لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية الثقافة CULTURE 17 Issue 16826 - العدد Sunday - 2024/12/22 ًاألحد شهد حفل تدشين دورتها األولى حضورا كبيرا ومتنوعا أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» األدبية 1926( بمناسبة الـــذكـــرى الـتـاسـعـة لـرحـيـلـه )، وفــــي احــتــفــالــيــة رائـــعـــة تــلــيــق بـعـطـائـه 2015 - املتنوع املغامر واجتراحه آفاقًا جديدة للكتابة، أعـلـنـت «جـــائـــزة إدوار الـــخـــراط لـــإبـــداع األدبــــي» حـــصـــاد دورتـــهـــا األولــــــى. فــــاز بــالــجــائــزة الـكـاتـب الـشـاب أحـمـد عبد املنعم رمـضـان عـن مجموعته القصصية «قطط تعوي وكــاب تـمـوء» الـصـادرة عن «دار الشروق»، والتي تـدور في عالم سريالي يتقاسم فيه البشر والحيوانات األدوار في اللعب مع واقعهم املكاني واملتخيل، في أرجاء العاصمة املصرية التي تعاني من تخمة الزحام املستمر. أقـيـمـت االحـتـفـالـيـة بـمـقـر «مـكـتـبـة الـــخـــراط» الــتــذكــاريــة املــــجــــاورة لـلـمـتـحـف املـــصـــري ومــيــدان الــتــحــريــر بــالــقــاهــرة الـــثـــاثـــاء املــــاضــــي، وشــهــدت حـــضـــورًا كـبـيـرًا مـــن األدبــــــاء والـــشـــعـــراء واملـثـقـفـن والــصــحــافــيــن، وقــدمــهــا الــكــاتــب اإلعـــامـــي خـالـد مـــنـــصـــور. فــــي الـــبـــدايـــة تـــحـــدث الـــدكـــتـــور إيـــهـــاب الــــخــــراط عـــن املــكــتــبــة وعــــن نــشــاطــهــا فـــي املـرحـلـة املقبلة، ومــا تطمح إليه مـن تقديم خدمة ثقافية متميزة حيث تقيم نـدوة شهرية، وستناقش في الفترة املقبلة املجموعات القصصية الخمس التي وصلت للقائمة القصيرة. واســـتـــعـــرضـــت الــــدكــــتــــورة مــــي الــتــلــمــســانــي، رئيسة مجلس األمــنــاء، عمل املجلس ودوره في إرساء دعائم قوية للجائزة باختيار التيمة األدبية الــتــي تــنــطــوي تــحــت مـظـلـتـهـا، وتــمــثــل ملمحها الخاصة التي تميزها عن باقي خريطة الجوائز األدبية، وفي الوقت نفسه تشكل ترجمة حقيقية لدعوة إدوار الـخـراط الدائمة نحو كتابة مغايرة ومـــغـــامـــرة، تـنـهـل مــن نـبـع الـحـسـاسـيـة الــجــديــدة، أو كما سمّاها في مقولته الـرائـدة: «الكتابة عبر النوعية». وتم اختيار لجنة التحكيم لهذه الدورة مــن: الـدكـتـور خـيـري دومـــة، أسـتـاذ األدب العربي بكلية اآلداب بجامعة القاهرة (رئيسًا)، وعضوية: الـكـاتـب كـمــال الــريــاحــي (مـــن تـــونـــس)، والـكـاتـبـن الروائيي ميرال الطحاوي، وياسر عبد اللطيف. وثـــمّـــن الـــدكـــتـــور خـــيـــري دومـــــة عــمــل مجلس األمناء، وقال إنه أحسن صنعًا بفتح أبواب األدب جميعًا أمام املتقدمي، الفتًا إلى أن «اللجنة تلقت عملً، واخترنا منها خمسة أعمال تميزت 50 نحو بأن لها صوتًا خاصًا، وتشكل عبر مقومات السرد املتنوعة في قصصها متواليات بينها رابط فني». وباإلضافة إلى املجموعة القصصية الفائزة، ضمت القائمة القصيرة األعمال األدبـيـة: «خدعة ،)2024 ، هيمنجواي» ألحمد مجدي همام (قصص ) لدعاء 2024( » ورواية «حبة بازالء تنبت في كفي 2023 إبراهيم، واملجموعة القصصية الصادرة في «الليلة األولـى من دونـك» ألريـج جمال، و«ثقوب» ) لهويدا أبو سمك. 2024 ، (قصص وفــي تقليد جـديـد يـرسـخ للجائزة ويضفي جـــــوًا مــــن الــحــمــيــمــيــة واملـــصـــداقـــيـــة عـــلـــى عـمـلـهـا، أقيمت باالحتفالية أمسية قصصية رائعة، حيث قـــرأ كــتّــاب الـقـائـمـة الـخـمـسـة نــمــاذج مــن أعمالهم الـتـي وصـلـت للقائمة الـقـصـيـرة، وتــجــاوب معها الجمهور بحماس بالغ ومحبة خالصة. يـرعـى الـجـائـزة أســـرة الـكـاتـب الــراحــل إدوار الخراط ممثلة في نجليه الدكتور إيهاب الخراط أستاذ الطب النفسي، والفنان أيمن الخراط، كما تحظى برعاية اتحاد كتّاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللتينية، تقديرًا لــدور إدوار الـخـراط فـي نشأته ) ألف 50( وأنشطته. وتبلغ قيمة الجائزة املالية جنيه مصري تُعطَى للفائز بها، إضافة لشهادات تـقـديـر لـأعـمـال الـتـي وصـلـت للقائمة القصيرة. وتُــمــنــح لـعـمـل أدبــــي مـنـشـور تــتــوافــر فـيـه شــروط االبتكار الخلق على مستوى الشكل واملضمون، ويسعى لتجاوز محددات النوع األدبــي، وينفتح على تيارات الكتابة العابرة للنوع. وقـررت لجنة أمناء الجائزة أن تُمنح في الـــدورة األولــى لكاتب أو كاتبة مـن مـصـر، تليها فـي الـعـام املقبل دورة عربية، وهكذا بالتناوب. القاهرة: «الشرق األوسط» أحمد عبد المنعم رمضان يتوسط مي التلمساني وإيهاب الخراط رواية تستلهم سيرة الضابط اإليطالي االستثنائي أميديو جوليت عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل» بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم املسار االستثنائي للقائد العسكري اإليطالي أميديو جوليت، الـذي عـرف ببطوالته، وانـتـصـاراتـه، وشجاعته، وطـــارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجاال للبحث واالهتمام. يـــعـــيـــدنـــا وزيـــــــر خــــارجــــيــــة لـــيـــبـــيـــا الـــســـابـــق، فــي روايـــتـــه الــجــديــدة «الــقــائــد الــعــاشــق املــقــاتــل»، الــصــادرة عـن «دار الــــرواد للنشر والــتــوزيــع» إلى فترة تاريخية، كـان ال يــزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة املعارك، وللشهامة قيمة أخلقية. تحكي الـــروايـــة سـيـرة مـقـاتـل ليست كـكـل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ باملزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف املعرفة. لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته املتوثبة والـكـاريـزمـا الـتـي تمتع بها، وحــبــه لـلـثـقـافـات، أصــبــح صـديـقـ لـلـعـرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس ملجالسهم. وحـن أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسيًا نشطًا، وسائحًا هائمًا. «القائد الشيطان» تـقـول الـــروايـــة: «عـشـق أمـيـديـو الــســاح كما عشق املرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد املقدام الذي تقترن بطوالته بغرام دائم، وعشق ال ينقطع. ويتنقل القارئ بي األحــداث السياسية وشراسة األطــــمــــاع االســـتـــعـــمـــاريـــة، وحـــكـــايـــات أمـــيـــديـــو مع عـشـيـقـاتـه الــلــواتــي شـغـلـن الــجــزء الــــذي لــم تمله الحروب من يومياته. «الـــقـــائـــد الـــشـــيـــطـــان»، هـــــذا هــــو لـــقـــبـــه، الــــذي اســتــحــقــه عــــن جــــــــدارة. فــبــعــد أن خـــــاض أمــيــديــو الــــحــــرب األهــــلــــيّــــة اإلســـبـــانـــيّـــة إلـــــى جـــانـــب قــــوات امللكيّي قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيي، وحارب املقاومة الليبية، عاش قصة حـب حـارقـة مـع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علجه في مستشفى فـي طـرابـلـس، مـن إصـابـة تـعـرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لــــريــــزا بــــ«قـــوامـــهـــا املـــمـــشـــوق ووجـــهـــهـــا األبـــيـــض الوضاء وعينيها الواسعتي وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تـهـديـد الــنــازيــن لـهـا ولـعـائـلـتـهـا وملـلـتـهـا، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القواني العنصرية التي فرقت بينهما. الحبيبة ريزا ريـــــــزا هــــي كـــمـــا غـــيـــرهـــا مــــن الـــيـــهـــود الـــذيـــن «اضـــطـــروا إلـــى الــهــرب خــــارج الـعـاصـمـة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأمـاكـن إقامتهم». لكن مهمة الــضــابــط املــغــامــر الــــذي يـمـتـطـي صــهــوة جــــواده، ويـــتـــقـــدم الــــفــــرســــان، ويـــهـــاجـــم كـــمـــا لــــو أنـــــه نـسـي املوت، ال تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريــتــريــا، حـيـث يـطـور هـنـاك أسـالـيـبـه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حي يعيش قصة حب جديدة مع خديجة اإلثيوبية، التي «بثت فيه عشقًا لم يعرفه أبدًا». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الـــجـــمـــال الـــخـــمـــري الـــتـــي تـحـفـظ الــشــعــر الــعــربــي، تتسلل إلـــى خيمته كــل لـيـلـة، تـجـالـسـه، تـحـادثـه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة املــــحــــاربــــن. يـــصـــف الـــكـــاتـــب خـــديـــجـــة «الــطــويــلــة الـــرشـــيـــقـــة، بـلـبـاسـهـا املــــلــــون، وعـــطـــرهـــا الـــفـــواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نـسـي حبيبته الطرابلسية ريـــزا، الـتـي صـــارت إلــى املـجـهـول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته اإليطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجــــه الـقـديـم مـنـهـا، فـقـد طـوتـهـا عـيـون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها». خديجة تشد أزره على هذا النحو اآلسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الـحـرب العاملية الثانية، ومـا رافقها من اضـــطـــرابـــات، وتــــوتــــرات وقـــلـــق، مـــع الـعـقـيـد الـــذي يخوض غمار معاركه، مستعينًا على ذلك بنساء كـن له الظهر والسند. غير أن خديجة هـذه بقيت شيئًا آخر. و«ألول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى األبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب». جــاءتــه األوامــــر مــن رومـــا أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوسًا منه. جهزت له خديجة فرسانًا أشداء، وقالت له: «قاتل وال تستسلم يـــا حـبـيـبـي، لـقـد خـلـقـك الــلــه لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة». بـــن جــبــهــات الــــحــــروب الـــشـــرســـة، وجــبــهــات الـحـب الـعـاصـفـة، ينقلنا الــكــاتــب، وهـــو يـبـدع في رســـــم عـــاقـــة أمـــيـــديـــو مــــع عــشــيــقــاتــه، وتــوصــيــف عـاقـتـه مــع كــل مـنـهـن، وكـــأن كــل واحــــدة أنــــارت له جانبًا مختلفًا من شخصيته، وأضـافـت لفضوله مـعـارف جـديـدة، وفتحت أبـوابـ للضوء. فقد كان أمـيـديـو يتمتع بشخصية مـغـامـرة وجــذابــة، مما جعله مـحـبـوبـ بــن الــنــســاء. يـقـول لـخـديـجـة وقـد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على االستمرار في محاربة البريطانيي. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلثي نفرًا، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب». المرحلة اليمنية وملا كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تــــمــــرده عـــلـــى األوامـــــــــر، والــــوضــــع املــــتــــأزم هـــنـــاك، يمم وجـهـه صــوب الـيـمـن، وقــد صــار اسـمـه أحمد عـبـد الـلـه الــرضــائــي. وصـــل إلـــى مـيـنـاء الـحـديـدة، بـعـد مــغــامــرات كـــادت تـــودي بــه وبـرفـيـق الـرحـلـة. طـــلـــب الـــلـــجـــوء الـــســـيـــاســـي، شــــك الـــيـــمـــنـــيـــون فـي أمــــره، وأخــضــعــوه شــهــرًا للسجن واالســتــجــواب. مــحــادثــاتــه املـتـنـاسـلـة مـــع سـجـانـيـه وصــلــت إلــى قصر إمـــام اليمن يحيى حميد الـديـن الـــذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلقة الـــوطـــيـــدة ســريــعــة مـــع اإلمــــــام وســيــكــلــفــه تــدريــب كتائب جيشه وشرطته. املــرحــلــة الـيـمـنـيـة مـــن حـــيـــاة أمـــيـــديـــو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة االجتماعية، واألجــواء السياسية في تلك املرحلة، في هذه املنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر املقوس وسـط حزامه. جلسة مع خـان سيتعرف عليهم، يـخـزنـون الـقـات مـعـ، ويـسـهـرون الليالي فـي مـطـارحـات شعرية إلــى أن يـدركـهـم الصباح، ويخرجون ليروا مباني املدينة الشاهقة املزخرفة بألوان، تضيف االنشراح إلى األرواح». وفي اليمن أيضًا سيلتقي بياتريس. صفحة حب جديدة بـيـاتـريـس الحبيبة الــجــديــدة. هـــذه املـــرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلـة الـبـزق وتـهـرّب األسلحة، حـن يلزم األمـر. امــــــرأة جـــذابـــة يـلـفـهـا الـــغـــمـــوض «عـــنـــدهـــا عــصــارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مـثـقـفـة ودارســــــة مـتـبـحـرة فـــي عــالــم الــنــفــس، ولـهـا القدرة على قراءة ما في فناجي الرؤوس». لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح باإلمام، ويحل الــــجــــدري، ويـــنـــفـــض الـــجـــمـــع، وال يــبــقــى لـــ«الــقــائــد الشيطان» سوى الهرب. بأسلوبه الرشيق واملـشـوق، يقص شلقم من خـــال روايـــتـــه، حـكـايـة هـــذا الـقـائـد اإليــطــالــي الــذي تــحــول إلـــى أســـطـــورة، وشـبـهـه الـبـعـض بـلـورانـس العرب، لتشابه بي سيرتيهما، مستفيدًا من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفًا إليها حبكته ونكهته املستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مـرات عـدة في النص. وقد عــاش أمـيـديـو مـن العمر قـرنـ كـامـا وسـنـة، تمكن خللها من االنتقال إلى حياة دبلوماسية، ال تقل أهمية عن حياته العسكرية. عي سفيرًا لدى عدد من الدول العربية بينها األردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعي الرجل سفيرًا لدى املغرب، ويكتب لـه أن يشهد حـادثـة انـقـاب الصخيرات الشهيرة، الـــتـــي نـــقـــرأ تــفــاصــيــلــهــا فــــي الـــــروايـــــة كـــمـــا عـاشـهـا أميديو، وكأننا في قلب الحدث. التاريخ يعيد نفسه مـــفـــاصـــل تـــاريـــخـــيـــة كــــثــــيــــرة، عـــــن فـــتـــرة مـــفـــصـــلـــيـــة مـــــن عــــمــــر الــــــعــــــرب، والــــتــــدخــــات األجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشيًا، في ما يطغى حضورهم االجتماعي في الـروايـة، كل ذلـك مشدود إلى أوتـــــار عـــواطـــف جــيــاشــة، ومــشــاعــر فـيـاضـة، تلهم القائد املقدام. وفي الجزء األخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مـع أميديو، وقـد استقر بـه الحال أخـــيـــرًا مــتــقــاعــدًا يـسـتـعـيـد ذكـــريـــاتـــه ويـتـأمـل مـــشـــواره بــهــدوء ودعــــة. وتــشــاء الـــظـــروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعــداء األمــس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات واالعـتـرافـات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثًا، أو كأنهم كانوا جزءًا من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها. الرواية تعيدني ثماني سنة إلى الوراء، ولعالم غير الـــذي نعيشه الـيـوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها ال تـزال هي نفسها، واملــآالت تبدو متشابهة وتستحق املقارنة والعبرة والتأمل. بيروت: سوسن األبطح العلم في ميزان األخالق لماذا نقرأ للقدماء؟ أثــارت أستاذة الفلسفة آغنيس كــاالرد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جــدوى قــراءة أرسطو الـيـوم، خصوصًا ونحن نراه يتبنى قيمًا تخالف القيم اإلنسانية التي تواضع الناس فـي زماننا على مجافاة مـا يخالفها. مـا لـم تشر إليه كـاالرد هو أننا نعلم أن الثورة العلمية التي بـدأت مع كوبرنيكوس ) قد 1727 – 1642( ) وانتهت بإسحاق نيوتن 1543 – 1473( دمـــرت عـلـوم أرسـطـو، ســـواء على صعيد النظريات الـتـي قال بـهـا، أم على صعيد املنهج الـــذي اتـبـعـه، فقد أســس غاليليو غاليلي املنهج التجريبي الذي نسف إدخال التأمل في دراسة الطبيعة. وغاليليو هو من قام باكتشاف أقمار املشتري التي تدور حوله فأسقط نظام أرسطو والبطاملة عن مركزية األرض، وهو من اكتشف بمقرابه الذي صنعه بنفسه النمش على وجه الشمس (العواصف املغناطيسية) فأبطل نظرية كمال الشمس واألفـــاك. ثـم جـاء قـانـون الجاذبية النيوتوني فألغى نظرية أرسطو عن املحرك الذي ال يتحرك. ما الذي بقي؟ األخلق. ال يقف اختلفنا معه عند العلم، بل ينتقل إلى مستوى األخلق، حي نجده ال يكتفي بالتغاضي عن جرائم العبودية، ويـدافـع عنها، بل يراها مفيدة القتصاد الـدولـة وللمُستعبَد نفسه، على حد سواء. من وجهة نظره، هناك بشر ال يُحسنون التكسب وال أن يستفيدوا فـي حياتهم، وبـالـتـالـي فاألفضل لهم أن يكونوا مجرد أدوات بأيدي غيرهم. وال تقف معاداة أرسطو لليبرالية عند هـذا الحد، بل يقرر في مواضع كثيرة مــن كتبه أن املــــرأة غـيـر قــــادرة عـلـى اتــخــاذ الــقــرار السلطوي، وبـالـتـالـي ال يـجـوز تمكينها مـن السلطة ســوى سلطتها في بيتها. وتمتد عنصرية أرسطو وطبقيته إلى حرمان من يعمل بيده مـن حـق املـواطـنـة، كما أنــه يحرمه مـن حـق التعليم، في نسخته من املدينة الفاضلة. وفي موضع من كتاب «األخلق» يقرر أن قبيح الصورة ال يستحق السعادة وال املعرفة، ويمكن القول بأنه قام بالتأسيس للخلق األرستقراطية، فقد قرر أن املواعظ األخلقية لن تُفيد املستمعي، إال إذا كانت نفوسهم فــي أصـلـهـا نبيلة وكـريـمـة وشـريـفـة، يقصد بـذلـك أن خطابه موجه فقط لطبقة األرستقراطيي والنبلء وعِلية املجتمع، أما بسطاء الناس وسوقتهم، فليسوا بداخلي في هذه املعادلة، ولن يصلوا إلى الفضيلة –بحسب أرسطو– مهما سمعوا من املواعظ األخلقية. «كـــــل مــــن كـــــان خــســيــس الـــنـــســـب أو شـــديـــد الـــقـــبـــح فـهـو محروم من الـوصـول للسعادة الكاملة». أمـا إذا حــاول هؤالء أن يتجاوزوا حدودهم وأن يسْموا على ما هم فيه، كمحاولة الفقير أن يكون كريمًا جوادًا وهو ال يملك ما ينفقه، فهذا في حكم أرسطو: «غبي وأحمق». إذن، فاألخلق والفضائل عند أرسـطـو طبقية وال تليق إال بمن يـقـدرون عليها ممن لديهم رغبة في استثمار مكانتهم االجتماعية واستغللها جيدًا. عندما نفتش في نصوص الفلسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحـده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عـــن هــيــوم وكـــانـــط عـــبـــارات عـنـصـريـة ضـــد الـــســـود، وفـريـجـه، صاحب املنعطف الـلـغـوي، صــدرت عنه عـبـارات صُنفت على أنـهـا مـضـادة للسامية. لكن عنصرية أرسـطـو أســـوأ وأوســع دائــــرة، فـهـو ضــد كــل مــن لـيـس بـإغـريـقـي. فــي عنصرية تشبه موقف ديـكـارت مـن الحيوانات التي يصفها بأنها آلية وبل روح وال وعي. ولهذا كان تلميذه يطاردون الكلب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي لكي يثبتوا أنها ال تشعر، كما قال األستاذ. لكن ما هو موقفنا نحن من هـذا؟ هل نتجاهل مثل هذه الهفوات ونركز اهتمامنا على األفكار العظيمة التي أدلوا بها في مواضع أخرى؟ أم أن هذه العنصرية هي جزء ال يتجزأ من فلسفاتهم؟ هذا هو السؤال الذي حاولت كاالرد اإلجابة عنه. في الواقع، هناك من يمكن فصل هفواتهم عن فلسفاتهم مـن مثل هيوم وكـانـط وفريجه، ويمكننا أن نعتبرها فلتات لـسـان أو مــفــردات مـخـزونـات رشـحـت عــن ثـقـافـة وتـربـيـة أهـل ذلك العصر. وهناك من ال يمكن فصل فلسفتهم عن أحكامهم الـجـائـرة، ومــن هـــؤالء أرســطــو، فكل فلسفته قائمة على عدم املـــســـاواة. مكانة اإلنــســان تكتسب مـع الـنـشـأة، وبـالـتـالـي فل فضيلة للنساء وال للعمال وال للجانب من غير اإلغريق، فكل من ليس بإغريقي بربري، كل هؤالء ليس لهم حق في املطالبة باالحترام. إنه ال يؤمن بمفهوم الكرامة اإلنسانية الذي بُنيت عليه حقوق اإلنسان، بل كل ما يتعلق بحقوق اإلنسان ال يتفق مع فلسفة أرسطو. ما فات األستاذة كاالرد أن تشير إليه هو أن هذه النظرة األرسطية املتعالية هي أحـد األسباب املهمة لنشوء املركزية األوروبـــيـــة، وهـــي تـلـك الـنـظـريـة الـتـي تـحـدو بـهـا الـعـيـس إلـى الغرب باعتباره مركزًا للحداث العاملية أو متفوقًا على جميع الثقافات األخرى. صحيح أنه من املحبب إلى النفس أن نكون قادرين على أن نؤيد إمكانية الخلف الجذري حول األسئلة األكثر جوهرية، لكن هذا لن يمنعنا من رصد األخطاء الشنيعة فـي تـاريـخ الفكر وتفكيكها لكيل تـعـود مــرة ثانية. ورغـــم أن قسمًا كبيرًا مما دونـه أرسطو قد ثبت أنـه غير صحيح، وأن األخلق التي دعا إليها تنطوي على ما ال يطاق؛ فإنه ما زالت أقسام الفلسفة في جامعات العالم تُدرس أخلق أرسطو كجزء من مناهج الفلسفة. ال يمكن أن يطالب متعلم بمحاربة أرسطو أو منع كتبه أو عدم طباعتها، فهو اسم في غاية األهمية في تاريخ الفكر ومحطة جوهرية في رحلة الروح، وهذا االسم قد وقع اليوم تجاوزه، لكنه علمة مهمة لكي نفهم كيف وصلنا إلى محطتنا الحالية. خالد الغنامي
RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==