issue16850
ً قـــبـــل أســـبـــوعـــن نـــشـــرت فــــي هـــــذا المــــقــــام مـــقـــالا بعنوان «البحث عن المشروع العربي»، عارضاً لكثرة المـــشـــروعـــات الــقــادمــة مـــن إســرائــيــل وتــركــيــا وإيــــران حـول تركيب الإقليم الشرق أوسطي من جديد، بما يتلاءم مع مصالح هـذه الــدول من ناحية؛ ومـا تراه مـن فـرص ضائعة الآن بحكم الأوضـــاع التي نتجت من حرب غزة الخامسة وتوابعها من ناحية أخرى. الآن، فـــإن المـسـألـة تــــزداد تعقيداً مــع اقــتــراب دونـالـد ترمب بعد أيام من سكن البيت الأبيض؛ ومعه حزمة جديدة من المشروعات «الإمبريالية» - أي التوسعية - في الإقليم الأميركي الممتد في المحيط الأطلنطي وأميركا الجنوبية، وكندا في الشمال. ورغم ما كان ذائعاً حول الانعزالية «الترمبية» إلى داخل الحدود الأمـيـركـيـة، والعنصر الأبـيـض فيها، فــإن توجهاته الأخــــيــــرة لا تـسـتـبـعـد الـــتـــدخـــل فـــي الـــشـــرق الأوســــط أحـــيـــانـــ لمــــد الــــســــ م الإبـــراهـــيـــمـــي، وأحـــيـــانـــ أخــــرى لضمان توسعات إسرائيلية جديدة. العالم العربي بــــات هــكــذا واقـــعـــ بـــن فــكــي كــمــاشــة أولـــهـــا مـــن دول الأطراف؛ وثانيها من قوة عالمية طالت أسنان اليمي فـيـهـا أوروبــــيــــ وأمـــيـــركـــيـــ . الانـــتـــصـــار الأخـــيـــر الـــذي حققته إسـرائـيـل عـلـى ميليشيات مـحـور «المـقـاومـة والمـمـانـعـة» ومعها الانـسـحـاب الإيــرانــي مـن سوريا خلقا أوضـاعـ جـديـدة سيئة أيـضـ . مـن ناحية، زاد التوحش الإسرائيلي في ضم أراضٍ عربية عن طريق الاستيطان أو القوة المسلحة. ومن ناحية أخرى، أن «الثورة السورية» الجديدة التي أطاحت نظام البعث في سوريا أسفرت عن قوة دفع تركية. الدول العربية لم تترك الساحة السورية خالية مـــع تـــدهـــور الأوضـــــــاع الاقـــتـــصـــاديـــة والاجــتــمــاعــيــة فـأقـامـت جــســوراً قـويـة لتقديم الــعــون لشعب عربي شقيق. مـــثـــل ذلـــــك حـــــدث مــــن قـــبـــل فــــي فــلــســطــن وغــــزة خـــاصـــة، لـكـنـه وســــط الــغــيــوم والــضـــبـــاب الــقــائــم في المنطقة لا ينبغي لـه تجاهل الــواقــع المتغير سلبياً فـي المحيط «الجيوسياسي» و«جـيـو استراتيجي» الــعــربــي. فالحقيقة هــي أنـــه مـنـذ «الــربــيــع الـعـربـي» المزعوم، فإن العالم العربي تغير هو الآخر؛ فما كان قائماً من قبل وحتى العقد الثاني من القرن الحالي لم يعد مناسباً لمقتضى العصر الذي نعيش فيه. ورغم أن الربيع خلق أوضاعاً عنيفة في دول عربية، فإن حزمة غير قليلة من الدول العربية دخلت إلى صلب الأوضاع العربية المتردية من خلال مبادرات شجاعة لإصلاح أوضـاع معوجة آيديولوجياً وغير صالحة للعصر الـحـديـث. مـشـروع الإصـــ ح الـعـربـي الوليد يعتمد أولاً على ضرورة وجود الهوية الوطنية التي تـقـود إلــى دولـــة جميع المـواطـنـن ولـيـس دولـــة أقلية شرسة أو أغلبية طاغية. هـي دولــة تحتكر شرعية السياسة والسلاح. وثانياً على الحداثة التي تتطلب اختراق إقليم الدولة بالمشروعات العملاقة وأدوات الاتـــصـــالات والمـــواصـــ ت الـحـديـثـة مـعـتـمـداً فــي ذلـك على تعبئة موارد الدولة غير المستغلة. هذا المشروع الآن يجمع تسع دول عربية تشمل دول الخليج الست ومعها الأردن ومصر والمغرب؛ وهناك دولتان على الــطــريــق هـمـا تــونــس حـيـث الــهــويــة نـقـيـة، والـــعـــراق حــيــث الــــتــــراث عــمــيــق والـــنـــفـــط كــثــيــر. هــــذا الـتـجـمـع يريد لمشروعه أن يقدم الـدولـة على كـل التنظيمات الاجـتـمـاعـيـة والـسـيـاسـيـة الأخـــــرى؛ وأن يــكــون لـدى السلطة السياسية شرعية البناء والتنمية والإنجاز وفقاً لمواصفات القرن الحادي والعشرين. لــكــن فـــي تــاريــخــنــا الـــحـــديـــث، فــــإن المــــشــــروع لا يـــكـــون كـــذلـــك إلا إذا وجــــد حــــً لأمــــريــــن: «الـقـضـيـة الـفـلـسـطـيـنـيـة» و«المـــســـألـــة الإســرائــيــلــيــة». الـتـعـامـل معهما وفق الظروف الإقليمية والعالمية الراهنة لا يمكن أن يحدث من دولة عربية واحدة. وبعد الحرب العالمية الثانية، والدمار الذي ألمّ بالإقليم الأوروبي، فــإن سـت دول أوروبــيــة بـــدأت مسيرة لبناء الإقليم الأوروبــــــــي قــــام عــلــى اســتــيــعــاب ألمـــانـــيـــا - منقسمة ومـوحـدة - ثـم التطور مـن مجمع الحديد والصلب دولــة. المثال الأوروبــي 27 إلـى اتـحـادٍ أوروبـــي يضم ليس وحده، فالمثال الآسيوي بعد الحرب الفيتنامية توصل إلـى أســرع الأقاليم نمواً في العالم إنتاجياً واستهلاكياً. مبادرة السلام العربية تحتاج إلى قدرٍ مـن التعميق الــذي يكفل تقديم الاختيار لإسرائيل مـا بـن الانـدمـاج فـي إقليم يوجد فيه تــراث اليهود الــعــبــرانــيــن ومـــوجـــود فـــي جـمـيـع الــكــتــب المــقــدســة، مـقـابـل دولـــة فلسطينية وطـنـيـة حـديـثـة لا تنفصل فيها السياسة عن السلاح وضمن منظومة مقننة للأمن الإقليمي؛ أو أن يبقى الحال على ما هو عليه، حيث تواجه إسرائيل حرباً كل عام أو عامي بينما يعاني اليهود معاداة السامية اليهودية في الدول الــغــربــيــة الـــتـــي تـتـصـاعـد عـــامـــ بــعــد عـــــام. المـــشـــروع الـعـربـي هــو مــشــروع لـبـنـاء الإقـلـيـم مــن جـديـد على أسـس حديثة ومعاصرة تقوم على التنوع وقبول الآخر، والتسامح معه. الطريق إلى المشروع العربي؟! بـــوصـــول الـــقـــاضـــي نــــــوّاف ســــ م إلــــى رئــاســة الحكومة اللبنانية، تذهب حركة الـتـاريـخ خطوة أخـــرى فـي اتـجـاه المــشــروع اللبناني، على حساب المشروع الإقليمي في لبنان في صيغته الإيرانية، وهـي آخـر صيغه. وهـي مـرةً أخــرى، علامةُ اهتمام غربي وعربي بقيامة الدولة اللبنانية من ركامها، ما يلتقي مع تأييد شعبي لبناني عارم في الداخل وفي المهاجر. فمع الانتخابات الرئاسية والتسمية الحكومية، ارتفعت رايــة الأمــل والـرجـاء من جديد فوق «بلاد الأرز». كــــان لا بــــدّ مـــن الانـــتـــظـــار طـــويـــً قــبــل أن يلج شخص من «بيئتنا» بوابة السراي الحكومي. هو رفيقنا فـي جامعة الـسـوربـون فـي بــاريــس، نــوّاف ســــ م، فــي زمـــن كــانــت الــســوربــون مـتـألـقـة بـوجـوه ثقافية وعلمية عـزّ نظيرها. كـان هناك جـاك بيرك «الــشــيــخ»، عـمـيـد الـــدراســـات المجتمعية الـعـربـيـة، وكان مكسيم رودنسون، الاختصاصي الكبير في العالم الإسلامي. وكان دومينيك شوفالييه، المؤرّخ الاجـتـمـاعـي الــبــارز، المتخصص فــي مجتمع جبل لبنان فـي الـقـرن التاسع عشر، الــذي كانت تربطه بـــنـــوّاف وبـحـلـقـة مـــن طـلـبـة الـــدكـــتـــوراه اللبنانيي عــ قــة مـــمـــيّـــزة. وكـــــان، مـــن أســاتــذتــنــا، بــعــض أهــم علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (علم الحضارات المـقـارن) في أوروبــا، جـورج بالاندييه، ولـــــوي - فــيــنــســان تــــومــــاس، وروبــــيــــر كــريــســويــل، وبـــول ميرسييه. كـنـت تـجـد فــي المـقـاهـي القريبة، عـلـى طـــاولـــة مـــجـــاورة، كــبــار المـفـكـريـن والـفـ سـفـة الفرنسيي، مثل رولان بــارت وميشال فـوكـو، كما كنت تجد فرنسوا ميتران. وكــان يكفي أن تجتاز بضعة أمتار من شارع سان جاك، حتى تجد نفسك في الـ«كولليج دو فرانس»، مستمعاً إلى محاضرة كلود ليفي - ستروس، كبير أنثروبولوجيي القرن العشرين. وكانت لقاءاتنا المسائية في مقهى على نهر السي، مع أنسي الحاج، رئيس تحرير مجلة «الـنـهـار الـعـربـي والـــدولـــي» آنــــذاك، فـي زمــن هجرة الـصـحـافـة اللبنانية إلـــى بــاريــس، بـعـد أن ضاقت الـحـريـات زمــن الـوصـايـة الأســديــة. ومثلما نرحّب بــوصــول نــــوّاف ســـ م إلـــى ســـدة رئــاســة الحكومة، لا بـد أن الـعـديـد مـن ساكني أروقـــة الـسـوربـون في حينه، ممن انتقلوا إلــى حـيـاة الـــروح، مثل فـارس ســــاســــن، ومـــلـــحـــم شــــــــــاوول، وجــــبــــور الــــدويــــهــــي، وسواهم، يرحّبون ويفرحون به أيضاً. أمّا بعد، فإنها لفرصة ذهبية للبنان الخارج متعثّراً من ركامه، أن يحظى بما تجمّع لدى نوّاف سلام، على مدى نحو نصف قرن، من اختصاصات علمية رفـيـعـة، فــي الــســوربــون وســـواهـــا مــن أرقــى معاهد العالم، وما توافر لديه من تجارب وخبرات قـــيـــاديـــة فــــي أعـــلـــى المـــؤســـســـات الــــدولــــيــــة، بــنــزاهــة واسـتـقـامـة، ليضعها فـي خـدمـة بـــ ده المنهكة من معاناتها خلال ثلث قرن. وبــــروز نـجـم نــــوّاف ســـ م هــو أيــضــ انـتـصـار 2019 ) أكتوبر (تشرين الأول 17 لروحيّة انتفاضة الشعبية، وردّ اعـتـبـار لـهـا فــي وجـــه قامعيها من «صــنّــاع الـــخـــراب»، مــن جـمـاعـة الطبقة السياسية والمالية والإدارية الفاسدة، ومن جماعة «القمصان السود». ووقوف «نواب التغيير» المنتمي إلى تلك الانـتـفـاضـة إلـــى جـانـب الـقـاضـي ســـ م، وحركتهم الدؤوبة لتجميع الكتل والأصوات حوله وتشجيع الانسحابات لصالحه، متخطي خلافاتهم وتعدّد توجهاتهم، إنما تثبت أن رابطاً فعلياً وثيقاً يجمع بـيـنـهـم، لا بــــدّ لــهــم مـــن وعــيــه وتـفـعـيـلـه فـــي الــزمــن الجديد. لقد أكّدت التطورات اللبنانية الأخيرة ما كنا نـدركـه بـوضـوح مـن أنـــه، على الـرغـم مـن تفكّك تـلـك الانـتـفـاضـة، وتــ شــي حـضـورهـا الـكـثـيـف في الــشــوارع والـسـاحـات، وإصــابــة معظم جماهيرها باليأس، فإن الروحية التي بثتها في أرجاء لبنان باقية حية، ويمكن أن تفعل فعلها في المنعطفات المهمة الآتية. مــع ذلـــك، يصعب حـقـ ، إن لــم يـكـن يستحيل، توحيد الحركات التغييرية الكثيرة، المنبثقة من أكتوبر، في مسار استراتيجي واحد. 17 انتفاضة فثمة بلبلة عارمة بصفوفها، وداخل كل منها، في فهم المسألة اللبنانية، وفـي تصوّر النظام البديل لمـا هـو قـائـم. يصعب تماماً تخطي هــذه البعثرة، لأنها لا تعبّر في العمق عن تباينات فردية بقدر ما تنبثق من تباينات جماعية، مرتبطة بطبيعة تـركـيـب المـجـتـمـع الـلـبـنـانـي. فــهــذا المـجـتـمـع، مثله مثل سائر مجتمعات المشرق العربي، لم يستطع الانتقال من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد المــــواطــــنــــن، بـــعـــد قـــــرن كـــامـــل مــــن زوال الـسـلـطـنـة الـعـثـمـانـيـة، وإن كــانــت «الـصـيـغـة الـلـبـنـانـيـة» هي الأكثر توارناً وتفاهماً في هذا المجال. والتباين بي حركات التغيير ناتج بنسبة كبيرة، بصورة واعية أو لا واعـيـة، عـن التباين فـي مـوروثـهـا الجماعي، وعن التباين في رؤيـة جماعاتهم المختلفة لذاتها وتاريخها. لـــكـــن تــســتــطــيــع الــــحــــركــــات الـــتـــغـــيـــيـــريـــة فـعـل الكثير على المستويي المـنـظـور والأبــعــد، لكونها مـــوحّـــدة حـــول مـسـائـل بـالـغـة الأهــمــيــة؛ كمكافحة الفساد والمحاسبة وإصلاح المؤسسات والتحديث وغيرها. ويجب أن تنطلق مما يوحّدها للإسهام الفعال في النهوض اللبناني الذي بدأ. إنه واجبها الوطني التاريخي. رفيق السوربون OPINION الرأي 13 Issue 16850 - العدد Wednesday - 2025/1/15 الأربعاء المشروع العربي هو مشروع لبناء الإقليم من جديد على أسسحديثة ومعاصرة عبد المنعم سعيد أنطوان الدويهي فرصة ذهبية للبنان الخارج متعثّراً منركامه الرئيس التنفيذي جماناراشد الراشد CEO Jomana Rashid Alrashid نائبارئيسالتحرير زيد بن كمي Assistant Editor-in-Chief Aidroos Abdulaziz Saud AL Rayes Deputy Editor-in-Chief Zaid Bin Kami مساعدا رئيس التحرير محمد هاني Mohamed Hani الأمير أحمد بنسلمان بن عبد العزيز عيدروسعبدالعزيز سعودالريس 1987 أسسها سنة 1978 أسسها سنة هشام ومحمد عليحافظ رئيسالتحرير غسانشربل Editor - in-Chief Ghassan Charbel
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky