الثقافة CULTURE 18 Issue 16843 - العدد Wednesday - 2025/1/8 األربعاء صيغت على شكل مجسَّمات حيوانية داليات ودبابيس جنائزية من اإلمارات كـشـفـت أعـــمـــال الـتـنـقـيـب فـــي اإلمــــــارات العربية املتحدة عن سلسلة كبيرة من املدافن األثرية حوت كثيرًا من الحلي واملجوهرات املـــصـــوغـــة مـــن الـــذهـــب والـــفـــضـــة والــنــحــاس والبرونز والـرصـاص. تبرز في هـذا الحقل مـجـمـوعـة ذات أشـــكـــال حــيــوانــيــة، صُــنـعـت مـــن سـبـيـكـة اإللـــكـــتـــروم املــكــونــة مـــن الـذهـب والفضة، على شكل داليـات أو دبابيس من نوع «البروش»، رافقت أصحابها الراقدين في مثواهم األخير. تـعـود هــذه الحلي إلــى األلـفـيـة الثانية قــبــل املـــيـــاد، وتــشــهــد لـتـقـلـيـد فـــنّـــي مـحـلّــي خاص، يتجلّى في تكوين أشكالها املجسّمة كما في صياغتها املتقنة. أشهرها قطعة من محفوظات متحف رأس الـخـيـمـة الـــوطـــنـــي، مــصــدرهــا مـقـبـرة تـــقـــع فـــــي مـــنـــطـــقـــة ضـــــايـــــة، شــــمــــال مــديــنــة الــــرمــــس الــــتــــي تـــشـــكـــل فــــي زمـــنـــنـــا املـــفـــتـــاح الشمالي إلمـــارة رأس الخيمة. كشفت عن هـــذه املـقـبـرة بـعـثـة أملـانـيـة خـــال الـسـنـوات األخيرة من ثمانينات املاضي، وتبي أنها 4.4 أمتار، وعرضها 9 مقبرة يبلغ طولها أمـتـار، وقيل يومها إنها أكبر املقابر التي تـم الكشف عنها في رأس الخيمة، وتعود إلـــى األلـــف الـثـانـي قـبـل املــيــاد، وقـــد فقدت كثيرًا من مكونات أثاثها بسبب تعرّضها ألعــمــال الـسـرقـة والـنـهـب، واســتــخــدام جـزء كبير من مساحتها كمأوى لألغنام. حوى هـــذا املــدفــن مجموعة مــن الـقـطـع الفخارية واألوانـي الناعمة، إلى جانب مجموعة من األدوات املــعــدنــيــة، ومـجـمـوعـة مـــن الحلي املــتــعــدّدة األنـــــواع. وضــمّــت هـــذه املجموعة من الحلي قطعًا بدا أنها داليات تجمع بي الـذهـب والـفـضـة والـكـهـرمـان، صيغت على شكل مجسّمات حيوانية تبعًا لنسق واحد وجامع. أجمل هذه الداليات وأكملها، دالية هي كذلك أشهرها، وقد احتلّت صورتها غلف كتاب خاص بآثار دولـة اإلمــارات العربية، نــشــره املــــؤرخ مـحـمـد عـبـد الـنـعـيـم فــي عـام ضمن سلسة «آثـــار مـا قبل التاريخ 1999 وفـجـره فـي شبه الـجـزيـرة الـعـربـيـة». يبلغ سنتيمترات، وعرضها 5 طول هذه القطعة سنتيمترًا، وتمثّل حيواني من فصيلة 11 الكلبيّات، يصعب تحديد جنسهما بدقة. صيغ هــذان الحيوانان فـي قالب تحويري زخــــرفــــي صــــــرف؛ حـــيـــث ظـــهـــرا مــتــواجــهــن وملتصقي بشكل معاكس، أي الظهر مقابل قـــوائـــم مـنـتـصـبـة، مـرصـوفـة 6 الــظــهــر، مـــع عـمـوديـ بشكل تـعـادلـي مـتـجـانـس. يشكّل جـــســـدا هـــذيـــن الـــحـــيـــوانـــن مـــســـاحـــة أفـقـيـة كتل بيضاوية ناتئة. تعلو 4 واحدة تزينها هـــذه املــســاحــة األفــقــيــة شـبـكـة مـــن األســنــان املـرصـوفـة كـأسـنـان املـشـط، ويـتـوسـط هذه الشبكة ذيل الحيواني امللتفّي على شكل دائرتي لولبيتي مرتفعتي نحو األعلى. يتكرّر هـذا الشكل في قطعة أخـرى من مقبرة ضاية وصلت بشكل مجتزأ لألسف. يحضر الحيوانان في تكوين مماثل، غير أن بدنيهما يــبــدوان هنا منفصلي بشكل جـــلـــي، وتـــأخـــذ شــبــكــة األســــنــــان املــرصــوفــة تـــشـــكـــيـــا مـــــغـــــايـــــرًا، مـــــع بــــــــروز الــــدائــــرتــــن اللولبيتي املتقابلتي في وسطها. حافظ أحـد الحيواني على رأسـه وطـرف قائمتي مــن قــوائــمــه، وفـقـد اآلخـــر الــجــزء األكــبــر من بـدنـه. ويـبـدو هــذا الـــرأس أشبه بــرأس ذئب يــفــتــح شـــدقـــي فـــمـــه، كــاشــفــ عـــن نـــابـــن من أنيابه. تُمثّل هذه القطعة شكل من أشكال متنوعة تظهر في كل حلية من هذه الحلي التي تتبع نسقًا جامعًا. خرجت بعضها من مقابر تقع ضمن أراضـي تتبع اليوم إمارة رأس الــخــيــمــة، وخـــــرج الــبــعــض اآلخـــــر من مقابر تقع خارج هذه اإلمارة، ومنها مقبرة على الـحـدود الشرقية لـواحـة الـقَــطَــارَة، في مدينة العي التابعة إلمارة أبوظبي. كــــشــــفــــت أعــــــمــــــال الــــتــــنــــقــــيــــب فــــــي هــــذه املـقـبـرة عــن مجموعة كـبـيـرة مــن األسـلـحـة، ومـــــجـــــمـــــوعـــــات مـــــــن األوانـــــــــــــــي الــــحــــجــــريــــة والفخارية، دخل القسم األكبر منها متحف الـــعـــن. إلــــى جـــانـــب هــــذه الــقــطــع املــتــنــوعــة، تحضر مجموعة مـن الحلي واملـجـوهـرات، مــنــهــا بـــضـــع داليــــــــات تــشــهــد لـــشـــيـــوع هـــذا الطراز املحلي في هذه الناحية من الجزيرة العربية. حافظت إحـــدى داليـــات واحـــة الـقَــطَــارَة على تكوينها بشكل شبه كامل، واللفت أن هذا التكوين يماثل بشكل كبير تكوين دالية ضاية الذائعة الصيت. يلتصق الحيوانان، وتبدو مساحة بدنيهما املتشابكي واحدة. فـــي املـــقـــابـــل، تـــبـــدو مـــامـــح رأســيــهــمــا أكـثـر وضـوحـ، وتوحي بأنها تجمع بي الذئب والــنــســر، مـمـا يعطي هـــذا الــحــيــوان طابعًا خـرافـيـ . يظهر هــذا الـــرأس كـذلـك فـي قطعة معروضة في مركز مليحة لآلثار، مصدرها مـــقـــبـــرة تـــقـــع فــــي جـــبـــل الـــبُـــحَـــيْـــص املـــجـــاور لبلدة املــدام في املنطقة الوسطى من إمـارة الـشـارقـة. وفقًا للتقليد السائد، تمثل هذه الـداليـة حيواني مقرني، يقفان في اتجاه معاكس، ظهرًا إلى ظهر، مع ذنَبي ملتفي إلـــى األعــلــى فــي الـــوســـط. ضـــاع أحـــد هذين الـــحـــيـــوانـــن املـــقـــرنـــن بــشــكــل كـــامـــل، وبـقـي اآلخر، وتكشف صياغته عن دقة كبيرة في تجسيم مفاصل البدن وفقًا لبناء تشريحي متماسك. يــصــعــب تـــحـــديـــد وظـــيـــفـــة هـــــذه الـحـلـي بـــدقـــة، واألكـــيـــد أنــهــا جــنــائــزيــة، كـمـا يشير حضورها في املقابر بشكل دائم. تعود هذه املقابر إلـى عصر أطلق عليه البحاثة اسم عـصـر وادي ســـوق، نسبة إلـــى مـوقـع أثــري كُشف عنه بي مدينة العي وخليج عُمان. أظهرت دراســة هـذا املوقع تحوّال كبيرًا في طــرق االستيطان املتبعة فـي شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، خلل الفترة املمتدة قبل امليلد، كما أظهرت 1600 إلى 2000 من تـحـوّال فـي النسق والـطـرز الفنية. وظهرت مـــامـــح هــــذه الـــتـــحـــوالت فـــي مـــواقـــع أخـــرى متعدّدة من اإلمارات. تشكل الحلي ذات الــرؤوس الحيوانية علمة من علمات هذا التحوّل الفني الذي تــعــددت صــــوره وأشــكــالــه فــي ذلـــك الـعـصـر. تــحــمــل هـــــذه الـــحـــلـــي كـــمـــا يـــبـــدو أثـــــر وادي السند، غير أنها تتميز بطابع محلي خاص، ويتجلَّى هذا الطابع الخاص في تجسيمها املتقن، كما في صياغتها املرهفة. قطعتان من رأس الخيمة تقابلهما قطعة من أبوظبي وأخرى من الشارقة محمود الزيباوي عن بيت العائلة وحائط الورود اللذين كسرت ظهرهما الحرب «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعالقة الشرق والغرب محاولة يائسة لترميم منزل مهدم عن دار «بيت الياسمي» للنشر بالقاهرة، صدرت املـجـمـوعـة الـقـصـصـيـة «شــجــرة الـصـفـصـاف» للكاتب محمد املـلـيـجـي، الـتـي تـتـنـاول عـــددًا مــن املـوضـوعـات املـــتـــنـــوعـــة مـــثـــل عـــاقـــة األب بـــأبـــنـــائـــه، وخــصــوصــيــة املـــوروث الشعبي لـدى املصريي، لكن املـؤلـف يتوقف بشكل خاص أمـام العلقة بي الشرق والغرب، ويقدم مقاربة جديدة لتلك العلقة امللتبسة. ويعتمد املؤلف في تلك املقاربة على التقاط مواقف إنسانية بسيطة مـــن الــحــيــاة الــيــومــيــة ملــصــريــن يـعـيـشـون بــالــواليــات املتحدة وســط زحـــام الحياة اليومية، لكنها تنطوي على مواقف عميقة الداللة من ناحية أثر الغربة روحيًا على األفراد، وكيف يمكن أن تكون الهجرة ذات أسباب قسرية. هكذا يجد الـقـارئ نفسه يتابع وسـط أحـداث متلحقة وإيقاع سريع مأساة تاجر األقمشة الذي وقع أسـيـرًا ألبنائه فـي الــخــارج، كما يجد نفسه فـجـأة في قلب مدينة كليفلند بي عتاة املجرمي. اتـــســـمـــت قـــصـــص املـــجـــمـــوعـــة بـــســـاســـة الـــســـرد وبـــســـاطـــة الـلـغـة وإتــــقــــان الــحــبــكــة املــحــكــمــة مــــع حـس إنساني طــاغ فـي تصوير الشخصيات، والكشف عن خفاياها النفسية، واحتياجاتها الروحانية العميقة، ليكتشف القارئ في النهاية أن حاجات البشر للحنو والــتــواصــل هــى نفسها مهما اختلفت الـجـغـرافـيـا أو الثقافة. ومن أجواء املجموعة القصصية نقرأ: «كان الجو في شوارع مدينة لكنجستون بوالية كنتاكي ممطرًا باردًا تهب فيه الرياح، قوية أحيانًا ولعوبًا أحيانًا أخرى، فتعبث بفروع األشجار الضخمة التي تعرت من أوراقـهـا في فصل الـخـريـف. هــذه هـي طبيعة الجو فـي هــذه الـبـاد بنهاية الشتاء، تسمع رعد السحب الغاضبة في السماء وترى البرق يشق ظلمة الليل بل هوادة، حيث ينسحب هذا الفصل متلكئًا ويعيش الناس تقلبات يومية شديدة يعلن عدم رضاه بالرحيل. يستقبل الناس الربيع بحفاوة بالغة وهو يتسلل معلنًا عــن نفسه عـبـر أزهــــار الــلــوزيــات وانــبــثــاق األوراق الـخـضـراء الــولــيــدة عـلـى فــــروع األشـــجـــار الـخـشـبـيـة الــتــي كــانــت بـاألمـس جافة جـرداء، تحتفل بقدومه أفواج من الطيور املهاجرة وهي تقفز بني األغصان وتمأل كل صباح بألحانها الشجية. وسط هذا املهرجان السنوي بينما كنت عائدًا من عملي بالجامعة حيث تكون حركة السيارات بطيئة نسبيًا شاهدت هناك على الرصيف املجاور رجل مسنًا في عمر والدي له ملمح مصرية صميمة ويـرتـدي حلة من الصوف األزرق املقلم ويلف رأسه بقبعة مصرية الهوية (كلبوش) وعلى وجهه نظارة سميكة. كــان الـرجـل يسير بـخـطـوات بطيئة وكـأنـه ال يـريـد الـوصـول، واضعًا يديه خلف ظهره مستغرقًا في التفكير العميق دون أن يهتم بمن حوله. من النادر أن ترى واحدًا في هذه املدينة يسير على قدميه هكذا في طريق عام بهذه الطريقة وفي هذا الجو البارد. انحرفت بسيارتي إلى اليمني نحوه وعندما اقتربت منه أبطأت السير وناديته: - السلم عليكم، تفضل معي يا حـاج وسأوصلك إلى أي مكان ترغب. اقترب الرجل مني أكثر ليدقق في ملمحي وانثنى قليل وهو ينظر إلي وقال: - أريـد الذهاب إلـى مصر، تقدر توصلني أم أن املشوار طويل؟». حـن كتبت فـي الصيف الفائت عـن البيوت التي لم تعد مــاذًا لساكنيها، والتي تبحث عبثًا عمن يعصمها مـن هــول الـحـروب وحممها املتساقطة، لـم تكن املواجهة مـــع الـــعـــدو فـــي لــبــنــان قـــد تــحــولــت إلــــى مـــنـــازلـــة مـفـتـوحـة ومنعدمة الضوابط واملعايير. وإذا كان املنزل الذي وُلدت فـيـه مــع األشـــقـــاء والـشـقـيـقـات لــم يـصـب حـتـى ذلـــك الحي بــأذى مباشر، فقد بـدت الكتابة عن املـنـازل املهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بـدت من بعض وجوهها تضليل للكوابيس املستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة باملناديل الحمراء التي يستخدمها املصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي. على أن خوفي املتعاظم من فقدان املنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضربًا من القلق املرَضي أو الفوبيا املجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات املـواجـهـة الـدائـمـة مـع العدو، وهــو الـــذي نــال فـي كـل حــرب سلفت حصته مـن التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقي التي أنتمي إليها بالوالدة والنشأة، ال تقع على الخط املتاخم للحدود الـفـلـسـطـيـنـيـة الــشــمــالــيــة، ولـــكـــن الـصـحـيـح أيـــضـــ هـــو أن املسافة الفاصلة بي القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي مــن مـديـنـة صــــور، واملــطــلــة مــن األعــلــى عـلـى املــتــوســط، ال تـتـجـاوز الـكـيـلـومـتـرات الـعـشـرة، بـمـا يجعلها فــي املـرمـى األشد هوال للنيران اإلسرائيلية املتجددة مع كل حرب. وإذا كــانــت لـلـجـمـال تكلفته الــبــاهــظــة، ولــكــل نعمة نقمتها املقابلة، فقد كان على زبقي أن تدفع الضريبتي مـــعـــ ، ضــريــبــة جــمــالــهــا األخـــــــاذ، وهــــي املـــتـــرعـــة بـــاألوديـــة واألشــجــار والتفتح املشمس لـ يـام، واملـحـاطـة بأرخبيل الـــيـــنـــابـــيـــع املــــتــــحــــدرة مــــن أعــــالــــي الـــجـــلـــيـــل الـفـلـسـطـيـنـي، والـــضـــريـــبـــة املــــوازيــــة لــجــغــرافــيــا األعــــالــــي الـــتـــي تجعلها مثارًا الهتمام الـعـدو، ودريـئـة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. وألن منزل العائلة هو األعلى بي بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب األوفر مــن الــقــذائــف، بحيث أخـــذت املـواجـهـة غـيـر املتكافئة بي مواقع العدو وطائراته املغيرة، وبي جدران املنزل العزالء، طابع املواجهة الثنائية والصراع «الشخصي». واآلن وأنـــــا أقــــف عــلــى ركـــــام املـــنـــزل الـــــذي أسـقـطـتـه للمرة الثانية صـواريـخ الـطـائـرات، أتلفت بشغاف القلب بـاتـجـاه املـاضـي، وأشــعــر أن فــي ذلـــك الـبـيـت الـــذي نشأت بي جنباته، نوعًا من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الـــدوام بنواتي األولـــى، ويـحـوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائـم حول أطيافه وأصدائه وظلله التي ال تغرب. أقول ذلك وأنا أحـاول أن أنتشل من بي األنقاض، أطياف النسخة األولـى من املنزل الـذي ولـدت وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسـمـنـتـيـة أخــــرى تـــتـــواءم مــع تـطـلـبـات ذريــتــه اآلخــــذة في التكاثر في أواخــر خمسينات القرن املنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملمح العالم القديم، هو الحضور الضدي ألشيائه وكائناته. ففي حي كانت الشموس تسلط على أديــم الـنـهـارات كـل مـا أوتيتْه مـن سـطـوع، فتضيء بشكل مبهر ملعب املاضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج املنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي األشد حـلـكـة بـتـوفـيـر مـؤونـتـي مــن األشـــبـــاح؛ حـيـث املـــوجـــودات لـــم تــكــن تــكــف فـــي ضــــوء الـــســـراج الـــخـــافـــت، عـــن مضاعفة أحجامها األصلية وظللها املتراقصة على الجدران. وفي حي أن شجرة الـدراق املزروعة في فناء املنزل الخارجي، هي أكثر ما أتـذكـره من حواضر النباتات، فـإن األصــوات املختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته األليفة والبرية، كـــانـــا يـخـتـلـطـان بـــأزيـــز الــــرصــــاص الـــــذي يــخــتــرق بشكل غـــامـــض ســتــائــر الــظــلــمــات، والـــــذي عـــرفـــت فـيـمـا بــعــد أنــه رصـاص املواجهات املتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بي رجال الـدرك وبي الطفار املطلوبي للعدالة والخارجي على القانون. وإذا كـانـت الـنـسـخـة األولــــى مــن الـبـيـت قــد تعرضت لـإزالـة ألسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتـزايـد أفـــراد العائلة، فـإن النسخة الثانية التي تـعـرضـت للقصف اإلسـرائـيـلـي الــشــرس عـلـى الـقـريـة عـام ، هي التي ترك تعرُّضها للزالة والهدم، أبلغ ندوب 2006 النفس وأكثرها مضاضة وعمقًا، فذلك املنزل اإلسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذًا في مــدارس صور، وطالبًا جامعيًا في بيروت، ومن ثم مقيمًا بي ظهرانيها في فترة الحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل املتعاقبة، بما جعله خزانًا للذكريات، تتراوح دائرته بي تفتح الشرايي وقصص الحب األولى وأعــــراض الـكـتـابـة املـبـكـرة، والـطـقـوس الـــدوريـــة املتعاقبة ملواسم التبغ. ومـع وصــول املــدة الزمنية الفاصلة بـن هـدم البيت وإعـــادة بنائه إلـى حــدود السنتي، فـإن أبـي املثخن بـآالم النزوح والفقد، لم يعد قادرًا آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صـور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مــع أمـــي إلـــى الــقــريــة، واإلقـــامـــة فــي أحـــد املـــنـــازل الـقـريـبـة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد املتعب على أخــي األصـغـر بـاإلقـامـة فـي الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة املرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته األخـيـرة محاطًا بأبنائه وأحـفـاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه. كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام األمور، وهـــي الــتــي تـصـغـر أبـــي بـعـقـد مـــن الـــزمـــن، ولـــذلـــك لـــم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلل التماهي مـــع زوجـــهـــا الــــراحــــل، إقـــنـــاع نـفـسـهـا بــأنــهــا وجـــهـــه اآلخـــر وامتداده الرمزي في املكان واملكانة والــدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية واألمان وصــفــاء الــدهــر. وهـــو مــا بـــدت تعبيراته جلية تـمـامـ من خلل تحويل شرفة املنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت فـي تجميله وزيـنـت جـدرانـه باللوحات، إلـى مسرح دائـم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها األقربي. غير أن أي كتابة عن املنزل املهدم، ال يمكن أن تستقيم دون اإلشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والـورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والــحــدب، بحيث كــان مـــرور يديها على تـــراب األحـــواض، كـافـيـ بـحـد ذاتـــه ألن تنهض مـن تلقائها شـتـات الحبق وســيــقــان املــــردكــــوش وأقـــــام الــــزهــــور. ومــــع أن األمـــــراض املتفاقمة لـم تكف عـن مداهمتها بشكل مطرد إثــر رحيل األب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزال قديمًا مجاورًا لبيت العائلة، كانت قـد أقنعت أبــي بـشـرائـه، قبل أن تُــحــوِّل واجـهـتـه األمامية بشكل تـدريـجـي إلـــى جــداريــة مــن الـــــورود، بـــات يقصدها الكثيرون في وقت الحـق، بهدف التقاط الصور أو املتعة الـبـصـريـة املـــجـــردة. فــي أواخــــر سبتمبر (أيـــلـــول) مــن عـام ، وقبيل اندالع «طوفان األقصى» بأيام قليلة، رحلت 2023 أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الـدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلثة، ومـعـه حـائـط الـــورود املــجــاور، يتعرضان للنهيار تحت القصف الـــذي ال يـرحـم لـطـيـران الــعــدو. ومــع أنـهـا لـم تكن على يقي كامل بأن اململكة الصغيرة التي رعتها باألهداب وحبة القلب، سـتـؤول بعد غيابها إلـى ركــام محقق، فقد بـــدا رحـيـلـهـا عــن تـسـعـة وثـمـانـن عــامــ ، بـمـثـابـة اسـتـبـاق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعًا من عقد رضائي بينها وبي املوت. أما البيت املخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصنًا بما تبقى لـه مـن مــدَّخــرات املـقـاومـة، قبل أن يـوقِّــع بأكثر أنواع الدموع صلبة وكبرياء على وثيقة استسلمه. القاهرة: «الشرق األوسط» شوقي بزيع صورة المنزل الذي هدمه القصف اإلسرائيلي اآلن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي
RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==