ال يـجـادل عـاقـل فضال عـن سياسي أو مثقف فـي أن تـزويـر الـتـاريـخ واحـــد مـن أســس بــ ء األمـم وأسـبـاب انـحـدارهـا وتخلفها، وتـزويـر التاريخ له مـعـان مــتـعــددةٍ: منها الـكــذب الــصــراح املـبـنـي على الــخــرافــة واآليــديــولــوجــيــا واملــيــثــولــوجــيــا، ومنها املـــقـــولـــة املـــشـــهـــورة: إن الـــتـــاريـــخ يـكـتـبـه املـنـتـصـر، بمعنى أنه يـزوّره ليكون كما يحب، ومنها املقولة املــعــاكــســة الـــتـــي تـــركـــز عــلــى الـــهـــوامـــش ال املــــن في تواريخ الدول والشعوب واملجتمعات. في منطقتنا جرت محاوالت كثيرة الستخدام األسماء الغربية في تسمية األحـزاب والجماعات، وتــــوظــــيــــف املــــفــــاهــــيــــم الــــغــــربــــيــــة الــــتــــي تــســتــخــدم للتوصيف والـتـحـلـيـل، وقـــد تــم اسـتـخـدام عـشـرات املفاهيم الغربية في فـتـرات متباعدة ومـن أطــراف مــتــنــاقــضــةٍ، ولـــكـــن بــمــعــان ال تــطــابــق األصـــــل وإن اختلفت تلك األطراف في طرق التزوير وإعادة بناء املفاهيم مجددًا، وهذا تضليل. حـزب البعث الحاكم في سوريا منذ أكثر من خـمـسـة عـــقـــود تـــحـــوّل عـبـر مـسـيـرتـه الـطـويـلـة إلـى حزب الطائفة واألقلية، الديكتاتوري الشرس، وقد أفرغ هذا التحول «حزب البعث» من اسمه األصلي ومن املعنى الذي بني عليه في األساس، ولم يتبق منه عبر عـقـود إال أسـمـاء جزئية ومفاهيم عائمة مـن القومية العربية والـقـطـر الــســوري، وذلـــك قبل أن يتحول إلى حكم العائلة املعتمد على «توحش األقليات»، وأصبح حكم حزب البعث عائليًا وراثيًا على طريقة «الجملوكية» أو الجمهوريات امللكية، التي لم تأخذ شيئًا من عظمة امللكيات إال توريث أبناء العسكر الحكم، وهذا تزوير للفكر مع تزوير التاريخ. أنـظـمـة الـحـكـم تـصـنـع مـعـارضـتـهـا، ومــثــل ما صـنــع «حــــزب الــبــعــث» فـــي ســـوريـــا صـنـعـت بعض األحزاب في الدول العربية، وهي معروفة بأسمائها وغاياتها. ويـــــصـــــح هـــــــذا وأكـــــثـــــر فـــــي املــــفــــاهــــيــــم األكــــثــــر انـتـشـارًا مـثـل «الـديـمـقـراطـيـة» و«حــقــوق اإلنــســان» و«الـــحـــريـــات»، وكــمــا صـنـع األســــد بـهـا عـلـى مـدى عــقــود صـنـعـت مـثـلـه «جـمـاعـة اإلخـــــوان املسلمني» والــجــمــاعــات األصــولــيــة، وكــــان أوضــــح مــثــال على ، حيث 2011 ذلك فترة حكم الجماعة في مصر بعد اتـضـح أنـهـا قـد رفـعـت هــذه املفاهيم لـخـداع الــرأي العام الغربي بها ال أقل وال أكثر، وقامت بعمليات تفسير حـزبـيـة فصّلتها لخدمة الـجـمـاعـة، وتمت عملية كبرى لتزوير التاريخ وتزوير الفكر. «نــهــايــة الــصــحــوة» خـــرافـــة فــكــريــة انـتـشـرت في السنوات املاضية، ثم تب عـوارهـا، وأن كل أحداث العالم ووقائعه تدل على تهافتها واقعيًا وعــلــمــيــ وفـــكـــريـــ ، ومــــع الـــفـــرح الـــغـــامـــر بـسـقـوط واحـــــــد مــــن أبــــشــــع األنـــظـــمـــة الـــديـــكـــتـــاتـــوريـــة فـي العالم بأسره في القرن األخـيـر، يجب أال ينسى املفكرون والباحثون والكتّاب خطورة القادم في املستقبل بناء على ثقافتهم ومعرفتهم ووعيهم وتحليلهم، ألن ذلك يمنح صانع القرار واملتابع املهتم زوايا أوسع للرؤية والتحليل. طــــبــــيــــعــــة الـــــســـــيـــــاســـــي االنــــــتــــــظــــــار والـــــتـــــريـــــث وحـسـابـات املصالح فـي املـواقـف والـــقـــرارات، وهـذا ليس شأن الباحث والكاتب الـذي هو على العكس مــن الـسـيـاسـي، يـعـبـر عــن رأيــــه بـــاألدلـــة والـبـراهـ التي يمتلكها، فـإن أصـاب رفـع رصيده لـدى قرائه كبارًا وصغارًا، وإن أخطأ تحمل خطأه وحده، ألنه إنما يعبر عن رأيه الشخصي، وهذا ما جرى على طـــول الــتــاريــخ وعـــرض الـجـغـرافـيـا إال فــي لحظات اســتــثــنــائــيــة فـــي تـــاريـــخ الـــبـــشـــريـــة، وفــــي الــتــاريــخ الحديث مع النازية والفاشية والبلشفية. «األولـويـات األصولية» أخـذت تطل برأسها مـجـددًا فـي ســوريــا، أفــكــارًا ومـفـاهـيـم، خطبًا في الـــجـــامـــع األمــــــوي وغــــيــــره، وخـــطـــابـــات سـيـاسـيـة وإعـــــ مـــــيـــــة وثــــقــــافــــيــــة وفـــلـــســـفـــيـــة، ولــــئــــن بـــــدأت وســائــل اإلعــــ م فــي الـتـركـيـز عـلـى مـظـاهـر عـامـة وشكليات اجتماعية مثل حجاب املـرأة واملوقف مـن املـشـروبـات الـروحـيـة أو الـغـنـاء ونــحــوه، فإن املشكلة أعـمـق مـن هــذا بكثير وأشـــد خـطـرًا على املستويات كافة. ثالثة صناديق ينبغي التركيز عليها في هذه املـرحـلـة لـفـهـم املـشـهـد، صــنــدوق االقـــتـــراع املــدعــوم شكليًا من الـدول الغربية، الـذي احترفت كل الدول والـجـمـاعـات األصـولـيـة املـعـاصـرة فــي الـتـ عـب به بالتوافق مـع داعميه الغربيني، وصـنـدوق الــرأس حـيـث تـــم الــتــ عــب بــه عـلـى مـــدى عــقــود مــن الـزمـن ديـنـيـ وسـيـاسـيـ وثـقـافـيـ وتـعـلـيـمـيـ ، وصــنــدوق القلب حيث تهييج العواطف واستغالل املصائب والـكـوارث، وهـي ثالثة صناديق تعمل في سوريا اليوم على قدم وساقٍ. أخيرًا، فلفهم ما جرى وما يجري وما سيجري مستقبال ينبغي للمهتم، من باحث ودبلوماسي وكـاتـبٍ، أن يعيد تثقيف نفسه بالتاريخ الحديث واملعاصر، بأسماء ألشخاص وجماعات ومفاهيم ديـنـيـة وسـيـاسـيـة واجـتـمـاعـيـة وفـلـسـفـيـة، أسـمـاء مـــثـــل «أبـــــــو قــــتــــادة الـــفـــلـــســـطـــيـــنـــي» و«أبــــــــو مـحـمـد املـقـدسـي» و«أبـــو مصعب الــســوري» و«أبـــو بصير الــطــرطــوســي»، وأمــثــالــهــم كـثـيـر، وكـــذلـــك «جـمـاعـة اإلخــوان املسلمني»، و«جماعة الـسـروريـة»، وكذلك كيف يتم التالعب بمفاهيم حديثة. التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين OPINION الرأي 13 Issue 16826 - العدد Sunday - 2024/12/22 األحد عبد هللا بن بجاد العتيبي اﻷﻣﻴﺮ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻠﻤﺎن ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻌﺰﻳﺰ ﻫﺸﺎم وﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ ﺣﺎﻓﻆ Ghassan Charbel رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻏﺴﺎن ﺷﺮﺑﻞ ﻣﺴﺎﻋﺪو رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻋﻴﺪروس ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ زﻳﺪ ﻓﻴﺼﻞ ﺑﻦ ﻛﻤﻲ ﺳﻌﻮد اﻟﺮﻳﺲ Editor-in-Chief Assistants Editor-in-Chief Aidroos Abdulaziz Zaid Bin Kami Saud Al Rayes ١٩٨٧ أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ ١٩78 أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ اﻷﻣﻴﺮ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻠﻤﺎن ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻌﺰﻳﺰ ﻫﺸﺎم وﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ ﺣﺎﻓﻆ Ghassan Charbel رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻏﺴﺎن ﺷﺮﺑﻞ ﻣﺴﺎﻋﺪو رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻋﻴﺪروس ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ زﻳﺪ ﻓﻴﺼﻞ ﺑﻦ ﻛﻤﻲ ﺳﻌﻮد اﻟﺮﻳﺲ Editor-in-Chief Assistants Editor-in-Chief Aidroos Abdulaziz Zaid Bin Kami Saud Al Rayes ١٩٨٧ أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ ١٩78 أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ اﻷﻣﻴﺮ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻠﻤﺎن ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻌﺰﻳﺰ ﻫﺸﺎم وﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ ﺣﺎﻓﻆ Ghassan Charbel رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻏﺴﺎن ﺷﺮﺑﻞ ﻣﺴﺎﻋﺪو رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻋﻴﺪروس ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ زﻳﺪ ﻓﻴﺼﻞ ﺑﻦ ﻛﻤﻲ ﺳﻌﻮد اﻟﺮﻳﺲ Editor-in-Chief Assistants Editor-in-Chief Aidroos Abdulaziz Zaid Bin Kami Saud Al Rayes ١٩٨٧ أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ ١٩78 أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ اﻷﻣﻴﺮ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻠﻤﺎن ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻌﺰﻳﺰ ﻫﺸﺎم وﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ ﺣﺎﻓﻆ Ghassan Charbel رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻏﺴﺎن ﺷﺮﺑﻞ ﻣﺴﺎﻋﺪو رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻋﻴﺪروس ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ زﻳﺪ ﻓﻴﺼﻞ ﺑﻦ ﻛﻤﻲ ﺳﻌﻮد اﻟﺮﻳﺲ Editor-in-Chief Assistants Editor-in-Chief Aidroos Abdulaziz Zaid Bin Kami Saud Al Rayes ١٩٨٧ أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ ١٩78 أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ اﻷﻣﻴﺮ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻠﻤﺎن ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻌﺰﻳﺰ ﻫﺸﺎم وﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ ﺣﺎﻓﻆ Ghassan Charbel رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻏﺴﺎن ﺷﺮﺑﻞ ﻣﺴﺎﻋﺪو رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻋﻴﺪروس ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ زﻳﺪ ﻓﻴﺼﻞ ﺑﻦ ﻛﻤﻲ ﺳﻌﻮد اﻟﺮﻳﺲ Editor-in-Chief Assistants Editor-in-Chief Aidroos Abdulaziz Zaid Bin Kami Saud Al Rayes ١٩٨٧ أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ ١٩78 أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ اﻷﻣﻴﺮ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻠﻤﺎن ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻌﺰﻳﺰ ﻫﺸﺎم وﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ ﺣﺎﻓﻆ Ghassan Charbel رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻏﺴﺎن ﺷﺮﺑﻞ ﻣﺴﺎﻋﺪو رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻋﻴﺪروس ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ زﻳﺪ ﻓﻴﺼﻞ ﺑﻦ ﻛﻤﻲ ﺳﻌﻮد اﻟﺮﻳﺲ Editor-in-Chief Assistants Editor-in-Chief Aidroos Abdulaziz Zaid Bin Kami Saud Al Rayes ١٩٨٧ أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ ١٩78 أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ اﻷﻣﻴﺮ أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺳﻠﻤﺎن ﺑﻦ ﻋﺒﺪاﻟﻌﺰﻳﺰ ﻫﺸﺎم وﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ ﺣﺎﻓﻆ Ghassan Charbel رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻏﺴﺎن ﺷﺮﺑﻞ ﻣﺴﺎﻋﺪو رﺋﻴﺲ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻋﻴﺪروس ﻋﺒﺪ اﻟﻌﺰﻳﺰ زﻳﺪ ﻓﻴﺼﻞ ﺑﻦ ﻛﻤﻲ ﺳﻌﻮد اﻟﺮﻳﺲ Editor-in-Chief Assistants Editor-in-Chief Aidroos Abdulaziz Zaid Bin Kami Saud Al Rayes ١٩٨٧ أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ ١٩78 أﺳﺴﻬﺎ ﺳﻨﺔ الرئيس التنفيذي جمانا راشد الراشد CEO Jomana Rashid Alrashid نائبا رئيس التحرير زيد بن كمي Assistant Editor-in-Chief Deputy Editor-in-Chief Zaid Bin Kami مساعدا رئيس التحرير محمد هاني Mohamed Hani [email protected] عودة إلى املوضوع السوري، ال بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ سنة خالل أقل من أسبوعني إنجاز 54 إن طي صفحة ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سـهـولـة إســـقـــاط نــظــام األســـــد، وســـرعـــة تـداعـيـه، أدهشتا حتمًا حتى أكثر املتفائلني بالتغيير املرجوّ. إال أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات العسكرية املؤقتة األمـور في دمشق، ما كان مستبعدًا أن تصدر انتقادات من هنا وهناك لجملة من املمارسات... أعتقد -مخلصًا- أنه بقدر أكبر من الشورى ما كانت لتصدر أو تبرَّر. أنا هنا ال أتوقف عند انتقادات الخصوم املعلنني األلدّاء الذين كشفوا عن والئهم للنظام الساقط في كل املناسبات رغــم كـل جـرائـمـه، وال مــزايــدات الجماعات املــنــافــقــة الـــتـــي «تـسـتـقـبـل مـــع أهــــل الــــعــــروس وتـــغـــادر مـــع أهــــل الـــعـــريـــس»، بـــل أتـــوقـــف عــنــد الــصــمــت الـقـلـق أو االنــتــقــاد االعـــتـــذاري مــن قـــوى هــي الــيــوم حريصة متحمسة 2011 على نجاح التحرّر، مثلما كانت عـام النتصار الثورة. هـــــذه الــــقــــوى الــــتــــي تـــمـــثـــل الـــقـــطـــاع األوســــــــع مـن الــشــعــب، وســمِّــهــا إن شـئـت «الـغـالـبـيـة الــصــامــتــة» أو «املـــواطـــن الـــعـــادي» مــن مختلف املــكــوّنــات والـطـبـقـات واألطـــيـــاف، هــي صـاحـبـة املصلحة الـكـبـرى بالتغيير الـــــذي حـــصـــل. إنـــهـــا الـــقـــوى الـضـنـيـنـة عــلــيــه، واألكـــثـــر تحمّسًا ملرور «املرحلة االنتقالية» بأقل قدر ممكن من األلم واإلشكاالت والتشكيك واالنتقامات... التي يمكن أن تـتـرك جـروحـ عميقة فـي جسد الـوطـن قـد يصعب التئامها بقدر سهولة التهابها وتسمّمها. األخطاء -وقـد وقع بعضها خالل األيـام القليلة- كـانـت بسيطة نسبيًا، وبـالـتـالـي، يسهل غــض النظر عـنـهـا، ومـــن ثـــم، الـتـعـلـم مـنـهـا مـسـتـقـبـ انــطــ قــ من مبدأ «التجربة والخطأ». غير أن تكرارها خالل األيام واألسابيع املقبلة قد يحوّلها إلى خطايا مؤذية يمكن أن تعرقل مسيرة التغيير. وهنا أعتقد أنـه من املفيد التنبيه لبعض الحقائق غير املستساغة. فـي طليعة هــذه الحقائق، أن إنـجـاز الـتـحـرّر هو اآلن تـحـت رقـــابـــات «مـحـلـيـة» و«إقـلـيـمـيـة» و«دولـــيـــة» دقيقة. الـبـدايـة، بـ شــك، الـرقـابـة «املحلية» فـي الـداخـل، الذي وإن كان قد رحّب بنهاية نظام األسد... فإن قطاعًا عريضًا منه ال يريد استبدال ديكتاتورية بديكتاتورية، وهـــــذا يــعــنــي أن املـــطـــلـــوب عــنــصــر الـــتـــشـــاور وعـنـصـر توسيع قـاعـدة االنـفـتـاح والـتـفـاهـمـات... ال استنساخ تجربة «حكومة إدلب» رغم كل ما فيها من نقاء. ثــــم هـــنـــاك الـــرقـــابـــة «اإلقـــلـــيـــمـــيـــة»، وواضـــــــح هـنـا أن حــــدود ســوريــا مــع دولــتــ شـقـيـقـتـ ، هـمـا لبنان والــــعــــراق، ال تـــــزال «غـــيـــر مـــأمـــونـــة» بـالـنـسـبـة لـقـيـادة العمليات الـسـوريـة املـؤقـتـة، والـدلـيـل تـمـكّــن عـــدد من رمـوز ديكتاتورية نظام األسـد من الـهـروب مُستفيدة من النفوذ امليداني هناك لقوى األمر الواقع الطائفية املسلحة، املدعومة بدورها من راع إقليمي نافذ. وفـــي املــقــابــل، هـنـاك قــوتــان إقليميتان نـافـذتـان أخــريــان تــعــدّان أن لهما لـيـس فـقـط «املــصــلــحــة»... بل أيـضـ لهما الـحـق فــي «حـمـايـة» حـدودهـمـا وأمنهما اإلقـلـيـمـي. وبـالـفـعـل، مــا أن أســقِــط ذلـــك الـنـظـام حتى تب ثقل الـــدور التركي التراكمي فـي تحقيق النصر شماالً. بينما جنوبًا، ظهرت خطورة نيّات إسرائيل التوسّعية مـع اخـتـراق جيشها «خـطـوط الـهـدنـة» في الــجــوالن، واحـتـ لـه قمة جبل الشيخ االستراتيجية، وشنّه غــارات جويّة على عشرات األهـــداف العسكرية السورية. وهذا واقع يشير عمليًا إلى مدى «اطمئنان» القيادة اإلسرائيلية لنيات نظام األسـد، طـوال فترتي حكم األب واالبن، في تأمني حدودها الشمالية! وثمة حقيقة ثانية في غاية األهمية، هي أن الفلول الـتـي اسـتـفـادت طـويـ مـن نـظـام األســـد حقًا أُبـعـدت أو ابـتـعـدت أو فـــــرّت... لكنها: أوال لــم تـخـتـف أو تُسحق، وثانيًا ما زالــت ثمة جهات خارجية تشكل عُمقًا لتلك الـفـلـول أو داعــمــ لـهـا، وبــنــاء عـلـيـه؛ كـلّــمـا تـأخـر نُضج إنـجـاز الـتـحـرر -وطـبـعـ بالحد األدنـــى مـن اإلشــكــاالت- سيتاح للفلول ولداعميها إعادة تجميع شتاتها وبناء قـــواهـــا وبـــلـــورة خـطـابـهـا الـتـحـريـضـي والـتـضـلـيـلـي... وصوال إلى االنقالب على اإلنجاز الذي تحقّق. وهنا نصل إلـى املستوى الثالث من الرقابة، أي الــرقــابــة «الـــدولـــيـــة»، وهـــي تـلـك الـتـي تـمـارسـهـا الـقـوى الغربية الكبرى، بجانب املنظمات العاملية التي تتمتع فيها القوى الغربية بنفوذ عظيم. وما هو منطقي أن التغيير التاريخي الـذي أنهى أكثر من نصف قرن من حكم األسد (األب واالبن) ما كان ليسير بالسالسة التي رأيــنــا، عـلـى الــرغــم مــن الــوجــوديــن الـعـسـكـري الـروسـي واإليراني، لوال «رضى» القوى الغربية... وعلى رأسها الــــواليــــات املـــتـــحـــدة، عــلــى إنـــهـــاء حـــالـــة صـــــارت تــراهــا «شــــــاذة» فـــي مـنـطـقـة حــســاســة، قـبـل اسـتـقـبـال رئـاسـة أميركية جديدة محاطة نيّاتها بعالمات استفهام عدة. واشـــنـــطـــن، خـــصـــوصـــ ، وحــلــيــفــاتــهــا الــغــربــيــات بصفة عامة، أدركت أن بقاء الجمود في الشرق األوسط ما عاد مقبوال في ظل ما يلي: - الــحــاجــة إلــــى مــقــاربــة جـــديـــدة مـخـتـلـفـة ملـلـفـات اإلســـــ م الــســيــاســي، ومــطــامــح األقــلــيــات ومـخـاوفـهـا، واإلرهاب الالبس لبوس التطرف الديني. - رفـض مواصلة التسامح مـع املبتزين فـي عدد من امللفات، ومنها امللف النووي. - التعامل بصورة أكثر جدّية مع األزمة األوكرانية الـتـي أعـــادت فتح ملف «احــتــواء روســيــا»، وال سيما، مـع صـعـود اليمني املـتـطـرف فـي عــدد مـن دول أوروبـــا والقارة األميركية. بـنـاء على مـا سبق ذكـــره، كانت «رســائــل» حـوار البعثة الدبلوماسية األميركية مع أحمد الـشـرع، في دمشق، صريحة جدًا ومعبّرة جدًا عن رؤية واشنطن ليس فقط لـدور سوريا الجديدة في مستقبل منطقة املــشــرق الــعــربــي، بــل أيــضــ لطبيعة الـنـظـام الــســوري «املقبول دوليًا». والـحـال، أن سوريا الجديدة ستخوض تحدّيني ممنوعًا فيهما الخطأ: التحدي األول هو التفاهم على طبيعة النظام وفلسفة تعامله مع مكوّناته، والتحدي الثاني الدور االقتصادي املالي املؤهلة سوريا للعبه... بفضل ثرواتها اإلنسانية والطبيعية والثقة الدولية فيها. إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي إياد أبو شقرا
RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==