issue16821
الثقافة CULTURE 18 Issue 16821 - العدد Tuesday - 2024/12/17 الثلاثاء أحمد الفخراني في «كل ما يجب أن تعرفه عنش» أبطال يحاربونطواحين الهواء فــي مـجـمـوعـتـه الـقـصـصـيـة الـجـديـدة «كـــــل مــــا يـــجـــب أن تـــعـــرفـــه عــــن ش» يـضـع الكاتب والروائي المصري أحمد الفخراني أبـــطـــالـــه فـــي مُـــواجـــهـــات ذهــنــيــة ونـفـسـيـة تجعلهم يعيدون تأمل لحظات مشهدية مـــن حــيــاتــهــم، داعـــمـــا تــأمــاتــهــم بـمـامـح فـانـتـازيـة ضاعفت مـن تأثيرها الحكائي بــــصــــورة لا تــخــلــو مــــن ســـخـــريـــات نـقـديـة وقدرية لاذعة. صـــــــدرت المـــجـــمـــوعـــة أخـــــيـــــراً عـــــن دار «الــــــشــــــروق» فــــي مــــصــــر، وفـــيـــهـــا يــؤســس الــفــخــرانــي لـلـعـبـة فـنـيـة مــغــويــة، تــبــدأ من عـتـبـة عـــنـــوان المــجــمــوعــة الـــــذي يـسـتـدعـي أكــثــر مـــن خـــاطـــر، بـــدايـــة مـــن نــبــرة الــــراوي الاســـتـــشـــرافـــيـــة الــــتــــي تـــشـــي بــــأنــــه يــعــرف الكثير عـن «ش» بما تحتمله تلك النبرة مـــن مــامــح تــشــويــق، أو تـلـمـيـح وتـحـذيـر ضمني، وصــولاً لهُوية هـذا الــــ«ش» الذي قام بتشفيره برمز أبجدي، ويظل الـراوي الـعـلـيـم يـسـتـفـيـض عـــن هُــويــتــه الـغـامـضـة الـــتـــي يــعــبــر بـــن غــرابــتــهــا وتـنـاقـضـاتـهـا وســلــطــتــهــا، مستعينا بأسلوب الحكي المُراوغ فــــــيــــــقــــــول عــــــــنــــــــه: «هــــــو لـــيـــس حــقــيــقــيــا تــمــامــا أو شـخـصــا افــتــراضــيــا تـمـامـا»، ويــقــول أيـضـا: «كــــمــــا أن هــــنــــاك سـبـبـا آخر قد يحفزك للتعرف عـــــلـــــى (ش)، أنـــــــــه هـــو نـفـسـه ســيــكــون مهتما بــــــالــــــتــــــعــــــرف عـــــلـــــيـــــك»، فيمنح الـكـاتـب لــراويــه الـعـلـيـم أقــصــى درجـــات الــــــــعــــــــلــــــــم والإحـــــــــــاطـــــــــــة ببطله «ش» وتـاريـخـه ودوافــعــه ســواء المُعلنة منها أو السريّة. شهوة الكلام يــــقــــدم الـــفـــخـــرانـــي بــــــطــــــلــــــه «ش» بــــــأنــــــه رجـــــــــــل فـــــــــي مـــنـــتـــصـــف الأربـــعـــيـــنـــيـــات، وهـــكـــذا الــــــــــــحــــــــــــال بـــــالـــــنـــــســـــبـــــة لـــــلـــــعـــــديـــــد مـــــــن أبـــــطـــــال قـــــــصـــــــص المـــــجـــــمـــــوعـــــة الـــذيـــن تـجـمـعـهـم مظلة مـنـتـصـف الــعــمــر، فيما يــــبــــدو أن هـــــــذا الـــعـــمـــر ذريــــــــعــــــــة لاســــتــــنــــطــــاق حــــــيــــــاتــــــهــــــم الـــــــعـــــــاديـــــــة الــــــرتــــــيــــــبــــــة، وتــــفــــجــــيــــر الـــغـــضـــب الــــــــذي تـــراكـــم فــيــهــا ووجــــــد تـنـفـيـسـه في الأمـاكـن الخطأ كما يصف لنا الــراوي بطل قصة «ضي الماس» فيقول: «لا يشعر فرج بالحقد تجاه أحد، بل الخذلان فقط، خذلان عميق وغائر يثقب الروح، ويخلف غــضــبــا تــافــهــا ومـــؤقـــتـــا، يــظــهــر دومـــــا في اللحظة غير المـنـاسـبـة، يوجهه الشخص الــخــطــأ ويــكــلــفــه ذلــــك كـــثـــيـــراً»، ويـــبـــدو أن رصيد الأخطاء المتراكمة لأبطال المجموعة يجعلهم بشكل لا إرادي في حالة انتظار إمــا لعقاب أو لمـواسـاة مـن مجهول، حتى لـو أتـاهـم بـصـورة وهمية محضة، فبطل هـذه القصة يقوم ببناء علقة مع حساب افتراضي لفتاة مجهولة يُخيّل إليه أنها «ملكه الحارس»، ويشعر أن عالمه انقبض لحظة تبخّر حسابها. مـــــن جــــهــــة أخــــــــــرى، يـــحـــتـــفـــظ أبــــطــــال المجموعة بذكريات اللحظات الثورية في حياتهم، حتى يـبـدو مجموع حكاياتهم تــكــثــيــفــا لـــصـــوت جــمــعــي عــــن الاحـــتـــجـــاج المطمور أسفل طبقات من المظاهر الزائفة، والـسـخـريـة مــن الــنــفــس، أو حـتـى منحها أســـــطـــــورة شــخــصــيــة يــســتــعــيــضــون بـهـا عــــن ســــــؤال واقـــعـــهـــم المُـــبـــهـــم، بــــل يـسـعـون لتأريخ لحظاتهم الثورية ضد طبيعتهم الــخــاضِــعــة والــتــمــرد عـلـيـهـا، فـبـطـل قصة «حكاية الرجل الذي أصيب بشهوة الكلم» يسعى جـاهـداً لتوثيق تلك اللحظة التي تغيّر فيها كل شـيء بعدما أصابته لوثة الكلم بعد صيام طويل عنه، فيبني سوراً شهيقا يفصل بي حـال حياته قبل وبعد الكلم، تلك اللحظة «الحا ِة» التي يجمع فيها أسرته الصغيرة مُعلنا تدشي عهد الـكـام، فيبدأ فـي حديث لـم ينقطع معهم عـــن أي شـــــيء؛ عـــن المـــنـــاخ والـــكـــتـــب وكـــرة القدم، فل تنقطع شهوة الكلم لديه حتى بات يُمطر جيرانه وشركاء وسائل العمل ووسائل النقل بأحاديث لم تنقطع، معها تـتـبـدّل حـيـاتـه رأســـا عـلـى عـقـب، ويصبح كلمه سببا في نبذه من الجميع، فيترك الـــحـــبـــل عـــلـــى غـــــاربِـــــه وهـــــو يـــتـــأرجـــح بـن الخرس والكلم، وكأنها سيرة تاريخية لا تنقطع عن التمرد والإذعان. الحي السويسري أمـــا بـطـل قـصـة «الــحــي الـسـويـسـري» فيضع كل مُدخراته من أجل تملّك شقة في هذا الحي الذي يقع وسط القاهرة، فيُغريه اســمــه الأوروبـــــــي الــــبــــرّاق قــبــل أن يـتـحـوّل إلـى حي عشوائي يُحاصره القبح من كل صوب، فيما يظّل هو يحلم بسقوط الثلج على هذا الحي ليغطي كل قبحه بالبياض، فيبدو أسـيـر هــذا الحلم الـوهـمـي البليد، بـــــــدلاً مــــن الــتــفــكــيــر فـي القضاء على عشوائية هـذا الحي بعدما أنفق كل ما يمتلك في سبيل الانتماء إليه، ولا يبدو هذا البطل مأزوما فقط فــــي تـــقـــديـــراتـــه، وإنـــمـــا مـسـحـوقـا داخــــل عجلة اســــتــــهــــاكــــيــــة هـــمّـــشـــت طـــبـــقـــتـــه الاجـــتـــمـــاعـــيـــة فـــجـــعـــلـــتـــه مــــــن زبــــائــــن «الـــــســـــجـــــائـــــر المُـــــهـــــربـــــة الــــــــرخــــــــيــــــــصــــــــة» الـــــتـــــي يـشـتـريـهـا مـــن صـاحـب دُكــان مُـجـاور، وتُصعّد القصة من توتر العلقة بـــــن الـــبـــطـــل وصـــاحـــب الــــدُكــــان، فـــي تـــراكـــم من المُـــــــفـــــــارقـــــــات الـــعـــبـــثـــيـــة والألعاب النفسية التي تـجـعـل الـبـطـل خاضعا لــلــبــائــع الــــــذي يــتــحــوّل إلـــــــــــى رمـــــــــــز لــــلــــسُــــلــــطــــة الــــقــــمــــعــــيــــة الــــيــــومــــيــــة، فــيــمــا يــظــل هـــو يبحث عـن سُلطة إنسانية أو اجتماعية أو معنوية، فل يجد شيئا يُذكر. يـــــبـــــدو بــــطــــل تــلــك الــــــقــــــصــــــة نـــــســـــخـــــة مـــن أبــطـــال آخـــريـــن هائمي فـــي فـــضـــاء المــجــمــوعــة، وإن اختلفت سياقاتهم مـــــــع الـــــتـــــيـــــه والــــبــــحــــث عـــــن تــــقــــديــــر، حــــتــــى إن الأغـــنـــيـــات الـــعـــابـــرة بـــاتـــت تـــجـــرح نـــدوبـــا تــــجــــاوز الــــزمــــن لـــهـــم بــالــتــهــمــيــش والــقــهــر والاســـتـــبـــدال، فـبـطـل «مـعـطـف المــعــجــزات» يفيض شاعرية بعدما يأتيه صوت عابِر لــــــــ«وردة» مـــن الـكـاسـيـت وهـــو فـــي طريقه إلـى عــزاء، فيبدو وصفه لما يعتمل داخله من وقع صوتها وهي تغني «لـولا الملمة يـــا هــــوى» أقــــرب مـــا يــكــون لاسـتـبـصـار لما يـعـتـمـل داخـــلـــه هـــو مـــن انـــفـــعـــالات هـــــادِرة يــــحــــاول تـتـبـعـهـا إلـــــى أن يـــصـــل إلـــــى ذلـــك الــشــيء المــفــقــود: «تــلــك المــشــاعــر تـربـكـه ما إن يــحــاول أن يُـمـسـك بتلبيبها، توجعه عاديتها وتفاهة الأسباب التي نشأت من أجلها، لكن ما إن يستمع إلى صاحبة هذا الصوت الشهواني المُنكسر كعزيز قوم ذل، المنطلق كملكة مخلوعة اكتشفت لتوها السعادة في العيش مُتحررة من المظاهر الـزائـفـة؛ حتى تكتسب انـفـعـالاتـه المعنى، الـشـيء الـشـاعـري المـفـقـود، فتستعيد ذاتـه شيئا من الاحترام والتوازن». أمـــا قـصـة «الــرجــل الـــذي مـحـا الـشـر»، فيواجه مشاعره الغاضبة بكتابة الرسائل إلى المتسببي في أذاه، فتتواطأ معه قوة ســحــريــة هــائــلــة مـــن أجــــل «مـــحـــو» هـــؤلاء «الأشـــــــــــــرار»، بــــصــــورة تــســتــعــيــد مــشــاهــد الأبـــطـــال الــخــارقــن وهـــم يـــحـــررون الـعـالـم ويـنـتـصـرون للخير، فيبدو البطل غـارِقـا في شعوره بالنشوة في معاركه الكونية ضـــد الـــشـــر؛ قــبــل أن يـنـقـلـب الـــسِــحـــر على الساحِر. القاهرة: منى أبو النصر انحازت للوجود الإنساني وشكلت نقطة تحول في مسيرة الشعر القصيدة التي تكتبُها الحرب مــثّــلــت شِـــعـــريـــة الـــحـــرب مـــدخـــاً رئـيـسـيـا لـــلـــكـــتـــابـــة المــــتــــزامــــنــــة مـــــع تــــراجــــيــــديــــا الـــحـــدث الـــواقـــعـــي عــنــد عــــدد مــهــم مـــن الـــشـــعـــراء الــعــرب المـــعـــاصـــريـــن. فـــقـــد شـــكّـــل هـــــذا الاتــــجــــاه الـفـنـي فـــي الــشــعــر حـــالـــة كــتــابــيــة مــمــيــزة تــــــراوح بي الــوصــف والامـــتـــداد الفلسفي والسيكولوجي للغة الشعرية وطاقتها الحية مـجـازاً ودلالــة. إنها كتابة شعرية بقصائد وأشكال مختلفة، وحــســاســيــات مـتـقـابـلـة، لـكـنـهـا جميعها تـقـرأ ســـيـــرة الــــحــــرب بـــنـــفَـــسٍ مــــتــــجــــاوِزٍ يــبــتــعــد عـن إســــهــــاب الــــســــرد لمــصــلــحــة الـــحـــالـــة الــقــلــقــة فـي الــكــتــابــة. وبـــالـــوقـــوف عــنــد نـخـبـة مـنـتـقـاة من هذه القصائد، نجد أنها انحازت في مجملها لـلـرؤيـة الإنسانية الـتـي تــرى فـي الـحـرب جـزءاً يسيراً من درامية هذا العالم الملتبس. كما أنها حاولت النظر إلـى تفاصيل الحياة في لحظة الحرب بوصفها هوامشصغيرة ودالّة، بحيث تتكثف عناصرها الإيحائية وتتكتل على نحو درامـــي يختزل المشهد الـعـام مـن خــال ثنائية الصراع والوجود. وخـافـا لمـا كـان عليه الـحـال فـي العصور المـــبـــكـــرة لــلــشــعــر الـــعـــربـــي، حــــن كـــانـــت مـعـظـم قصائد «الوغى» محمّلة بنفس الغنائية التي تـرى في الحرب مفتتحا نصيّا لحالات الزهو والـحـمـاس والـفـخـر، فــإن الـحـرب لــدى الشعراء المـعـاصـريـن شكلت نقطة تـحـول حاسمة على مــســتــوى المـــوقـــف. ابــتــعــد الـــكـــام الــشــعــري عن الأســلــوب الممجد للقتال، مما جعل القصيدة الــعــربــيــة الــحــديــثــة تــعــيــد الــنــظــر فـــي مـفـاهـيـم المـــواجـــهـــة والـــشـــجـــاعـــة والـــفـــروســـيـــة والـــبـــأس، منفتحة بــالأحــرى على قــــراءات تأويلية أكثر هشاشة وأكثر واقعية أيضا. لـــقـــد أخـــــذ الـــشـــعـــر الـــعـــربـــي مـــنـــذ أواســـــط الــقــرن الـعـشـريـن وصــــولاً إلـــى اللحظة الـراهـنـة من الكتابة موقفا آخر يناوئ فيه كل مرادفات الـــخـــراب بـشـتـى أشــكــالــه ومـسـبـبـاتـه ودوافـــعـــه آيـــديـــولـــوجـــيـــة كـــانـــت أو عـــقـــائـــديـــة. لـــــذا تــبــدو النصوص الشعرية الحديثة في خضم وصفها للحتراب أقرب إلى المرثيات منها إلى قصائد الموقف، رغم الاختلف التعبيري الذي يفرضه مـوقـع الإنــســان الـعـربـي داخـــل مشهد المــأســاة. مشهدٌ غالبا ما كانت الأرض العربية ساحته الأولـــــــــى. هــــكــــذا وجــــــد الـــشـــعـــر الـــعـــربـــي نـفـسـه يبتعد شيئا فشيئا عــن الغنائية الحماسية والبكائيات الطويلة، وعن المنبرية التي تقتل صــفــاءَ الـهـمـس فــي الـشـعـر والــفــن عـمـومـا. لقد أصـبـحـت الـقـصـيـدة تستحضر رمــزيــة الـحـرب فـي الـوجـود بوصفها تعبيراً فنيا عـن حـالات محددة من الصراع الإنساني الذي يلبس ثوب العنف مخلفا وراءه ندوبا قاسية ومضاعفات حضارية أكثر خطورة. «أبصرُ شمساً محطّمة وقُرى تمّحي وقلباً يُرفرفُ كالرّاية المظلمة ِوأرى الـــشـــيءَ يـمـشـي إلـــى عــكْــســهِ، الـضـدّ يمشي إلى ضدّه وأرى كيف تكون الأكُفّ محاربة والأصابِعُ مُستسلمة» بـــهـــذه الـــصـــور الــوصــفــيــة يـــرســـم الـشـاعـر اللبناني شـوقـي بـزيـع لـوحـة الــحــرب الـتـي قد تــكــون ألــوانــهــا الـشـاحـبـة بـقـيـة مـــن كــــامٍ كثير قاله «الرجل الذي لم يمت في الحرب الأخيرة». إن أبـرز ما تشير إليه الجمل الشعرية في هذا المقطع هو التناقض في حركة الواقع الدموي لـــلـــحـــرب، والــامــنــطــقــيــة الــــحــــادّة الـــتـــي تحيط بتفاصيل الحدث بي الفعل وضده. يحدث هذا الأمر كثيراً في عالمنا اليوم، فاليد القابضة على الزناد تواجه أصابعها المستسلمة أو أصابع الآخر الخصم المستسلمة. هذا الملمح الشعري في قصيدة بزيع يمكن أن يكون تعبيراً مناسبا في جـزء من معناه الدلالي عن بدايات الحرب الأهلية في لبنان، والتي جعلت اليد الوطنية الواحدة منقسمة على نفسها ودفعت بالشيء إلى أن يصبحضده في كثير من الأحيان. ولعل هذه الأسطر الشعرية تصبح ذات دلالة ممتدة في الزمن حي نستحضر واقع لبنان الآن. إن الشعرية العربية ما زالــت تقرأ سيرة الـــواقـــع الـــدمـــوي لـــدوائـــر الــحــرب الـكـثـيـرة، لكن بــصــيــغ جـــديـــدة لا تــــرى فـــي لــحــظــة الاحـــتـــراب مجرد ظرف زمني تتراكم فيه المأساة، بل حالة وجـــوديـــة تـتـفـاعـل فيها الطبيعة مــع نبضات الإنــســان الـخـائـف والمُــضــحّــي وغـيـر المتصالح مــع قـــــدره... هـكـذا تنضج فــي جـسـد القصيدة ألـــوان غير مرئية تعبّر بحساسية عالية عن التضامن الـكـونـي مـع الـضـحـايـا، وعــن مقدرة اللغة الخارقة في الشعر على إنصاف الإنسان المـنـتـمـي لـجـغـرافـيـا الـــحـــرب. وبـالمـحـصـلـة، من خلل هذا التمثل الافتراضي للمُتخيّل الدرامي ينبعث شيء من النفَس الرومانسي في الشعر، فــتــبــدو الـطـبـيـعـة والــــكــــون أقـــــرب إلــــى مـعـانـقـة الإنسان الضحية والانتصار لمظلوميته. يقول الشاعر المغربي محمد بنيس في مقطع مُجتزأ من قصيدته «أرضٌ بدماءٍ كثيرة»: «الأرْضُ هنا تتذكّرُ قتْلاهَا وتـسـيـرُ بــهــمْ مــن حُــلــم الأرْضِ إلـــى أرْضِ الحُلمِ، مُزيّنة برمُوزِ العْودة ْصــرْخــتُــهــم أبْــــعــــدُ مـــن لـــيْـــل المــــــــوْتِ، طــيــورٌ ْتحْملُهم فانْزعْ عنهُمْ يا صمْتُ بُرودة وحْدتِهم واتْرُكْ في أقصى الدمْعة ورْدتَهُمْ تنْمو ٌوزّعْ نـجَـمـاتِ الـبـحْـرِ عليْهمْ واسْــهــرْ قُــربَ الأمْواجِ لكي لا يسْرقهَا أحد بــجَــنــاحــيْــكَ احْـــضُـــنْـــهـــمْ فـــي أُفُــــــقٍ يــتــجــدّدُ، واجْعلْ منْ صرْختِهِمْ ظلاًّ يمْشي ويوسّعُ شوقَ الأرْضِ إلى أبناءِ الأرْضْ» على هذا المستوى من خيال اللغة وضمن ما تسمح به طاقة المجاز من اقتراحات، يمكن أن يـسـاهـم الــكــون فــي رســـم عـالـم مــــوازٍ للبشر المـسـتـضـعـفـن داخــــل جـغـرافـيـا الـــحـــرب. وحـن يــتــأمــل المـــتـــابـــع لمـــأســـاة الإنــــســــان الفلسطيني في غـزة ولاقتراحات المجازية التي ترسم أفق الـــخـــاص مـــن تـــراجـــيـــديـــا الــــحــــرب، يــجــد فيها شـيـئـا مـــن المـنـطـقـيـة. فـــالـــخـــارق الـطـبـيـعـي هو عــلــى الأرجــــــح مـــن يـمـكـنـه أن يــتــعــاطــف بشكل مُجدٍ مع الضحايا على نحو يجعلهم أحسن حـــالاً وأقـــل عـذابـا وأقـــربَ إلــى لحظة الانتصار الـــرمـــزي عـلـى الأقــــل. وعــلــى نـفـس هـــذا الإيــقــاع الرومانسي تعزف القصائد الحالمة سيمفونية المـحـبـة الـتـي يتفق عليها الـفـن كـونـيـا. هـكـذا، يـمـكـن أن يُـــشـــهِـــر الإنــــســــان المـــحـــاصـــر بـــأســـوار الحرب الشاهقة سلح المحبة في وجه العالم، مقاوما بذلك مأساوية واقعه الصعب. على هذا النحو، يمكن أن يكون العشق نوعا من أنـواع المقاومة الحديثة أو تعريفا معاصراً للشجاعة في سياق الحرب. يقول الشاعر السوري ياسر ْالأطرش في قصيدته «نحِبّ ما دُمنا نعيش»: ّ«سنحبّ ما دمنا نعيش ونعيش ما دمنا نُحب وأنا أحبكِ حين كان البحر مجتمعاً، وحين انشقّتِ الأنهارُ عنّي وأنــــــا أحــــبــــكِ حــــ يــضــحــك يـــاســـمـــٌ فـي ْدمشقَ، وحين تهطل فوق بغداد القنابل بغداد منكِ وأنتِ مِنّي، فلنحاولْ أن نُغنّي كي يظلّ غناؤنا معنا يقاتل» إن المــشــهــد الـــعـــام لــلــحــرب يـــوحـــي ضمن الإطــار الكلسيكي بالحاجة إلـى المحبة بديلً لـلـصـراع المـفـضـي فــي الـنـهـايـة إلـــى الاحـــتـــراب. لكن أن يكون العشق تحت زخات القنابل، فهو اقتراح شِعري مُوحٍ بالدلالة ومشجع على فهم جديد للحياة فـي الـحـرب كما يتخيلها الفن، لا سـيـمـا حـــن يــحــدث كـــل هــــذا وســــط عــواصــم يجتاح القتل دروبها وتتعايش فيها الشوارع مع الانفجارات بي لحظة وأخرى. لكن من جانب آخر، يُطرح سؤال مُربِك عن مدى قدرة القلب عاطفيا ووجدانيا على خوض هـــذا الـــنـــوع مـــن الــتــجــارب فـــي مــقــارعــة الـحـرب بالحب. ذلك أن الحرب لا تلقي بوقعها المدمر على مـورفـولـوجـيـا المـــدُن والأحــيــاء والــشــوارع فحسب، بل تتوغل عميقا داخـل خوالج الـذات الإنــســانــيــة فـتـجـعـلـهـا ركـــامـــا مـــن الأحــاســيــس المـهـشـمـة والمـتـنـاقـضـة وغــيــر الــواعــيــة أحـيـانـا. وحــن تـطـول الـحـرب وتتشعب مسالكها دون مسارات محددة تصبح هذه الذات عاجزة حتى عن الوصول إلى آفاق اللغة التي تحلم بالشعر قـــبـــل الــــحــــب وقــــبــــل الـــــســـــام. تـــصـــف الـــشـــاعـــرة الكويتية سعاد الصباح شيئا من هذا التبعثر الوجداني وهـذا الإخفاق الفني في قصيدتها «القصيدة السوداء» حي تقول: «كم غيّرتْني الحربُ يا صديقي ْكم غيّرَتْ طبيعتي وغيّرتْ أُنوثَتي، وبعثرَتْ في داخلي الأشياء ٌفلا الحوارُ ممكنٌ، ولا الصّراخُ ممكنٌ، ولا ْالجنونُ ممكن فنحنُ محبوسانِ في قارورة البكاء ما عدتُ بعد الحربِ، أدري من أنا؟» إن فقدان قـدرة الشاعر على إدراك الجزء الذهني والعاطفي من كيانه في خضم صدمته بمجريات الـحـرب وأهـوالـهـا، سيفضي بـه في الــنــهــايــة إلــــى حــالــة أخــــرى مـــن عــــدم الــفــهــم، أو بـــالأحـــرى الــتــســاؤل المــزمــن دون أمــــلٍ بـامـتـاك أجوبة. هكذا يسقط الشاعر في شرَك استفهام تراجيدي يجعل قصيدته تحاكم العالم على عبثية حـربـه وعـدوانـيـتـهـا، وتـسـائـل الإنـسـان داخـــل الـوطـن الـواحـد عـن جـــدوى هــذه الـحـرب. يقول الشاعر العراقي عماد جبار: «ما الذي نَجني من الحربِ، ْسِــوى مـا يجعلُ الأطــفــالَ مَـرمِـيـَ فـي كُل ْتقاطُع ْيغسلونَ العربات ويبيعونَ السّجائر ْويُـــذِلّـــونَ كثيراً كـبـريـاءَ الـعـيـشِ فـي ضجّة شارع ْفـالإطـاراتُ تــدوسُ القلبَ والعُمرَ وأغصانَ المشاعر ْما الـذي نَجني من الـحـربِ سـوى أن يَقتُلَ الشّاعرُ شاعر وسوى أنْ يفقدَ الحبّة طائِرْ». * كاتب وشاعر مغربي عمر الراجي بالوقوفعند نخبة منتقاة من هذه القصائد، نجد أنها انحازت في مجملها للرؤية الإنسانية التي ترى في الحربجزءاً يسيراً من درامية هذا العالم الملتبس «الفن والإبداع»... مفاهيم أولية فيجماليات التشكيل فـي كتابها «الـفـن والإبــــداع» الـصـادر عـن دار «أقـــام عربية» بالقاهرة، تتناول الباحثة والناقدة التشكيلية رضا معوض مفاهيم وأفكاراً أولية لجماليات ومفاهيم عـلـم الإبـــــداع الـتـشـكـيـلـي، لا سـيـمـا الـرسـم والــنــحــت. وتـــؤكـــد فـــي الــبــدايــة أن الإبــــداع كفكرة عامة يشير إلى الهروب من أنماط الحياة المـتـعـارف عليها حتى نتمكن من رؤيــــة الأشـــيـــاء بـــصـــورة مـخـتـلـفـة، كـمـا أن الـعـلـمـاء المـعـاصـريـن اخـتـلـفـوا فــي تحديد مفهوم الإبـداع بشكل محدد لأن كلً منهم تناوله من زاويته الخاصة أو تخصصه أو اهتماماته الشخصية، وجـاءت تعريفاته تـتـســم بـــالمـــرونـــة والـــســـعـــة. فــهــنــاك بعض التعريفات التي تؤكد على أهمية الإنتاج الإبـــــداعـــــي أو نــــدرتــــه أو فـــائـــدتـــه وأخـــــرى تـركـز عـلـى العمليات العقلية المنظمة له والبعض الآخـــر يـركـز على مـسـار التطور والـتـغـيـيـر فـــي الــحــيــاة الـنـفـسـيـة لـلـمـبـدع. كما تـدور بعض التعريفات حـول الخبرة الـــذاتـــيـــة لــلــمــبــدع، وهـــنـــاك مـــا يـــؤكـــد على إدراك المشكلة الإبـداعـيـة وطـــرح مدخلت تقنية جــديــدة. يـعـرّف الإبــــداع فـي المعجم «الـــوجـــيـــز» ومــعــجــم «مــخــتــار الــصــحــاح»: «إبداع الشيء هو اختراعه على غير مثال ســـابـــق». وتـــعـــرف «المـــوســـوعـــة الـنـفـسـيـة» الإبــــداع بـأنـه «الـــقـــدرة عـلـى الابـتـكـار الــذي يكون رسما أو فكرة أو نظرية أو اختراعا، والــعــمــل المـــبـــدع لا يــصــدر إلا عـــن شخص خـاق لـه خصائصه وتفكيره ولـه خلفية اجتماعية وثقافية وظـــروف بيئية تمكن الفرد من مواجهة مشكلة تستعصي على الحل فيتصدى لها ويقدم حلولاً مدهشة». وتستشهد المـؤلـفـة بـالمُـنَـظّـر الألمـانـي رودلـف أرنهايم، حيث يرى أن من شروط الإبـداع الحقيقي في عالم الفن التشكيلي هـــو الــعــفــويــة والـــصـــدق واحــــتــــرام قــوانــن الخامة وإقامة حوار حقيقي معها، مشيراً إلـى أنـك لا تستطيع أن تصنع من الفخار نـفـس مـــا يـمـكـنـك أن تـصـنـعـه مـــن الـحـديـد الخام إلا إذا كان إجباراً وافتعالاً. ويشير إلـــــى أن الإحـــــســـــاس الــــــذي يــبــعــثــه الــعــمــل سوف يكون مختلفا، في هذه الحالة، كل الاختلف وذلك لأن الخامة تحرك حواسنا وتجعلنا نشكل عملً فنيا لـه مواصفات وشروط تنبع من داخله. ويـــؤكـــد أرنــهــايــم أنـــه عـلـى الــفــنــان أن يرتفع بالخامة من كونها مجرد مادة إلى كونها تحديا يحمل فكراً له دلالات وأبعاد تـــعـــبـــيـــريـــة مــخــتــلــفــة كـــــي تـــصـــبـــح طــريــقــة تــفــكــيــرنــا ابـــتـــكـــاريـــة. ويــــوضــــح أن هــنــاك معايير وأسسا لاختيار الخامة، لا سيما فـــي حـــالـــة الــنــحــت، مـنـهـا مـلـمـس الـخـامـة الحسي مـن حيث النعومة أو الخشونة، طبيعة الخامة، ألـوانـهـا، مـدى صلبتها. والفنان المبدع هنا هو الذي يسيطر على الخامة ويجعلها طيعة لأغراضه، فيحرك جمودها ويُنطق صمتها تعبيراً إنسانيا يتلقاه غيره مـن البشر بالفهم والـتـذوق، هــــكــــذا تـــتـــحـــول تـــكـــويـــنـــات المـــــــــادة الـــخـــام بـخـطـوطـهـا وألـــوانـــهـــا وتـشـكـيـلـهـا الـفـنـي إلى أبعاد إنسانية تغير من ملمح العالم فيبدو متعاطفا مع غايات الإنسان. القاهرة: «الشرق الأوسط» يضع الكاتب أبطاله في مُواجهات ذهنية ونفسية تجعلهم يعيدون تأمل لحظات مشهدية من حياتهم
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky