issue16841

OPINION الرأي 12 Issue 16841 - العدد Monday - 2025/1/6 االثنني وكيل التوزيع وكيل االشتراكات الوكيل اإلعالني المكـــــــاتــب المقر الرئيسي 10th Floor Building7 Chiswick Business Park 566 Chiswick High Road London W4 5YG United Kingdom Tel: +4420 78318181 Fax: +4420 78312310 www.aawsat.com [email protected] املركز الرئيسي: ٢٢٣٠٤ : ص.ب ١١٤٩٥ الرياض +9661121128000 : هاتف +966114429555 : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: www.arabmediaco.com هاتف مجاني: 800-2440076 املركز الرئيسي: ٦٢١١٦ : ص.ب ١١٥٨٥ الرياض +966112128000 : هاتف +9661٢١٢١٧٧٤ : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: saudi-disribution.com وكيل التوزيع فى اإلمارات: شركة االمارات للطباعة والنشر الريـــــاض Riyadh +9661 12128000 +9661 14401440 الكويت Kuwait +965 2997799 +965 2997800 الرباط Rabat +212 37262616 +212 37260300 جدة Jeddah +9661 26511333 +9661 26576159 دبي Dubai +9714 3916500 +9714 3918353 واشنطن Washington DC +1 2026628825 +1 2026628823 املدينة املنورة Madina +9664 8340271 +9664 8396618 القاهرة Cairo +202 37492996 +202 37492884 بيروت Beirut +9611 549002 +9611 549001 الدمام Dammam +96613 8353838 +96613 8354918 الخرطوم Khartoum +2491 83778301 +2491 83785987 عمــــان Amman +9626 5539409 +9626 5537103 صحيفة العرب األولى تشكر أصحاب الدعوات الصحافية املوجهة إليها وتعلمهم بأنها وحدها املسؤولة عن تغطية تكاليف الرحلة كاملة ملحرريها وكتابها ومراسليها ومصوريها، راجية منهم عدم تقديم أي هدايا لهم، فخير هدية هي تزويد فريقها الصحافي باملعلومات الوافية لتأدية مهمته بأمانة وموضوعية. Advertising: Saudi Research and Media Group KSA +966 11 2940500 UAE +971 4 3916500 Email: [email protected] srmg.com المشهد في المشرق العربي ناصيف حتي كـــيـــف يــــبــــدو املـــشـــهـــد فـــــي املـــشـــرق العربي فـي مطلع هــذا الـعـام، غــداة عام وأكثر من الحرب اإلسرائيلية على غزة ولبنان. لــبــنــان الــــذي زج فـــي الـــحـــرب تحت عنوان «استراتيجية وحدة الساحات»، ثم تم القبول بفك االرتباط بني الساحات عــنــد الـــتـــوصُّـــل إلــــى اتـــفـــاق وقــــف إطـــاق الــنــار الـــذي يُــفــتــرَض اسـتـكـمـال تنفيذه مـن هــذا الشهر، وهنالك شكوك 27 فـي كبيرة بـذلـك. أمــا غــزة فما زالـــت الحرب اإلســـرائـــيـــلـــيـــة الــــهــــادفــــة إلـــــى الــســيــطــرة العسكرية واألمنية الكلية على القطاع مستمرة ولو انخفضت حدتها مقارنة مع مرحلة بداياتها. بينما املفاوضات غير املباشرة للتوصُّل إلى وقف إطلق الـنـار لـم تــؤد إلـى أي نتيجة حتى اآلن. وجــاء السقوط املــدوي للنظام السوري لــيــشــكِّــل الــتــغــيــيــر األســــاســــي مـــن حيث طبيعته وانعكاساته املختلفة، املباشرة وغـــيـــر املــــبــــاشــــرة، عـــلـــى ســــوريــــا وعــلــى اإلقـــلـــيـــم الــــشــــرق أوســــطــــي. انــعــكــاســات مــبــاشــرة ومستقبلية سيحكمها دون شـــــك املـــــســـــار الـــــــــذي ســــتــــأخــــذه عــمــلــيــة التغيير في سوريا على األصعدة كافة. أزمـــات وحـــروب وتغيرات تؤثر وتتأثر بعضها بالبعض اآلخــر بشكل مباشر أو غير مباشر: إعادة تكوين السلطة في لبنان من خـال انتخاب رئيس وتشكيل حكومة فـــاعـــلـــة، شـــــرط أكـــثـــر مــــن ضـــــــروري ولـــو غير كــاف لعملية اإلنـقـاذ الوطني التي طـال انتظارها. العملية التي تستدعي مــشــروعــا إصــاحــيــا شـــامـــاً، وخـريـطـة طريق لذلك، واستعادة الـدولـة لدورها الـــــذي كــــان مــســلــوبــا ومـــعـــطـــا ملصلحة منطق الدويلة والطائفيات السياسية املـتـحـكـمـة فـــي الــســلــطــة تــحــت عــنــاويــن مختلفة. هـذا باختصار التحدي الـذي يعيشه لـبـنـان لـتـافـي الــتــحــول، إذا ما استمرَّت األمــور على ما هي عليه، إلى «دولة فاشلة». وعــلــى صـعـيـد آخــــر، فـــإن اسـتـمـرار الـحـرب املفتوحة فـي الــزمــان على غـزة، وازديــــــاد حــمــاوة الـتـصـعـيـد فــي الضفة الغربية، مع تسارع سياسة الضم التي تتبعها إسرائيل دون أي اعتراض فاعل مـــن الـــقـــوى الـــدولـــيـــة املــــؤثــــرة، واملـعـنـيـة بالعمل عـلـى احــتــرام الـــقـــرارات الـدولـيـة ذات الـصـلـة، الـتـي أسـهـمـت هـــذه الـقـوى فــــي بـــلـــورتـــهـــا فــــي مـــجـــلـــس األمــــــــن، كـل ذلـــك سـيـسـرع مـــن الـــوصـــول إلـــى لحظة االنـــفـــجـــار هــــذا الــــعــــام: املـــطـــلـــوب إعــــادة إحــيــاء عملية الــســام عـلـى أســــاس حل الــــدولــــتــــ . لـــيـــس ذلـــــك بــــاألمــــر الــســهــل، خاصة مع السلطة الحالية القائمة في إسرائيل. ولكنه يبقى الحل الضروري. إعـــادة إحيائه تستدعي مـبـادرة عربية أساسا نحو القوى الدولية الفاعلة في هــــذا الـــخـــصـــوص لـــبـــلـــورة خــطــة عملية مــشــتــركــة تــعــيــد إحـــيـــاء عـمـلـيـة الــســام بشكل فاعل. البديل عن ذلك يتمثل في الفوضى والتوترات والحروب املختلفة األشــــكــــال واألهـــــــــداف، الـــتـــي تـــوظـــف في «لعبة األمم» في املنطقة. أما فيما يتعلق بسوريا ذات املوقع الجيوستراتيجي املؤثر في اإلقليم، فإن على السلطة االنتقالية الحالية أن تعمل بـالـطـبـع عــلــى طــمــأنــة مــبــكــرة لــلــخــارج، خاصة العربي. الطمأنة على أن سوريا املـسـتـقـبـل لـــن تــكــون مــنــصــة أو أداة أو طــرفــا لـلـتـدخـل فــي شــــؤون اآلخــــر باسم آيديولوجيات أو استراتيجيات كبرى. لكن املطلوب أيضا طمأنة الداخل؛ أبناء الـبـيـت الـوطـنـي بـتـنـوعـه، واحـــتـــرام ذلـك التنوع باملمارسة، عشية انطلق مسار الــــحــــوار الـــوطـــنـــي. الــــحــــوار الـــــذي يجب أن يــكــون جــامــعــا إلعـــــادة بــنــاء الـــدولـــة، وإقـــامـــة سـلـطـة جـــديـــدة. سـلـطـة تستند إلـى حكم القانون، وتفعيل املؤسسات، وتعزيز مفهوم املواطنة. تحديات ليس مــن الـسـهـل الـنـجـاح فــي الـتـغـلـب عليها ألسباب مختلفة ومتعددة، خاصة في ظـــل اســـتـــمـــرار «الــــصــــراع عــلــى ســـوريـــا» (عـــنـــوان كــتــاب بـاتـريـك سـيـل الـشـهـيـر). يــتــغــيــر الــــاعــــبــــون وقـــــد تــتــغــيــر بـعـض أساليبهم، ولكن ال تتغير اللعبة. لعبة صراع النفوذ الذي تعززه جاذبية املوقع في الجغرافيا السياسية لإلقليم. هـــــذه الـــقـــضـــايـــا الــــثــــاث ســتُــشــكِّــل، ولـو بـدرجـات مختلفة بالطبع، قضايا رئـيـسـيـة فـــي «لــعــبــة األمـــــم» فـــي الــشــرق األوسـط. تحديات تستدعي تبلور دور عربي يقوم على انخراط فاعل في العمل على إنجاح األهـداف املطلوب تحقيقها في هذه القضايا. أهداف إذا ما تحققت فإنها تسهم بشكل كبير في االستقرار اإلقليمي. يتغيّر الالعبون وقد تتغيّر بعض أساليبهم ولكن ال تتغيّر اللعبة عواقب النكران واللهو السياسي... مرة أخرى في املقال السابق، تحدثت عن النكران واللهو السياسي في لبنان؛ توصيفا لحال اللبنانيني وسط عواصف املنطقة، دون التطرق إلـى نتائجها؛ خصوصا أن البلد تواجه مع بداية السنة الجديدة أربعة استحقاقات مصيرية مترابطة، سيؤدي الفشل فيها لتداعيات وخيمة على املستقبل، وربما على الكيان. أول االستحقاقات هو انتخاب رئيس للجمهورية بعد فراغ دام أكثر من سنتني، وموعده التاسع من يناير (كانون الثاني). ماذا لو فشل نواب األمة في انتخاب رئيس؟ الذيول املتأتية ستكون كارثية؛ ليس بسبب مساوئ الفراغ فحسب؛ بـــل ألنـــه سـيـكـون بـمـثـابـة إشـــهـــار ملـــا بـــات شـبـه مــؤكــد لـدى املــراجــع الرئيسة العربية واألجـنـبـيـة، وبـخـاصـة الصديقة للبنان، بعدم قدرة الطائفة املارونية بخاصة، واملسيحيني بعامة، على إيصال شخصية مارونية إلـى سُــدَّة الرئاسة، بفعل عوامل بـات تـردادهـا ممل وممجوجا، وتعزيز الـرأي القائل بعجز اللبنانيني عن إدارة شؤونهم بأنفسهم. مـــن جـــهـــة، يــفــتــح ذلــــك الـــبـــاب لــســيــل مـــن األطــــروحــــات والتدخلت األجنبية، في وقت تتجه فيه األنظار إلى قضايا أكثر إلحاحا وأهمية في املنطقة، أولها املتغيرات في سوريا ومستقبلها بعد سقوط نظام األسد وتداعياته على اإلقليم. ومــن جهة أخـــرى، سيظهر جليا أنــه ال مساحة متاحة في لـبـنـان لــعــودة الـــدولـــة، ليبقى الـتـعـاطـي مـعـه مقتصرًا على أشخاص وليس على ممثلي مؤسسات شرعية. 1701 االســتــحــقــاق الــثــانــي هـــو تـنـفـيـذ الـــقـــرار األمـــمـــي بـمـنـدرجـاتـه كــافــة، مــع اقــتــراب انـتـهـاء مهلة الـسـتـ يـومـا؛ حسب اتفاق وقـف إطــاق النار بني إسرائيل و«حــزب الله» يـومـا ولـــم يـبـاشـر الجانب 27 بـرعـايـة أمـيـركـيـة. بـقـي نـحـو الــلــبــنــانــي الــتــنــفــيــذ؛ ال جـــنـــوب الــلــيــطــانــي وال شــمــالــه، وال مـــؤشـــرات تـوحـي بــالــقــدرة عـلـى ذلـــك أو الــرغــبــة، أو االثـنـ مـــعـــا. كـــل تــصــريــحــات قـــيـــاديِّـــي «حـــــزب الـــلـــه» تـــوحـــي بـأنـه يتعامل مع االتفاق كخطوة تكتيكية مؤقتة، أكثر من كونه بابا لتسوية دائمة، وأن عليه «إخفاء املظاهر املسلحة في جنوب الليطاني»، وأنــه يستطيع التوفيق بـ «اإلخـفـاء» و«الحفاظ» على السلح. كل ذلك سيؤدي -بحده األدنى- إلى بقاء االحتلل للقرى الجنوبية الحدودية، وبحدِّه األقصى إلى عودة الحرب التي قد ال تقتصر على ما تبقى من بنية «حــزب الـلـه»؛ بـل تطول منشآت حكومية وبُــنـى تحتية في مختلف املـنـاطـق اللبنانية، كونها لـم تحقق أهـدافـهـا؛ أي خروج الحزب من جنوب نهر الليطاني، وعودة سكان بلدات وقرى شمال إسرائيل إلى بيوتهم. في الحالتني، سيستعيد «حزب الله» حجة استمرار املقاومة للتحرير. يُدخلنا 1701 تلكؤ الـدولـة اللبنانية فـي تنفيذ الـقـرار إلــى االستحقاق الـثـالـث، وهــو إمكانية مـعـاودة املفاوضات األمـيـركـيـة- اإليــرانــيــة ونـتـائـجـهـا بـعـد تـسـلُّــم دونـــالـــد ترمب مهامه. تدخل إيـران املفاوضات بحُلَّة مختلفة عن السابق، بـعـد املــتــغــيــرات الـنـاتـجـة عـــن حـــربَـــي غـــزة ولــبــنــان والــحــدث الـــســـوري؛ خـصـوصـا أن هـــذه األحــــــداث أظـــهـــرت أن مـشـروع محور املقاومة لم يكن يستند إلى أسس استراتيجية صلبة. سلوك السلطة والسياسيني اللبنانيني ال يحصن لبنان من نتائج املفاوضات التي ستركز أوال على امللف النووي وثانيا برنامج الصواريخ الباليستية وثالثا أدوار حلفاء إيران. كل ذلك يـؤدي الى تمسك طهران أكثر بما تبقى من ورقـة حزب الله مع محاولة إستعادة بعض من استثمارها في سوريا. ،1701 لن تتحقق هذه الحصانة من دون تطبيق القرار عبر تكثيف وتفعيل ضغوط القوى املناهضة لـ«حزب الله» في الداخل، ومع الدول الصديقة العربية واألجنبية، للتمكن مـــن تـنـفـيـذ االتـــفـــاق وضــبــط الـــحـــدود وتـفـكـيـك بـنـيـة «حـــزب الله» العسكرية بالكامل، وحصر السلح بالقوى الشرعية، وتحوُّل الحزب إلى تنظيم غير مسلح، يمثل مكونا رئيسا من مكونات لبنان. االستحقاق الرابع هو العلقات اللبنانية- السورية بعد نظام األسد. أي مقاربة سوف تُعتمد ملستقبل هذه العلقات وتاريخها مثقل باملآسي واألزمـــات والـجـراح؟ هل ستكون مقاربة واعـيـة وواقعية قائمة على عـدم تدخلهما بشؤون بعضهما؟ أم ستعود معزوفة حلف األقليات والخوف من التطرف، لتنقل بندقية املقاومة من جنوب لبنان إلى شرقه وشماله، وتتحول املقاومة إلى مشروع أبدي؟! إلــى هـــذا، مصير أكـثـر مـن مليون نـــازح ســـوري قديم، ألـــفـــا من 130 أكـــثـــرهـــم مـــن املـــعـــارضـــ فـــي لـــبـــنـــان، ونـــحـــو الــنــازحــ الــجــدد مــن أتــبــاع الـنـظـام الــســابــق، يحتم وجــود مــؤســســات فـاعـلـة وواعـــيـــة يـفـتـقـرهـا الــبــلــد. ســـيـــزداد خطر القنبلة املوقوتة التي يشكلها هؤالء؛ إذ ال نعرف متى وكيف تنفجر وتهدد النازحني أنفسهم ولبنان واللبنانيني. بقاء حال النكران واللهو السياسي في لبنان بعد كل زالزل املنطقة، وأربعني يوما على سريان اتفاق وقف إطلق النار، ال يبشر بالخير. ويبدو أن الغياب املرضي لإلحساس بالواجب واملسؤولية السياسية والوطنية لدى سياسيِّيه مــســتــمــر، كــمــا نــهــج إضـــاعـــة الـــفـــرص الـــتـــي تــســمــح بــعــودة الدولة واملؤسسات. ال ندعو إلى الشماتة أو الغلبة؛ بل إلى التضامن الـوطـنـي الـــذي يـبـدأ مـع وحـــدة الـقـوى املـعـارضـة، لتتمكن من احتضان الطائفة الشيعية والعقلء من «حزب الله». من دون ذلك تصعب مواجهة املقبل من تطورات في الجوار اللبناني ومـا بعده، ووضـع حد لعصر االحتلالت والوصايات. سام منسى الثورة الثقافية الغائبة فــي الــقــرن الـعـشـريـن كــانــت املــوضــة فــي الـعـالـم الـنـامـي الحديث عن التحوُّل إلى التصنيع، وحوار وخطابة ونقاش ومؤتمرات ووعود وخطط خمسية، ثم قليل القليل. زاد عدد املصانع، ولكن بقيت بنية االقتصاد ريعية. الـــثـــورة الـصـنـاعـيـة بــــدأت فـــي مـنـتـصـف الـــقـــرن الـثـامـن عـشـر، فــي مجتمع تــعــددت بالفعل نـشـاطـاتـه االقـتـصـاديـة، وزاد دور التملك والطموح الفردي فيه. وكانت متوافقة مع أفكار «ثورية» عديدة، أبرزها مسؤولية اإلنسان عن أفعاله، واملواطَنة، وحرية الترقي. قــبــل هــــذا الــعــصــر كــــان املـــولـــود مـــزارعـــا يــمــوت مــزارعــا واملـولـود نبيل يموت نبيلً. وكـان الثراء في دعاية الفقراء مـذمـومـا، والـعـدل متحققا فـي اآلخـــرة فاطمئنوا، والـــرزق ال الكسب يحدد حظ اإلنسان من الثروة حسب مشيئة الله. عملية التفاعل بني تعدد النشاطات االقتصادية وغربلة األفـكـار االجتماعية والـفـرديـة أنتجت تغيرات جمة؛ أفـرزت الـثـورة الصناعية والتفكير االقـتـصـادي الـرأسـمـالـي، وتلك أفرزت تعدُّد مراكز القوى ومن ثم الديمقراطية. خلصة ما سبق أنـه بعد قرنني من الـزمـان، والوعود، واألمنيات، ظلَّت بعض املجتمعات عاجزة عن ربط التحول االقـتـصـادي االجتماعي بالتحول الـفـكـري. عـاجـزة عـن فهم أن اسـتـيـراد املاكينات ال يصنع تـحـوال صناعيا، وأن بقاء األفكار القديمة على حالها يقوِّض حتى القليل الذي تغير، وأنها بــاإلدارة املركزية للقتصاد والتضييق على النشاط االقتصادي لألفراد ونزع امللكية الفردية تسير في الحقيقة عـكـس اتــجــاه الــتــطــور. قــرنــان مــن الـــزمـــان لــم يـكـونـا كافيني إلدراك فلسفة الـتـحـول وجــوهــره، دونـــا عـن قـشـرتـه. الـثـورة الشيوعية بطغيانها الـدعـائـي عــززت تلك األفـكـار القديمة، وأعــــادت صياغة أخـــاق ورؤى املجتمعات الـزراعـيـة، ولكن بلغة أفندية خريجي أكاديميات. والنتيجة، تكررت املأساة، ولكن بمتوالية أسرع. فـــي حــــال الــتــخــلُّــف عـــن الـــثـــورة الـصـنـاعـيـة ظــــل ممكنا بـعـد قــرنــ أن تـمـتـلـك األمــــل فـــي تـغـيـر األفـــكـــار، واألمـــــل في مضاعفة سـرعـة سـيـارتـك والـلـحـاق بـالـقـطـار. أمـــا مــع ثــورة االتــصــاالت فـي نـهـايـات الـقـرن املــاضــي، فقد صــار املـوضـوع أصعب. دخلت األقـمـار االصطناعية في املعادلة، وتطوَّرت الشرائح اإللكترونية، وتمركزت الحواسب في قلب التغيير االقــتــصــادي. لـكـن األفــكــار املـــوروثـــة مــن الــقــرون الـغـابـرة في الــــدول الــحــائــرة لــم تـتـغـيـر. املـنـاهـج التعليمية، الـخـطـابـات اإلعلمية، النقاشات االقتصادية، العلقة بني املواطنني، دور الدولة ودور املجتمع، كلها ظلَّت كما هي؛ ليس على مستوى الجماعات الدينية املتشددة فقط، كما يظن بعضنا، بل أيضا على مستوى املثقفني األفندية ورثة الستينات. والنتيجة أن الفجوة بيننا وبني الزمن املعاصر زادت، وأن األفكار املتخلفة وجدت «براحا» أكبر للتمدُّد بنفسها أو بأذرعها. هل توقفت املأساة؟ أبدًا. تـسـارعـت عجلة الـتـحـول الـرقـمـي ووصــلــت إلـــى الـذكـاء االصــطــنــاعــي، وهـــو الـــثـــورة الـصـنـاعـيـة الــرابــعــة فــي العصر الـحـديـث. حـــدث هـــذا ونــحــن، أيــضــا، مــا زلـنـا مطمئنني أننا سلحفاة ستنتصر، ألننا نعتقد أن اآلخرين، الذين قفزوا كل تلك القفزات االقتصادية والفلسفية والتكنولوجية، مجرد أرانــــب. أفـكـار نسمعها بأكثر مـن صيغة؛ أشـهـرهـا أن «الله سخر لنا الغرب بعلمه لكي نتفرغ نحن لهداية العاملني». الـــتـــحـــوّل الـــرقـــمـــي ال يـعـنـي فــقــط تـبـنـي الـتـكـنـولـوجـيـا الخاصة به، بل إن استيراد التكنولوجيا أو محاكاتها محليا هو الجانب السهل. التحول الرقمي تطور شامل في أسلوب اإلدارة، وفـي العلقة بـ الـفـرد واملـؤسـسـة، وفـي الشفافية، وفي حجم توقعات املواطنني، وفي صياغة األطر القانونية واإلداريــة والسياسية التي يعمل فيها. باختصار، التحول الرقمي تحول سياسي. وكل ثورة صناعية ثورة ثقافية. ال يمكن في عصرنا الحالي أن تظل العلقة بني الدولة واملجتمع كالعلقة بني فريق كرة ومشجعيه؛ تؤدي الدولة املباراة ويكتفي املجتمع بالتصفيق أو االستهجان. ال يمكن إدارة االقتصاد بمستهدفات عاطفية، ال بد من مستهدفات رقمية ممكنة القياس. ال يمكن أن تُدار التحالفات السياسية بالشعارات املوروثة، ال بد من التفكير املنطقي العملي، وإال اضمحل تأثير الدولة. قبل نصف قــرن، وبتنحية فــروق التكنولوجيا، كانت املنافسة العقلية اإلداريـة في حيِّز الفارق بني نخبة ونخبة، الفريقان عقول بشرية. لـم يكن هـذا فرقا هينا. لكن الفارق صار اآلن مهوالً، ألنه بني عقول بشرية تنتمي إلى زمانني، وفوق ذلك فإن أحد الفريقني متسلِّح بالتعلُّم اآللي، والقدرة اللنهائية على تحليل البيانات، واستيعاب جميع العوامل، وتحويلها إلى قيم كمية. هــــذه الـــفـــروق تــتــضــاعــف، يـــومـــا بــعــد يـــــوم. تـــــزداد بعد كــل عملية يـدخـل فيها الــذكــاء االصـطـنـاعـي ويُـــراكِـــم جـديـدًا مـــن املــعــرفــة. فـــي الـــثـــورة الـصـنـاعـيـة الـــرابـــعـــة، ثــــورة الــذكــاء االصطناعي، لن يظل األمل حيا بعد قرنني، وال بعد عقدين. ال بد من التحرك فورًا. خالد البري

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==