issue16829

ً حمل هذا الطراز طابعا جنائزياً وتمثّلتخصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذيظهر على شواهد قبور فردية الثقافة CULTURE 18 Issue 16829 - العدد Wednesday - 2024/12/25 الأربعاء تعددت أسماؤها بتعدد فاتحيها وازدحم تاريخها بالآلهة والأنبياء القدسعاصمة الروح ومدينة الخيال الشعري لم تكن القدس عبر تاريخها الطويل مجرد مدينة عـاديـة مساوية لمساحتها على الأرض أو لسكانها من البشر، بل كانت على الــدوام تفيض عن الوجود الواقعي للمدن والحواضر، لتتشكل مــــن عـــنـــاصـــر أخــــــرى غــنــيــة بـــالـــرمـــوز والإحـــــــالات الدلالية المختلفة. فهنا يتقاطع الجسد والــروح، الملموس والمجرد، المرئي واللامرئي. كما يكفي أن نتلفظ باسمها حتى تأخذنا حروفه الثلاثة إلى مقام الحيرة، حيث للمقدس نشوته ورهبته في آن، وحيث يتشكل خط التماس الأمثل بين السماء والأرض، وحــــيــــث تـــتـــحـــول تـــرجـــيـــعـــات الـــصـــوت وأصــــداؤه إلــى خليط متفاوت المـقـاديـر مـن هديل الحمام وصليل السيوف. فــهــذه المــديــنــة الــتــي بُـنـيـت عـلـى تـــل صـخـري قبل خمسة آلاف عـام كانت على مـر الـزمـن مكاناً لاختلاط الهويات والتنوع الإثني والثقافي الذي انعكس على اسمها نفسه، فسميت يبوس على اسم العرب اليبوسيين الذين سكنوها قبل خمسة آلاف عــام، وسميت أريئيل وتعني مدينة العدل، وسـمـاهـا الـعـبـريـون الــذيــن سـكـنـوهـا بـعـد الـعـرب الـيـبـوسـيـ والـكـنـعـانـيـ بــقــرون عـــدة أورشـلـيـم وتـــعـــنـــي مـــديـــنـــة الـــــســـــ م. كـــمـــا عـــرفـــهـــا الــفــراعــنـــة الـقـدمـاء بـاسـم روشـالـيـمـوم، والأشـــوريـــون باسم أورشـالـيـمـو، وصـــولاً إلــى الفتح الإســ مــي حيث أُطلقت عليها تسمية القدس أو بيت المقدس. ولعل من باب المفارقات المحضة أن أورشليم الـتـي يحمل اسمها معنى الـسـ م لـم يتح لها أن تـنـعـم بـسـ مـهـا المـنـشــود إلا لـفـتـرات قـصـيـرة من الزمن، إذ ظلت عبر تاريخها الطويل محط أنظار الــغــزاة والـفـاتـحـ ، واحـتـشـد عند أبـوابـهـا الآلهة والأنبياء، فيما كان أتباعهم من البشر يتوسلون تعاليمهم الحاثة على الوئام والحب بأكثر أنواع الـعـنـف والــتــبــاغــض دمـــويـــةً وفــتــكــ . هــكــذا دفـعـت المـديـنـة غـالـيـ ثـمـن رمـزيـتـهـا الــفــريــدة، وتعرضت للهدم ثماني عشرة مرة، وهي التي دمرها نبوخذ نصر واتـخـذهـا داود عـاصـمـةً لملكه، وبـنـى فيها ســلــيــمــان هـيـكـلـه المـــحـــفـــوف بـــالـــشـــكـــوك، وضـمـهـا الإسكندر إلى إمبراطوريته المترامية، وأخضعها بـومـبـاي لحكم الـــرومــان، ودخـلـهـا السيد المسيح محاطاً بالأطفال وأغصان الزيتون، ومن ثم حاملاً صليبه الثقيل على طريق الجلجلة، قبل أن تصبح جـــزءاً مـن الإمـبـراطـوريـة الإسـ مـيـة زمــن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، وتتم استعادتها غير مرة من عهدة الصليبيين. وإذ يتكرر ذكر المدينة في العهد القديم لأكثر مرة، فإن أنبياء التوراة كانوا يدأبون في 550 من زمن ازدهارها على الإشادة بما أعطيته من مجد سماوي وأرضـي، حتى إذا سقطت في يد غزاتها الفاتحين رأوا في ذلك طريقة الرب في الانتقام من شعبه الموغل في المعصية وارتكاب الفحشاء. هكذا يخاطب إشعياء سكان المدينة بالقول: «مـن أجل أن بـنـات صهيون يتشامخن ويمشين مـمـدودات الأعناق وغامزات بعيونهن، يكون عِـوَض الطيب عفونة وعــوض الـجـدائـل قَـرعـة. رجـالـكِ يسقطون بالسيف وأبطالك في الحرب، فتئنّ أبوابك وتنوح وهي فارغة تجلس إلى الأرض». وحـيـث رأى إرمــيــا أن الـجـحـافـل الـقـادمـة من الـشـمـال لسحق المـديـنـة وإخــضــاع أهـلـهـا للسبي والـــتـــنـــكـــيـــل مــــا هــــي إلا الـــــجـــــزاء الـــــعـــــادل عـــلـــى مـا اقترفه أهلها من آثــام، يعلن باسم الإلـه الغاضب «طوّفوا في شوارع أورشليم وانظروا وفتشوا في ساحاتها، هل يوجد عاملٌ بالعدل فأصفح عنها؟ هأنذا أجلب عليكم أمة من بعدُ، يا بيت إسرائيل، أمة قوية منذ القِدم، جعبتهم كقبر مفتوح، كلهم جبابرة فيأكلون حصادك وخبزك». وإذا كانت الفترة التي بسط العرب سيطرتهم على القدس هي الأطول في تاريخها، فاللافت أن الشعر العربي القديم قد حصر تفاعله معها في الإطـــار المـجـازي والاسـتـعـاري، مـركّـزاً على كونها ملتقى الديانات الثلاث ومدينة الإسراء والمعراج، دون أن نعثر على قصائد كاملة اتخذت من المدينة موضوعاً لها. عـلـى أن أي نـظـرة متفحصة إلـــى النصوص التي كتبها الشعراء حول القدس لا بد أن تقودنا إلـى الاستنتاج بـأن هـذه النصوص لا تندرج في سـويـة واحــــدة، بـل ثمة فـــروق شاسعة بـ أولئك الـذيـن حـرصـوا على سبر أغـــوار المدينة والكشف عــن كـنـوزهـا المــخــبــوءة فــي الأعـــمـــاق، وبـــ أرتـــال الــنــظــامــ الـــذيـــن اكـــتـــفـــوا بـــالاتـــكـــاء عــلــى المـعـجـم الــســهــل والمـسـتـهـلـك لامـــتـــداح أمــاكــنــهــا ومـعـالمـهـا وسطوحها الظاهرة. وقد يكون «ديــوان القدس» الـذي جمع فيه الكاتب الفلسطيني أوس يعقوب عـــدداً غـيـر قليل مــن الـقـصـائـد والمـقـطـوعـات التي تـــمـــحـــورت حـــــول المـــديـــنـــة هــــو الــتــجــســيــد الأمـــثـــل لــتــفــاوت مــســتــويــات الــنــصــوص المــكــتــوبــة عـنـهـا، سواء من حيث اللغة والأسلوب وأدوات التعبير، أو من حيث الرؤية والمعنى والعمق الدلالي، دون أن يـقـلـل ذلـــك مـــن قـيـمـة الــجــهــود الــواضــحــة الـتـي بذلها يعقوب لتظهير صــوَر الـقـدس وتجلياتها في الشعر العربي. وإذا كـانـت وجـــوه المـديـنـة المنعكسة فــي مـرايـا الـشـعـراء أكـثـر مـن أن تحصى، فــإن ذلــك لا يمنع من الإشــارة إلـى أن غالبية هـذه الوجوه قد توزعت بين التأكيد على جوهرها السماوي والنوراني، والتأكيد المـــوازي على بُعدها الأرضـــي والـوطـنـي، باعتبارها عاصمة فلسطين الـتـي تـم اغتصابها ومصادرتها بالقوة الغاشمة، وصولاً إلى رثائها والتحسر على فقدانها والحث على استعادتها من براثن الاحتلال. وهـــــو مــــا تُـــظـــهـــره قـــصـــائـــد ومـــقـــطـــوعـــات مــتــفــاوتــة الأســالــيــب والمـــقـــاربـــات، لــكــلّ مـــن إبــراهــيــم الـيـازجـي وخليل مطران وعمر أبو ريشة ونزار قباني ومظفر الــنــواب وعـبـد الـرحـمـن الأبــنــودي ومـحـمـود درويــش وغيرهم. - 1641( وقد تكون قصيدة عبد الغني النابلسي ) «سلام على الإخوان في حضرة القدس» واحداً 1730 مـن أفـضـل النصوص القديمة الـتـي استلهمت روح المدينة وطابعها الإيحائي، وهي التي يقول فيها: ّسترتُ الهوى إلا عن القوم فارتقى فؤادي إلى غيبٍ عن العقل والحس ِسريتُ به ليلاً إلى رفرف المنى وبي زُجّ في النور الذي جلّ عن لبْس سماء التجلّي بالبراق صعدْتها وقد غبتُ عن جسمي الكثيف وعن نفسي ِسأهدم ما تبني العقولُ لأهلها من الفكر في أرض الخيالات والحدس ولم يكن بالأمر المستغرب أن تمتلك القدس في العصر الحديث حضورها المضاعف والاستثنائي بالنسبة للشعراء العرب، سواء في الفترة التي تبعت وعـــد بـلـفـور وتـركـيـز الـحـركـة الصهيونية عـلـى حق الــدولــة المــوعــودة فـي اتـخـاذهـا عاصمة لـهـا، أو بعد قيام دولـة إسرائيل وإطباقها على المدينة بكاملها فـــي فــتــرة لاحـــقـــة. وإذ غـلـبـت الـــشـــعـــارات والـــدعـــاوى الآيـديـولـوجـيـة على الكثير مـن الـنـصـوص المتعلقة بالقدس، فإن القليل من الشعراء عرفوا كيف يوائمون بــمــهــارة بـــ الــحــمــاس الـعـاطـفـي وشــعــريــة الـتـأويـل والصور الموحية. ففي قصيدته «القدس والساعة» يكتب راشد حسين متأثراً بمناخات غارسيا لوركا: ِ«كانت الساعة في القدس قتيلاً وجريحاً ودقيقة كانت الساعة طفلاً سرق النابالم رجليه ولما ظلّ يمشي سرقوا حتى طريقَه ْكانت الساعة أن تَنبت للأشجار والأحجار والماء أظافر كانت الساعة عاقرْ» وعلى طريقته في المــزج بين الواقعية الحسية والاحتدام العصبي والعاطفي حاول سميح القاسم فـي قصيدته «موعظة لجمعة الـخـ ص» استنطاق الجانب الأبهى من تاريخ القدس، وإسقاط الماضي على الحاضر، متقمصاً شخصية محررها الأشهر صـــ ح الـــديـــن الأيـــوبـــي ومـخـاطـبـ ريــــكــــاردوس قلب الأسد بالقول: ْ«أنا ملك القدس، نجل يَبوسَ، وريث سلالة كنعانَ وحدي ْخليفةُ روح النبي القديم الجديد محمد أنا ملك القدس لا أنت، ريتشارد ْهي القدس روحٌ وهاجسُ سرّ وشعرٍ ومعنى وجغرافيا تحتفي بالمجرةِ حلماً فلا تتوعد بسيف الجنون المجردْ» وإذا كــــان مـــن المـــتـــعـــذر الاســـتـــشـــهـــاد بمختلف الـــنـــصـــوص الـــتـــي كـتـبـهـا حــــول الـــقـــدس شـــعـــراء من مختلف الأجـيـال والأساليب، بـدءاً من خليل مطران وإبـــراهـــيـــم طـــوقـــان وعــمــر أبـــو ريــشــة ونـــــزار قـبـانـي، وليس انتهاءً بمظفر النواب وعبد الرحمن الأبنودي ومـحـمـود درويــــش، فــإن الـخـتـام الأمـثـل لـهـذه المقالة هو التذكير برائعة الأخوين رحباني «زهرة المدائن» التي غنتها فيروز بصوت شبيه بالتسابيح، وحمله أكثر من ملاك نحو أجراس المدينة وقبابها وجمالها المنهوب. ومن منا لا يتذكر صرخة «شاعرة الصوت» الابتهالية وهي تهتف بالمدينة السليبة: ْ«لأجلكِ يا مدينة الصلاة أصلّي ْلأجلك يا بهية المساكن ْيا زهرة المدائن ْعيوننا إليكِ ترحل كل يوم تدور في أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجدْ» شوقي بزيع في «طريق اللبان» المدرجة على لائحة التراث العالمي وجوه مجرّدة من موقع أثري في عُمان يـحـتـلّ مــوقــع سـمـهـرم مـكـانـة مـمـيـزة فــي خريطة في 2000 «طــريــق الــلــبــان» الـعُـمـانـيـة الـتـي دخـلـت عـــام قـائـمـة اليونيسكو الـخـاصـة بـمـواقـع الـــتـــراث الـعـالمـي، وهـــي طــريــق الــبــخــور الــتــي شـكّـلـت فــي المــاضــي معبراً تـجـاريـ دولــيــ ازدهــــر عـلـى مـــدى قـــرون مــن الــزمــن. بـدأ استكشاف هــذا المـوقـع فـي مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل. يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية مــن ولايــــة طــاقــة، يُــعــرف مـحـلـيّـ بــاســم «خــــور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، فــي واشـنـطـن عـالـم الآثــــار وينديل 1949 أسّـسـهـا عـــام فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هـــذه الـبـعـثـة فــي إجــــراء أول حـفـريّـة فــي «خـــور روري» سنوات، 3 ، وواصلت عملها على مدى 1950 خلال عام وكــشــفــت عـــن مــديــنــة لـعـبـت دور مــيــنــاء دولـــــي، عُــرفــت بــاســم سـمـهـرم، كـمـا تــؤكــد الـنـقـوش الـكـتـابـيـة المــدونــة بـخـط المُــســنَــد الــعــربــي الــجــنــوبــي. مـــن بـــ أطــــ ل هـذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، أنصاب حجرية مسطّحة زُيّـن كلّ منها بنقش 3 منها تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة. عُثر على حجرين مـن هـذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة مـن المعبد الـخـاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصـل جـزءاً من أثـاث هذا المعبد على الأرجـح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت . اسـتـمـرّت أعـمـال المسح 1953 فـي تقرير نُـشـر فـي عــام بعثة 1997 والتنقيب فـي سمهرم، وتولّتها منذ عــام إيـطـالـيـة تـابـعـة لـجـامـعـة بــيــزا، ومـــع هـــذه الأعـــمـــال، تـمّ الكشف عـن مجموعة أخــرى مـن اللقى المتنوعة، منها أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت 3 عليها البعثة الأميركية. يــتــكــرّر الــنــقــش الــتــصــويــري عــلــى هــــذه الأنــصــاب الـتـي احــتــار أهـــل الاخــتــصــاص فــي تـحـديـد وظيفتها، ويتمثّل بـوجـه آدمـــي مـجـرّد هندسياً إلــى أقـصـى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنـف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فـظـهـرتـا عــلــى شــكــل مـسـاحـتـ بــيــضــاويــتــ حُـــدّدتـــا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظـهـر الأنــــف عـلـى شـكـل مـثـلّـث عــمــودي طــويــل يــحــدّده خـــط مــمــاثــل. يـــعـــود هــــذا الـــوجـــه ويــظــهــر عــلــى واجــهــة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة ، إلى جانب مجمّرتين تتبعان 2014 الإيطالية خلال عام الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة. خــرجــت مـــن مــوقــع سـمـهـرم مـجـمـوعـة كـبـيـرة من المجامر والمـبـاخـر، غير أن هـذا الـوجـه المـجـرّد لا يظهر عـلـى أي مـنـهـا، كـمـا أنـــه لا يظهر عـلـى أي مــن عـشـرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الـشـاسـعـة. فـي الــواقــع، يتبع هــذا الـوجـه طـــرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المس ّت من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي مــن صـنـعـاء، وخــــرج عـــدد آخـــر مـنـهـا مــن وادي بهيان فـــي مـحـافـظـة حــضــرمــوت. تـــجـــاوز هـــذا الـــطـــراز حـــدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي مـن الـريـاض، كما تـؤكّـد شـواهـده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية. حـمـل هـــذا الـــطـــراز طـابـعـ جـنـائـزيـ لا لـبـس فـيـه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المـنـقـوشـة الـتـي تـسـمّـي أصــحــاب تـلـك الـقـبـور. يصعب تأريخ هذه المس ّت بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكـيـد أن هـذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على قــرون. يحضر هـذا الوجه في سمهرم، ويشهد 5 مـدى هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الــثــالــث قـبـل المـــيـــ د، وارتـــبـــط بمملكة حــضــرمــوت في زمـــن نـشـوء الـتـجـارة الـبـحـريـة وازدهـــارهـــا فــي المحيط الـهـنـدي، وظـــلّ ناشطاً حتى الـقـرن الـخـامـس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت. حـضـر هـــذا الــوجــه الـتـجـريـدي فــي سـمـهـرم حيث ظهر على عدد من المس ّت، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فـريـدة مـن نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة الـعـرب، وحـمـل هُـويّـة وظائفية جـديـدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية. محمود الزيباوي «أسطورة إيلينا فيرانتي»... وسحر المدينة رغــــم أن كـــتـــاب «أســــطــــورة إيــلــيــنــا فــيــرانــتــي» الــصــادر عــن دار «الــعــربــي» بـالـقـاهـرة للكاتبة آنـا ماريا جـواداجـنـي، ترجمة نـدى سعيد، يستهدف الـكـشـف عــن هــويــة أكــثــر أديـــبـــات الـعـصـر غموضاً وهي تلك الإيطالية التي حققت شهرة عالمية لكنها تـوقـع بـاسـم مستعار هـو «إيلينا فـيـرانـتـي»، فإن جــواداجــنــي تـخـرج مــن الإطــــار الـضـيـق لمغامرتها الـصـحـافـيـة، شـــديـــدة الــتــشــويــق، إلـــى آفــــاق أرحـــب تتعلق بـإعـادة اكتشاف مدينة نابولي التي تُعد الــوجــهــة المــكــانــيــة المـفـضـلـة فـــي نــصــوص الـكـاتـبـة المجهولة. وتــتــعــمــق هـــالـــة الـــغـــمـــوض حــــول «فــيــرانــتــي» كـونـهـا بــاعــت أكــثــر مــن مـلـيـون نـسـخـة مــن مجمل دولـة حول 40 أعمالها التي تُرجمت إلـى أكثر من العالم، لا سيما رباعيتها الشهيرة «نابولي»، التي تتكون من روايـات: «صديقتي المذهلة»، و«حكاية الاسم الجديد»، و«الهاربون والباقون»، و«حكاية الطفلة الضائعة». ورغـم أن اللجوء إلى اسم مستعار هو تقليد قــديــم فـــي ثــقــافــات ولـــغـــات عــــدة لأســـبـــاب مختلفة أشـهـرهـا الـخـوف مـن مـواجـهـة المجتمع أو الرغبة فــي الـتـمـيـز، فـــإن سـبـب لـجـوء كـاتـبـة إيـطـالـيـة إلـى هذا الاسم المستعار ورغبتها القوية في عدم كشف هويتها إلا لوكيلها الأدبـــي يظل لغزاً يستعصي على الفهم. مـــــن هـــنـــا جــــــــاءت فــــكــــرة هــــــذا الــــكــــتــــاب الـــــذي يــمــزج بـــ فــنــون الــصــحــافــة، وتــحــديــداً التحقيق الاستقصائي وبين لغة السرد الأدبي؛ حيث تذهب جـــواداجـــنـــي فـــي رحـــلـــة إلــــى نـــابـــولـــي مـقـتـفـيـة أثــر «فيرانتي» في مدينتها المفضلة لتقترب جـداً من عالم الروائية ورباعيتها المذهلة وتعيد اكتشاف الأمـــاكـــن، والأصــــــوات والــشــخــوص لـتـخـرجـهـا من الصفحات الـتـي كتبتها «فـيـرانـتـي» وأذهـلـت بها العالم إلى الحياة الحقيقية وتتركها تتحدث هي عن نفسها. لــم يـكـن بــحــوزة المـؤلـفـة عـنـد نـقـطـة الانــطــ ق سوى بعض المعلومات الشحيحة؛ منها أن «إيلينا فـــي مــديــنــة نــابــولــي، 1943 فــيــرانــتــي» ولــــدت عــــام ، وهـو كتاب «حب 1992 ونشرت عملها الأول عـام غــيــر مـــريـــح»، ثـــم تـــوالـــت أعــمــالــهــا الأدبـــيـــة ومـنـهـا «ربــاعــيــة نـــابـــولـــي»، الــتــي تــــروي قـصـة صديقتين تـــعـــيـــشـــان فــــي إحـــــــدى حــــــــارات نـــابـــولـــي الـــفـــقـــيـــرة، وتشكّلان علاقة إنسانية ثرية ومليئة بالتفاصيل الملهمة. نـجـحـت المــؤلــفــة فـــي إعــــــادة اكــتــشــاف الـكـثـيـر مــن الــنــمــاذج الحقيقية الـتـي شكلت «مــــادة خــام» لــشــخــصــيــات «فـــيـــرانـــتـــي» الــحــقــيــقــيــة، لـــتـــقـــدم فـي الــنــهــايــة مـــا يـشـبـه «نـــصـــ عــلــى نــــص» أو ســرديــة جـــديـــدة تـسـتـلـهـم نــابــولــي بـنـمـاذجـهـا الإنـسـانـيـة الاستثنائية، وبأحيائها الشعبية العريقة ذات الــتــفــاصــيــل شـــديـــدة الــخــصــوصــيــة، الـــتـــي شكلت الحاضنة الإبداعية والإنسانية لعالم تلك الكاتبة الغامضة. وكم كان دقيقاً أن تختار المؤلفة عنواناً فـرعـيـ هــو «ربـاعـيـة نـابـولـي: المــديــنــة... الـــروايـــة»؛ حيث امتلأ الكتاب بالحكايات والقصص الفريدة والإنــــســــانــــيــــة الــــتــــي جـــعـــلـــت مـــنـــه نـــصـــ «مـــتـــعـــدد الطبقات». وكان لافتاً أن المؤلفة تحترم حق الأديبة الــغــامــضــة فـــي حــجــب هــويــتــهــا، مـــشـــددة عــلــى أنــه ينبغي على الجميع احترام رغبتها وعدم التعامل معها باعتبارها مجرماً دولياً ينبغي الكشف عن أرصدته البنكية، على حد تعبيرها. وتبقى الإشـــارة إلـى أن آنـا مـاريـا جواداجني هيصحافية ثقافية، عملت لفترة طويلة في مجال »، وقامت Il Foglio« الـنـشـر، وتعمل فـي صحيفة بـتـحـريـر مـجـمـوعـات مـــن المـــقـــالات ونـــشـــرت روايـــة .1998 » بعنوان «الليلة الماضية القاهرة: «الشرق الأوسط»

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky