issue16849
الثقافة CULTURE 18 Issue 16849 - العدد Tuesday - 2025/1/14 الثلاثاء باحث بريطاني يستعيد نصاً نادراً لكافكا قصة كلب فيلسوفوحيد بـــحـــلـــول الـــــوقـــــت الــــــــذي تــــوفــــي فـــيـــه الـــــروائـــــي عن عمر يناهز 1924 التشيكي فرانز كافكا في عام عـــامـــا، كــــان صــــاغ ثــــاث روايـــــــات (المــحــاكــمــة، 40 الـــــــ والقلعة، وأمريكا) لكنه لم ينته أو ينشر أيـا منها في حياته، باستثناء بعض المقتطفات. وقبلها كان نشر رواية وجيزة وعدداً من القصص القصيرة قبل أن يعهد بكل كتاباته الـتـي لـم يتخلّص منها إلى صديقه وناشره ماكس برود كي يتولى حرقها في حـال وفـاتـه. على أن بــرود لـم ينفّذ الـوصـيّـة، وبعد بـعـض الــتــدخــات الـتـحـريـريّـة نــشــر الـــــروايـــــات الـــثـــاث الـتـي أسست لاحقا - لا سيّما بداية من فترة الستينيات - لسمعة كافكا واحـــداً مـن أهــم روائـيـي القرن العشرين على الإطـاق، وأيقونة ثقافيّة عابرة للغات لدرجة أن أكثر القراء التهموا حــــتــــى كــــتــــابــــاتــــه الـــشـــخـــصـــيّـــة كــــــالــــــيــــــومــــــيــــــات والـــــــرســـــــائـــــــل والمــــاحــــظــــات غـــيـــر مـــنـــشـــورة، وتناقلوا عنه مقاطع غامضة وزلات لـــــــســـــــان، بـــــــل ونــــشــــر أحـدهـم مجموعة مختارة من المـسـتـنـدات الـتـي كــان يملؤها كــــافــــكــــا فــــــي إطــــــــــار وظـــيـــفـــتـــه الــيــومــيــة كــكــاتــب لــــدى هيئة التأمين ضد حوادث العمال. غـــــلـــــبـــــت عـــــلـــــى الأعـــــــمـــــــال التي تركها كافكا ثيمة النقد الـاذع للمؤسسات القانونيّة والبيروقراطيّة التي أنتجتها مـــرحـــلـــة الــــحــــداثــــة، والــتــنــديــد بأهوال الأنظمة الإداريــة التي تـــأخـــذ حـــيـــاة مـسـتـقـلـة عــابــرة لــأشــخــاص وتــصــبــح عـصـيّـة عـلـى الاخـــتـــراق بشكل غـريـب، لـكـن ثـمـة مـسـاحـة أخـــرى عُني بها، وإن لم تحظ بالانتشار، تــعــلّــقــت بــنــقــد إنـــتـــاج المــعــرفــة فــــــي الأكـــــاديـــــمـــــيـــــا المــــعــــاصــــرة والـتـي لا تقل «كـافـكـاويّـة» في تصنيفاتها ونظم تقييماتها وتــــرقــــيــــاتــــهــــا وتـــراتـــبـــيـــاتـــهـــا وأولــــويــــاتــــهــــا الـــتـــي يــحــرّكــهــا الـــــــســـــــوق عـــــــن أي مـــنـــظـــومـــة حداثيّة أخرى. مـــــقـــــاربـــــة كــــافــــكــــا لـــعـــالـــم إنتاج المعرفة جـاءت في نص «أبحاث كلب»، أحد أقل أعماله شهرة، وأكثرها غموضا، كان ،1922 كــتــبــه فـــي خـــريـــف عــــام لـــكـــنّـــه تـــركـــه بــــا عــــنــــوان، ولـــم ينشر إلا بعد وفاته، بتحرير صديقه برود، الذي جمع عدة كـتـابـات قـصـيـرة ونـشـرهـا في مضيفا هذا 1931 مجلد عــام الـعـنـوان لـذلـك الـنـص ليربطه بـ«الأبحاث» الأكاديميّة. «أبـــــــــــحـــــــــــاث» هــــــــي قـــصـــة سـاخـرة فلسفية عميقة لكلب وحيد غير قــادر على التكيف مع محيطه ويتحدى العقيدة الــعــلــمــيــة الــــســــائــــدة، فـيـنـطـلـق فـــي رحـــلـــة بــحــث ســعــيــا لفهم أفـــــضـــــل لــــــذاتــــــه ولــــلــــعــــالــــم مــن حوله، تأخذه إلى سلسلة من المــغــامــرات الـنـظـرّيـة، تـبـدأ من اســـتـــقـــراء لــفــضــولــه وغــــرائــــزه الاسـتـقـصـائـيـة قـبـل أن ينتقل إلــــى الــلــغــز الـــرئـــيـــس لـلـوجـود مــعــبــراً عــنــه بـــســـؤال «مــــن أيــن يأتي الطعام؟». ويبتكر الكلب المتفلسف فـي سياق بحثه عـن إجابات عــــدداً مـــن الـــتـــجـــارب، ويـطـرح سـيـاً لا يتوقف مـن الأسئلة دون أن يــتــلــق أي إجــــابــــات، ثــــــــم يـــــصـــــف الـــــعـــــقـــــبـــــة الــــتــــي يـصـطـدم بـهـا عـنـد محاولته استمالة زملء للنضمام إليه في أبحاثه: الصمت والـتـخـلّـي، فـكـأن لا أحــد يـرغـب بمعرفة الحقيقة. وفـــي وقـــت لاحـــق يـطـلـق مـــبـــادرة جـــذريّـــة مـــن أجـل كشف أسرار التغذية، فيصوم، لكن ذلك كاد يقضي عليه، إذ شارف على الموت جوعا. وتختتم القصة بتلخيص الاكـتـشـافـات الفلسفية لـلـكـلـب، والـتـي يمكن تسميتها، «نظام العلوم»، وهو هيكل ذروته عـلـم الــحــريــة - الــتــي سـتـكـون الـكـلـمـة الأخـــيـــرة في القصة. أثـار «أبـحـاث كلب» اهتمام آرون شوستر، أحد أهم الباحثين المعاصرين في الأنثروبولوجيا الثقافيّة والفلسفيّة القاريّة (الأوروبــيّــة) الـذي رأى فيه تفكيراً رائداً سبق نقد المحلل النفسي الفرنسي جـاك لاكـان لما أسماه «الخطاب الجامعي» الـذي لم يتعلق بسوء إدارة الجامعة الحديثة بقدر ما يتعلق بتسليط الــضــوء عـلـى الـتـحـول الــواســع فــي هيكلة السلطة بالمجتمعات المعاصرة، حيث تتحد المعرفة والــســلــطــة لإنـــشـــاء أنــظــمــة إداريــــــة تـــكـــرّس أوضــاعـــا معينة تعمل باسم العقل والتقدم التقني. وهنا دور كــافــكــا الــــرؤيــــوي، مـشـكـكـا في هـــذا الـنـظـام الــجــديــد، ومنقبا عن الجانب الخفيّ من حياده (العلميّ) المفترض، مع اقتراح طـرائـق أخــرى بديلة للتفكير، وربما مخارج. شــــوســــتــــر قــــــــــدّم قـــــراءتـــــه لــــــ«أبـــــحـــــاث كــــلــــب» فـــــي كـــتـــاب صدر بالإنجليزيّة حديثا عن مطبعة «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا» بعنوان «كيف تـــبـــحـــث كــــكــــلــــب: عــــلــــم كـــافـــكـــا الـجـديـد»، معتبراً هــذا النصّ الـقـصـيـر لـــم يــحــظ بـالاهـتـمـام الــــذي يـسـتـحـق، وأنّـــــه لا يـــزال أكــــثــــرهــــا غــــمــــوضــــا، ويـــتـــعـــّ العمل على إعـــادة استكشافه وتفكيك ألغازه. ويــــــــــــــــــرى شـــــــوســـــــتـــــــر أن مـــفـــتـــاح الــــنّــــص قــــد يــكــمــن فـي كـــــمّ الـــســـخـــريّـــة الـــهـــائـــل الــــذي تحمله «أبـحـاث كلب» مقارنة بـمـجـمـل تـــــراث كــافــكــا الأدبـــــيّ كــلّــه، مــا يجعلها فــي الــقــراءة الأولـــى أشبه بنكتة متفلسفة طويلة غايتها الترفيه الفكري المحض. لكن معرفتنا بكافكا، كـــــنـــــاقـــــد عــــمــــيــــق لمــــؤســــســــات الــــــحــــــداثــــــة، تـــــدفـــــع لـــلـــتـــســـاؤل عـمّـا إذا كـانـت قصته بمثابة هـــــجـــــاء لــــحــــمــــاقــــات الــفــلــســفــة والمتفلسفين في أبراج عاجيّة، وشتيمة لـفـذلـكـات التكهنات الميتافيزيقية. يـــأخـــذ شـــوســـتـــر الــــقــــراءة تـالـيـا إلـــى مــا يشبه الـصـدمـة: حـيـث لا نـــرى الـبـشـر فــي عالم الـــكـــلـــب الـــفـــيـــلـــســـوف، لــكــنّــهــم أســـيـــاد الـــكـــون غــيــر المــرئــيــ ، وهـــــــذه الــــفــــجــــوة الـــهـــائـــلـــة فـي الإدراك بين الظاهر ومن يقود الــعــالــم هـــي مـــا يـفـسّـر لـلـقـارئ جميع أنـــواع المـــآزق المضحكة والمـشـاكـل الـزائـفـة الـتـي يغرق فـيـهـا بــطــل الــقــصــة وراويـــهـــا، الــــــــــــذي يــــــقــــــول «لــــــقــــــد عــــمــــدت مـؤخـراً أكثر فأكثر إلـى النظر فـــي حـيـاتـي بـحـثـا عـــن الخطأ الــــحــــاســــم والأســـــــاســـــــي الـــــذي يجب أن أكــون قد ارتكبته في وقت ما بالتأكيد، ولا يمكنني العثور عليه». إن هــذا العمى عـن الـقـوة المهيمنة فـي العالم هـــــو الـــخـــلـــل الأســـــاســـــي الـــــذي تتحرّاه «الأبحاث». يــــــــــقــــــــــول شــــــــوســــــــتــــــــر إن الهيمنة تبدو في قصّة الكلب المتفلسف أكـثـر تعقيداً وغير مرئيّة، إذ بعكس «المحاكمة» و«الــقــلــعــة» تـنـسـحـب السلطة المــركــزيّــة إلـــى درجـــة تلشيها مــن الــرؤيــة تـمـامـا لـكـن دورهـــا مستمر على مستوى آخر من خـــال عملية صـنـاعـة المعرفة الـتـي تنتج العقائد والأفـكـار، لـــكّـــن ذلــــك يـجـعـل الــســعــي إلــى الحرية أكثر إلحاحا، وهو أمر يـجـعـل مـــن الــحــيــاة أقــــرب إلــى حالة انتحار فاشلة مستمرة، فيما هـــذا الـفـشـل تـحـديـداً هو أدق تعبير عن الإيجابية والحياة. إن «أبـحـاث كلب» التي كتبت فـي وقـت متأخر مـــن حــيــاة مــؤلــفــهــا، قـــد تــكــون وفــــق مـــا يــذهــب إلـيـه شوستر في قراءته أفضل مدخل لفهم أعمال كافكا الأخــرى كلها، ومفتاحا لكسر مغاليق شخصياته شـديـدة التعقيد، بـل ربـمـا لمقدمة لا بــدّ منها لفهم عقل كافكا نفسه. ندىحطيط رولز رويس أم تِسْلا؟ صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتبا يقول: «أنا كائن لــغــوي. أنـــا مـصـنـوع مــن مــــادّة الــلــغــة»، كـــان ذلـك إيذانا بقرع جرس إنـذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلن بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على رؤية ما لا يُرى. أمــثــلــةٌ كــثــيــرة تــصــلــحُ اســـتـــشـــهـــاداتٍ لـلـضـدّ النوعي للشاعر «المصنوع من مـادّة اللغة». أظنّ أنّ بـورخـيـس يـتـقـدّمـهـا بـاسـتـحـقـاق كـامـل حتى صارت الإشارة إلى نمط «الكتابة البورخيسية» تـوصـيـفـا لـلـكـتـابـة المـتـقـشّـفـة لــغــويــا، الــتــي تـقـود عقل الـقـارئ نحو الأفـكـار التي يسعى الكاتب أو الشاعر لتمريرها. لن تتفق الكتابة القائمة على المــاعــبــات الـلـغـويـة أو المــصــارعــة المــؤسّــســة على تشكيل تراكيب لغوية معقّدة في أن تكون بديلً عن جماليات الأفكار الرفيعة. ربّما - وأقول ربّما - كانت هذه الإغواءات اللغوية لدى الكاتب مقاربة تعويضية عن فقر الأفكار. الأمثلة في هذا الشأن كثيرة، ولكلّ منّا أمثلته وتجاربه ورؤاه. كــلّــنــا كـــائـــنـــات لـــغـــويـــة، وكـــلّـــنـــا مـصـنـوعـون مـــن مــــادة الــلــغــة. هــــذه حـقـيـقـة نـعـيـشـهـا كــــلّ يــوم ولـيـسـت إعــانــا يـتـسـربـل بـبـاغـة مـقـنّـعـة تسعى لـتـمـريـر رســـالـــة مــضــمــرة بـالـفـائـقـيـة الإبـــداعـــيـــة. يـمـكـن مـحـاجـجـةُ بــطــان هـــذه المــقــولــة مـــن أوجـــه كثيرة أوّلــهــا المحاججة الفلسفية - الـوجـوديـة. اللغة مـنـتَـجٌ ينشأ عـن عـاقـات تفاعلية دماغية . الوعي Consciousness عنوانها الأكـبـر: الـوعـي يتقدّم على اللغة، وبمعنى آخـــر: الأفـكـار تتقدّم على الـلـغـة. الـوعـي وقــدرتــه المـتـفـرّدة فـي تخليق الأفــــكــــار خــصــيــصــة عـــالمـــيـــة ولـــيـــســـت مــحــلــيــة أو جماعاتية مثل اللغة. صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلعب باللغة، ومن يرى الشاعر محض كــائــن يـجـيـد الـتـاعــب الــحــرّ والمــتــدفّــق والمــدهــش بعُدّته اللغوية يبخسُ وظيفة الشاعر إلى حدود معتلّة. الشاعر يستخدم اللغة وسيلة لتخليق أفكار ورؤى يرادُ منها كسرُ قشرة الواقع الصلب والإطللة على عوالم ميتافيزيقية غير مختبرة لإضـفـاء الـدهـشـة والفتنة على عـالـمٍ يقتله الملل وضيق حدود التجربة الحسية. الغريب أنّ هناك مـن يسعى لجمع الفيلسوف مـع الـشـاعـر فـي أنّ كليهما كائنان مصنوعان مـن مــادة اللغة؛ لكنّ تلك حكايةٌ أخرى. مـــا هـــو أكـــثـــر أهــمــيــة بـكـثـيـر مـــن المـحـاجـجـة الفلسفية - الوجودية هي المحاججة الوظيفية: ما هي وظيفة اللغة؟ وكيف نتعامل معها؟ أهي أداة تـواصـلـيـة أم غـايـة جمالية ونفسية تُـطــلَـبُ لذاتها؟ في هذا السياق سأورد المثال التصويري الــتــالــي: لـنـتـصـوّرْ أنّ مـواريـثـنـا الـلـغـويـة فــي كـلّ الـفـعـالـيـات المـعـرفـيـة المــعــروفــة هــي مــيــراث مــادي محسوب بكمّ من المــال. يبدو لي الكائن اللغوي (الـــــذي يـتـبـاهـى بـــأنّـــه مـصـنـوع مـــن مــــادة الـلـغـة) وكــأنّــه سـيـأخـذ نصيبه مــن المـــال ليبتاع نظيره سيارة «رولز رويس» عظيمة الفخامة. أما الكائن غـيـر الـشـعـري فـسـيـوزّع مـيـراثـه فــي أشــكــال عـــدّة: سيشتري عقاراً، وربّما قطعة أرض، ولا بأس من سيارة أيضا. ما بها سيارة «تسل» مثلً؟ سيارة ممتازة بمواصفات رائعة وبسعر أقــلّ من عُشْر سعر الرولز رويس. هل تتخيّلون المشهد؟ مُقتني الرولز رويس ســيــتــحــوّلُ خـــادمـــا لــهــا بـــــدلاً مـــن أن تــخــدمــه هي لأنّــه وضــع كــلّ ماله فيها. سيقلق عليها كثيراً، وسيلمّعها كل يوم، وسيخشى الخروج بها خوفا مــن أن يـنـالـهـا خـــدشٌ صـغـيـر. لــن يـخـرج بـهـا إلا لمشوار قصير يؤكّدُ فيه سطوته وأرستقراطيته الموهومة التي ربما تجعل منه كائنا متغطرسا. لن يجرّب قيادة سيارة أخــرى طيلة حياته لأنّه مـــنـــذور لـــوهْـــمٍ امــتــلــك عـقـلـه فـــي أنّ ســيــارتــه هي الأغــلــى والأجـــمـــل والأكـــمـــل والأفـــخـــم. الـغـريــب أنّ هــذه الـسـيـارة لـن تـأتـي لـه بعائد مـالـي لأنّـــه يرى امتلكها بـديـاً عـن كــلّ عـائـد مهما كــان عظيما. سيظلّ كلّ حياته موهوما بكلسيكيتها الفائقة، ولن يفكّر بما يمكن أن يطرأ على تصميمها من تغيّرات بفعل نتائج امتحان السيارة في أنفاق ومــــا يــتــرتّــب عـلـيـهـا من Wind Tunnels الـــهـــواء ضـرورات تغيير التصميم بغية تقليل استهلك الـــوقـــود ونــفــث أكــاســيــد الــكــربــون والـنـيـتـروجـ الملوّثة للبيئة. مُقتني (تسل) من جانب آخر يعيش تجربة مختلفة تماما عن مقتني الـرولـز رويــس. يتنقّلُ في سيارة عملية ممتازة لا تسمعُ ضوضاء فيها. السيارة تخدمه ولا يخدمها. صيانتها معقولة ميسّرة وبكلفة ممكنة، والسيارة بذاتها مصدرٌ لمـداخـيـل مـالـيـة ونـــزهـــات ترفيهية لأنّ مقتنيها يستخدمها في متابعة شؤونه المالية والحياتية اليومية. لا غطرسة فـي الأمــر بـل حياة طبيعية مــعــقــولــة، ومـــتـــى مـــا أراد صــاحــبــهــا اسـتـبـدالـهـا كـــلّ ثـــاث ســنــوات مـثـاً فيمكن لــه ذلـــك لـقـاء بــدلٍ مــالــي بـسـيـط. تـسـا لـيـسـت مـثـل الـــرولـــز رويـــس. بـطـاريـة الليثيوم المــولّــدة للكهرباء فيها تشهدُ تغيّرات ثورية لتحسينها وتعظيم كفاءتها كل سنة، ويمكن استبدالُ البطارية القديمة بواحدة جــديــدة مُـــطـــوّرة بكلفة يـسـيـرة لا تـرهـق الجيب. تــطــوّرات الــذكــاء الاصـطـنـاعـي وإمـكـانـيـة القيادة الذاتية تشهد تجاربها الريادية الأولى عادة مع سيارة «تسل». هل يمكن أن يحصل هذا مع رولز رويس؟ هـــكـــذا هـــو حــــال كــــلّ كـــائـــن لـــغـــوي، مـصـنـوع من مــادة اللغة، شاعراً كـان أم كاتبا. اللغة لديه ليست سوى «رولـز رويـس» هي كلّ ميراثه، وقد استطاب الجلوس داخلها وخدمتها كلّ حياته. ليست كلّ ميراثه فحسب؛ هي كلّ بضاعته أيضا. كيف تـعـرف هــذا الكائن الـلـغـوي؟ مـن نصوصه. تقرأها فتشعرُ وكـــأنّ كاتبها خـاض نـــزالاً عنيفا بالمصارعة للوزن الثقيل مع الكلمات. هو ليس كائنا مسترخيا عندما يـواجـه الكلمات، وحـالُـهُ في هذا حالُ مخرج أفلم سينمائية منحتَهُ مائة مـلـيـون دولار ونــصّــا لـسـيـنـاريـو. مـــاذا سيفعل؟ سينسى السيناريو ويجعل كـلّ همّه أن يقنعنا بأنّ فيلمه الذي نراه قد أنفق عليه مائة مليون من الـــدولارات. الإبهار والبهرجة المشهدية ستتقدّمُ بـــالـــضـــرورة عــلــى الأفـــكـــار فـــي مــثــل هــــذه الأفــــام. وهو ما ينفّرني من مشاهدة الأفلم ذات الميزانية الـــضـــخـــمـــة، وأفـــــضّـــــلُ عــلــيــهــا الأفـــــــام مــتــواضــعــة المـيـزانـيـات الـتـي تتوفر على مستوى فني رفيع وأفكار غير مسبوقة. يــــقــــتــــرن هـــــــذا المــــــوضــــــوع اقـــــتـــــرانـــــا عـــضـــويـــا . الــبــاغــة معضلة Rhetoric بــمــوضــوع الــبــاغــة كــبــيــرة وبــخــاصــة مـــع الــعــربــيــة؛ إذ مـــا أســهــل أن ينزلق المـــرء فـي لـجّـة الألــعــاب اللغوية الخالصة التي وسمت الكثير من تراثياتنا الأدبـيـة. ليس الوقوع في فخّ البلغة وقفا على العربية. لنقارن مثلً بين إنجليزية العصر الفكتوري وإنجليزية الـعـصـر الــحــالــي، سـنـجـد فــروقــا هـائـلـة بينهما. الـبـاغـة الـيـوم هـي بـاغـة الأفــكــار وليست بلغة الألعاب اللغوية، واللغة اليوم هي وسيط لتمرير الأفــــكــــار وعـــرضـــهـــا بـــرشـــاقـــة ووضـــــــوح مــــن غـيـر التباسات مـؤذيـة. وظيفة اللغة أهــمّ من الألعاب اللغوية مهما بدت جميلة مغوية، أمّا الغطرسة اللغوية فتلك قمّة جبل المأساة. الشاعر أو الكائن اللغوي، وكأي كائن اختصر كلّ قيمته الوجودية في حكاية ملحمية واحـــدة، سيكون من البدهي أن يـرى بضاعته اللغوية أعلى مقاما مـن سائر الـــبـــضـــائـــع. الأخــــطــــر عـــنـــدمـــا تــنــقــلــب الــغــطــرســة اللغوية شوفينية لغوية. اللغة ليست لعبة ميكانو يجاهد الشاعر (أو الكائن اللغوي) في ابتداع أعداد متزايدة من الأشكال المعقّدة فيها. بساطة التراكيب اللغوية هي الأجمل من العبارات اللغوية الملتفّة الملتوية. هـــل يــــرى الــبــعــض امـــتـــيـــازه الأكـــبـــر فـــي أنّـــه مصنوعٌ من مـادة اللغة؟ لا بأس في هـذا. فليبقَ مأسوراً داخل «رولز رويس» التي يملك، وسيكون شاهداً على تقادمها حتى الاندثار. ليته يجرّب أن يطلّ برأسه خـارج سيارته المتقادمة؛ فلربما سـيـرى ســيــارات «تـسـا» تـحـلّـقُ فـوقـه بمحرّكات تعمل بالهيدروجين أو بالكهرباء بعد سنوات قليلة قادمة. كلنا نحب اللغة ونعشق منتجاتها الرفيعة، لكن لا معنى ولا فائدة من قضاء حياتنا ونحن ندور حول عرش اللغة الذي نحسبه مقدّسا. الــــلــــغــــة بــــضــــاعــــة غــــاطــــســــة فــــــي المــــعــــضــــات الدنيوية، وجمالُها وفائدتها نتاجان مباشران لدنيويتها وكونها بضاعة يومية. اللغة المقدّسة المترفّعة عن لغات العالم لا تصلح لمعايشة البشر، ومكانها الطبيعي مـوضـعٌ صغير يـتـوارى خلف واجهة زجاجية في متحف للآثار القديمة. «أبحاث كلب» قد تكون وفق ما يذهب إليه شوستر مقدمة لا بدّ منها لفهم عقل كافكا نفسه كافكا لطفية الدليمي البلاغة معضلة كبيرة وخاصة مع العربية إذ ما أسهل أن ينزلق المرء في لجّة الألعاب اللغوية الخالصة التي وسمت الكثير من تراثياتنا الأدبية
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky