مهما اختلف كُــتّــاب الــرأي واملعلقون واملحللون في آرائــهــم وأفـكـارهـم ومـواقـفـهـم مـن قضايا الـشـأن الـعـام أو الشأن الدولي، تظل املوضوعية أساسًا وشرطًا يجمعهم في خيط واحد، مثل حبّات خرز بألوان وأحجام مختلفة يضمّها عِقدُ. ذلك األساس يشترطُ، على كل واحد منهم، الحرص عـلـى تــفــادي الـخـلـط بــن مـشـاعـره ومــواقــفــه الشخصية، ومعطيات الشأن الذي يخوض فيه بالتحليل والتعليق. ويـحـدث ذلــك مـن خــال التيقظ الـدائـم فـي املحافظة على وجـــــود مــســافــة مــنــاســبــة مـــن الـــحـــدث مـــحـــل الــتــحــلــيــل ال يتجاوزها، تتيح له/لها القدرة على تقديم قـراءة بعيدة عن األهواء والعواطف الشخصية. ذلـــك الـــشـــرط - األســـــاسُ، أحــيــانــ ، ال تُــتــاح لــه فرصة التحقق أحيانًا، بسبب شدة االرتباط بي الكاتب/املعلق/ املحلل وموضوعه. وحي يحدث ذلـك، تأخذ املوضوعية املـطـلـوبـة تـعـريـفـ أو مـنـحـى مـخـتـلـفـ . نــاحــظ ذلـــك حي يخوض الكُتّاب واملعلقون بآرائهم في قضايا أوطانهم، خصوصًا في أوقات األزمات. إن املــرء يلحظ مـن خـال مـا أكتبه وأنـشـره مـن آراء في هذه الصحيفة، وعلى وجه الخصوص املتعلق منها بالوضع في بلدي ليبيا. ويبدو أن شدة الغضب أحيانًا مــمــا يــحــدث فـيـهـا مـــن كـــــوارث ومــصــائــب ومــــهــــازل، وفــي الوقت ذاته، شدّة الحب لها ممزوجة بشدة الخوف عليها، تجعلنني، من دون قصد، وبعفوية، أتخلى عن حرصي فـــي الـــوقـــوف عــلــى مــســافــة مـعـقـولـة مــمــا يـــحـــدث، ورصـــد اللوحة من بعيد، وتبي تفاصيلها. وأنا هنا ال أعتذر عن ذلك، عمل بقوله تعالى: «ال يُكلف الله نفسًا إال وسعها». ال أظـــنـــنـــي الـــوحـــيـــد فــــي ذلـــــك مــــن بــــن كُــــتّــــاب الـــــرأي واملـعـلّــقـن؛ ألن الكتابة أو التعليق على قضايا الـوطـن، فــي رأيــــي، تختلف عــن تـلـك املتعلقة بـشـأن آخـــر. وتـأتـي في العادة مختلطة بحرارة عواطف القلوب ومشاعرها، إلحساسنا أن ما يحدث في بلداننا من أزمات وتطورات أحداث يطولنا سلبًا وإيجابًا، حتى ولو كنّا نعيش على بُعد آالف األميال منها، وأننا لو لجأنا إلى لجم مشاعرنا وأحاسيسنا، وأخفينا مواقفنا نكون كمن يرتكب جرمًا في حق نفسه وشعبه. هذا أوالً. أمــا ثانيًا، فــإن الـكـاتـب، شئنا أم أبينا، ال يستطيع في رأيــي الـوقـوف على الحياد فيما يحدث في بلده. أي أننا، بصفتنا كُتّابًا، إما أن نقف معه ونؤيده، وإما أننا نـقـف مـنـه مــوقــف املـــعـــارض ونــنــاوئــه. ومـــن األخـــيـــر، أرى أنه ال مكان للحياد فيما يجري في أرض الوطن. الوفاء واالنتماء لبلد وأهلٍ، في بقعة جغرافية معينة، يتطلبان ويحتّمان ذلك. الحيادُ، والوقوف على مسافة ليست قريبة جدًا، من حــدث مـعـن مــراعــاة للموضوعية، فـي رأيـــي، ال يدخلن فـــي مـسـائـل وقــضــايــا يــكــون الـــوطـــن فـيـهـا عــرضــة لخطر االنـقـسـام، وعلى سبيل املـثـال ال الحصر، كما هـو الحال في ليبيا اآلن. وبـالـتـأكـيـد، مـا ذكــرنــاه ال يعني كـذلـك أنـنـا نتخلّى عـــن املــوضــوعــيــة كــلــيّــة. املــوضــوعــيــة فـــي ســيــاق الــوطــن، تـــأخـــذ مــنــحــى آخـــــر يــعــنــي االنـــحـــيـــاز إلـــــى الــــوطــــن وإلــــى أناسه، بالوقوف على مسافة متساوية من جميع أطراف الــخــصــومــة، مـــع عـــدم الــتــهــاون فـــي إدانـــــة األطـــــراف الـتـي تستحق اإلدانــــــة، والـبـحـث عــن الـنـقـاط املـضـيـئـة فــي كل أزمة ولفت األنظار إليها، بهدف توسيع مناطق االلتقاء، وكـــذلـــك الـتـحـذيـر مـــن األخـــطـــار والــتــهــويــل مـــن شــرورهــا بالتضييق من مناطق االختلف. وحث كل األطراف دومًا على نهج طريق تقود إلى تجسير االختلفات، وتحقيق التقارب. وكـل ذلـك يتم بلغة وبأسلوب يعبّران صريحًا عن املطلوب، وبـا مواربة أو تزلّف. ذلـك أن التحفظ في إبــداء العواطف واملشاعر في مسائل تخص الـوطـن، ملن في مستطاعه ذلك، ربما يكون نافعًا أحيانًا، إال أنه يكون غير مجد في أغلب األحـيـان. ألن مصالح الوطن تقترب جـــدًا مــن املـصـالـح الـشـخـصـيـة. والـــدفـــاع عـنـهـا دفــــاع عن النفس. املوضوعية في قضايا وأزمات الوطن، هي أن ينحاز الكاتب إيجابيًا إلى وطنه، وأ يخون أهله، بدفن رأسه في الرمل كما تفعل النعامة. وهي كذلك أال يهادن طرفًا على حساب آخر أو آخرين، بنيّة كسب مصالح شخصية، قد تعود عليه بالنفع آنيًا، والخسران الحقًا. فـــي كــتــابــه «مــهــنــدســو الـــفـــوضـــى»، يـــقـــول الــكــاتــب اإليـــطـــالـــي جــولــيــانــو دي أمـــبـــولـــي إن مـــا يــقــع فـــي دول تـئِــن تحت وطـــأة مـوجـة شعبوية عـارمـة مثل الـواليـات املتحدة هو «اتحاد الغضب والخوارزمية»، لقلب جميع الـقـيـم والـــقـــواعـــد الـسـيـاسـيـة. وهــــذا يـعـنـي أن «الــخــوف مــن الـتـدهـور االجـتـمـاعـي، مــن اآلخــــر، مــن عـالـم متغير، ومـــــن املـــســـتـــقـــبـــل» (غــــريــــغــــوري لــــو مـــيـــنـــاجـــي)، «خــــوف األمـــيـــركـــيـــن الـــكـــبـــيـــر»، (لـــــو نـــوفـــيـــل أوبـــــــس) مــــن جــهــة، واستعمال التكنولوجيا والذكاء االصطناعي وتحليل املعلومات الضخمة لنشر األخبار الزائفة حول الخصوم السياسيي وحـــول الـوضـع فـي الـبـاد مـن جهة أخــرى، وَلَّــدا نوعًا من الهستيريا الجماعية في بلد العم سام، جعلت األميركيي قـادريـن على انتخاب مـن يــرون فيه زعيمًا للخلص، ولــو كــان هــذا األخـيـر يمثل قِيَمًا غير معهود بها في الثقافة الديمقراطية األميركية ويعدّها خصومه مُستفِزَّة وغير مقبولة. املفارقة أن هذا يحدث في وقت يشهد فيه االقتصاد األمـــيـــركـــي ازدهـــــــارًا غــيــر مــســبــوق (كـــمـــا أشـــــار إلــــى ذلــك لـو ميناجي) وانخفضت البطالة، رغــم اآلثـــار السلبية ملوجة التضخم التي شهدها العالم بعد كورونا وحرب أوكرانيا. املشكلة هي أن سيطرة الزائف تجعل املسافة بـــن اإليـــمـــان بـــأي شـــيء مـهـمـا كـــان كـــاذبـــ (الـشـعـبـويـة) وفـعـل أي شــيء مهما كــان غريبًا وصــادمــ (االسـتـبـداد السياسي) ليست قصيرة فحسب (لو ميناجي)، ولكنها تُــذكِّــر بـفـصـول حـزيـنـة ومـؤسـفـة فــي الـتـاريـخ الـحـديـث، ظنناها ولَّت إلى غير رجعة. مظاهر الخوف في مجتمع منقسم ويشهد انشطارًا آيـديـولـوجـيـ وثـقـافـيـ وسـيـاسـيـ خـطـيـر ًا مـثـل املجتمع األميركي متعددة، ولكن يمكن حصر أقواها في الخوف من اآلخر (املهاجر واملختلف عرقيًا وثقافيًا)، والخوف من تدهور املكانة االجتماعية (خصوصًا عند البيض الذين يـرون سلطتهم االعتبارية تتدهور بفعل صعود أبناء األقليات)، والخوف من املستقبل ومن عالم يتحرك ويتطور بسرعة. واملفارقة بالنسبة للخوف من املستقبل هنا هي أن 2023 أميركا تتربع على مؤشر الجاهزية الرقمية لعام ومـؤشـر املسابقات 2024 ومـؤشـر املعرفة العاملي لعام العاملية فـي مـجـاالت العلوم والتكنولوجيا والهندسة ، واالقـــتـــصـــاد عــلــى مــســتــوى تــرتــيــب املـــدن 2024 لـــعـــام العاملية، ناهيك بـوجـودهـا ضمن نــادي العشر األوائــل على مستوى غالبية املؤشرات األخرى. هـــذه الـوضـعـيـة تعني أن الـــواليـــات املـتـحـدة عرفت كــيــف تــضــمــن مــســتــقــبــا زاهــــــرًا ألبــنــائــهــا فـــي األجـــيـــال القادمة، وال مجال للخوف في هذا املستوى. ومــــع ذلـــــك، يـسـيـطـر الـــخـــوف عــلــى فـــئـــات عـريـضـة مـــن املــجــتــمــع األمـــيـــركـــي. مـــن أيــــن يـــأتـــي هــــذا الـــخـــوف؟ هـــنـــاك نـــظـــريـــات ســـوســـيـــولـــوجـــيـــة وثـــقـــافـــيـــة مـــتـــعـــددة، ولكن أهمها بالنسبة لي هو ما يقوله جــورج جيربنر (السوسيولوجي األميركي الهنغاري) حول االستهلك املفرط للمحتوى الرقمي، وخصوصًا فيديوهات العنف والـفـوضـى، وهــو مـا يجعل الـعـالـم لــدى الكثيرين أكثر خبثًا مما هـو عليه فـي واقـــع الـحـال. فـي الـوقـت نفسه، يقول السوسيولوجي األملاني أورليخ بيك، إن التحول الـــذي طــرأ على املجتمعات مـن مجتمعات تعتمد على تكديس الـثـروات إلـى مجتمعات تهتم بتدبير املخاطر وَلَّــد ثقافة مهووسة بتقليل املخاطر، وهـو ما تمخض عنه الـخـوف عند الكثير مـن أفـــرادهـــا. عـامـل ثـالـث، وال يقل أهمية، هو أفول ثقة األفراد في املؤسسات. وأخيرًا، الخوف من اآلخـر، خصوصًا املهاجرين، وما رافـق ذلك من خوف عارم من انهيار أمريكا. ولـكـن كيف يستغل مهندسو الـخـوف الـخـوارزمـيـة لـــزرع الــرعــب داخـــل الـنـاخـبـن وحـثـهـم عـلـى انـتـخـاب من ينقذهم؟ هناك طــرق عـديـدة. قـد يصنع هــؤالء املحتوى عبر استعمال الــذكــاء االصـطـنـاعـي و«الــبــوتــات» لوضع «كــتــابــات تـلـقـائـيـة» تـقـتـبِــس وتـسـتـشـهِــد وتــبــدو وكأنها حقيقية؛ أو عبر «التزييف العميق»، أي خلق فيديوهات ومحتويات صوتية تقلد أشخاصًا حقيقيي للخلط بي الزيف والحقيقة؛ وفبركة صور أو تعديل صور موجودة لدعم أخبار زائفة. قـــد يـلـجـأ الـبـعــض إلــــى الـتـضـخـيـم عـبــر الـحـسـابـات املـــــزورة لــدعــم انــتــشــار املــحــتــوى. تــقــوم هـــذه «الــبــوتــات» بالتنسيق لخلق حدث وتضخيمه ودعم انتشاره بسرعة وتلقائية لخلق السبق قبل ظهور الحقيقة. وقد تتقمص هـــذه الــحــســابــات سـلـوكـيـات الـبـشــر الــعــاديــن مـــن خـال التوقيت والردود واملشاركة في النقاشات، مما يُعقِّد من إمكانية اكتشافها. كــمــا يــمــكــن اســتــعــمــال الـــخـــوارزمـــيـــات لــــزيــــادة عــدد املعجبي وتصدر «الترندات»، والنشر في عدة منصات في آن واحد، والظهور قبل اآلخرين لحيازة أكبر قدر من املشاهدة. ويساعد تحليل املعطيات الضخمة الخاصة بالجماهير فـي تحديد سلوكياتهم والتأثير فيها عبر االستهداف املُركَّز الذي يتيحه الذكاء االصطناعي. وقد يتم خلق «غرف الصدى» التي ال تشارك الناس إال ما يروقهم ويعزز معتقداتهم. كما يتم تحديد فئات بعينها وتوجيه رسائل خاصة لها لتعزيز تأثير الحملة. وتــســمــح تـقـنـيـات الـــذكـــاء االصــطــنــاعــي بـتـتـبـع الـتـفـاعـل والتأقلم معه وتغيير اإلرساليات واملحتوى حسب نوعية الردود، وحسب املحتوى الذي يلقى انتشارًا واسعًا. هكذا، يتواطأ الخوف والـخـوارزمـيـات لخلق واقع جــديــد يــدفــع األفـــــراد نـحـو االحــتــمــاء بـالـحـلـول السهلة والقائد املنقذ ونبذ النخب وتبني الحمائية. مرحبًا بنا جميعًا في فضاء الشعبوية اليباب! لــــم يُــــــسء إلـــــى فــهــمــنــا أحـــــــوال املـــشـــرق وأحــوالــنــا فـيـه كـمـا أســــاءت بـضـع نـظـريّــات مـتـعـاقـبـة، اخـتـلـفـت فــي مــصــادرهــا الـفـكـريّــة واتّــفــقــت فـــي مـــؤدّاهـــا الــعــمــلــيّ، فـيـمـا كـانـت الطائفيّة (واإلثنيّة) ضحيّة تلك النظريّات األولى. وإنّما بفعل موقع تلك الطائفيّة من حياتنا وعـاقـاتـنـا، أدّى التجهيل بها إلى تعقيد املعالجة وجعل املعاناة معها أخطر وأشد تهديدًا. فــــفــــي عــــقــــود ســــابــــقــــة ســــــــادت نــــظــــريّــــة عمّمها الحكّام، وأغلبهم عسكريّون نشأوا على القوميّة العربيّة، من أن الطائفيّة شر أوجــده االستعمار. أمّــا نحن فأبناء «شعب واحـــد» ينتظر لحظة انـبـاج وعيه بهويّته القوميّة. ولـم يكن املثقّفون القوميّون أشد رأفـة باإلثنيّة، فنسّب ميشيل عفلق أمازيغ املغرب العربي إلى العرب، وكلّما كان الكرد يذكرون كرديّتهم، كان يذكّرهم قومي عربي بـ»عروبة» جدّهم صلح الدين، حتّى كادوا يـلـفّــون رُفـــات جـدّهـم بـــورق مـلـوّن ويُــهـدونـه إلى القوميّي العرب. الحـــقـــ ، وعـــلـــى أيـــــدي مــثــقّــفــن أغـلـبـهـم يساريّون، تفوّق الفشل في فهم الواقع على الفشل فـي تغييره. هـكـذا استُصغر الكلم عـن الطائفيّة الـتـي مـا هـي ســوى «تمظهُر» لـــصـــراعـــات طــبــقــيّــة، أو نـتـيـجـة مـــن نـتـائـج دخــــــول مـجـتـمـعـاتـنـا الــــســــوق الـــرأســـمـــالـــيّـــة العامليّة، أو خديعة تمارسها البورجوازيّة لتفتيت الجماهير الكادحة. وبجهد مشترك قـومـي – إســامــي – يــســاريّ، شـاعـت خرافة أخرى تفيد أن الطائفيّة افتئات علينا انكب املستشرقون على اختراعه. وبــــــــــــــدورهــــــــــــــم، كـــــــــــــان هــــــــنــــــــاك دائـــــــمـــــــ «تــحــديــثــيّــون» يــعــوّلــون عـلـى زمـــن حــيــادي سـاذج، معتبرين أن العلم وتعاقب األجيال يبدّدان هذه اآلفة «البغيضة» ويضعاننا في صدارة عالم «متمدّن» ينتظر قدومنا إليه. وها نحن اليوم نرى في الطائفيّة شيئًا أكثر وأكبر من كل ما أعلنته تلك الترّهات. وهذا ليس ألنّنا طائفيّون «بطبيعتنا»، لكن ما جعلنا كذلك أمواج متلحقة أمسك القديم منها بتلبيب الحديث. وكان آخر املوجات نـــمـــط مـــن األنـــظـــمـــة الـــتـــي صــــــادرت الــفــضــاء الــعــام كـلّــيّــ، وتــــأدّى عـن فئويّتها املمزوجة بالقهر استنقاع الــــوالءات وتكلّس األفـكـار االجتماعيّة والتصوّرات الدينيّة، وفي اآلن نفسه ما يشبه املأسَسَة للوالءات تلك. وقد غرف هذا النمط، الذي جعل كل سيّء أسوأ، من بحر سابق عليه في االنقسام العصبي لـم يمهّد ألي مجتمع سـيـاسـيّ. لكنّنا، مع ذلـك، آثرنا أن ننسى أن كتب تاريخنا تكاد ال تــقــدّمــنــا إال كــعــرب وعــجــم ومَـــــــوال وأهـــل ذمّــــــة، وكــــحــــارات يـــهـــود ونــــصــــارى، وجــبــال عـــلـــويّـــن ودروز. ولـــئـــن لــــم تـــتـــعـــرّض تـلـك الروابط العصبيّة ملا يصدّعها، على النحو الـذي عرفه النسق الغربيّ، وسّعت األنظمة األمـــنـــيّـــة املــــذكــــورة أعـــــاه الــــفــــوارق الـقـديـمـة وكرّستها بدل تضييقها من ضمن مشروع لبناء جماعات وطنيّة. بــلــغــة أخـــــــرى، لــيــســت الـــطـــائـــفـــيّـــة قــــدرًا حتميًّا، لكنّها جُعلت شيئًا قريبًا من هذا، وآخـــر التجلّيات مـا نــراه راهـنـ فـي سـوريّــا. فالنظام املتسبِّب بتعظيمها سُوّي باألرض، إال أنّــــــه تـــركـــهـــا قـــــــادرة عـــلـــى إنــــتــــاج أنـظـمـة ووقائع تبعًا لعديد العلقات التي أقامها، ولكن أيضًا لعديد الضغائن واألحقاد التي أثارها. والـــــحـــــال أن أبــــنــــاء الـــــثـــــورة الـــســـوريّـــة وبناتها يعبّرون اليوم، مَدفوعي بوطنيّة أخـــاقـــيّـــة رفــيــعــة وعــــادلــــة، عـــن انــتــقــاداتــهــم لـلـوضـع الــجــديــد وســلــطــاتــه. وهــــــؤالء، كما هو شديد الـوضـوح، متجرّدون من والئهم لجماعة طائفيّة أو عرقيّة، منحازون لقيم يُفترض أن تُبنى الـدول على قاعدتها. لكن أمر الفعاليّة في مواجهة الواقع املنقسم على أسـاس طائفي يبقى مسألة مشكوكًا فيها، سـيّــمـا وقـــد صــحّــر الـنـظـام الـسـاقـط الـحـيـاة الـــســـيـــاســـيّـــة، فــيــمــا وجـــــدت نــفــسَــهــا الـــنُـــوى الـحـديـثـة والــتــقــدّمــيّــة ضـعـيـفـة الـتـنـظـيـم، ال تملك املوقع التفاوضي القوي في مواجهة قوى الطوائف. ويُخشى أن تـؤول األوضـاع إلـــــــى صـــــــــدام بـــــن حـــســـاســـيّـــتـــن جـــائـــرتـــن ومُحتقنتي، يصعب أن يزحزحهما ويحد من ميلهما العدواني أي شيء: حـسـاسـيّــة أكــثــريّــة املـــصـــدر، «تطمئن» األقــلّــيّــات، وتهجس بسلطان «عــــادل»، كما تستأثر بالسلطة بذريعة أنّها الطرف الذي أســقــط الـــنـــظـــام، ثــــم تـمـضـي فـــي بــنــاء نـظـام «جــديــد» قـوامـه االسـتـبـداد والـتـغـلّــب. وهي تـفـعـل هـــذا اســتــنــادًا إلـــى مــراجــع فــي الحكم ال يُــــقــــر ســــواهــــا بــشــرعــيّــتــهــا، فـــيُـــصـــار إلـــى حـصـر نــطــاق الـسـلـطـة فــي مُـــوالـــن يـؤمـنـون بتلك املراجع نفسها، مندفعي، في والئهم ليقينهم، إلـــى مــمــارســة الـتـعـذيـب واإلذالل بحق املختلفي، ناهيك عن الخصوم. وحساسيّة أخرى أقلّية املصدر، أنانيّة وغــيــر مـعـنـيّــة بــــأن إبـــاديّـــة الــنــظــام الـسـاقـط اســتــهــدفــت األكـــثـــريّـــة وحــــدهــــا، وأن عليها بــالــتــالــي أن تـفـعـل الـــيـــوم مـــا امــتــنــعــت عنه بــــاألمــــس، فــتــتــضــامــن مـــع ضــحــايــا اإلبـــــادة وتــحــض عـلـى إرســــاء عــدالــة غـيـر انـتـقـامـيّــة وبـيـئـة وطــنــيّــة أشــــد صــحّــيّــة ونـــقـــاء، وهـــذا فــضــا عــن رفـــع اإلبـــــادة إلـــى ركـــن مــن أركـــان البناء الذي تنهض فوقه سوريّا الجديدة. صـحـيـح أن إيـــــران وتـــركـــيّـــا وغـيـرهـمـا مـــــن الــــــــــدول تـــمـــلـــك مــــخــــطّــــطــــات ومــــشــــاريــــع تتعارض مع سوريّا املستقرّة البديل، لكن التركيز على املسألة الطائفيّة واإلثنيّة هو مـدخـل الـتـعـاطـي مــع الــتــحــدّيــات، بـمـا فيها املخطّطات واملشاريع. ولربّما أمكن، حرصًا على وحدة الوطن وتنظيمًا للتعدّد وضبطًا لـــه فـــي قـــنـــوات ســلــمــيّــة، اســتــلــهــام مـــا فعله حي 1924 – 1922 االنتداب الفرنسي خلل حـوّل سوريّا دولـة فيدراليّة. فهنا أيضًا لم يخطىء االنتداب كثيرًا، أو أنّــه، على األقـلّ، أخطأ أقل ممّا فعل مقاوموه. OPINION الرأي 12 Issue 16833 - العدد Sunday - 2024/12/29 األحد تحالف الخوف والخوارزميات ضد السياسة عن الحياد والموضوعية واألوطان لكنّها الطائفيّة... أليس كذلك؟ وكيل التوزيع وكيل االشتراكات الوكيل اإلعالني المكـــــــاتــب المقر الرئيسي 10th Floor Building7 Chiswick Business Park 566 Chiswick High Road London W4 5YG United Kingdom Tel: +4420 78318181 Fax: +4420 78312310 www.aawsat.com [email protected] املركز الرئيسي: ٢٢٣٠٤ : ص.ب ١١٤٩٥ الرياض +9661121128000 : هاتف +966114429555 : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: www.arabmediaco.com هاتف مجاني: 800-2440076 املركز الرئيسي: ٦٢١١٦ : ص.ب ١١٥٨٥ الرياض +966112128000 : هاتف +9661٢١٢١٧٧٤ : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: saudi-disribution.com وكيل التوزيع فى اإلمارات: شركة االمارات للطباعة والنشر الريـــــاض Riyadh +9661 12128000 +9661 14401440 الكويت Kuwait +965 2997799 +965 2997800 الرباط Rabat +212 37262616 +212 37260300 جدة Jeddah +9661 26511333 +9661 26576159 دبي Dubai +9714 3916500 +9714 3918353 واشنطن Washington DC +1 2026628825 +1 2026628823 املدينة املنورة Madina +9664 8340271 +9664 8396618 القاهرة Cairo +202 37492996 +202 37492884 بيروت Beirut +9611 549002 +9611 549001 الدمام Dammam +96613 8353838 +96613 8354918 الخرطوم Khartoum +2491 83778301 +2491 83785987 عمــــان Amman +9626 5539409 +9626 5537103 صحيفة العرب األولى تشكر أصحاب الدعوات الصحافية املوجهة إليها وتعلمهم بأنها وحدها املسؤولة عن تغطية تكاليف الرحلة كاملة ملحرريها وكتابها ومراسليها ومصوريها، راجية منهم عدم تقديم أي هدايا لهم، فخير هدية هي تزويد فريقها الصحافي باملعلومات الوافية لتأدية مهمته بأمانة وموضوعية. Advertising: Saudi Research and Media Group KSA +966 11 2940500 UAE +971 4 3916500 Email: [email protected] srmg.com حازم صاغيّة لحسن حداد جمعة بوكليب
RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==