issue16828

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد ديني قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين ويحتاج الإنسان للاستعانة بالقوى الإلهيّة الثقافة CULTURE 18 Issue 16828 - العدد Tuesday - 2024/12/24 الثلاثاء بلغت ذروتها في «وطني عكا» و«الفتى مهران» ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي صدر عن دار «إضــاءات» بالقاهرة كتاب «المقاومة في مسرح عبد الرحمن الـشـرقـاوي» للناقدة د. سامية حبيب، الأسـتـاذ بالأكاديمية المصرية للفنون، حيث تناقش واحـــدة مـن أهـم التجارب الــــرائــــدة فـــي المـــســـرح الــشــعــري المــصــري والتي أبدع فيها الشرقاوي عبر حياته .1987 حتى 1921 الممتدة من تـشـيـر المــؤلــفــة فـــي الــبــدايــة إلـــى أن الــدرامــا الـشـعـريـة، أي تأليف مسرحية مــــن خـــــال نــــصشــــعــــري، طـــرحـــت مـنـذ وجودها في المسرح العربي عبر القرن الـعـشـريــن إشــكــالــيــات درامـــيـــة ولـغـويـة وفـــنـــيـــة، بــــدايــــة مـن مـــــــــحـــــــــاولات أمــــيــــر الـــــــشـــــــعـــــــراء أحــــمــــد شـــــــــــوقـــــــــــي وعـــــــلـــــــي أحـــــــمـــــــد بــــاكــــثــــيــــر، والـــــــــــــتـــــــــــــي يـــــمـــــكـــــن اعتبارها «المرحلة الـــــكـــــاســـــيـــــكـــــيـــــة»، حـــيـــث حـــــــاول مـثـل أولـئـك الــــرواد خلق الـــــدرامـــــا الــشــعــريــة فـــي إطــــار الـتـقـالـيـد المـــــــــوروثـــــــــة لـــبـــنـــاء القصيدة العربية. واصــــــــــــــطــــــــــــــدمــــــــــــــت تــــــلــــــك المــــــــحــــــــاولات بتناقضجوهري بينطبيعة الدراما من حيث هي تغير مستمر في الشخصية الــــدرامــــيــــة وفــــقــــا لــــدرجــــة تــفــاعــلــهــا مـع الموقف الدرامي الذي تتحرك فيه وتعبر عن ذاتها في إطاره بما يعكس تغيرات فكرها وانفعالها ومواقفها الأخلقية، وبـــ طـبـيـعـة الـشـعـر الــعــربــي بـمـا فيه مـن درجـــات الثبات والـرتـابـة الإيقاعية فـي أسـلـوب البناء التقليدي للقصيدة العربية. وتـلـفـت الـبـاحـثـة إلـــى أن ذلـــك أدى لعيب جوهري في النماذج الرائدة من الـدرامـا الشعرية، يتمثل في الانفصال بـــــ وســـــيـــــط الأداء الــــفــــنــــي وطـــابـــعـــه الـجـامـد، وبــ المــوضــوع المُـشَـكّـل داخـل هـــذا الأداء الــفــنــي، إلا أنّ هـــذه المـرحـلـة كانت ضرورية ومنطقية في إنجازاتها الإبـــداعـــيـــة فـــي إطـــــار واقـــعـــهـــا الـثـقـافـي والتاريخي. وتــأتــي بـعـد ذلـــك مـرحـلـة الــثــورات الفنية والسياسية فـي واقعنا العربي وهي فترة الأربعينيات والخمسينيات مـن هــذا الـقـرن العشرين والـتـي لـم يكن هـــنـــاك مــفــر مـــن انــعــكــاســهــا فـــي أشــكــال التعبير الفني والأدبي، حيث طرأ تغير في بناء القصيدة العربية بما يخلصها من رتابة وحدة البيت والقافية والروي، وأصبح اختيار البحر الشعري خاضعا لمعنى التجربة أو الانفعال الكامن فيها. كما أن البناء الشعري صـار أكثر طواعية لمفهوم الدراما بخصوصيتها مــــن حـــيـــث الــــتــــرابــــط بــــ لـــغـــة الــــحــــوار وطبيعة الشخصية والمــوقــف بـمـا فيه مــــن تــغــيــر وتـــفـــاعـــل يــمــكــن أن يـسـتـمـد مـــن الــتــغــيــر فـــي الإيـــقـــاعـــات الــشــعــريــة، وبـــالـــتـــالـــي يــرتــبــط الــشــكــل بـالمـضـمـون والشخصية بالموقف، مما يعد مقدمة فنية لحل التناقض بين الشاعر العربي والدراما. في إطــار هـذه المرحلة الفنية التي امــــتــــدت حـــتـــى الــــيــــوم بـــامـــتـــداد الـــوطـــن الــــعــــربــــي، كـــتـــب الــــشــــرقــــاوي إنـــجـــازاتـــه الـــدرامـــيـــة شـــعـــراً، فــإلــى أي مــــدى تقني اســتــطــاع أن يـخـلـق تــرابــطــا بـــ الـلـغـة الــــشــــعــــريــــة الـــــتـــــي كــــتــــب بــــهــــا مـــســـرحـــه والـــدرامـــا بوصفها قـالـبـا فنيا اخـتـاره بـعـد مــحــاولات فــي الـقـصـيـدة والــروايــة والتراجم؟ تـجـيـب د. سـامـيـة حـبـيـب عــن هـذا التساؤل، مشيرة إلـى أن فكرة المقاومة تبرز في هذا السياق على خلفية معارك الــتــحــرر مـــن الاســتــعــمــار الــغــربــي الـتـي عــصــفــت بــمــصــر والـــعـــالـــم الـــعـــربـــي فـي خمسينيات وستينيات القرن الماضي من خلل اختياره لشخصيات اقترنت فــــي الـــــوجـــــدان الــــعــــام لـــلـــعـــرب ووعــيــهــم بـتـاريـخـهـم بـمـواقـف ذات أثـــر كبير في مـــصـــيـــر الأوطـــــــــان والــــشــــعــــوب وبــــلــــورة أنماط حياتها وتجربتها الاجتماعية والاقتصادية وأحلمها الممكنة لتجاوز أوضاعها السيئة. هــــكــــذا، يــتــخــيــر الــــشــــرقــــاوي مــــادة تاريخية صريحة يعيد بناءها في عالم فني ويضيف إليها وينسج في إطارها المتواري في كتب التاريخ حركة وأحلم الشعوب في إطــار تفسيرها واستقراء مــكــنــونــهــا، مــســتــهــديــا بـالـشـخـصـيـات البطولية الفاعلة لــأحــداث والمــواقــف، والمنتجة في الوقت نـــــفـــــســـــه لـــــأفـــــكـــــار والمــــشــــاعــــر. وربـــمـــا يـــــــتـــــــخـــــــيـــــــر مـــــــــــــادة «شــــبــــه تـــاريـــخـــيـــة» يــــســــتــــنــــبــــطــــهــــا فـــي ضــــــــــــوء الــــــوقــــــائــــــع والمـــــــــــعـــــــــــلـــــــــــومـــــــــــات الــــــــــتــــــــــاريــــــــــخــــــــــيــــــــــة الـصـريـحـة والأكـثـر ارتباطا بالقضايا والهموم الجماعية الـعـامـة والـسـاخـنـة بكل ما لها أحيانا مـــــن ثـــقـــل الـــحـــداثـــة والمعاصرة. مـن الـنـوع الأول على سبيل المثال لا الـــحـــصـــر، تـــصـــدر مــســرحــيــة «الـنـسـر الأحـــمـــر» بـثـنـائـيـة «الــنــســر والــغــربــان» و«الــــنــــســــر وقــــلــــب الأســــــــد» الــــتــــي تــــدور حــــول بـــطـــولات صــــاح الـــديـــن الأيـــوبـــي فـــي مــواجــهــة الــحــمــات الـصـلـيـبـيـة في العصر الوسيط، وكذلك الزعيم الوطني المــصــري أحــمــد عــرابــي زعــيــم الـفـاحـ والتي تتناول المخططات الغربية التي انــتــهــت بـمـحـنـة الاحــــتــــال الإنــجــلــيــزي لمصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ومن النوع الثاني تأتي مسرحيته الأشــهــر «الــفــتــى مـــهـــران»، الــتــي تعتمد على مـا تـواتـر مـن معلومات تاريخية ووقــــائــــع عــــن الــهــجــمــات الــتــتــريـــة عـلـى المــحــيــط الـــعـــربـــي وأرضــــــه وحـــضـــارتـــه، وكـــذلـــك مــســرحــيــة «وطـــنـــي عـــكـــا» الـتـي تـتـخـلـق فـــي إطــــار المـــواجـــهـــات الـعـربـيـة 1948 الأكثر حداثة وعصرية منذ حرب ثـــم نصر 1967 ومـــا تــاهــا مـــن هـزيـمـة .1973 ) أكتوبر (تشرين الأول وتـــبـــرز «الـغـنـائـيـة» بـاعـتـبـارهـا أحــــــد مـــــفـــــردات «مـــــســـــرح المــــقــــاومــــة» لـدى عبد الرحمن الـشـرقـاوي والتي تتمثل عـلـى سبيل المــثــال فــي لجوء الـشـخـصـيـة إلـــى مـخـاطـبـة الـجـمـاعـة غــيــر المــــحــــددة، أي مـخـاطـبـة المـطـلـق الإنــســانــي فــي نــبــرة خـطـابـيـة عالية وبــعــيــدة عـــن المـــوقـــف الــــدرامــــي وعــن قدرات الشخصية. ومـــن مـثـل ذلـــك قـــول «جـمـيـلـة» في نهاية مسرحية «مأساة جميلة»: «جـمـيـلـة: أيــهــا الأحـــيـــاء فـــي عصر الـحـقـوق الـبـشـريـة، أوقــفــوا تـلـك المـآسـي الهمجية أوقفوا هذا العذاب نحن مـن لحم ودم، لا جلمود من رخام نحن لا نبحث عن مجرد البطولة إنـــنـــا نــطــلــب أن نــحــيــا كـــمـــا يـحـيـا سوانا» وتــخــلــص الــكــاتــبــة إلــــى أن تـأثـر الـشـرقـاوي بغنائية شوقي وباكثير، كــــــان واضـــــحـــــا، لـــكـــنـــه اســـتـــوعـــب ذلـــك بـــــوعـــــي، ســـــاعـــــده فـــــي هـــــــذا مــوهــبــتــه الشعرية الكبيرة، مما جعل تجربته تحمل إضافات لا سبيل إلى إنكارها، مثل تحرره من اللغة الكلسيكية ذات الــبــعــد الــــواحــــد وطـــرحـــه لــغــة جــديــدة مـــســـتـــوحـــاة مــــن الـــعـــصـــر وتـــعـــكـــس مـا فيه من حيوية وتناقضات وانفعالات وصراعات. القاهرة: «الشرق الأوسط» تعددت رموزه وأسماؤه في عباءة الأساطير والتاريخ البحثعن بطل في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فـــالـــح مـــهـــدي شــــرح مــفــصّــل عـــن الـشـعـوب الـــتـــي تــــــرزح تـــحـــت نـــيـــر الـــظـــلـــم والإذلال، وكــيــف تـعـلّـق أمــــرُ خـاصـهـا بـرقـبـة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عـــودتـــه إلـــى الــحــيــاة عـــن طــريــق الـبـعـث أو الـــنـــشـــور، كـــي يــحــقّــق الـــعـــدل الـــغـــائـــب عن وجـــه الأرض، ويــعــوّض نـاسـهـا مــا فاتهم مـــن عـيـشـة هــانــئــة مــســتــقــرّة. اكــتــســى هــذا المـخـلّــص عـبـر مــراحــل الــتــاريــخ بجلبيب أســمــاء عـــديـــدة، مـنـهـا «كـريـشـنـا» المنتظر فـي الـديـانـة الـهـنـدوسـيّـة، و«بـوذيـسـتـاوا» أي «بـــوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المـنـتـظـر وإسـمـاعـيـل المـنـتـظـر والسفياني المـنـتـظـر والــيــمــانــيّ المـنـتـظـر والـقـحـطـانـيّ المنتظر. تـــعـــود هـــــذه الـــفـــكـــرة فــــي الأصــــــل إلـــى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مــواجــهــتــه مـــن خــــال الــبــشــر الـــفـــانـــ ؛ لأن كــلّ مـا يأتي بـه الشّيطان لا يُـهـزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلـى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لــكــي يـسـتـعـجـلـوا هــــذه الــــقــــوى، وإّ فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم. هـــو لــيــس انــتــظــار الــــاشــــيء، حـتـمـا، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المـــؤمـــن فـــي ظــلّــه فـــي حــالــة وجْــــد لا يـفـتُـر، يــكــون الـــزمـــن فــيــه مــجــمّــداً عــنــد المستقبل الأزلــــــيّ والـــانـــهـــائـــيّ. هـــل جــرّبــتــم العيش دون حــــاضــــر أو مــــــــاضٍ؟ عـــنـــدمـــا تـغـيـب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة مـن المـــرء، يحلّ الـيـأس التامّ والمُـــطـــلـــق، وهــــو أحــــد شـــــروط تـحـقـيـق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولـــــى فـــي سـبـيـل عــــودة «بـــــوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلً بالنسبة إلـــى بـقـيّـة المـخـلّـصـ . ثــم يغيب المــــاضــــي كــــذلــــك، وتــخــتــفــي مـــعـــه أحــــداثــــه، ويبقى الـوقـع الأهـــمّ هـو ظـهـور المُـنـقـذ في الـــــقـــــادم مــــن الأيّـــــــــام والــــشــــهــــور والـــســـنـــ ، وربــمــا حـــلّ المــوعــد والمــــرء نــائــم فــي قـبـره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين. عـــنـــدمـــا يـــتـــوقّـــف الــــدمــــاغ تــنــشــط آلـــة الـــخـــيـــال، ردّ فــعــل طــبــيــعــيّ لــحــالــة الـفـقـد والـــحـــرمـــان والإذلال، لــكــنّــه خـــــاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ لـلـنّـفـس والـــبـــدن يـــــؤدّي بــنــا إلــــى الـجـنـون وخـــــراب الــــدّيــــار. الانــتــظــار يـــولّـــد انـتـظـاراً آخــر، ولا يوجد شـيء اسمه فــوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نــظــنّ، يُــعــادل الـــرّضـــوخ. والـحـيـاة هــي في عـــدم الـــرّضـــوخ». مــن فـكـرة المُـنـقـذ المنتظر جـــاء حُــلــم الــشــعــوب المــقــهــورة والضعيفة بالبطل المُـرتـجـى، تبحث عنه كـي تؤلّهه، ولـن تُرفع إليه الأبصار إن كـان حيّا، وإذا كان ميّتا تُعينهم ذكراه على تحمّل الضّيم الـــــذي يـــكـــابـــدونـــه. فـــي كــــلّ بــلــد ضـعـيـف لا بـدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والـــبُـــؤســـاء، يــرسـمـون لــه الأســاطــيــر التي لا تـحـكـي الـــواقـــع بطبيعة الـــحـــال، لكنّها تــعــكــس حـــالـــة الــضــعــف والـــــخَـــــوَر الـــلّـــذيْـــن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلـى درجــة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلىصورته منقوشة على صفحة القمر، وهـــذا مـا جــرى حـقّـا وفعلً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على شـبـاط»، ثـم قـام هـؤلاء 8« أيــدي انقلبيّي بـرمـي جثمانه فــي الـنـهـر، كــي يتخلّصوا من حُـبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الـــفـــعـــان إلـــــى الـــســـمـــاء، بــعـــد أن لــــم يـعـثـر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدّموع. لا يُشترط في البطل أن يكون غائبا، أو لـديـه صـفـات هـــذه المـرتـبـة الـخـارقـة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الـذيـن يعيشون بيننا، أو شخصا غريبا وقَـــدَرِيّـــا يُـرفـع إلــى هــذه المـكـانـة عـنـوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يـتـهـدّد حـيـاتـه، فـهـي صـــارت أوّلاً وأخـيـراً بـــأيـــدي مـــريـــديـــه. هــنــاك نــــوع مـــن اشـتـبـاك مـــصـــائـــر يــعــيــشــه الــــطــــرفــــان: الــجــمــاهــيــر تنظر إلــى البطل على أنّـــه حـامـي ديـارهـا وأرواحــــهــــا مـــن الـــخـــراب والـــفـــنـــاء، والمـنـقـذ يتطلّع بــدوره إلـى هــؤلاء، في سبيل بقاء الـــصـــفـــات المــبــجّــلــة الـــتـــي أســبــغــوهــا على شخصه. فـكـرة البحث عـن قـائـد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لـدى الإنسان، وجديدة أيضا. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثـمّـة بـطـل دَوْمـــــا. عـنـدمـا يغيب الــعــدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جــديــد، مــن مـــزايـــاه أنّــــه لـيـس مــخــلّــداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ لـه عـمـرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يـتـمّ دفنه بـعـد فـنـائـه لـيـولـد بـطـلٌ جـديـد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تـاركـا مقعده إلــى مُنقذ أكثر جِـــدّة يواكب الرحلة مع الأحـفـاد؛ لأنّـه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين. البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومــأزوم في الـواقـع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بـــ الاثـــنـــ كــبــيــر إلــــى درجـــــة أن الــنــاس يــعــيــشــون فـــي ظــــلّ مــنــقــذهــم فـــي حــــال من الـــــرّقّ الــجــمــاعــيّ، بــكــلّ مـــا فـــي قــــوّة أنظمة الاســتــرقــاق الـقـديـمـة مــن سـلـطـة الـقـانـون، ومــــا كـــانـــت تــحــمــل مـــن أغـــــال اجـتـمـاعــيّــة وأخلقيّة. وإن كان الأمـر يحصل بصورة غــيــر ظـــاهـــرة لــلــعِــيــان، لـــكـــنّ شــكــل الـحـيـاة الأخــــيــــر مـــطـــابـــق لـــذلـــك الـــنـــاتـــج مــــن حــالــة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون. بـــالإضـــافـــة إلــــى الـــعـــبـــوديّـــة، لا يـمـثّـل الـبـطـل فــي هـــذا الـــزمـــان رمــــزاً قــومــيّــا يشدّ مــن أزر الـجـمـيـع؛ لأنــنــا نـعـيـش فــي بـلـدان مـتـعـدّدة الأعــــراق والمـعـتـقـدات والأرومــــات، ولـهـذا السبب رحـنـا نبتكر أكـثـر مـن بطلٍ واحـــد: اثنين أو ثلثة أو أكـثـر، يتحوّلون بـــمـــرور الـــوقـــت إلــــى أداة لـــلـــفُـــرقـــة، تـصـيـرُ بسبب التشاحن الـدائـم جــزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الـبـاردة) في الـــبـــاد، تــــدوم طــويــاً لأن أسـبـابـهـا باقية وتـــتـــقـــوّى مـــع الـــســـنـــ ، ويـــومـــا مـــا ســوف تــســخــن حــتــمــا وتـــتـــفـــجّـــر إلـــــى هـسـتـيـريـا جـــمـــاعـــيّـــة تــســتــيــقــظ فـــيـــهـــا نــــــــوازع الـــشـــرّ والـــتـــوحّـــش الــقــديــمــة الـــنـــائـــمـــة، ويـتـقـاتـل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قــوى أجنبيّة (اسـتـعـمـاريّـة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد. عندما تكون حياة الإنـسـان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تــكــون الــحــريّــة مــبــذولــة، وتـــســـود الـعـدالـة الجميع، عندها فقط يختلف وعــي الأمـة وســــوف تـجـد مُـنـقـذَهـا مــن داخــلــهــا لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنـــذاك إلــى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هـذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمـهـنـدس... مثلما يـجـري الآن فـي الأمـــم المـتـحـضّـرة. مـن هنا جـــاءت فـكـرة الـنـجـم فــي المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للمر علقة بالمال ورأس المــــال، وغــيــر ذلـــك مــن كـــام يُـضـيّـق على النفس ويصدّع القلب والرأس. حيدر المحسن «القفزة»... رواية سويسرية عن التوازن الهشوالضعف عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت روايــــــة «الـــقـــفـــزة» لـلـكـاتـبـة الـسـويـسـريـة سيمونه لابــرت، ترجمة سمير جريس، التي تتناول لحظات الـدفـع والهشاشة في حياة النساء من خلل سيدة يستبد بها اليأس وتصبح حياتها على حافة النهاية. يروي العمل كيف أنه فيصباح يوم ثــاثــاء عـــادي فــي بـلـدة صـغـيـرة، يفاجأ الجميع بفتاة تدعى «مـانـو» تقف على سطح مبنى سكني لا يـعـرف أحــد كيف وصلت إلى هناك وما تنوي الإقدام عليه. تـــصـــرخ وهــــي غــاضــبــة لــلــغــايــة وتــقــذف بـأشـيـاء على المتفرجين الـذيـن تجمعوا في الشارع ليصوّروا المشهد بهواتفهم المحمولة، كما تجمع الصحافيون الذين يبحثون عــن أخــبــار، أمـــا رجـــال الإطـفـاء فيحاولون مساعدتها. تشتبه الشرطة في أن «مانو» تنوي الانتحار، أما المدينة فتحبس أنفاسها طوال يوم وليلة حيث لن يعود بعدها شيء كما كان بالنسبة إلى كل من تتقاطع حياته مع تلك الفتاة. يـتـسـم الــنــص بـالـتـشـويـق والإيــقــاع المـتـصـاعـد مــن خـــال قـصـة جــذابــة وعبر حــبــكــة مُـــحـــكَـــمـــة تـــرســـم مـــامـــح أحـــــداث تنبض بـالـحـيـاة عــن امــــرأة مـمـيـزة وعـن الأقــــــــــدار الــــتــــي نـــمـــر بـــهـــا مـــتـــحـــيـــزيـــن أو غــافــلــ ، فـــضـــاً عـــن الــــتــــوازن الـــهـــش في حياتنا على هامش هذا العصر. في 1985 ولـدت سيمونه لابـرت في أراو بـسـويـسـرا، درســــت الأدب بالمعهد الـسـويـسـري وظــهــرت بـــاكـــورة روايـاتـهـا بعنوان «ظـــال» وتـوجـت بجائزة 2014 «فـارتـهـولـتـس» بوصفها أفـضـل «كاتبة جديدة». ،2019 وتـــعـــد «الـــقـــفـــزة»، الــــصــــادرة روايــتــهــا الـثـانـيـة وقـــد رُشّـــحـــت لـجـائـزة «الــــــكــــــتــــــاب الــــــســــــويــــــســــــري» واخـــــتـــــيـــــرت «أفــــضــــل عـــمـــل أحـــبـــه الـــقـــراء 2020 عـــــام السويسريون» والـعـنـوان مـفـردة ألمانية تـــحـــمـــل أيــــضــــا، بــــالإضــــافــــة إلــــــى الـــقـــفـــز، معاني الـشـرخ الـــذي يصيب الــزجــاج أو الجدران، ويحيل العنوان هنا إلى قفزة الـشـخـصـيـة الـرئـيـسـيـة ومـــا أحــدثــتــه من شروخ وتصدّعات في حياة الشخصيات الأخرى في الرواية. ويُعد سمير جريس أحد المترجمين الأكـفـاء، فقد ترجم عن الألمانية مباشرة عــــمــــاً مـــــن الأعــــــمــــــال الأدبــــيــــة 40 نــــحــــو المعاصرة منها «عازفة البيانو» لإلفريده ، و«صداقة» لتوماس 2004 يلينك، نوبل برنهارد و«العاصمة» لروبرت ميناسه و«دون جــــــوان» لـبـيـتـر هـــانـــدكـــه، نـوبـل ، و«شتيلر» لماكس فريش، كما ألف 2019 كتابا عن الكاتب الألماني جونتر جراس، ، بــعــنــوان «جـونـتـر 1999 الــفــائــز بـنـوبـل جراس ومواجهة ماضٍ لا يمضي». صدرت له عن دار «الكرمة» بالقاهرة عـــــدة تـــرجـــمـــات، مــنــهــا روايـــــــة «الــــوعــــد» للكاتب السويسري فريدرش دورنمات، والـــقـــصـــة الــطــويــلــة «تـــقـــريـــر مــوضــوعــي عــــن ســــعــــادة مـــدمـــن المـــــورفـــــ » لــهــانــس فــالادا، ونوفيل «حلم» لأرتـور شنتسلر ورواية «ملحمة أنيت» لأنّه فيبر ورواية «سدهارتا» لهرمان هسه. حصل جريسعلىجائزة «الملك عبد الله بـن عبد العزيز العالمية» للترجمة، ، وجائزة «الشيخ حمد» للترجمة 2022 ، وجائزة «معهد 2018 ، والتفاهم الدولي .2014 ،» جوته للترجمة الأدبية ومن أجواء الرواية نقرأ: «قبل أن تقفز شعرت تحت قدميها بــبــرودة المــعــدن فــي حـافـة الـسـطـح، إنها لا تقفز فـي الحقيقة، إنها تأخذ خطوة في الفراغ، تضع قدما في الهواء وتترك نـفـسـهـا تـــهـــوي. تــريــد أن تـــرى كـــل شـيء فـي طريقها إلـى أسـفـل، أن تـرى وتسمع وتشم كل شيء وتشعر بكل شيء لأنها لـــن تـسـقـط هــكــذا إلا مـــرة واحـــــدة وتـريـد أن يستحق الأمـــر. والآن تسقط، تسقط بسرعة، يفيض الأدرنالين بالحرارة في عـــروقـــهـــا كــــأن أعـــضـــاءهـــا تــحــمــرّ خـجـاً لكنها لا تخجل من نفسها. إنها تسقط بــوجــهــهــا إلـــــى أســـفـــل ويـــــــدور كــــل شـــيء أثناء سقوطها، كل شيء يتسع داخلها، مـسـامـهـا تتسع وخــايــاهــا وشرايينها وأوعــيــتــهــا الـــدمـــويـــة. كـــل شــــيء يتفتح، يــصــرخ، ينفتح عـلـى مـصـراعَـيـه قـبـل أن يتقلص مرة أخرى. جــــســــدهــــا كــــلــــه الآن لــــيــــس ســــوى قبضة تلكم تجاه الأسـفـل نـازعـة معها مـا يحيط بـهـا، ليست الـواجـهـات سوى خـطـوط فـي الحدقتين الـجـافـتـ ، يقطع الـــهـــواء شـبـكـتـي عـيـنـيـهـا، يـــشـــرّح مـجـال الـبـصـر. شـــيء مــا يبهر الـبـصـر ويـحـرق العين والفم، المدينة تـدور حـول نفسها، الأرض تدور في اتجاهها. لا صــــوت الآن ســــوى الـــهـــواء الـــذي تـــــدور فـــيـــه، الـــهـــواء الـــحـــاد الـــــذي تسقط فــيــه، والـــــذي يـصـفـع مـابـسـهـا فتضرب عـظـامـهـا. الـــهـــواء يـضـغـط عـلـى قفصها الــــصــــدري، كـــل شــــيء يـــدنـــو بـــشـــدة الآن، الأســـفـــلـــت، الـــنـــوافـــذ، الـــــــرؤوس خــضــراء زرقاء بيضاء ثم زرقاء ثانية وكل الشعر في الفم الجاف. ينحشر قلبها الكبير في القصبة الهوائية وهـي تــدور الآن خلل الــســقــوط، تــــدور عـلـى ظـهـرهـا شــــاءت أم أبت». القاهرة: «الشرق الأوسط»

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky