issue17144

الثقافة CULTURE 18 Issue 17144 - العدد Wednesday - 2025/11/5 الأربعاء أحدها يتميز برهافة كبيرة في النقش والصقل شواهد قبور من مدافن 3 البحرين الأثرية خـــرجـــت مـــن مــقــابــر الــبــحــريــن الأثـــريـــة خــــال الـــســـنـــوات الأخـــيـــرة مـجـمـوعـة كـبـيـرة مـــن الأنــــصــــاب، تــتــمــيّــز بــنــقــوش تـصـويـريـة آدمـيـة. لا نجد مـا يماثل هــذه الأنـصـاب في حواضر سواحل الخليج العربي إلى يومنا هـــذا، ويـــرى البحاثة أنـهـا رُفـعـت فـي الأصـل كشواهد للقبور التي رافقتها. بدأ اكتشاف هــذه الـشـواهـد فـي منتصف الـقـرن المـاضـي، قطع عُثر عليها في مواقع معزولة، 3 ومنها دخـلـت متحف الـبـحـريـن الـوطـنـي بالمنامة، ضـــمـــن مــجــمــوعــة مــــن المــكــتــشــفــات الـــتـــي تـــم العثور عليها خـال الفترة الممتدة مـن عام .1974 إلى عام 1954 اختلفت الآراء في تصنيف هذه القطع كـمـا فــي تـحـديـد هـويّــتـهـا ووظـيـفـتـهـا خـال تلك الفترة، غير أن الصورة اتّضحت بشكل كبير فـي مرحلة لاحـقـة، نتيجة ظهور عدد كـبـيـر مـــن الـقـطـع المـشـابـهـة فـــي سـلـسـلـة من المـــقـــابـــر الأثــــريــــة تـــقـــع الــــيــــوم فــــي المــحــافــظــة الــــشــــمــــالــــيــــة، كـــشـــفـــت عـــنـــهـــا أعـــــمـــــال المـــســـح والتنقيب المتواصلة في حقبة التسعينات. تــحــضــر هــــذه الــقــطــع الـــثـــاث فـــي كـــتـــاب من إعـــــــداد مــجــمــوعــة مــــن الـــبـــحـــاثـــة، صـــــدر فـي ، وجـــاء عـلـى شـكـل كـتـالـوغ حـوى 1989 عـــام مجموعة مختارة من مجموعة محفوظات متحف البحرين الوطني، تعود إلى الحقب التي سبقت ظهور الإسلام. افترض البحاثة يـومـهـا أن هـــذه الأنــصــاب الآدمــيــة قــد تكون مـسـيـحـيـة، ورأوا أنــهــا نُــقـشـت بـــن الـقـرنـن الـخـامـس والـــســـادس لـلـمـيـاد. ويـتّــضـح في زمـنـنـا أن هـــذه الأنــصــاب هــي شــواهــد قبور لا تـمـت إلــى المسيحية بــأي صـلـة، وهــي من نتاج الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وقـد تـم نقشها بين القرنين الأول والثالث للميلاد. تتفاوت هـذه القطع في الحجم، وهي مــن الـحـجـر الـجـيـري، وأكـبـرهـا قطعة يبلغ 23.5 ســـنـــتـــيـــمـــتـــراً، وعـــرضـــهـــا 41 طـــولـــهـــا ســنــتــيــمــتــرا ً، 11 ســنــتــيــمــتــراً، وســـمـــاكـــتـــهـــا وتمثّل قامة تنتصب بين عمودين يعلوهما قـــــــوس. الـــــعـــــمـــــودان مـــــجـــــردان مـــــن الـــزيـــنـــة، ويــكــلّــل كـــــا مـنـهـمـا تــــاج زُيّــــــن بـنـقـش على 3 شكل حـرف «إكـــس». أمـا الـقـوس، فتعلوه أقـواس ناتئة، 3 حزوز متوازية تأخذ شكل يفصل بين كـل منها شـق غائر. وسـط هذه المشكاة المتواضعة، تقف قامة آدمية تتبع فــــي بـنـيـتـهـا تــكــويــنــا يــبــتــعــد عــــن مــحــاكــاة المثال الواقعي الحي. الـرأس ضخم للغاية، والكتفان صغيرتان، والجسد قصير، وهو مـكـوّن مـن الـصـدر وأعـلـى الساقين فحسب. الـلـبـاس بـسـيـط، قــوامــه معطف يـلـتـف فـوق رداء، وفقا للزي اليوناني التقليدي. الوجه أنـثـوي، ويعلوه شـريـط يغلف الشعر على شـكـل حـــجـــاب. الـعـيـنـان لـــوزتـــان كـبـيـرتـان، فــــارغــــتــــان، وتــــخــــلــــوان مــــن الــــبــــؤبــــؤ. الأنــــف قــصــيــر، وهــــو عــلــى شــكــل عـــمـــود مستطيل بسيط نــاتــئ. الـثـغـر منمنم، ويـتّــسـم بشق أفقي يفصل بين شفتيه الذائبتين في كتلة الحجر الجيري. تـحـجـب ثــنــايــا المــعــطــف هــــذه الــقــامــة، وتــنــســدل بـشـكـل مـتـنـاسـق مــن الأعــلــى إلـى الأســـــفـــــل. تـــنـــســـل الــــيــــد الـــيـــمـــنـــى مــــن خـلـف هـــذا الـــــرداء، وتـرتـفـع كـفّــهـا المنبسطة نحو أعــلــى الـــصـــدر، وتـظـهـر أصـابـعـهـا الخمس المرصوصة والمتلاصقة. في حركة موازية، تـــخـــرج الـــيـــد الـــيـــســـرى، وتــــبــــدو أصــابــعــهــا قابضة على حزمة تشكّل كما يبدو طرف المــعــطــف الأيـــســـر. تـتـتـبـع هــــذه الــحــركــة في الواقع تقليدا ثابتاً، يتكرّر في عدد كبير من الـقـامـات الأنـثـويـة الـتـي خـرجـت مـن مدافن تايلوس الأثرية التي عُرفت بأسماء القرى المـــجـــاورة لــهــا، وأبـــرزهـــا الـــشـــاخـــورة، وأبــو صيبع، والحجر. يظهر هــذا التأليف على قطعة أخـرى مـــن هـــذه الـقـطـع الـــثـــاث، مـــع اخـــتـــاف جـلـي 32 فـي التفاصيل. يبلغ طــول هــذا الـشـاهـد سنتيمتراً، وسمكه 21 سنتيمتراً، وعرضه سنتيمترات. وهـو على شكل كــوّة نصف 9 بيضاوية يحدّها في الأسفل شريط عريض يشكّل جزءا من إطارها المجرّد من أي نقش تزييني. تقف قـامـة وســط هــذا المــحــراب في وضــعــيــة المـــواجـــهـــة الــثــابــتــة، بــاســطــة كـفّــهـا اليمنى أمام أعلى صدرها، ممسكة بقبضة يدها اليسرى طرف ردائها. نتوء هذه القامة طــفــيــف، وصـــورتـــهـــا أشـــبـــه بـــرســـم مـنـقـوش غابت عنه خصائص النحت الــبــارز. يأخذ هـذا الـــرداء شكل عباءة تلتف حـول الهامة، وتتكوّن ثناياه من أربع مساحات مستطيلة مـتـوازيـة، تقابلها ثــاث مـسـاحـات عمودية أصـغـر حجما تـزيّــن طــرف الـعـبـاءة الأيـسـر. الوجه مهشّم للأسف، وما بقي منه لا يسمح بـــتـــحـــديـــد مـــامـــحـــه. حـــافـــظـــت الـــــيـــــدان عـلـى تكوينهما بشكل كامل، وأصابعهما محدّدة وفقا للأسلوب التحويري المتّبع. نصل إلــى القطعة الـثـالـثـة، هـي أجمل هذه القطع من حيث التنفيذ المتقن، وتتميّز بــرهــافــة كـبـيـرة فـــي الـنـقـش والــصــقــل. يبلغ سنتيمتراً، وعـرضـه 24 طـــول هـــذا الـشـاهـد سنتيمترات، 7 سنتيمترات، وسماكته 10 يحدّه عـمـودان يعلوهما القوس التقليدي. يزيّن هذا القوس شق في الوسط، ويزيّن كلا من العمودين مكعّب محدّد بشريطين يشكّل تـاجـا لـــه، ويـقـابـل هـــذا الــتــاج مـكـعّــب مماثل يـشـكّــل قـــاعـــدة لــهــذا الــعــمــود. تـحـتـل الـقـامـة وسـط هـذا المـحـراب، وتمثّل شابا فتيا أمرد يحضر كذلك في وضعية المواجهة. الـرأس كـتـلـة بـيـضـاويـة، ومــامــح وجــهــه واضــحــة. الـــعـــيـــنـــان لـــوزيـــتـــان مــــجــــرّدتــــان، يـعـلـوهـمـا حــاجــبــان عــريــضــان مــقــوّســان. الأنــــف ناتئ ومـــســـتـــقـــيـــم، وهـــيـــكـــلـــه عـــلـــى شـــكـــل مــســاحــة مستطيلة مجرّدة غابت عنها فتحتَا المَنْخِر. الأذنان ضخمتان، وقوام كل منهما صيوان عــريــض يـلـتـف حـــول جـــوف الــقــنــاة. الــخــدان مـكـتـنـزان، الــذقــن مـــقـــوّس، والـجـبـن قصير، يــعــلــوه شــعــر حــــــدّدت خــصــاتــه عــلــى شكل فــصــوص مستطيلة مــرصــوصــة. الـــذراعـــان ملتصقتان بالصدر، واللباس بسيط، قوامه جلباب بسيط، يعلوه حــزام عريض ينعقد حول الوسط على شكل شريط أفقي عريض يـتـدلّــى منه شـريـطـان عـمـوديّــان مـتـوازيـان، يشكّلان طرفي الحزام المعقود. يــقــف هــــذا الــفــتــى مـــحـــدّقـــا فـــي الأفــــق، باسطا راحة يده اليمنى عند أعلى صدره، قابضا بـيـده اليسرى على شـريـط عريض يــتــدلّــى مـــن أعــلــى كـتـفـه إلــــى وســـطـــه، وفـقـا لــنــمــوذج تـقـلـيـدي يُـــعـــرف بــالــفــرثــي، نسبة إلـى الإمبراطورية الفرثية التي امتدت من الـروافـد الشمالية للفرات إلـى شـرق إيــران، وتــمــيّــزت بـنـتـاجـهـا الـفـنـي الــــذي جـمـع بين أسـالـيـب مـتـعـددة فــي قـالـب خـــاص، انتشر انتشارا واسعا في القرون الميلادية الأولى. بلغ هذا الأسلوب تايلوس، وطبع هذا الفن الـجـنـائـزي، كما تشهد هــذه القطع الثلاث الـتـي تمثّل الـيـوم نتاجا واســعــا، يتواصل ظهور شواهده مع استمرار حملات المسح في المواقع الأثرية التي خرجت منها. شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة 3 محمود الزيباوي «الليل»... عالم مواز من الأفكار المدهشة عبر الثقافات عن دار «العربي» بالقاهرة صدر كتاب «الليل...عالم موازٍ»، ترجمة محمد رمضان، والــذي يتناول فيها الباحث الألمـانـي بيرند بـرونـر بأسلوب أدبــي ولغة تشبه التأملات الفلسفية هذا العالم المثير بأفكاره المدهشة عبر التاريخ والثقافات، ليخلص إلى نتائج شيقة حــول عـاقـة الليل بالبشر والحيوان والنبات. ويلاحظ المؤلف أن الأصـــوات في الليل يـمـكـن أن تـــكـــون مـــصـــدر خــــوف لـلـبـعـض أو شيئا يبعث على الأمان لدى البعض الآخر، وهــــو مـــا يـــحـــدث عــنــد ســـمـــاع نـــبـــاح كــلــب أو صرير جذع شجرة، أو إغلاق باب بشكل غير متوقع، أو حتى صراخ طفل بشكل مفاجئ. لا يــمــكــنــنــا الاعــــتــــمــــاد فــــي الـــلـــيـــل عـلـى الأعـــضـــاء الـحـسـيـة الأكـــثـــر أهـمـيـة فـــي أثـنـاء الــنــهــار مـثـل الــعــن إلا بــقــدر يـسـيـر، بمعنى آخر يأخذ السمع مكان البصر ويوجه المرء نـفـسـه مستعينا بـــالأصـــوات المـحـيـطـة بـــدلا مـن الــضــوء. ولأن الصمت المطبق قـد يكون مــصــدر قـلـق لـــدى الـبـعـض، فـإنـهـم يبحثون عـــمـــا يـــخـــفـــف مـــــن وطـــــــأة أصـــــــــوات الأمـــــــواج المــتــكــســرة عــلــى الـــشـــاطـــئ وحــفــيــف مــروحــة معلقة في سقف الغرفة، أو أن تطن الثلاجة في الخلفية أو يدوي صوت جهاز التكييف على سطح الفندق. يحلم البعض بقضاء الليل تحت سماء مـفـتـوحـة مليئة بـالـنـجـوم فــي ليلة صيفية دافــــئــــة، لـــكـــن الــحــقــيــقــة أن أي شـــخـــص غـيـر مـعـتـاد عـلـى ذلـــك ســـوف تـنـشـط لــديــه غـرائـز البقاء التي تمنعه من النوم العميق. وهذه مـشـكـلـة لا يـعـرفـهـا «الــــطــــوارق» وهــــم شعب مـــن الـــبـــدو الـــرحـــل يـــتـــركـــزون فـــي الــصــحــراء الأفـريـقـيـة الـكـبـرى ويـنـامـون عـلـى الحصير في الخارج ويدربون سمعهم على الأصوات، حـيـث لا يعتمد إيــقــاع نـومـهـم عـلـى الـضـوء والظلام، بل على حيواناتهم بصورة أكبر. ويـــــشـــــيـــــر المـــــــؤلـــــــف إلـــــــــى أنـــــــــه مـــــــن بـــن المخلوقات الليلية الطائرة حقق البوم شهرة واســـعـــة بـفـضـل الــعــيــون الــواســعــة والأذنــــن المــــرتــــفــــعــــن، فــــضــــا عـــــن الـــســـمـــت الـــبـــشـــري لوجوهها، فالبومة تصدر أصواتا في نطاق واسع بشكل مدهش والتي تذكرنا مع قليل من الخيال بالتعبيرات البشرية، كالصراخ والنحيب والأنــن والضحك وحتى الصفير والشخير. ومع ذلك يجد بعض الأشخاص أن هذه الأصوات مخيفة، وفي روما القديمة كان يعتقد أن صوت البومة نذير بالموت. ومــع ذلــك فــإن طـيـور الليل تمثل أيضا الحكمة، ويمكن رد هذا إلى اليونان القديمة، إذ ارتـــبـــطـــت الـــبـــومـــة الـــصـــغـــيـــرة بــــ«أثـــيـــنـــا» إلـهـة الحكمة. ويشيد أيـضـا عـالـم الطبيعة والـفـيـلـسـوف والــشــاعــر هــنــري ديـفـيـد ثــورو بـالـبـوم بحماس شـديـد قـائـا فـي واحـــد من مـؤلـفـاتـه: «يـجـب أن يـكـون هـنـاك بـــوم كثير لعلهم يصرفون الـنـاس عـن عويلهم الغبي والجنوني، فالبوم صوته مثالي لتضاريس المستنقعات وغـــابـــات الـشـفـق، وإشـــــارة إلـى جزء كبير غير متطور من الطبيعة لا يرغب الــبــشــر فـــي الاعــــتــــراف بــــه، إن الـــبـــوم يجسد الأفكار التي لدينا جميعا في داخلنا والتي لا نرغب في الاعتراف بها». وتتبع النباتات أيـضـا إيـقـاع النهار والـلـيـل، ويـذهـب الكثير منها إلــى الـنـوم، إذا جــــــاز الـــتـــعـــبـــيـــر، حـــــن يـــحـــل الــــظــــام. وفـــي بـعـض الــحــالات يـكـون هــذا واضـحـا، فعلى سبيل المـثـال تتدلى أوراق الترمس الـــتـــي تــشــبــه المــــروحــــة بـــحـــزن فـــي الـــظـــام. وينطبق هذا أيضا على الأوراق الصغيرة لـ«الحميضة» حيث تنغلق الزهور لتحمي حبوب اللقاح من نـدى الصباح. وتحدث المــؤلــف الــرومــانــي «بـيـلـنـوس الأكـــبـــر» عن «نـــوم الـنـبـاتـات» كما لاحــظ عـالـم الأحـيـاء الـــســـويـــدي «كــــــارل فــــون لــيــنــي» فـــي الــقــرن الـثـامــن عـشـر أن الـــزهـــور تتفتح وتنغلق حتى عندما تكون في قبو مظلم. القاهرة: «الشرق الأوسط» اختلفت معاييره والرؤية إليه باختلاف البيئة والعصر صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي إذا كــــان الاحـــتـــفـــاء بــالــجــمــال بــوجــوهــه وتـــعـــبـــيـــراتـــه المـــخـــتـــلـــفـــة ســـمـــة مـــشـــتـــركـــة بـن الــــشــــعــــوب والــــــحــــــضــــــارات، فـــلـــم يـــكـــن الـــعـــرب الأقدمون بعيدين عن هذا الاحتفاء أو بمنأى عنه. لا بل إن ظروف حياتهم القاسية، واتساع المـكـان الـصـحـراوي المفتقر إلـى المـــاء، جعلاهم يرون في الجمال الأنثوي المياه الرمزية التي تعصمهم من العطش، والواحة الظليلة التي تـرد عنهم وحشة المتاهات ووطـــأة الشموس الحارقة. وفــــــي ظـــــل الـــــشـــــروط الـــقـــاســـيـــة لــلــحــيــاة الـــصـــحـــراويـــة الــقــائــمــة عــلــى الــتــرحــل وفـــقـــدان الأمــــــان والــــصــــراع مـــن أجــــل الـــبـــقـــاء، كــــان من الــصــعــب عــلــى الــجــاهــلــي أن يـبـتـكـر لـلـجـمـال نــمــاذجــه وتـصـامـيـمـه الـعـلـيـا، كـمـا كـــان حـال الحضارة اليونانية المدينية، بل بدا النموذج الجاهلي للجمال متصلا بالمنفعة والحياة العملية، أكـثـر مــن اتـصـالـه بمعايير الجسد المثالي والمتناغم الأجزاء. وقـــد عـكـس الـشـعـر الـجـاهـلـي فــي الكثير مـــن نــصــوصــه أشـــكـــال الــتــضــافــر الـــخـــاق بين الـجـغـرافـيـا الــصــحــراويــة وجـغـرافـيـا الـجـسـد، بما جعل من الثانية امـتـدادا الأولــى، وإحـدى تمثلاتها الحية التي تظهر في طرائق العيش وأنماطه، وفي البحث عن طريقة للتكيف مع البيئة القاسية والمـفـتـقـرة إلــى الـثـبـات. لذلك فــإن مـواصـفـات الصبر والـجـلـد والــقــدرة على الاحـــتـــمـــال، لـــم تــكــن مـــن الأمـــــور الـــتـــي ينبغي تـوفـرهـا فــي الـــرجـــال وحـــدهـــم، أو فــي الأنـعـام بمفردها، بل كـان مطلوبا من المــرأة أيضا أن تمتلك صفات مماثلة، تستطيع من خلالها أن تساعد الجماعة القبلية على مواجهة مخاطر العيش ومشقات الترحل وأهوال الحروب. ولأن مثل هذه المهمات الصعبة لا تنهض بـهـا إلا امـــــرأة صـلـبـة الـــعـــود ومـتـيـنـة الـجـسـد، فـقـد بـــدا تفضيل الجاهليين لـلـمـرأة السمينة وتغزلهم بها، متصلا بمعايير مركبة، يشكل الجمال البحت جزءا منها، فيما يشكل العامل النفعي والوظيفي بعدها الآخــر. وكـان العرب يعتبرون أن «السُّمن نصف الحسن»، ويصفون السمينة بخرساء الأســاور، لأن بدانتها تمتد إلى الرسغ فلا ترتطم إسوارة بالأخرى. كــــمــــا انـــتـــقـــلـــت عــــــــدوى الــــتــــغــــزل بــــالمــــرأة السمينة إلـى الشعر، فاعتبر طرفة بن العبد أن تعلقه بالحياة يجد مسوغاته في الارتباط بامرأة سمينة، يختلي بها في ظلمة «الخباء المــــعــــمــــد»، وتـــســـهـــم فــــي تــقــصــيــر لــيــلــه المــثــقــل بالوحشة والخوف. أما امرأة عمرو بن كلثوم فــهــي مـــن الــضــخــامــة بــحــيــث «يــضــيــق الــبــاب عنها». والمـاحـظ أن معظم المـــواد التعبيرية الــــتــــي تــــم تــوظــيــفــهــا لـــلـــتـــغـــزل بـــجـــمـــال المـــــرأة المـعـشـوقـة كـانـت منتزعة مــن الـعـالـم المشترك الذي يتضافر لإحيائه البشر والبهائم والطير ونباتات الصحراء. ومع أن ثمة وجوها عديدة للتقاطع بين البيئتين الحضرية والبدوية، من حيث الفضاء التخييلي، فإن النصوص التي قدمها الشعراء الحضريون، كانت أكثر جرأة في التركيز على التفاصيل المختلفة للجسد المشتهى. لــعــل قــصــيــدة «ســـقـــط الــنــصــيــف» الـتـي نظمها النابغة الذبياني في وصف المتجردة، زوجــــــة الـــنـــعـــمـــان بــــن المـــــنـــــذر، هــــي أحـــــد أكــثــر الـــنـــمـــاذج الـــشـــعـــريـــة تــعــبــيــرا عــــن مـــواصـــفـــات الجمال في تلك الحقبة، فهي كالغصن الطويل تتأود من النعمة، وعيناها الشبيهتان بعيني الـغـزال جارحتا الألـحـاظ كالسهام، وشعرها أســـود ومــدلــى كعناقيد الـعـنـب، وفـمـهـا بــارد عـذب، ونحرها الأملس مزين بقلائد الذهب. كما أنها «بضة الجسم، ريّــا الــــروادف، وغير واسعة البطن». عــلــى أن طــغــيــان الـــطـــابـــع الــحــســي على النصوص الجاهلية المتعلقة بالحب والجمال لـــــم يـــحـــل دون عــــثــــورنــــا عـــلـــى بـــعـــض الــلــقــى الثمينة، الـتـي تتقاطع فـي غرابتها وعمقها مع كشوفات علم النفس الحديث، كأن يعتبر الشنفرى أن الجمال في مآلاته القصوى، قد لا يتسبب بجنون عشاقه فحسب، بل بجنون حامله في الوقت ذاته، كما في قوله: فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكملت فلو جُن إنسان من الحسن جُنّت وإذا كـــانـــت مــعــايــيــر الـــجـــمـــال قـــد بـــدأت بـالـتـبـدل فــي الـعـصـريـن الأمـــــوي والـعـبـاسـي، بحيث باتت متصلة بالرشاقة وطول القوام، والـتـنـاسـب أو الـتـضـاد بــن أعــضــاء الـجـسـد، كاستحسان ضمور الخصر واكتناز الأرداف، فـــقـــد كـــــان ذلـــــك الـــتـــبـــدل مــــن مــفــاعــيــل الــحــيــاة الجديدة والاجتماع المديني وتمازج الثقافات. كـمـا لـــم تـعـد مـعـايـيـر الــجــمــال مقتصرة على المفاتن الظاهرة وحدها، بل كـان يُراعى فيها الجاذبية وقوة الحضور والدماثة وخفة الظل، بحيث ميز العرب بين الجمال والملاحة والــــحــــســــن والــــــحــــــاوة والـــــوســـــامـــــة والـــبـــهـــاء وغـيـرهـا. وقـــد ذكـــر أبـــو الــفــرج فــي «الأغــانــي» أن كلا من سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وهما من جميلات العرب، كانت تدعي أنـهـا أجـمـل مـن الأخــــرى، وحــن احتكمتا إلى عمر بن أبي ربيعة ليبت في الأمر، نظر إليهما مليا وقال: «أنت يا عائشة أجمل، وأما سكينة فـأمـلـح». وإذ عنى عمر بالملاحة الـرقـة وخفة الروح، فقد أرضى المرأتين في الوقت ذاته. وإذا كـــــــان فـــــي الــــقــــصــــيــــدة «الـــيـــتـــيـــمـــة» المــنــســوبــة إلــــى دوقـــلـــة المــنــبــجــي، مـــا يــتــنــاول الجسد الأنـثـوي بالوصف المفصل، فـأنـه لم يـكـن بـاسـتـطـاعـة المـنـبـجـي، الــــذي لـــم يـكـن قد رأى دعـــداً، أميرته المــوعــودة، إلا أن يرسم من عندياته تفاصيل النموذج الجمالي المثالي، مستعينا بـالـتـصـورات الأولــــى الـتـي رسمها الشعراء الجاهليون في مخيلاتهم. ومن بين أبياتها قوله: ُفكأنها وسْنى إذا نظرت أو مدْنف لمّا يفق بعد ُوتُجيل مسواك الأراك على ثغر كأن رضابه الشهد ولها بنان لو أردت له عِقْدا بكفك أمكن العقد وبخصرها هَيَف يحسّنها فإذا تنوء يكاد ينقد اللافت أن من سمُّوا بالشعراء الإباحيين فـــي الــعــصــر الأمــــــوي، لـــم يــعــمــدوا إلــــى تــنــاول الجمال الأنثوي على نحو سافر ومتهتك، لا بل إن ما تغزلوا به من ملامح المرأة ومفاتنها لا يـــتـــجـــاوز إلا قــلــيــا نـــطـــاق عــمــل الــعــذريــن ومـجـالـهـم الـجـمـالـي الـحـيـوي كــوصــف الثغر والــعــنــق والــعــيــنــن والــشــعــر والـــخـــصـــر. وقــد تكون الفوارق بين الفريقين متمثلة في إلحاح الإباحيين على نقل وقائع غزواتهم العاطفية بتفصيلاتها وحـــواراتـــهـــا الـسـاخـنـة، إضـافـة إلـــــى تـــبـــرمـــهـــم بـــالـــعـــاقـــة الـــــواحـــــدة وبـحـثـهـم عـن الجمال فـي غير نـمـوذج ومـثـال، وهــو ما يعكسه قول عمر: إني امرؤ موكل بالحسن أتبعه لا حظ لي فيه إلا لذة النظر الأرجـــــح أن مــنــاخــات الــحــرمــان والـكـبـت وتـــعـــذر الامــــتــــاك قـــد أســهــمــت فـــي مـضـاعـفـة سلطة الجمال الأنثوي على العاشق العذري، بـــمـــا جـــعـــل الأخــــيــــر يـــتـــرنـــح مـــصـــعـــوقـــا تـحـت ضرباته القاصمة. وقــد ورد فـي غير مصدر تــراثــي أنـــه «قــيــل لامــــرأة مــن بـنـي عــــذرة: لمــاذا يقتلكم العشق؟ فأجابت: فينا جمال وتعفف، والـــجـــمـــال يـحـمـلـنـا عــلــى الـــعـــفـــاف، والــعــفــاف يـورثـنـا رقــة الـقـلـوب، والـعـشـق يُفني آجالنا، وإنا نرى عيونا لا ترونها». ولـــعـــل تـــلـــك الـــعـــيـــون بــــالــــذات هــــي الــتــي اسـتـطـاع الـعـشـاق أن يـنـفـذوا مـن خلالها إلى ما وراء الملامح الظاهرة لمعشوقاتهن، وتزين لهن نوعا من الجمال مطابقا للنموذج المثالي الذي ابتكرته مخيلاتهم. وليس أدل على ذلك مــن ســــؤال عـبـد المــلــك بــن مــــروان لبثينة حين قامت بزيارته: ما الــذي رآه فيك جميل حتى أحبك؟ فأجابته قائلة: «يا أمير المؤمنين، لقد كـــان يــرانــي بعينين ليستا فــي رأســـــك». ومـع أن الــحــادثــة المـــذكـــورة تُــــروى عـلـى غـيـر وجــه، فإن ذلك الأمر لا يلغي دلالتها المتلخصة بأن الجمال نسبي وحمال أوجــه، وخاضع لذوق الرائي ومشاعره وتهيؤاته. ومـــع مــا أصـابـتـه الحقبة العباسية من تـطـورات دراماتيكية على مستويات الثقافة والـــفـــكـــر والاجـــتـــمـــاع، فــقــد بـــــدأت الــــرؤيــــة إلــى الــجــمــال تــتــعــدى المــتــعــة والانـــتـــشـــاء الـحـسـي، لـتـتـحـول إلـــى أسـئـلـة فلسفية مـعـقـدة تتصل بطبيعة الجمال ومـصـدره وأسـبـاب سطوته على «ضحاياه». وهو ما يجد شاهده الأمثل في حيرة ابن الرومي إزاء جمال وحيد المغنية، وقوله متسائلاً: أهي شيء لا تسأم العين منه أم لها كل ساعة تجديدُ؟ أمـــا أبـــو الـطـيـب المـتـنـبـي فـقـد بـــدا لبيته الشهير فـي وصــف امــرأتــه المعشوقة (تناهى ســكــون الـحـسـن فـــي حــركــاتــهــا/ فـلـيـس لـرائـي وجــهــهــا، لـــم يـــمـــت، عــــــذرُ»، نـــوعـــا مـــن الــتــوأمــة الفريدة بين الحيّزين الشعري والفلسفي، حيث الحركات المتناغمة للجسد تصل بالجمال إلى سكونه المطلق، والمقيم على التخوم الفاصلة بين الحياة والموت. وإذ رأى أبو الطيب أن في الأعــمــار الـقـصـيـرة للبشر الــفــانــن، مــا يوجب اغتنام الحياة كفرصة ثمينة للتمتع بجمال الوجود والوجوه، هتف بحبيبته، الممعنة في جمالها ونأيها على حد سواء: ُزوّدينا من حسْن وجهك ما دام فحسْن الوجوه حال يحول ُوصِلينا نصلْك في هذه الدنيا فإن المقام فيها قليل شوقي بزيع كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية النص الكامل على الموقع الإلكتروني

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky