issue16840

الثقافة CULTURE 17 Issue 16840 - العدد Sunday - 2025/1/5 األحد حين طلب مني األمن أن أرسم صورة «المعلم» كــــنــــت عــــلــــى مـــوعـــد 2011 فــــــي عــــــــام لــــلــــحــــصــــول عــــلــــى فـــــيـــــزا إلقــــــامــــــة مـــعـــرض فـــي نـــــورث كـــارولـــيـــنـــا بـــدعـــوة مـــن جـامـعـة دافــيــدســون وحـصـلـت عـلـى الـفـيـزا فــي آخـر يوم قبل إغالق السفارة بدمشق. ورجـــــعـــــت إلـــى 2012 ســـــافـــــرت عــــــام دمشق، وكانت املظاهرات واالحتجاجات تعم املدن السورية والقرى وأنا أعيش في دمـشـق أحـــاول أن أسـاعـد بجهد شخصي أبــنــاء الــريــف املـتـضـرر واملــحــاصــر، فهناك الـــكـــثـــيـــر مـــــن املـــهـــنـــيـــن واملــــــعــــــارف الـــذيـــن تـــــضـــــرروا وبــــحــــاجــــة لـــكـــثـــيـــر مـــــن الـــطـــعـــام واملـــســـتـــلـــزمـــات. كــنــت أحــمــلــهــا بـسـيـارتـي وأحـمـل معها روحــي وأمـضـي وفـي رأسـي سيناريوهات العالم كلها. أحضر أجوبة عـلـى كــل احــتــمــاالت الــحــواجــز والشبيحة وعـــنـــاصـــر األمــــــن، عــمــا كــنــت أكـــتـــب بحس سـاخـر عـلـى فـيـس بـــوك وأنــاهــض الفساد والـــقـــتـــل. أنــــا امـــــرأة مــتــمــردة بـطـبـعـي على الظلم وأمشي عكس التيار، أعشق الحرية والـــســـفـــر ألعــــــود إلـــــى بـــلـــدي بـــشـــوق أكـــثـــر. هـــنـــاك تــحــديــات كــثــيــرة كـــانـــت أمــامــنــا في بلد كل زاويـة فيها حاجز أمني وشبيحة. كــانــت رعـــايـــة مـ ئـكـيـة تـنـقـذنـي دومــــا من رش لــلــرصــاص عـلـى ســيــارتــي فـــي حـاجـز حرستا ووضع عبوة ناسفة قرب سيارتي أمــام بيتي بعد أن نزلت منها، وتصويب الـبـنـدقـيـة عــلــي فــي تــأبــن بــاســل شــحــادة. هـــربـــت بـــأعـــجـــوبـــة. هـــــذه لــيــســت بـــطـــوالت أرويـــهـــا ولــكــن كـــان حـمـاسـا وواجـــبـــا علي. ويـومـا كنت على حــدود لبنان للسفر إلى املغرب إلقامة معرض. أخذوني من الحدود وبـدأت التحقيقات معي عن كتاباتي على صـفـحـتـي بــفــيــســبــوك. وانــتــهــى الـتـحـقـيـق بالتوقيع على ورقة بعدم كتابة أي شيء. وفي اليوم التالي أُلغي منع السفر. وعندما عدت استدعوني مرة أخرى. قلت للمحقق ضاحكة لم أكتب شي مثل ماوعدتكم، فقال لـي: رسـمـتِ. لقد شاهد لوحة فيها قطعة ممزقة من كلمة الثورة التي على الجريدة، فأجبته باستغباء: هذه الجريدة الوطنية ليش ممنوع نحطها، فـقـال لــي: أعـــرف ما تريدين أن تقولي مع هذه الشخبرة. يصف لوحاتي بـ«الشخابير». ثـــم قــــال لــــي: نـــريـــدك أن تــرســمــي لنا صـــورة املـعـلـم، فقلت لـــه: أنـــا أرســـم مناظر وزهورًا ال أرسم حيوانات وال بشرًا واسأل عني مرة باسل األسـد فقد طلب مني ومن مـــجـــمـــوعـــة مــــن الـــفـــنـــانـــن رســــــم أحــصــنــتــه فـرفـضـت ألنـــي ال أعــــرف، فـأجـابـنـي: ال أنـت فنانة قديرة رح ترسميها فقلت له سأحاول سـأطـلـب مـــن أحـــد يـجـيـد رســـم الــبــورتــريـه، فقال لي: ال أنت يجب أن ترسميها وتوقعي عليها اسمك. بقيت أشـهـرًا أمـاطـل ويسألني دائما عـلـى الــهــاتــف: مـــا خــلــصــتِ، أالقــــي األعــــذار كـل مــرة بالكهرباء والتدفئة وعـــدم جفاف األلوان بالبرد. كنت أنام وأصحو في رعب وسخرية أيضا. أحيانا أفكر أن أرسم حمارًا وفـــوقـــه أرســــم صـــورتـــه بـــألـــوان تــــزال بـاملـاء وأرسلها بعد أن أخرج من البلد مع رسالة «امسح الصورة تجد املعلم». املهم كان هذا مسليا لــي فــي أوقــــات الـقـلـق والــتــوتــر إلـى أن قدمت استقالتي مـن عملي وطلبت من األمن موافقة أمنية للسفر ملرة واحـدة قبل انتهاء الفيزا، وحصلت عليها. قبل يومي من تحرير حلب كنت في حالة شوق مكبوت لسوريا، وأتمنى بشدة الـعـودة. وكنت أحــاول أن أقنع نفسي بأن وضـعـي فــي أمـيـركـا جـيـد وصـــرت مواطنة أميركية وعندي جــواز سفر مثل جناحي أطير به بي البلدان بكل سالسة. وأقنعت نفسي من أول يوم أتيت إلى شيكاغو أنني سأبدأ حياة جديدة وتناسيت بيتي بالشام ومرسمي ولوحاتي وذكرياتي وأصدقائي الـذيـن لـم يبق منهم إال القليل فـي دمشق. أخوتي قاطعتهم الختالفي معهم في املبدأ فقد كانوا يقفون مع النظام. وزاد فــقــدانــي البـــنـــي الـــــذي قُـــتـــل عــام كــــرهــــا لـــتــلـــك الــــبــــ د الــــتــــي لـفـظـتـنـا 2014 ولــــم تـــقـــدم لــنــا إال الــعــنــف والــنــبــذ والـقـتـل والــتــهــمــيــش. أنــــا قــدمــت الـكـثـيـر لــســوريــا، وكـنـت أقـــوم بـأعـمـال تطوعية مـع األطـفـال والــــشــــبــــاب لـــتـــأجـــيـــج روح الــــفــــن والـــحـــب والحياة والـحـريـة. كنت أعيش مـع أجيال متتابعة في عملي معلمة فنون في مدارس سوريا ومعاهدها وجامعاتها. تــــحــــريــــر حــــلــــب كـــــــان فـــــرحـــــا مـــشـــوبـــا بـــالـــخـــوف... أتـــابـــع لــيــل نـــهـــار كـــل وســائــل الـــتـــواصـــل. لـــم أعــــد أنــــــام. عــــاد األدرنــــالــــن 2011 لـلـصـعـود مـثـل بـــدايـــات الـــثـــورة عـــام والـتـرقـب والـحـمـاس، وكـنـت أقـــول لنفسي إن لـــم يـصـلـوا إلـــى دمــشــق لـــن أفـــــرح. كنت ذلك اليوم أبكي، ولم أخرج إلى الشارع ألن دموعي كانت ال تتوقف. فــجــأة الـحـلـم عــــاد، والـــيـــأس اخـتـفـى، وصـار عنا مستقبل مختلف. صـار عندي وطن أعود إليه مع أبنائي وأحفادي. صار عندي أمل أعود ألعرف أين قتل ابني وأين رفاته، أعـود ألقبل بناته حفيداتي الالتي لم أرهن منذ سافرت. * فنانة تشكيلية *عتاب حريب عتاب حريب بأية سوريا نحلم؟ فـي فترة قياسية فـي الـتـاريـخ، لـم تتجاوز أحــد عشر يومًا، سقط أكثر من نصف قرن من نظام استثنائي بقمعه، وأجهزته األمنية، وسجونه، وسجل ضحاياه. ومن الطبيعي أن يكون الفرح مـدوِّيـ بسقوط هـذا النظام الـذي كـان حتى قبل أيـام قليلة أقرب للمستحيل؛ لطول بقائه، وصالدته التي تَبي أنها صالدة خادعة. لكن ماذا بعد ذلك؟ كيف سيكون شكل ولون سوريا؟ ماذا يريدها أبناؤها بعد هذا الكم الهائل من التضحيات والعذاب أن تكون، أو ما ينبغي أن تكون؟ هنا آراء بعض الكتّاب والفناني السوريي: )2 ــ 1( كتّاب وفنانون سوريون يتحدثون عن تطلعاتهم في العهد الجديد تأخذ أحالمي شكل الوطن الذي حُرمت منه أحلم بسوريا جديدة تُعاد صياغتها على أسس املواطنة الحقيقيّة، حيث ينتمي الفرد إلى الوطن ال إلى طائفة أو عرق أو حــزب... أتـوق إلـى وطـن ال يُجرّم فيه الحلم، وال يُقمع فيه االختالف، وطن يكفل لكل فرد حقّه في التعلم بلغته األم، وفي التعبير عن هويّته وثقافته من دون خوف أو وصاية أو إنكار. أحلم بسوريا تصان فيها الحريات العامّة، حيث يصبح احترام حرّية الرأي والتعبير قانونا ال شعارًا أجـوفَ، وحيث يُــحـمـى املـــواطـــن ال أن يُــســاق إلـــى الـسـجـون أو املـنـافـي ملـجـرّد مطالبته بحقوقه. سـوريـا الـتـي أتمنّاها هـي الـتـي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، حيث ال تفضيالت وال محسوبيات، ال فساد ينهش موارد البالد وال استبداد يدمّر مستقبلها. أحـــلـــم بـبـلـد يُــــــدار بــقــوانــن عـــادلـــة مــســتــمــدّة مـــن حـقـوق اإلنسان واملواثيق الدولية، ال بقرارات فردية تُصادر الحياة بــرمّــتــهــا؛ حــيــث ســيــكــون لـــكـــل فــــرد حـــقّـــه فـــي الـتـعـلـم والـعـمـل والتعبير عــن رأيــــه، وسـتُــحـتـرم لـغـات الــســوريّــن وثقافاتهم كما تُــحـتـرم حياتهم. لـن يُضطهد الــكــردي بسبب لغته، وال أيّـــا كـــان بسبب اخـتـ فـه أو رأيـــه أو مـعـتـقـده، ولـــن يُــنـظـر إلـى األقلّيات وكأنّها مُالحقة في وطنها، لن يكون هناك من فرق بي سـوري وآخـر. سوريا التي أنشدها ستُعيد االعتبار إلى حقوق الجميع من دون تمييز، بحيث تُعتبر الحقوق واجبات تضمنها الدولة وتحميها. أحلم أن تكون سـوريـا مـا بعد االسـتـبـداد دولــة القانون واملــؤسّــســات، ال الـفـوضـى واالسـتـئـثـار بالسلطة. دولـــة تكفل ملواطنيها حرّية االختيار وحرّية النقد، وتتيح لهم املشاركة الفاعلة في صنع مستقبلهم. ال أريد أن تُستبدل ديكتاتورية بأخرى، وال أن يُعاد إنتاج التهميش تحت مسمّيات جديدة. أريد لوطني أن يتخلّص من إرث الديكتاتوريّة والعنف، وأن ينطلق نـحـو حــيــاة كـريـمـة يـعـلـو فـيـهـا صـــوت اإلنـــســـان فـوق أصوات السالح والتناحر. أحلم بسوريا تتجاوز «ثأراتها» التاريخية، سوريا التي تتصالح مـع ماضيها بــدل أن تعيد إنـتـاجـه، فـ يكون فيها مَــن يتسلّط على قومية أو لغة أو مذهب، سوريا التي تُبنى بالشراكة ال باإلقصاء. سـوريـا الـتـي أنشدها هـي تلك الـتـي ال تُعامل فيها لغة على أنّها تهديد للدولة، وال يُعتبر فيها الكردي أو األرمني أو اآلشوري أو أي أحد آخر ضيفا في أرضه. لقد حُرمنا لعقود طويلة من التعلّم بلغتنا الكردية، ومن كتابة أحالمنا وهواجسنا بتلك اللغة التي نحملها بصفتها جـــزءًا مـن كينونتنا. ال أريـــد أن يُــحـرم طفل ســـوري - أيــا كان انتماؤه - من لغته، ال أريد أن يُضطر أحد إلى االنكماش على ذاته خوفا من رقابة السلطة أو وصاية املجتمع. ال أريـد أن تُلغى الـذاكـرة الكردية أو تُهمّش، بل أن تُعاد إليها قيمتها مـن دون مِــنّــة أو مـسـاومـة، أن تُــعـاد اللغة إلى أصحابها الحقيقيِّي، أن تُدرَّس الكردية والعربية واآلشورية وغــيــرهــا مـــن الــلــغــات فـــي ســـوريـــا، وأن تــكــون كـــل لـغـة جـسـرًا للمحبّة ال سالحا للتمييز. أحلم بوطن تُرفع فيه املظالم عن كواهل السوريّي، فال أرى مشرَّدين بي األنقاض، وال أسمع أني أمّهات يبحثن عن جثامي أبنائهن املفقودين في كل مكان. أحلم بوطن يتنفّس أبناؤه جميعا بحرّيَّة، وطن يضمّد جراحه التي خلّفتها أنظمة االستبداد، ويُفسح مكانا للكرامة والحرية لتكونا أساسَي صلبَي لعقد اجتماعي جديد. آمـــل أن تـكـون ســوريــا الـنـاهـضـة مــن ركـــام نـظـام األســـد - الذي أعتبره تنظيما مافيويا ال غير - فضاء يتّسع الختالفنا. أن نستطيع العيش بوصفنا مواطني كاملي، ال غرباء في أرضنا. وال يـخـفـى عـلـى أحـــد أنّــــه ال يـمـكـن بــنــاء ســوريــا جـديـدة دون مواجهة املاضي بشجاعة وشفافية. العدالة االنتقالية ستكون الخطوة األولـى نحو تضميد جراح السوريي، ال بد من محاسبة عادلة لكل من ارتكب انتهاكات في حق اإلنسان والوطن. في سوريا التي أحلم بها، ستكون الثقافة حرّة ومستقلة، مسرحا للحوار واالختالف، وفسحة لتجسيد التنوع السوري بجماله وثرائه. أحلم بروايات ومسلسالت تُحكى بكل لغات سوريا، ومعارض فنية تعبّر عن هموم السوريي وأحالمهم، ومـــســـرح يــضــيء بــصــدق عــلــى املـــآســـي واألمـــــل مــعــا. الـثـقـافـة ستصبح أداة بـنـاء ال هـــدم، وحــافــزًا إلعـــادة اكـتـشـاف الهوية املشتركة. أحلم بوطن يحترم يحترم املرأة كإنسان وكشريك فعّال في بناء الحاضر واملستقبل، حيث تكون القواني الضامنة لحقوقها جزءًا أصيال من بنية الدولة الجديدة. املرأة السورية التي واجهت الحرب بصبرها وشجاعتها تستحق أن تكون في مقدمة صفوف التغيير والنهضة. أحلم بدولة تُوظّف مواردها لخدمة املواطني، وتعتمد عـلـى طـــاقـــات الــشــبــاب والـــكـــفـــاءات الــســوريــة لـتـحـقـيـق تنمية اقتصادية حقيقية تعيد األمـل وتكفل حياة كريمة للجميع. أحلم بوطن يعيد احتضان أبنائه املهاجرين املتناثرين في الشتات، ويفتح لهم أبواب املشاركة الفاعلة في إعادة البناء. سوريا التي أحلم بها هي وطن يليق بتضحيات شعبها، وطن تتجلّى فيه القيم اإلنسانية العليا، ويُعاد فيه االعتبار إلى العدل والحرية والسالم. كـــروائـــي تـأخـذ أحــ مــي شـكـل الــوطــن الـــذي حُــرمــت منه، وحُـــــرم مــعــي مــ يــن مـــن الـــســـوريـــن مـــن أبــســط حـقـوقـهـم في الــوجــود، مـن حـريـة الـلـغـة، والـهـويـة، واالنـتـمـاء الـــذي لـم يكن يوما خـيـارًا، بـل قيدًا مفروضا. قـد تبدو أحـ مـي رومانسيّة وبعيدة املنال، لكن األحالم هي بذور املستقبل، وهي األسس التي سنبني عليها غدنا املنشود. هل سيظل هذا كلّه حلما مؤجّالً؟ ربّما. لكن، على األقلّ، صار بإمكاننا كسوريّي أن نحلم! * روائي سوري *هيثم حسين هيثم حسين أحلم بسوريا ال يكون فيها مَن يتسلّط على قومية أو لغة أو مذهب لن نسمح بعد اآلن ألحد أن يسرق الحلم منا «يسقط الطاغية (الـثـلـج) اآلن فـي مـونـتـريـال، واألشـجـار وقوفا كاألشجار». كـــانـــت هـــــذه جــمــلــتــي املـــفـــضـــلـــة الـــتـــي أكـــــررهـــــا فــــي أغــلــب منشوراتي على «فيسبوك»، طيلة ثالثة عشر عاما منذ بداية الــثــورة الـسـوريـة. كنت أدرّب نفسي، أو لنقل، أستعد لكتابة الجملة املشتهاة في اللحظة املشتهاة: «يسقط الطاغية بشار األسد اآلن في دمشق، والسوريون وقوفا كاألشجار». ويـــا لــلــهــول، أتـــت الـلـحـظـة الـفـاصـلـة (الـلـحـظـة املــعــجــزة)، تـحـررت سـوريـا مـن هـذا الـعـبء الثقيل. سقط النظام السوري املجرم، وأصبحت سوريا، ونحن السوريي معها، بخفة ريشة تتطاير في الهواء. نمسك الحلم (حلمنا) بأيدينا، ونخشى أن يتخلى عنا مرّة أخـرى. ال لن يفعل، لن ندعه يفعل، لن نعطيه هذه الفرصة. ولذا، عُدنا إلى تبني مفهوم التفاؤل، بعد أن غاب عنا عمرًا طويال أمضيناه نلوك املرارة تلو املـرارة، مجزرة تلو املجزرة. نموت بـاآلالف، أشـ ء تحت وطأة البراميل املتفجرة. نغرق في بحار البلدان املجاورة ونحن نبحث عن أرض آمنة. تنجرح أصواتنا ونحن نطالب بمعتقلينا في سجون النظام. نخبر الله والعالم أجمع عما يحل بنا ثم نخبو في آخر اليوم، كل يــوم، نتكور على أنفسنا مهزومي، نلوك الـوجـع، ويموت التفاؤل فينا مع كل غياب شمس، أكثر من سابقه. ،2024 ) ثـم يـأتـي يـوم الـثـامـن مـن ديسمبر (كــانــون األول يـأتـي على هيئة بـابـا نـويـل، مـرتـديـا العلم الــســوري األخـضـر. يهبط بعربته في أرض الشام. يفتح جعبته ويوزع الهدايا على كل سوري، صغيرًا كان أم كبيرًا. بـــابـــا نـــويـــل يـمـسـك بــنــا (نـــحـــن) الـــخِـــفـــاف كــالــريــشــة الـتـي صـرنـاهـا ويـقـتـرح علينا مـصـالـحـات. مـصـالـحـات مــع املــــرارة، الهزيمة، االنتظار، الالأمل، مع موتنا وأشالئنا، مع غرقنا، مع أصواتنا املجروحة ومـع زمننا املقبل، الـزمـن الـسـوري املقبل. ديسمبر)، وتحت إبطه عقد لصفقة كبيرة 8( جاء بابا نويل هذا تدعى «التفاؤل». قـال له السوريون: «أيها السيد املحترم بابا نويل، إنها صفقة رابحة ونحن اشترينا. كل ما نتمناه أال تكون بضاعتك مغشوشة». وقّعنا، بسرعة فرح األطفال، عقد التفاؤل هذا ثم رقصنا وغنّينا وحوّلنا ساحات املدن (كل املدن التي تبعثرنا فيها منفيي ومهجرين)، حوّلناها إلى منصات الحتفال حاشد واحــــد، نحمل فـيـه علمنا األخــضــر ونــــدور فــي شــــوارع الـعـالـم، معلني حريتنا الغالية الثمن، وسوريتنا وطنا مستردًا من أيدي الطاغية. يا للهول، يا للحظة املعجزة! يـــا لـــلـــهـــول، يـــا لـلـبـضـاعـة املــغــشــوشــة أيـــهـــا الـــبـــابـــا نـويـل املحترم! تفاؤلنا مخلوط بكمية هائلة من الحذر ومعقود على خوف، خوف من زمننا السوري املقبل. الخوف؟ الحذر؟ ربما ألننا أبناء إمبراطورية الخوف... سوريا. تقول صديقة كندية: الثلج هو وطني. ترد صديقتي السورية: الخوف هو وطني، أنا أخاف من أن يمر يوم ال أخاف فيه. يقف اآلن زمننا الـسـوري املقبل بمواجهتنا فـي مرآتنا. يسألنا عن نفسه فينا، يمد لنا يده، «فماذا أنتم فاعلون؟». نطبطب على كتف الـتـفـاؤل، نحابي الـحـذر، نتجرأ على الــخــوف، ونعلن للعالم كله بـصـوت واحـــد: «طـوبـى ملـن يشهد قيامة شعبه». تبدأ املبادرات والدعوات لسوريا الدولة املدنية، سوريا دولة القانون، تمتلئ صدور السوريي بطاقة إيجابية للبناء وإعادة اإلعمار، للمصالحات بي زمننا املاضي بكل ما فيه، وزمننا املقبل بكل تحدياته. تعود إلينا سوريا محطمة، مسروقة، مريضة، مكسورة النفس، تشبه أوالدها الذين خرجوا أخيرًا من سجون النظام، يحملون تعذيبهم على أكتافهم، ويـتـركـون ذاكـرتـهـم وراءهـــم بعيدًا بعيدًا في معتقالتهم. كل الصور واألخبار التي يراها العالم اليوم، والذي وقف ملـــدة خـمـسـة عــقــود ونــيــف، مـتـفـرجـا عـلـى آالم طــريــق الجلجلة الـسـوريـة، كلها تعقد األلـسـن، تفتح أبـوابـا ونـوافـذ للحذر من مآالت التغيير، وترفع مسؤولية السوري إلى أعلى مستوياتها تجاه هذا الوطن الذي نسترده اآلن حرًا من الطغيان األسدي. يتصدر املشهد مجموعة ثوار إسالمويي، قطفوا اللحظة (املعجزة)، ويـصـدرون الوعود اإليجابية بسوريا جديدة لكل أهلها على اختالف مشاربهم. ينتظر العالم بأسره كيف سيتعامل هؤالء اإلسالمويون مع بابا نويل سوريا؟ السوريون هم الوحيدون مَن لن ينتظر بعد ذلك. لقد بدأوا بكتابة تاريخهم الجديد، ولن يسمحوا بعد اآلن ألي هيئة أو جماعة أن تسرق الحلم. نـعـم أيــهــا الــتــفــاؤل، إنـــك صـفـقـة رابـــحـــة، حـتـى ولـــو كانت مغشوشة. * سينمائية سورية علياء خاشوق علياء خاشوق

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==