإســام الـسـيـاسـي يـــروّج لـطـهـران، موسيقي يـجـنّــب فـنـه الــصــراع لكنه يـسـتـخـدم حــضــوره الجماهيري لصالح سياستها، يساري مسيحي، عنصر من تيار سنّي، وثالث يؤمن بـ«حزب الله» وإن لم يؤمن بالله. هذا الطيف غير التقليدي منح الدعاية الإيرانية قدرة على التسلل إلى دوائر ودهاليز لم يكن خطّها المحوري قادرا على دخولها. الــخــط الــصــلــب مـــوجـــود، لـكـنـه مـــوجّـــه أســـاســـا إلـــى الأتــبــاع الملتزمين. هـــذه الـتـجـربـة نُــقـلـت لاحـقـا إلـــى «الـتـحـالـف العثماني» بـــقـــيـــادة جــمــاعــة «الإخــــــــــوان»، ونــجــحــت مــعــه فـــي الــســنــوات . فــجــأة أصــبــح الــفــنــان والــكــاتــب وصـاحـب 2011 المـحـيـطـة بـــــــ الورشة يصلون إلى قناعات متقاربة مع الجماعة وينقلونها إلـــى قـطـاعـات مختلفة. إذا كـــان كــل هــــؤلاء مقتنعين، يقول جــمــهــورهــم، فـكـيـف لا أقــتــنــع أنـــــا؟ نـجـحـت الــتــجــربــة لأنـهـا اعــتــمــدت عــلــى المـــبـــدأ نــفــســه: الــتــنــوع الـــــذي يـــخـــدم الــرســالــة الواحدة. فـــي المــقــابــل، تـفـشـل أجـــهـــزة الــدعــايــة حـــن تـتـحـول إلـى خط إنتاج يصنع رسائل كعلب صلصة متشابهة، ويطالب الجميع بالسمت ذاتـه، والـرأي ذاته في كل صغيرة وكبيرة، ويحوّل كل خلاف إلى خصومة، ويخلط السياسة بالعقيدة والاختيارات الشخصية. هذا النوع من أجهزة الدعاية يبدأ قـويـا ثـم يسير فـي قُــمـع، يفقد المتعاطفين واحـــدا بعد آخـر، وينجر إلى معارك جانبية تربح اليوم وتخسر الغد. وعــالــم الـسـوشـيـال مـيـديـا لـيـس واحـــة مـثـالـيـة ينتصر فـيـهـا الـــتـــنـــوُّع وحـــــده. هـــنـــاك تـكـتـيـكـات أخـــــرى يستخدمها فــريــق الــهــجــوم لـتـثـبـيـت الانــطــبــاع الأول، مـثـل «الــتــرولــنــغ» والاسـتـهـداف الشخصي، هدفها ضـرب الأصـــوات المعارضة الأولـــى الـتـي قـد تعطل تشكّل الانـطـبـاع، وجعلها عـبـرة لمن يفكّر في مخالفتها. أمـــا فــي حـــال الـــدفـــاع، فـقـد سـبـقـك خـصـمـك إلـــى تحديد ). إن اكتفيت بالرد فستدور في فلكه: Frame Setting( الإطار تكرر مفرداته، وترد على نقاطه، وتفاوض من السقف الذي وضـــعـــه. يـصـبـح أقــصــى أمــانــيــك الـــتـــعـــادل، وأقـــــرب الـنـتـائـج الهزيمة، ناهيك من صورتك وتصنيفك. لـهـذا لا بـــدّ، فــي هـــذه الـــحـــال، حـتـى تـحـت الـضـغـط، من التفكير في «هجمة مرتدة»: اكتشاف ثغرات الخصم ونقاط ضعفه، وصياغة جملة تكتيكية تخرجك من إطــاره وتعيد تــعــريــف المـــواجـــهـــة. كـــل مــواجــهــة بـــدأهـــا خـصـمـك بـالـهـجـوم واكتفيت أنت بصد الكرة اعتبر نفسك خسرتَها. العضلات وحدها لا تحسم الصراع على السوشيال ميديا، بل التفكير الاستراتيجي. لـم تكن زيـــارة البابا ليو الـرابـع عشر إلــى لبنان حدثا ديـنـيـا يقفز اللبنانيون فـوقـه لـيُــنـسـى، بــل تـحـول إلـــى مــرآة كاشفة: ثلاثة أيام تكفي لرؤية ما يحاول لبنان إخفاءه منذ عقود. ففي بلد يتقن فن تجميل الـخـراب، ظهر لبنان فجأة قادرا على ما يدعي عجزه عنه طوال سنوات الانهيار: تعبيد الطرقات؛ حيث يمر موكب البابا بين ليلة وضحاها، وتأمين الـكـهـربـاء، وتنظيم آلاف المـتـطـوعـن، وحـشـد مـئـات الآلاف، وضبط أمن لم يفلح في حماية سياسي أو قاضٍ، أو توقيف مهرب، أو احترام قرار قضائي. بدا المشهد كأنه إعلان رسمي بأن لبنان ليس دولة منهارة، بل دولة تختار الانهيار حين لا تكون الصورة مطلوبة. لبنان الـذي رأيناه خـال الـزيـارة هو النسخة الخادعة التي تهرع السلطات الحاكمة لإحيائها كلما احتاجت إلى استعراض دولي. والمفارقة ليست في هذا الجهد المؤقت، بل فيما يكشفه: البلد لا يفتقر إلـى الإمكانات، بل إلـى الإرادة. لا يـعـانـي نقصا فــي التنظيم، بــل فـائـضـا فــي تعطيل إرادة التنظيم. اللبنانيون لا يعجزون عن الحشد، بل عن الحشد لمواجهة المخاطر الوجودية وللدفاع عن حقوقهم. ما يُسمى عجزا هو سياسة: سلطة وشعب يفضلان البقاء معلقين بين دولة غائبة وواجهة احتفالية تُخفي العطب ولا تعالجه. فحين يتعلق الأمر باستقبال البابا تُصبح الدولة فجأة دولة فعلية: الإدارات تنضبط، والأجهزة تنسق بلا ارتباك، والبلديات تُفعّل، والإعـــام يتوحد، والخصومات تتوقف. ومـــا إن يــغــادر الـضـيـف حـتـى تـتـداعـى هـــذه الـــدولـــة، وتـعـود الـبـاد إلــى طبائعها: طـوائـف تتربص ببعضها، وكهرباء مـقـطـوعـة، ومــؤســســات مـحـطّــمـة، ومـــواطـــن مــرهــق لا يـقـوى على الدفاع عن خبزه ودوائـه ومدرسته. كيف يمكن لشعب يصمت على حرمانه من الطبابة والتعليم والكهرباء والمياه، أن يخرج بالآلاف لتحية البابا؟ كيف يمكن لنظام ينهار منذ عقود أن يُقدم نفسه للعالم بلدا مستقرّا قادرا على استقبال أهم شخصية دينية مسيحية؟ التناقض لم يظهر في اللوجيستيات فقط، بل انسحب على الخطاب الرسمي، فالحكام لم يتحدثوا في السياسة، ربما لأن السياسة أصبحت في لبنان الفضيحة التي لا يمكن تجميلها. اكتفوا بتدوير شعارات أصبحت تماثيل لغوية، وأدوات تجميل سـيـاسـي فــقــدت مـعـنـاهـا بـعـدمـا تناقضت المـــمـــارســـات مــعــهــا: «لـــبـــنـــان الـــرســـالـــة»، «لـــبـــنـــان الـــصـــامـــد»، «لبنان نموذج العيش المشترك». لبنان الرسالة والصمود والــنــمــوذج لا يُــهــدد قـاضـيـا يُــحـقـق فــي جـريـمـة الـعـصـر، ولا يُخضع اقتصاده للفاسدين، ولا يحكمه سلاح خارج الدولة. على النقيض، بدا البابا، رجل الدين، السياسي الأكثر وضوحاً. لم يقل إن لبنان «رسالة»، بل قال إنه «مسؤولية». لم يــدع إلـى العيش المشترك بوصفه شـعـاراً، بل إلـى «سلام فـعـلـي» يـتـرجـم فــي الـتـشـريـعـات والمــؤســســات لا فــي الخطب والمناسبات. طالب اللبنانيين بـأن يتصالحوا مع أنفسهم قبل أن يطالبوا العالم بالوقوف معهم، وأن يخرجوا من وهم الــدور التاريخي إلـى فعل الـدولـة الحديثة، دولـة الحقوق لا دولة الأساطير. دعا إلى سلام داخلي ينهي الانقسام داخل الطائفة الـواحـدة ومـع الطوائف الأخــرى، وإلـى سـام يُخرج لبنان مـن مـوقـع الـخـنـدق إلــى مـوقـع الــدولــة. لـم يتعامل مع لبنان بوصفه رمــزاً، بل دولـة غير منجزة تحتاج إلـى إرادة تأسيس، لا إلى احتفالات تُدندن على الأطلال. ولم يكن اختيار البابا شعار زيارته «طوبى لصانعي السلام» تفصيلا لغوياً، بل جوهر رسالته. فقد كانت كلمة «السلام» محورا لخطبه، كررها بإيقاع مقصود، وكأنه يريد استبدال قاموس السلام بقاموس الحرب. دعا اللبنانيين إلى الانخراط في مسار السلام الإقليمي، لا بصفتهم مشاهدين بــل فـاعـلـن، وبــنــاء ســـام داخــلــي يــــداوي شــــروخ الـطـوائـف، وسلام مع محيطهم والعالم. ذروة المفارقة تجلّت في حضور «حزب الله». فالحزب، الذي شارك في مراسم الاستقبال بدا جزءا من لوحة «الوحدة اللبنانية»، فيما ممارساته اليومية تناقض أبسط شروط الوحدة. كيف لقوة تُصادر القرار خارج المؤسسات، وتُعطل العدالة، أن تحتفي بـزيـارة من يطالب بدولة وقـانـون واحد وإحـــقـــاق الــحــق؟ هـــذا الاحــتــضــان الـشـكـلـي لــلــزيــارة، يقابله سلوك فعلي يرسخ الانـقـسـام، ويُجسد النموذج اللبناني: استيراد الرمزية ودفن المعنى، المشاركة في الطقوس ورفض الانخراط في الأسس. لـم يكن البابا بحاجة إلـى ثلاثة أيــام ليفهم أن لبنان لــيــس عـــاجـــزاً، بـــل يــخــتــار الـــعـــجـــز، فــهــو بــلــد يُـــــدار بمنطق المـنـاسـبـة لا بمنطق المـؤسـسـة، بمنطق اللحظة لا بمنطق الاســـتـــدامـــة. لا يـبـنـي ســيــاســات بـــل يـبـنـي مــنــاســبــات، ولا يــؤســس لـنـظـام بـــل يُــعــد ديـــكـــورا يـتـم تـفـكـيـكـه عـنـد انـتـهـاء الــــعــــرض. يــنــهــض بـــكـــفـــاءة حـــن يـــشـــاهـــده الـــعـــالـــم، ويــعــود إلــــى انـــهـــيـــاره حـــن يــنــصــرف الـــضـــوء عــنــه. لـيـسـت المـشـكـلـة فـي الـقـدرة، بـل فـي استدعائها لتجميل الـواقـع لا لتغييره لتصبح الدولة ممثلة تحفظ دورها عند وصول الضيوف، وتنساه عند رحيلهم. الـسـؤال: هل يريد اللبنانيون دولة حقيقية، أم مناسبة تُظهر لهم صورتهم كما يتخيلونها؟ كالعادة، اختار لبنان الجواب السهل: الصورة بدل البنية، والاستعراض بدل القرار، والمشهد بدل الدولة. هـــذا الــســؤال يـعـود بـقـوة فــي ظــل حالة الـغـرام والنشوة التي يعيشها العالم تجاه الــــذكــــاء الاصـــطـــنـــاعـــي، كــمــا عــاشــهــا سـابـقـا مــع ظـهـور الإنــتــرنــت، ومـــن قـبـل ذلـــك السكك الحديدية ومحركات البخار. ومع كل إعلان عـن استراتيجية تكنولوجية جــديــدة، مثل الاسـتـراتـيـجـيـة الأمـيـركـيـة الأخـــيـــرة، يتجدد الإحــــســــاس بــــأن الــبــشــريــة مـقـبـلـة عــلــى زمــن تحكمه الآلات وتهب عليه رياح المستقبل من وادي السيليكون. لكن خلف هذا الضجيج، يــظــل الـــســـؤال الـحـقـيـقـي: هـــل مـــا زال الـبـشـر بثقافاتهم وتحركاتهم وقصصهم الكبرى هم المحرك الأهـم للسلوك الإنساني؟ أم أننا استبدلنا دراسة الإنسان بواسطة دراسة ما يصنعه الإنسان؟ رغـــــم هــيــمــنــة شــــركــــات الــتــكــنــولــوجــيــا الـــــكـــــبـــــرى، ورغـــــــــم ضـــجـــيـــج إيــــــلــــــون مـــاســـك و«إنفيديا» وغير ذلك، فإن القلق الكامن في الـسـيـاسـة الأمـيـركـيـة الــيــوم لـيـس خــوفــا من الــروبــوتــات ولا مــن الـــذكـــاء الـــخـــارق، بــل من تغيّر ملامح الثقافة الأوروبــيــة والأميركية تحت ضغط الهجرة وتدفق ثقافات جديدة. الـــــغـــــرب يـــــــرى أن أخــــطــــر مـــــا يـــــهـــــدده لــيــس الــخــوارزمــيــات، بــل مــن الـبـشـر المـقـبـلـن إليه بأقدامهم وبخيالهم وبأحلامهم. فالرئيس الأمـيـركـي نفسه يـتـحـدث عــن «سـيـطـرة أهـل الــصــومــال عـلـى مـيـنـيـسـوتـا»، وفـــي أوروبــــا يـــتـــكـــرر الـــحـــديـــث عــــن الــــخــــوف مــــن «أســلــمــة المـــجـــتـــمـــع». إن الـــخـــطـــر، فـــي نـــظـــرهـــم، ليس تكنولوجيا ولكنه ثقافي واجتماعي، نابع مـــن مـــوجـــات الــبــشــر الـــتـــي تــتــحــرك مـــن دون توقف. هــــذا الـــنـــوع مـــن الــقــلــق شــبــه غـــائـــب في عالمنا العربي، لأن نخبنا - على مـدى مائة عام - انشغلت بما أسميه «دراسات التأثير». نحن نسأل دائماً: ما تأثير العولمة علينا؟ ما تأثير الإنترنت؟ ما تأثير الذكاء الاصطناعي على ثقافتنا وهويتنا؟ وكأن قدرنا أن نتلقى التأثيرات لا أن نصنعها. بينما الحقيقة أن الـــغـــرب نـفـسـه قــلــق مـــن تــأثــيــر حــركــة الـبـشـر المقبلين مـن مناطقنا ومــن الجنوب العالمي عموماً. قدومنا نحن، لا خوارزمياتهم، هو ما يربكهم ويغيّر مجتمعاتهم. ولكي نفهم هذا العالم المتشابك، علينا أن نخرج من التفكير القائم على حدود الدول إلى تصور آخر يرى العالم كأنه سلسلة من فضاءات متداخلة. أول هذه الفضاءات حركة تـــحـــرك عبر 2024 الــبـــشــر، فـبـحـسـب تــقــريــر مـلـيـون إنــســان، مــن دون 350 الــحــدود نـحـو احتساب السياحة أو التجارة. هذه الحركة الـــهـــائـــلـــة تــعــيــد خـــلـــط الأعــــــــراق والإثـــنـــيـــات، وتشكل ملامح مجتمعات جـديـدة. الفضاء الـــثـــانـــي هـــو الإعــــــام الـــعـــابـــر لـــلـــحـــدود الـــذي يعيد تشكيل وعي الإنسان بالعالم وبنفسه، ويــخــلــق طــمــوحــات قـــد لا تــتــوافــق مـــع واقـــع الـــدول التي يعيش فيها. نحن الـعـرب، على سبيل المــثــال، هـاجـر كثير منا بخياله قبل جسده، وشاهد في الإعـام حياة لا توفرها له أوطانه. هناك أيضا فضاء المـال الـذي انجذبت إلـــيـــه نــخــب عــربــيــة غــنــيــة، مـــن الـــبـــورصـــات إلــى الـعـمـات الـرقـمـيـة. هــذا الـفـضـاء يوحي بأننا جـزء مـن الاقـتـصـاد الـعـالمـي، لكنه في كثير من الأحيان مقامرة قاسية، لأن البنى الـــــقـــــادرة عـــلـــى اســـتـــيـــعـــاب الــــصــــدمــــات غـيـر مكتملة. أما فضاء التكنولوجيا، من الذكاء الاصـطـنـاعـي إلـــى الإنــتــرنــت إلـــى الــطــائــرات المسيّرة، فهو الذي اختصر الزمن إلى الحد الذي جعل العالم يبدو كأنه قرية صغيرة، رغم أنه لم يصبح كذلك فعلياً؛ كل ما حدث أن الـزمـن انضغط والمـسـافـات تـاشـت على الشاشة. ثـــم يـــأتـــي فـــضـــاء الأفــــكــــار، هــــذه الــســوق الــــتــــي تـــتـــنـــافـــس فـــيـــهـــا الــــســــرديــــات الـــكـــبـــرى والــصــغــرى مـــن ديـمـقـراطـيـة وحـــقـــوق إنـسـان وأديان وآيديولوجيات متنوعة. والمفارقة أن الأفكار لم تنتشر في منطقتنا بسبب قوتها، بل بسبب هشاشة الــدول التي دخلتها. فقد ظـــهـــرت حـــركـــات مــثــل «داعــــــــش» وغـــيـــر ذلـــك، وسـقـطـت فــي الــــدول الـقـويـة، لكنها انتشرت مثل الــوبــاء فـي الــــدول الضعيفة، مما يثبت أن المـشـكـلـة لـيـسـت فـــي الــفــكــرة بـــل فـــي بنية الـدولـة وقـدرتـهـا على امتصاص الصدمات. وهنا تعود الثقافة إلى الواجهة، لا بوصفها مجرد رصيد رمزي، بل بوصفها حائط صد، وكأنها خيمة قادرة على الاستيعاب، وكأنها إسفنجة تمتص ما يتدفق من الخارج. هـــذه الــفــضــاءات الخمسة ليست جــزرا منفصلة، بل تتفاعل باستمرار، ويعيد كل مـنـهـا تـشـكـيـل الآخـــــر. وأزمـــــة منطقتنا أنـنـا أســــرى «عـقـلـيـة الــتــأثــيــر» الــتــي تــــرى الـعـالـم يفعل بـنـا، ولا تـرانـا نفعل فـيـه. وفـــوق ذلـك، أصبح إنتاج المعرفة متقطعاً؛ لم يعد هناك ذلك الامتداد الطبيعي بين معلم وتلميذ، ولا انـتـقـال للخبرة مـن الأسـطـى إلــى الصبي أو من الشيخ إلى المُريد. انقطعت الجسور التي كانت تمنح الإنسان معرفة هادئة بهويته، بينما تجرفه الخوارزميات من مقطع فيديو إلـــــى آخــــــر، مــــن دون ســـيـــاق ولا عـــمـــق. هـنـا تحديدا يصبح السؤال عن الثقافة سؤالا عن البقاء، لأن الثقافة هي آخر ما يربط الإنسان بذاكرته في عالم ينزلق بسرعة نحو فوضى الخوارزميات رغم نظامها. الـــثـــقـــافـــة الــــتــــي أعـــنـــيـــهـــا لـــيـــســـت ثــقــافــة الــجــمــاهــيــر، ورغـــــم أهــمــيــتــهــا فــإنــنــي أعـنـي الثقافة العالية التي أصبحت مهملة تماما وسط بريق «فالصو» ثقافة الجماهير. OPINION الرأي 12 Issue 17177 - العدد Monday - 2025/12/8 الاثنين لبنان دولة للضيوف لا لأهلها الصراع على الانطباع هل ما زالت الثقافة مهمة؟ وكيل التوزيع وكيل الاشتراكات الوكيل الإعلاني المكـــــــاتــب المقر الرئيسي 10th Floor Building7 Chiswick Business Park 566 Chiswick High Road London W4 5YG United Kingdom Tel: +4420 78318181 Fax: +4420 78312310 www.aawsat.com [email protected] المركز الرئيسي: ٢٢٣٠٤ : ص.ب ١١٤٩٥ الرياض +9661121128000 : هاتف +966114429555 : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: www.arabmediaco.com هاتف مجاني: 800-2440076 المركز الرئيسي: ٦٢١١٦ : ص.ب ١١٥٨٥ الرياض +966112128000 : هاتف +9661٢١٢١٧٧٤ : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: saudi-disribution.com وكيل التوزيع فى الإمارات: شركة الامارات للطباعة والنشر الريـــــاض Riyadh +9661 12128000 +9661 14401440 الكويت Kuwait +965 2997799 +965 2997800 الرباط Rabat +212 37262616 +212 37260300 جدة Jeddah +9661 26511333 +9661 26576159 دبي Dubai +9714 3916500 +9714 3918353 واشنطن Washington DC +1 2026628825 +1 2026628823 المدينة المنورة Madina +9664 8340271 +9664 8396618 القاهرة Cairo +202 37492996 +202 37492884 بيروت Beirut +9611 549002 +9611 549001 الدمام Dammam +96613 8353838 +96613 8354918 الخرطوم Khartoum +2491 83778301 +2491 83785987 عمــــان Amman +9626 5539409 +9626 5537103 صحيفة العرب الأولى تشكر أصحاب الدعوات الصحافية الموجهة إليها وتعلمهم بأنها وحدها المسؤولة عن تغطية تكاليف الرحلة كاملة لمحرريها وكتابها ومراسليها ومصوريها، راجية منهم عدم تقديم أي هدايا لهم، فخير هدية هي تزويد فريقها الصحافي بالمعلومات الوافية لتأدية مهمته بأمانة وموضوعية. Advertising: Saudi Research and Media Group KSA +966 11 2940500 UAE +971 4 3916500 Email: [email protected] srmg.com مأمون فندي الثقافة هي آخر ما يربط الإنسان بذاكرته في عالم ينزلق بسرعة نحو فوضى الخوارزميات رغم نظامها هل يريد اللبنانيون دولة حقيقية أم مناسبة تُظهر لهم صورتهم كما يتخيلونها؟ سام منسى العضلات وحدها لا تحسم الصراع على السوشيال ميديا بل التفكير الاستراتيجي خالد البري

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky