issue16916

الـــقـــرن الــتــاســع عــشــر، كـــان حـلـقـة الـــزمـــن الـتـي غـــيـــرت مـــســـار اإلنـــســـانـــيـــة. بــــدأ الــعــلــم يـتـجـسـد في حياة بعض الشعوب. انطلقت الصناعة واندفعت التقنية تصنع قـــوة أوروبـــــا الــجــديــدة، وتسابقت دولــهــا عـلـى اسـتـعـمـار الـبـلـدان الـفـقـيـرة الضعيفة. أغــلــب الــبــلــدان الـعـربـيـة واإلســـامـــيـــة، كــانــت تحت هيمنة الــدولــة العثمانية. وفــي حـن كـانـت الـقـارة األوروبـــيـــة، تشهد نهضة شـامـلـة تتسع وتـتـقـدم، كـــان املـسـلـمـون يـعـيـشـون فــي مستنقع هـيـمـن فيه اجترار ما خلفه السابقون على العقول. غاب الفكر املــتــجــدد والـفـلـسـفـة واالخـــتـــراعـــات واالكــتــشــافــات. منظومة التعليم لــم تـتـحـرك مــع خــطــوات التطور ودفــق العصر الجديد. ضـرب الـوهـن كـل شـيء في اإلمبراطورية العثمانية. تهالك االقتصاد والقدرات الـــدفـــاعـــيـــة، ورفـــعـــت الـــفـــن رؤوســــهــــا عــلــى اتــســاع مــســاحــة الــــدولــــة الـــعـــجـــوز، واســتــفــحــلــت الــنــزعــات الـقـومـيـة والـطـائـفـيـة والـجـهـويـة فــي غــيــاب قـاعـدة املواطنة واملساواة. الغرب األوروبـي شخَّص حالة اإلمـــبـــراطـــوريـــة الـعـثـمـانـيـة، وأطـــلـــق عـلـيـهـا وصـف الرجل املريض. شغل ذلك الواقع الذي ينذر بالخطر املحدق مفكرين إسلميي، وقام كثيرون منهم بدق الـنـواقـيـس الـداعـيـة للنهوض. الغالبية منهم، بل نستطيع أن نـقـول جميعهم، غــرفــوا مــن مستنقع املــــــــوروث الــــقــــديــــم، فــــي حــــن ملــــع فــــي دنـــيـــا الـــغـــرب الجديد، املئات من نجوم الفلسفة، والعلم والبحث فـي مختلف املــجــاالت، وازدهــــرت الصناعة فـي كل الــبــلــدان األوروبــــيــــة. اإلدارة الـسـيـاسـيـة وأســلــوب الـحـكـم والــــتــــداول الـسـلـمـي عـلـى الـسـلـطـة، وحـريـة الـفـرد وحـقـوق املـــرأة، تنافس الفلسفة واملفكرون عــلــى تـكـريـسـهـا، وانــــهــــارت هـيـمـنـة الـكـنـيـسـة على املجتمعات. مـفـكـر ســيــاســي عــــاش فـــي أحـــشـــاء الـسـيـاسـة واإلدارة، وعرف التحوالت الكبيرة التي تشهدها أوروبــــا، ومــا تعانيه الــدولــة العثمانية مـن وهن وجمود. إنه خير الدين التونسي الذي تولى الكثير مــن الــوظــائــف املـهـمـة فــي تــونــس، وفـــي اآلسـتـانـة عاصمة اإلمبراطورية العثمانية. كان خير الدين التونسي ابن مرحلة فاصلة في تاريخ املسلمي، وتحديدًا في أواخر عقود اإلمبراطورية العثمانية. بـعـد مـؤتـمـر بــرلــن فــرضــت بـريـطـانـيـا حمايتها على مصر، وفرنسا حمايتها على تونس، وكل البلدين كـان تابعًا لإلمبراطورية العثمانية. في كـتـاب «أقـــوم املـسـالـك فـي معرفة أحـــوال املـمـالـك»، قامت ثلة من الدارسي بعرض أفكار خير الدين، وإنجازاته اإلصلحية في تونس. لخَّص األستاذ أبــــو ضــيــاف رؤيــــة خــيــر الـــديـــن اإلصـــاحـــيـــة فيما يلي: «نحن نعتقد أن منطلق التفكير اإلصلحي عند خير الدين تونسي بحت، وهو وضع البلد التونسية في منتصف القرن التاسع عشر، إال أنه يتنزل في وضع عثماني باعتبار أن تونس جزء ال يتجزأ من الخلفة العثمانية، ولقد ركز إصلحه على قضية جوهرية، وهي ضرورة االقتباس من الغرب املتحضر ال املستعمر، وتبرير ذلك شرعيًا: فلئن بـــات عـنـده أن مــن الـثـابـت أن تـحـدي الـغـرب االقتصادي، أصبح أمرًا تفاقم خطره، فإنه ما زال يعتقد أن اإلصلح يأتي من الداخل ال من الخارج، وإحــــيــــاء الـــقـــيـــم الـــســـرمـــديـــة كـــالـــشـــورى والـــحـــريـــة والـــعـــدل، ونـــظـــام الـحـكـم الــــذي حـــاد عـــن الـشـريـعـة اإلســامــيــة، وانـقـلـب إلـــى حـكـم مـطـلـق اسـتـبـدادي أدى إلـــى الــخــراب والـــتـــأزم املـجـحـف، وكـــان نـــداؤه موجهًا أوال وبالذات إلى زعماء الشعوب العربية واإلسلمية، وبخاصة رجال الدين الذين تواطأوا مع رجال السياسة على إقرار نظام الحكم املطلق». هكذا حـدد خير الـديـن مـا يؤخذ مـن أوروبـــا التي تتقدم، فـي حـن تعيش اإلمـبـراطـوريـة العثمانية التي تحكم املسلمي، في ظلمات املاضي السحيق، ولـكـنـه يتمسك بـالـقـواعـد اإلسـامـيـة الـتـي ترتكز على الحرية والعدالة والشورى. تحدث عن الحرية السياسية فــي أوروبـــــا، وحـضـورهـا فــي املـــوروث اإلســامــي، مستشهدًا بمقولة عمر بـن الخطاب، مــن رأى مـنـكـم فـــي اعــوجــاجــ فـلـيـقـومـه. دعـــا إلـى انتخاب طائفة مـن أهـل املعرفة واملــــروءة، تسمى عـنـد األوروبــــيــــن مـجـلـس نــــواب الــعــامــة، وعـنـدنـا أهــل الـحـل والـعـقـد، وإن لـم يـكـونـوا منتخبي من األهــــالــــي. الــحــريــة األخـــــرى الــتــي دعــــا إلــيــهــا خير الدين، حرية التعبير التي سماها حرية املطبعة، وهو أال يُمنع أحد من أن يكتب ما له من املصالح فــي الـكـتـب والـصـحـف الـتـي يطلع عليها الـنـاس. الحرية الشخصية وهي إطلق حرية اإلنسان في ذاتـه وكسبه، مع أمنه على نفسه وعرضه وماله، ومــســاواتــه ألبــنــاء جنسه لـــدى الـحـكـم، بحيث إن اإلنسان ال يخشى هضمية في ذاته وال في سائر حقوقه، وال يحكم عليه بشيء ال تقتضيه قواني البلد املقررة لدى املجالس. وبالجملة، فالقواني تقيّد الرعاة كما تقيد الرعية. اطــــلــــع خـــيـــر الــــديــــن الـــتـــونـــســـي، عـــلـــى تـــاريـــخ املسلمي وعـلـى الشريعة اإلسـامـيـة، وكـذلـك على التاريخ األوروبي القديم والحديث. قرأ بعي العقل والـــتـــدبـــر مـــا آل إلـــيـــه وضــــع املـسـلـمـن مـــن تـخـلـف، ومــــا تــنــجــزه أوروبــــــا مـــن نـــهـــوض ال يــتــوقــف. قــدم خير الـديـن وصفة شاملة كفيلة بتحقيق نهوض املسلمي، والنجاة من هيمنة أوروبا عليهم. الــحــريــة وســـيـــادة الـــقـــانـــون ومــأســســة الـدولــة دســـــتـــــوريـــــ ، وتــــطــــويــــر الـــــحـــــرف لــــتــــكــــون بــــدايــــات للصناعة، وحـريـة التعبير والـديـمـقـراطـيـة، كانت وصـفـة الـنـهـوض الـشـامـلـة عـنـد خـيـر الــديــن. دعــاة اإلصـــــاح فـــي زمــنــه كـــان أغـلـبـهـم مـــن الــغــارفــن من مستنقع املـــوروث. كـان التونسي ومضة فريدة لم يرها مـن كـانـوا يحكمون فـي اآلسـتـانـة، إال بعدما تآكلت الــدولــة، ونهشها األوروبـــيـــون بعد الحرب العاملية األولـى. رسم خير الدين بفكره النيّر أقوم املسالك للتقدم، لكن لم يرها الغافلون. ومضة لم يرَها الغافلون تسير جماعة الحوثي في اليمن ضد التاريخ، التاريخ صاعد، والحوثي يتوهم أنه يستطيع أن ديسمبر (كانون األول) املاضي، 9 يوقف تقدمه. في نُشر للكاتب في هذه الجريدة، مقال بعنوان (عي الـــعـــالـــم عــلــى الـــحـــوثـــي)، ومـــمـــا جــــاء فـــي املـــقـــال أن «اسـتـيـاء الـحـوثـي على جــزء مـن الـيـمـن، وتنتشر أكـثـر األمـيـة واألمــــراض، ويـسـود القمع ويضطرب األمــن اإلقليمي بل والـدولـي. هـذه الـقـراءة العمياء ملـــا يـــحـــدث، ومـــع االضـــطـــراب الـكـبـيـر الــحــاصــل في ســـوريـــا، مـــا زال الــحــوثــي يـتـحـدث عـــن االنــتــصــار، واألكثر سوءًا أنه يصدق نفسه، أما األعظم سوادًا فـإن هناك من يصدق تلك الشعارات الجوفاء. من املؤكد أن أمن مضيق باب املندب وبحر العرب مهم للتجارة الدولية، لذلك فإن القوى الدولية لن تتردد فـي مهاجمة الجماعة الحوثية وفــي الـعـمـق، ولن يتحقق للحوثي كما كان يعتقد قبل أشهر أنه العب إقليمي يعتد به، فالعي اآلن على اليمن، وتصفية هذا امللف من أجل السلم في املنطقة». لـم يكن هناك رجمًا بالغيب فـي كتابة النص السابق، بل قـراءة متقدمة ملا يمكن أن يحصل في حــال اسـتـمـرار الـحـوثـي فـي اليمن االسـتـقـواء على بقية املكونات اليمنية، والتنمر على األمن البحري واإلقليمي والعاملي، وهـذا ما تم قبل أيـام محاولة الحد منه، واملحتمل أن يستمر حتى تقليص قدرات الحوثي الهجومية إلى الصفر، وجعله عاجزًا عن الحركة في البحر والجو. ذاك بعض ما استقر عليه التحليل العقلني لـأوضـاع في اليمن املنكوب، إال أنـه لفترة طويلة نظر املجتمع الدولي ملا يحدث في اليمن على أنه صراع محلي، يمكن التحكم فيه، والظاهرة املكررة أنـــه فـــي وقـــت يُـــدخـــل الــحــوثــي فـــي قـائـمـة اإلرهــــاب الـدولـي، وأخــرى يُخرج منها، مما دل وقتها على أن الــعــالــم لـيـس مـكـتـرثـ بــتــدهــور الـــوضـــع األمـنـي والحياتي في هذه املنطقة الحيوية. ما يقوم به الحوثي من تحشيد فقراء صنعاء لـلـخـروج فــي مــظــاهــرات بــن وقـــت وآخــــر، بعضهم خوفًا، واآلخــرون بالقوة، ال يعني أن هناك تأييدًا شعبيًا ملـواقـفـه، ولــن يفيد الحوثي فـي شــيء بعد اآلن، إال أن يظل تائهًا في شعاراته، لقد أزف الوقت أن يفيق سياسيًا أو يخسر نهائيًا، واإلفاقة تتطلب إحــيــاء االتــفــاقــات البينية بــن املــكــونــات اليمنية، وأولها العودة إلى مخرجات الحوار اليمني، والتي شارك فيها كل املكونات اليمنية قبل عقد من اليوم، وتـــم فـيـهـا مـعـالـجـة بـعـض خــافــات تـلـك املـكـونـات البينية، وأنتجت صيغة توافقية إلدارة الحكومة والــســيــاســة الــخــارجــيــة، وهــــي ربــمــا الــحــل األمــثــل لعودة اليمن إلى املجتمع الدولي، وحتى محيطه العربي، بأقل التكاليف اإلنسانية. املشروع الذي راهن عليه الحوثي، كما راهنت قوى أخرى داخل الجسم العربي في لبنان والعراق، قد فشل، والتغيرات التي تمت حتى اآلن تؤكد ذلك الــفــشــل، إال أن صــاحــب املـــشـــروع مـــا زال يتجاهل ذلك الفشل ويشجع على التضحية بالدم العربي، فلبنان أصبحت في مكان آخر، وسوريا خرجت من الشرنقة، والضغط الداخلي في العراق على بعض الجماعات التابعة للمشروع يزداد. الــضــربــة األمــيــركــيــة، األســـبـــوع املـــاضـــي، على عــدد مـن املـــدن اليمنية فـي الشمال موجعة، مهما قال املتحدث العسكري الحوثي من كلمات رنانة، ال تسمعها إال األذن الحوثية، وهي لها ما بعدها، في إفاقة دولية جديدة ألهمية هذه املنطقة للمن الدولي، وأهمية إخراج أهل اليمن من دائرة العنف والفقر والتشرذم. فـحـتـى الــحــلــيــف، بــســرعــة تـنـصــل مـــن أعــمــال الـــحـــوثـــي، وقــــــال مــتــحــدثــهــم الـــرســـمـــي إن قــــــرارات الحوثي نابعة من قياداته، وليست تنفيذًا ألوامر خــارجــيــة، تـلـك املــواقــف كـانـت مـتـوقـعـة، فالحوثي سوف يترك ملصيره في نهاية املطاف. لـقـد تــم تـخـريـب كــل مــا حققه الـيـمـن مــن تقدم نسبي منذ ستينات القرن املاضي، والحوثي يريد أن يعيد (اإلمـــامـــة) الـتـي أسـقـطـت الـيـمـن لسنوات طويلة في الجهل والتخلف، ولكن ربما فاته قراءة مـسـيـرة الـــتـــاريـــخ، أن أحـــــداث املـــاضـــي ال تـتـكـرر أو يمكن إعادتها. الــحــقــائــق الــتــي يــدركــهــا كــثــيــرون أن مـسـاحـة اليمن تفوق إجمالي مساحة فلسطي وإسرائيل ولبنان وسوريا مجتمعة، وعـدد سكانها يقارب، وربـــمـــا يـــفـــوق، مـجـمـوع ســكــان تـلـك الـــــدول، وتـطـل على ساحل يفوق إجمالي سواحل تلك الدول، وهو أيضًا مكان تهديد الجوار ومنابع الطاقة العاملية، وقد ألحق األذى بالتجارة الدولية إلى حد تدهور دخــل معظم مـوانـي البحر األحـمـر بما فيها دخل قناة السويس. إال أن األخـــطـــر أن تــفــاقــم الــجــهــل والـــفـــقـــر، قد يحول شريحة من اليمن إلى اإلرهاب. لـذلـك، فــإن الـهـدف االستراتيجي مـن مواجهة الـــحـــوثـــي، يــجــب أن يـــكـــون لــيــس تـقـلـيـص قـــدراتـــه الهجومية فقط، بل تمكي الحكومة الشرعية لليمن من أن تدير هذا البلد بسلم وأمن داخلي وخارجي. آخـــــر الـــــكـــــام: (وهـــــــم الـــــقـــــوة) ابـــتُـــلـــيـــت بــــه كـل تجمعات ما دون الدولة في الشرق األوسـط، وقاد ذلك إلى خراب األوطان. الحوثي ووهم القوة! OPINION الرأي 15 Issue 16916 - العدد Saturday - 2025/3/22 السبت عبد الرحمن شلقم محمد الرميحي الرئيس التنفيذي جمانا راشد الراشد CEO Jomana Rashid Alrashid نائبا رئيس التحرير زيد بن كمي Assistant Editor-in-Chief Aidroos Abdulaziz Saud AL Rayes Deputy Editor-in-Chief Zaid Bin Kami مساعدا رئيس التحرير محمد هاني Mohamed Hani األمير أحمد بن سلمان بن عبد العزيز عيدروس عبد العزيز سعود الريس 1987 أسسها سنة 1978 أسسها سنة هشام ومحمد علي حافظ رئيس التحرير غسان شربل Editor-in-Chief Ghassan Charbel

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==