issue16848
تــــولــــي الـــكـــاتـــبـــة والـــــروائـــــيـــــة المـــصـــريـــة سـحـر المــوجــي اهـتـمـامـا خــاصــا فــي أعـمـالـهـا بــــتــــأمّــــل الــــعــــالــــم الإنــــســــانــــي وتـــــحـــــوّلاتـــــه مـن مـنـظـور وجــــودي ونـفـسـي يتسع لـأسـطـورة وبــــــــراح الـــتـــخـــيـــيـــل. تــعــمــل المــــوجــــي أســــتــــاذةً لــــأدب الإنــجــلــيــزي بـجـامـعـة الـــقـــاهـــرة، ولـهـا اهــتــمــامــات بـــعـــروض فـــن «الـــحـــكـــي»، ومـجـال «السيكودراما». من أبرز أعمالها مجموعة «سيدة المنام» و«ن»، التي حصلت على جـائـزة «كفافيس» ، ورواية «مسك التل» التي فازت بجائزة 2008 .2019 «ساويرس» الثقافية هـنـا حــــوار مـعـهـا حـــول عـالمـهـا الــروائــي وهموم الكتابة: اســـتـــلـــهـــمـــتِ شــخــصــيــة «كــــاثــــريــــن» بـطـلـة > «مـــرتـــفـــعـــات ويــــذرنــــغ» و«أمـــيـــنـــة» مـــن عـــالـــم نجيب محفوظ، لتكونا بطلتَي عالم «مسك التل» الخيالي. كيف تعاملتِ مع تداخل أزمنة الـقـراءة والكتابة في هذه الرواية؟ - أحب ألعاب الزمن، وربما اكتشفتُ هذا الأمـــر بـعـد الانـتـهـاء مــن كـتـابـة «مـسـك الـتـل»؛ فأنا مغرمة بهذه الألعاب، وعلاقتي ببطلتَي الـــــروايـــــة مـــرتـــبـــطـــة بـــزمـــن قـــــــراءة مــمــتــد عـبـر الــســنــوات، فـقـد تـعـرفـت عـلـى «كــاثــريــن»، منذ قرأت «مرتفعات ويذرنغ» وأنا طفلة، وعندها أبـــهـــرنـــي هـــــذا المــــكــــان بـــبـــريّـــتـــه وشـخـصـيـاتـه ، زُرت 1999 الـخـارجـة عـن الـسـيـاق. وفــي عــام بيت «بـرونـتـي» فـي إنجلترا لأقـتـرب مـن هذا العالم مـن جديد فـي زمـن آخــر. كانت تجربة مـخـتـلـفـة جــــداً أن أشـــاهـــد مــ بــســهــم وحـجـم أجـسـامـهـم الـضـئـيـل، كـمـا درســـت هـــذا العمل الأدبـــــي عـنـدمـا كــنــتُ طـالـبـة فـــي كـلـيـة الآداب قسم اللغة الإنجليزية. وبعدها بسنوات قمت بتدريسه للطلبة؛ لذلك هو نص أدبـي ممتد عــلــى مـــــدار عـــمـــري. أمــــا شـخـصـيـة «أمـــيـــنـــة»، فلديّ معها تساؤلات كبيرة. طالما استوقني نـــقـــديـــا رســــــم شــخــصــيــتــهــا، بـــعـــكـــس تـعـقـيـد شخصية «السيد أحمد عبد الـجـواد». كانت «أمـــيـــنـــة» بـسـبـب الـــوعـــي الــنــســوي المــبــكــر في عمق اهتمامي بكيفية تقديم الأدب للنساء، وأصواتهن، ليس أبداً من باب فكرة الانتصار لـــهـــن، ولـــكـــن لــفــهــم هــزيــمــتــهــن؛ لـــذلـــك لـحـظـة التفكير في جمع «كاثرين» و«أمينة» في نص جديد كانت لحظة سحرية بالنسبة لي. ما الرابط الـذي جعلكِ تجمعين بينهما في > نص جديد؟ - لـــم أكــــن أعـــلـــم الــســبــب بـــدقـــة مـــع بــدايــة كـــتـــابـــتـــي لـــلـــعـــمـــل. ومـــــع الـــكـــتـــابـــة أدركــــــــت أن مــــا يــجــمــع بــيــنــهــمــا عــ قــتــهــمــا بــالــســيــاقــات المجتمعية، كيف أن «كاثرين» تقمع الجانب البري في شخصيتها وتستسلم لما يتطلبه مـنـهـا المـجـتـمـع الــفــيــكــتــوري، وتـــهـــزم نفسها بالاستسلام للمتوقّع اجتماعيا منها، وتدفع ثــمــن هــــذا بــمــوتــهــا، وكـــذلـــك عـــ قـــة «أمــيــنــة» بـــالمـــتـــوقّـــع مــنــهــا فــــي عـــ قـــتـــهـــا بــالــســيــاقــات المـجـتـمـعـيـة فـــي الـــجـــزء الأول مـــن «الـثـ ثـيـة» ورضاها عنه، وكيف أنها لا ترى في ذلك أي انسحاق، وهذا ما عبّرت عنه في شخصيتها في «مسك التل» بأنها راضية وسعيدة بأداء هــــذا الــــــدور الـــــذي نـــــراه نــحــن انــســحــاقــا. كــان الــتــحــدي بـالـنـسـبـة لـــي هـــو مـنـحـهـمـا فـرصـة لحياة جديدة لهما دون أن أُخلّ بالروايتين. أنــــــا شـــخـــصـــيـــا عــــشــــتُ أكــــثــــر مـــــن حـــيـــاة واحــــدة؛ كـنـتُ فـي لحظة أُشــبِــه «أمـيـنـة» التي تُصدق تماما ما يقوله المجتمع، وفي لحظة أخـــــرى تــــمــــردتُ وخـــرجـــت عـــن هــــذا المـــتـــوقّـــع؛ فتمردت على «أمينة» التي بداخلي. منذ تلك اللحظة، وأنا أسأل نفسي عندما تقابلني أي فكرة: هل هـذه فكرتي الخاصة أم أنها فكرة المجتمع، ورغــم أنني عشتُ حـيـوات متعددة فــإن هـنـاك جـوهـراً لا يـغـادرنـي رغــم الطفرات الـهـائـلـة الــتــي لـحـقـت بــالــوعــي والاخـــتـــيـــارات والشخصية، ومن ثم تبلور السؤال الوجودي الـــــذي يــحــركــنــي فـــي الـــنـــصحــتــى لـــو لـــم أكــن واعـــيـــة بـــه لـحـظـة كـتـابـتـه؛ وهـــو ســـــؤال: مـــاذا سنكون لو عشنا أكثر من زمن؟ هـل فكرتِ في أن تكون هـذه الـروايـة بمثابة > عالم نسوي مُصغّر؟ - سُئلت في مناقشات حول «مسك التل»: «أيـــن الــرجــال فـي الــنــص؟»، وفــي الحقيقة لم أكـــن مُـتـعـمـدة هــــذا، لـكـن كـــان يشغلني رؤيـــة الـعـالـم بـعـيـون نــســاء، وأعـتـقـد أن هـــذا ســؤال كــبــيــر، هـــو ســـــؤال الأدب نــفــســه، فـعـلـى مـــدار سنة اتسع النهر الذي يجمع كتابة 200 نحو النساء عن أنفسهن والعالم، ومـع ذلـك ليس لدى كل الكاتبات وعي نسوي. هناك من يعتبرن أن الكتابة النسوية تشكل > تضييقاً لزاوية رؤية العالم، وهناك مَن يتبرأن منها؛ هل تتعمدين الكتابة بهذه النزعة؟ - لا أتـعـمـد ذلـــك أبــــداً، فـالـكـتـابـة ترجمة لــعــالــم الـــكـــاتـــب عــبــر الــتــخــيــيــل، وبـــهـــا تظهر هــــمــــومــــه وأســــئــــلــــتــــه الـــــتـــــي يــــطــــرحــــهــــا عــبــر شخصيات مُتخيّلة. بالنسبة لـي لـدي وعي عــامــا، لكن 20 نـسـوي مبكر مـنـذ كـــان عـمـري فـــي الــبــحــث الأكـــاديـــمـــي أســتــطــيــع أن أوظّــــف الـنـقـد الــنــســوي فـــي قـــــراءة عــمــل، فـيـمـا الأمـــر مختلف فــي الـكـتـابـة الأدبـــيـــة الــتــي أعتبرها حــكــايــة تـــطـــرح أســئــلــتــي أنـــــا؛ كـــســـؤال المـــوت والــزمــن وصـــوت الـنـسـاء، أســـأل نفسي مثلاً: مـــاذا لـو أخـــذت «أمـيـنـة» فـرصـة حـيـاة أخــرى؟ رضوى عاشور على سبيل المثال كانت تقول إنها ليست كاتبة نسوية، وذلــك لأن مـا كان يُحركها في الكتابة هو قضايا اليسار. أنا لا أريــد إثـبـات شـيء أو الانتصار لـشـيء، ولـدي مساحات أخــرى تنخرط مـع الـواقـع للتعبير عـن قضايا الـنـسـويـة، مثل ورش الـعـمـل. أما منطقة الكتابة فيجب أن نتنبه ألا يكون بها إسقاط أو آيدولوجيات؛ فهاك خط فاصل بين الأسئلة الوجودية والآيدولوجيا. الأسـطـورة، وتحديداً المصرية القديمة، لها > حضور بـارز في أعمالك، أتذكر حضور «إيزيس» في مجموعتك «سيدة المنام»، و«حتحور» في رواية «ن». حدثينا عن ذلك. - أنـــــا مــهــتــمــة بـــفـــكـــرة زواج الأســــطــــورة وعلم النفس، بالنسبة لي الأسطورة تمنحنا إجابات عن كثير من أسئلة عالمنا الباطني؛ فشخصية «إيزيس» في «سيدة المنام» كانت تلك الــذات الأنثوية التي تُعيد ولادة نفسها مـن جـديـد، وتعيد رؤيــة نفسها فـي مواجهة مـا رسـخّـت لـه الأســـطـــورة؛ ففي وقــت «سيدة المــنــام» كـنـتُ أســـأل نـفـسـي: لمـــاذا تــم الـتـرويـج لــــ«إيـــزيـــس» فـــي الـــوعـــي الـــعـــام بـوصـفـهـا الأم والـــزوجـــة المخلصة ولـيـسـت كـسـيـدة «قـويـة» جـــــداً، مـــن دونـــهـــا لـــن تـــكـــون هـــنـــاك أســـطـــورة مـــن الأســـــــاس؛ فـــــــأردتُ فـــي قـصـتـي أن تُـلـمـلـم «إيـــزيـــس» أشــ ءهــا دون اسـتـسـ م للتأويل الــعــام لــأســطــورة، وفــقــا لـــقـــراءات غــارقــة في مؤسسية بطريركية ورأسمالية وغيرها، أما رواية «ن» فشخصية «حتحور» الربّة المصرية القديمة هي عمودها الفقري: «حتحور» جزء مـنـا جـمـيـعـا، بـمـا فـــي ذلـــك رغـبـتـنـا وقـدرتـنـا على الحب والـحـريـة، عــ وة على رغبتي في مـــدّ الـــجـــذور لإرث يخصني بشكل شخصي بالاتجاه للسطورة المصرية القديمة. ربـمـا بسبب ذلـــك، وعـلـى المـسـتـوى الفني، > كـان لشخصية «حتحور» دور مركزي كــراوٍ عليم وشاهد على تحوّلات الحكاية. - الأســــطــــورة مــكــان مــــرن ورحـــــب، لأنـهـا بـــالأســـاس مـنـطـقـة تـخـيـيـل، بـعـكـس الـتـاريـخ الـــــذي يـــكـــون مُــقــيــداً بـشـكـل أكـــبـــر. الأســـطـــورة شكل للحكي الشعبي: «حـتـحـور» فـي روايــة «ن» كانت بمثابة راوٍ عليم ومُشارِك ومشتبك مع الشخصيات؛ لذلك هي شخصية مُحرِكة للنص، وهـذا كان مُرضيا فنيا بالنسبة لي، وجـعـلـنـي أخــلــق نـسـخـة روائـــيـــة لــ«حـتـحـور» تخصني تـعـبـر عــن تـلـك الـلـحـظـة مــن الــزمــن. كنت ألعب مـع الأسـطـورة فـي ملعب أكـبـر، لم تكن مـواصـفـات «حـتـحـور» تؤهلها فقط لأن تـكـون ســــارِدة لـلـنـص، لكنني أيـضـا لاحـظـتُ أنـــهـــا لــــم تـــحـــظَ بــشــعــبــيــة داخــــــل الأســــطــــورة المصرية القديمة، في مقابل «إيـزيـس»، على سبيل المــثــال، وأردت أن أنتصر لها مـن هذا التهميش. هل تؤرِقك مسألة الإصدار المُتباعد لأعمالك > الأدبية؟ - أحـــتـــاج إلــــى وقــــت طـــويـــل كـــي أصــــدّق العالم الـذي أخلقه، كي أصـدق مثلاً أن هناك «بيت سيرنت»، وقد طرحتُ على نفسي هذا الـسـؤال قبل ذلــك، وتصالحتُ مـع واقــع أنني غير مهتمة بمنطق الــكــمّ؛ فما الـــذي يُكرسه لـديّ الكم؟ أريـد أن أكـون راضية عن مستوى أعـــمـــالـــي ولــيــســت لــــدي تــطــلــعــات فـــي مـسـألـة عددها؛ فالحياة منحتني أكثر مما تخيّلت، ورهـــانـــاتـــي الــفــنــيــة والإنـــســـانـــيـــة بــعــيــدة عن تـوقـعـات الـعـالـم الــــذي يـــرى أن الـكـاتـب يجب أن يــكــون لـــه عـمـل روائـــــي جــديــد عـلـى فـتـرات متقاربة، كما أنني أريــد أن أنتصر للحياة، مثل عملي وشغفي بالتعلّم. هــــــل كــــــان لــــذلــــك عــــاقــــة بــــدراســــتــــك لمـــجـــال > «الــســيــكــودرامــا»؟ وهـــل رأيــــتِ أنـــه سـيـكـون مرتبطاً بمشروعِك الأدبي؟ سُــئِــلــت في 2010 - أذكــــر أنــنــي فـــي عـــام إنــجــلــتــرا عـــن مــاهــيــة المــــوضــــوع الـــــذي أكـتـب عنه، استغربت هـذا الـسـؤال، ولكنني عندما تـــأمـــلـــت كـــتـــابـــاتـــي اكــتــشــفــت أنـــنـــي مـهـمـومـة بـــالـــكـــتـــابـــة عــــن لـــحـــظـــات الــــتــــحــــوّل فــــي حــيــاة البشر، وبعد سنوات عندما التحقت بورش ، سُئِلت عن سبب 2013 «السيكودراما»، عام انـضـمـامـي لـهـا؛ فقلت إنـنـي أعـتـقـد أن هناك رابــطــا بــ مـشـروعـي فــي فــن «الـحـكـي» وهــذا المجال، ولكنني بعد سنوات من دخولي هذا المجال ودراسته علميا اكتشفت أنني أصبحت أشهد بنفسي لحظات تحوّل في حياة بشر، وأنني أساعدهم في ذلـك، فربما هناك عامل مشترك فـي فكرة تأمل لحظات التحوّل عبر الكتابة والـسـيـكـودرامـا، ولـكـن السيكودراما تجعلني أشهد ذلك بشكل مباشر، تماما مثل فكرة آنية الاستقبال في المسرح. هل يمكن أن تكتبي عن تجربة السيكودراما > أو حتى استلهامها في عمل روائي؟ - الـبـعـض تــصــوّر أن «مـسـك الــتــل» كـان بها تأثيرات من فكرة السيكودراما، لكن في الحقيقة أنني كتبتُ هذه الرواية قبل التحاقي بـهـذا الـعـالـم. أمــا الـنـص الــروائــي الـــذي أعمل سنوات فبه أعمدة واضحة 4 عليه حاليا منذ من السيكودراما. قـــبـــل الـــســـيـــكـــودرامـــا كـــانـــت لـــــدي رحــلــة طويلة داخـل عالمي الداخلي استغرقت نحو عـــامـــا، لـــذلـــك فــــإن الـــســـنـــوات الـــثـــ ث الـتـي 20 قـضـيـتـهـا فـــي دراســــــة نــظــريــة وعــمــلــيــة لـهـذا المجال أجدها تستحق، حتى لو كنت فكرتُ أنني كان يمكنني خلال هذه الفترة أن أنجز عملاً روائيا فيها. لـديـكِ حـضـور بـــارز فـي مشهد مناقشات > الإصدارات الجديدة، وكذلك في لجان التحكيم، كيف تـقـدريـن حـالـة الـصـخـب الـتـي تــواكــب كـثـافـة النشر خلل السنوات الأخيرة؟ - من وجهة نظري، فإن أبرز انعكاسات عــشــوائــيــة المــشــهــد أن هــــذا الـــكـــم مـــن الأعـــمــال الأدبـــــيـــــة لا يـــتـــنـــاســـب إطــــ قــــا مــــع الـــــقـــــراءات الــنــقــديــة المــــوازيــــة، عـــــ وة عــلــى أنــنــي ألاحـــظ صدور كتابات متسرعة، ربما بسبب سهولة النشر إلى حد ما. أما بالنسبة للجوائز فأنا مع جوائز المجتمع المدني ولا أثق في الجوائز الحكومية. وما يقلقني هو أن يكتب الكاتب وعـــيـــنـــه عـــلـــى شــــــروط أو مـــواصـــفـــات جـــائـــزة بعينها، وألا يـكـون رهــانــه الـكـتـابـة نفسها. أعـرف أنـه جهاد حقيقي للنفس؛ أن يخوض الـكـاتـب هـــذه المـعـركـة مــع نـفـسـه، ولا ينشغل بــــمــــاذا تـــريـــد جــــائــــزة مــعــيــنــة، أو مــــــاذا يـريـد الـــغـــرب، كــل تـلـك الأسـئـلـة يـجـب أن يحسمها الكاتب مع نفسه. وأعتقد أن تجربة الكتب «غير الروائية» مــــن الـــتـــجـــارب الـــتـــي يـــجـــدر تــســلــيــط الـــضـــوء عـلـيـهـا، مــثــل كـــتـــاب إيـــمـــان مـــرســـال «فــــي أثــر عــنــايــات الــــزيــــات» كــــان لـــه دور فـــي دفــــع هــذا الـنـوع مـن الكتابة، وأرى أنـهـا تحمل رحابة فنية كبيرة، وألعابا فنية وحركة في الزمن، وهو لون فني مهجور نسبيا في مقابل كثافة الإنتاج الروائي على سبيل المثال. الثقافة CULTURE 18 Issue 16848 - العدد Monday - 2025/1/13 الاثنين «الرجل الرفيع بالقميص الأبيض» للسوريّ ممدوح عزّام كيف يدمّر وحشالخوف حياة الإنسان؟ تــــــصــــــوّر روايـــــــــــة «الـــــــرجـــــــل الــــرفــــيــــع بـالـقـمـيـص الأبـــيـــض» لــلــروائــي الــســوري ممدوح عزّام مفارقات مستندة إلى عالم داخلي مشحون بالتناقضات والخوف، وتـــســـلـــط الأضــــــــــواء عـــلـــى كـــيـــفـــيـــة تــأثــيــر التجارب الصعبة على تكوين الإنسان؛ حـيـث تـتـحـول كــل مـواجـهـة مــع الــــذات أو الآخــريــن إلـــى فـرصـة للتفكير فــي ماهية الـــحـــيـــاة والــــوجــــود نــفــســه، وتُــــبــــرز كيف يمكن للتجارب القاسية أن تعيد تشكيل الإنـــــســـــان، وتــجــعــلــه يـــــرى ذاتــــــه وواقـــعـــه بوضوح أكبر. يـــشـــيـــر مـــــمـــــدوح عـــــــــزّام فـــــي روايــــتــــه )2024 ، («سرد» و«ممدوحعدوان»، دمشق إلــى أنّ الـخـوف فـي «جمهورية الـخـوف» مـن المشاعر التي يصعب الاعـتـراف بها، ربما بسبب ارتباطه ثقافيا بالضعف أو العجز أو الـجـن... فالشخصيات تخفي خوفها لأنها لا تجرؤ على الاعـتـراف به حتى أمــام أنفسها، ما يكشف التناقض الـداخـلـي الـــذي يـصـارع فيه الإنــســان بين ما يشعر به وما يسمح لنفسه بقبوله أو التعبير عنه. يفتح عنوان الرواية بابا للتأمّل إذ يـبـرز «الـــرجـــل الــرفــيــع» كــصــورة غامضة تُــــلــــقــــي الــــــضــــــوء عــــلــــى الــــبــــعــــد الـــنـــفـــســـي والاجــتــمــاعــي للشخصية المـــحـــوريّـــة، ثـمّ «الـقـمـيـص الأبـــيـــض»، بـمـا يـوحـي بــه من صـفـاء ظــاهــريّ يتناقض مـع التعقيدات الداخلية التي تلاحق الشخصية، وبهذا يــصــبــح نــــافــــذة لــــرؤيــــة الـــعـــالـــم الـــداخـــلـــي لــــلــــشــــخــــصــــيّــــة، فــي تضادّها مع العالم الـــخـــارجـــي المـشـبـع بالفوضى. تـــقـــدّم الـــروايـــة حكاية مركّبة تدور حــــــــــــول شـــخـــصـــيـــة شـــــاكـــــر الــــصــــافــــي، الــــذي دأب عــلــى أن يتجنّب الصدامات الاجـــــــــتـــــــــمـــــــــاعـــــــــيـــــــــة والــــــــســــــــيــــــــاســــــــيــــــــة، ويــــكــــتــــفــــي بـــــــــدوره كــــــــــمــــــــــراقــــــــــب غـــــيـــــر مـرئـيّ، يـتـوارى عن الأنــــــظــــــار ويـــعـــيـــش على هامش الحياة الـيـومـيـة. وهـــو يـجـسّـد نــمــوذج الإنــســان الـــهـــامـــشـــي الــــــذي يـــجـــد نــفــســه قـــســـراً فـي مــركــز الأحـــــداث بـعـد اخـتـطـافـه، لـكـن تلك الهامشية لا تخفي صـراعـاتـه الداخلية الــعــمــيــقــة. شــخــصــيّــتــه تـــتّـــســـم بــالــخــوف المـسـتـمـرّ، مــن الآخـــريـــن، ومـــن ذاتــــه، وهـو بذلك مرآة للإنسان المـأزوم، الذي يحاول فــهــم الــعــالــم مـــن حـــولـــه، لــكــنّــه يـــغـــرق في دوّامــــة الـتـسـاؤلات المـــتـــردّدة فـي مواجهة ذاتـــــــــه؛ مـــــا يـــجـــعـــل وجـــــــــوده مـــزيـــجـــا مـن محاولات الهروب والرغبة في فهم أعمق. هــــذه الـنـقـلـة الإجـــبـــاريّـــة لـلـبـطـل من الهامش إلى المركز تعكس فلسفة الرواية بأنّ الأزمات تجعل حتى أكثر الأشخاص هامشية محوراً لـأحـداث. في كـلّ لحظة يواجه فيها شاكر خاطفيه أو يسترجع ذكرياته، يتحوّل من شخصية هامشية إلى رمز للإنسان الذي يجبر على تحمّل أعباء لم يخترها. المـــديـــنـــة الـــتـــي يــعــيــش فــيــهــا شــاكــر تعكس الـفـوضـى الاجتماعيّة والانـهـيـار الـقـيـمـيّ، بينما الـبـريـة الـتـي يُنقل إليها بـــعـــد اخـــتـــطـــافـــه تـــصـــبـــح رمــــــــزاً لـلـسـجـن والخطف والقهر والإذلال. وفي كل لحظة يجد فيها نفسه وحيداً، يتأمّل في حياته، في خوفه، وفي علاقاته مع محيطه. هـــــنـــــاك طــــيــــف ســـــــــارة يـــحـــضـــر هــنــا وهـــنـــاك لـيـغـيّـر بـعـضـا مـــن أجـــــواء شـاكـر الـسـوداويّــة، وهناك عصام نـوح؛ صديق شاكر، وهو يمثّل صوت الحكمة أو المرآة الفلسفية التي تـتـردد فيها صـدى أفكار شاكر. يظهر عصام في الرواية كشخص يـــفـــكّـــر فـــــي الــــحــــيــــاة والــــــخــــــوف بــطــريــقــة تحليلية، ما يجعله في كثير من الأحيان النقطة التي يلجأ إليها شاكر لفهم ذاته. ومــن خـ لـه، نــرى وجـهـات نظر مختلفة عن الخوف والهامشيّة، وهو ما يضيف طبقة غنية من التأمل في الرواية. أمّــا الخاطفون في الـروايـة فيظلون غامضين، وهــذا الغموض ذاتــه يجعلهم أكثر إثـارة للقلق، لأنّهم يمثلون الجانب المـظـلـم مـــن الـسـلـطـة؛ حـيـث لا تـظـهـر لهم دوافع واضحة، مما يعزّز شعور العبثية الـــــذي يـــســـود الــــروايــــة. هـــم رمـــــوز لـلـقـوى القمعية التي تسيطر على الفرد وتسلبه حرّيته؛ سواء أكانت هذه القوى مرئية أم خفية، ووجودهم يعكس واقعا اجتماعيا يتّسم بالتهديد المستمرّ وعدم الأمان. المكان في الرواية عنصر فاعل يشكل الأحـداث ويؤثر في الشخصيات. المدينة الــتــي يـعـيـش فـيـهـا شــاكــر تــبــدو وكـأنـهـا مسرح للفوضى والانهيار؛ حيث تختلط رموز الحرب بالاختطاف والموت العبثي. إشارات الكاتب إلى مواقع وأماكن محدّدة تشير إلـى الـسـويـداء ومحيطها - مدينة الـكـاتـب - الــتــي تـتـبـدّى كـمـسـرح لأحـــداث الرواية. تقدم الـروايـة الخوف كبطل روائــيّ، وكـــمـــعـــضـــلـــة فـــلـــســـفـــيـــة تـــتـــعـــلـــق بــمــعــنــى الوجود ذاته، وما إن كان بإمكان الإنسان أن يــعــيــش حـــيـــاة كـــامـــلـــة فــــي ظـــــلّ خـــوف دائـــــم. وتـــراهـــا تــتــجــاوز حــــدود الـحـكـايـة الــتــقــلــيــديــة، لــتــطــرح أســئــلــة عـــن طبيعة الخوف وتأثيره على الكينونة البشرية، وكيف أنّه حالة داخلية تتراكم مع الزمن وتعيد تشكيل رؤية الفرد لنفسه وللعالم من حوله. الأحـــداث التي تمرّ بها الشخصية المـــــــــــــــــــحـــــــــــــــــــوريـــــــــــــــــــة تـــــكـــــشـــــف الـــــنـــــقـــــاب عـــــــن قـــــــــوى الـــقـــمـــع والـــعـــنـــف الــعــبــثــيّ، والاخـــتـــطـــاف الـــذي تـــتـــعـــرّض لـــه يـبـدو وكـــأنـــه يـمـثـل عنفا لا مـبـرر لــه، كاشفا عن واقع اجتماعي وســــيــــاســــي يـفـتـقـر إلى المنطقية. هنا، تـــــــطـــــــرح الــــــــروايــــــــة ســــــؤالاً آخـــــر: كيف يــــمــــكــــن لــــ نــــســــان أن يـتـعـامـل مــع عـالـم تهيمن عليه قـوى عمياء؟ هـذا الـسـؤال يعيدنا إلـى طبيعة السلطة في الرواية، التي تتجلّى بصورة مشوّهة موجودة في كلّ تفاصيل الحياة اليومية لشاكر، بدءاً من اختطافه وحتى السجن الذي حاصره. يظهر ممدوح عزّام كيف أنّ الاغتراب الـنـفـسـي انـعـكـاس لـفـقـدان الــتــواصــل مع الذات، وينجح في تقديم تجربة إنسانية تتجاوز الخاصّ إلـى الـعـامّ، وتجعل من التفاصيل غير المألوفة، مثل الاختطاف والـــعـــزلـــة والــــخــــوف، مـــألـــوفـــة فـــي سـيـاق الــــدمــــار المـــعـــمـــم، وأدوات لــلــتــعــبــيــر عـن قــضــايــا أكـــبـــر تـتـعـلـق بـطـبـيـعـة الإنـــســـان والمجتمع، كما يدعو للتفكير في قضايا تتعلق بالخوف، الهامشية، والبحث عن الذات وسط عالم يبدو في أحيان كثيرة غير منطقي وغير عادل. لا يــــعــــدم صــــاحــــب «قــــصــــر المــــطــــر» الأمـل في نهاية روايـتـه، تـراه يبقي رمزاً لــــأمــــل؛ حـــيـــث أضـــــــواء الـــفـــجـــر الــخــافــتــة الــتــي تـرسـلـهـا المــديــنــة مـــن بـعـيـد، تمثّل وعــــداً بــبــدايــة جــديــدة وانــبــعــاثٍ للحياة من وسـط العتمة. والمشهد الأخير، بكلّ تفاصيله، يترك أثراً متجدّداً في القارئ؛ حيث يعكسصراع الإنسان مع الظلامين الـــداخـــلـــي والــــخــــارجــــيّ، لــكــنــه يـــؤكّـــد في الوقت ذاته أنّ بارقة الأمل تبقى حاضرة وحـــيّـــة، ولــــو فـــي صـــــورة أضـــــواء خـافـتـة تـلـوح فــي الأفـــق الـبـعـيـد، لتبعث رسـالـة عن قـدرة الإنسان على التمسّك بالحياة والــــنــــور، حــتــى فـــي أشـــــدّ لـحـظـاتـه يـأسـا وقهراً وظلاما. هيثم حسين صاحبة «مسك التل» تقول إنها عاشت أكثر من حياة سحر الموجي: إنني مهمومة بالكتابة عن لحظات التحوّل فيحياة البشر القاهرة: منى أبو النصر سحر الموجي تشغلني رؤية العالم بعيون نساء، وأعتقد أن هذا سؤال كبير، وهو سؤال الأدب نفسه
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky