issue16807

الثقافة CULTURE 18 Issue 16807 - العدد Tuesday - 2024/12/3 الثلاثاء «الأبيقورية» و«الرواقية» على الشاشة الكبيرة الصورة المرئية هي أفضل وسيلة لنقل الأفكار الفلسفية مهما كـانـت صـعـبـة، لـقـد كتبت مــن قـبـل عــن الـفـنـانـن الــذيــن استخدموا السينما - أو التلفزيون - لتبسيط أفكار «الوجودية» أو «الرواقية»، وأظن أن الصورة ليست محصورة بأنواع معينة من الفلسفات، بل بإمكانها تقريب أي فلسفة ولو كانت فلسفة هيغل نفسه. » هـــنـــاك عــدة 2 فـــي تـحـفـة ريـــدلـــي ســـكـــوت الأخـــيـــرة «المُـــجـــالـــد فلسفات تتحدث وتتنافس، ولعله مما يزيد استمتاعنا بالفيلم أن نتعرف على تلك الفلسفات، عندما تنقل الشخصية الرئيسة مقولة: «إذا كنا في الوجود فإن الموت لن يكون موجوداً، وإذا جاء فعلاً فإننا لن نكون في الوجود»، وبالتالي فلا حاجة إلى الخوف منه لأننا لن نلتقي به أبداً، فأحدنا سيكون حاضراً والآخر سيكون غائباً. هذه المقولة لأبيقور، ونحن نعلم أن أبيقور أحد الفلاسفة الرئيسيي في العصر الهلنستي، الذي امتد على مدى ثلاثة قرون قبل الميلاد، وأرسطو في عام 323 بعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام قبل الميلاد. 322 يبدو أننا عثرنا على مقولة أبيقورية في بيئة رواقية، فالفيلم بجزئيه يسبح في بحر «الرواقية». لطالما كان أبيقور عرضة لسوء الفهم، خصوصاً عند الحديث عن مذهب اللذة ونظريته في السعادة. يتضح هـذا عندما ندقق في مذهبه، فالسعادة عنده هي العيش في سلام بعيداً عن الألم، وطعامه الخبز والمـاء، في حياة زهد تشبه حياة المتصوفة. كل ما يُنسب إلى أبيقور مما يدعو إلى العبّ من الملذات هو في الحقيقة من كلام أرسطبوس، تلميذ سقراط. ذلك الفيلسوف المنسي الذي كـان يعيش المتعة فعلاً في حياته نديماً للملوك، ولا يكترث بأي علم لا يزيد من استمتاعنا بالحياة، ويقرر أن الحكيم لا يقلق ولا يكترث بالأمور التافهة. وقــد ارتفعت أسهم نسخة أرسـطـبـوس المنقحة (أبـيـقـور) في الـعـصـر الــرومــانــي لـتـكـون إحـــدى ثـــ ث فـلـسـفـات مهيمنة فــي تلك الفترة. الثانية هي «الـرواقـيـة»، والثالثة هي «الشكوكية». بينما تـراجـعـت كـل الفلسفات الأخـــرى لتبقى فـي دائـــرة اهـتـمـام النخبة فقط، لأن الإنسان العامي لم يعد مشغولاً بالوجود والفلك ومراقبة الـكـواكـب ودراســــة الــحــيــوان، بـقـدر مــا هــو مـشـغـول بالتخلص من الخوف والألم والجوع في أزمنة مضطربة. كان الصراع بي «الأبيقورية» و«الرواقية» شديداً، فلا تسلك واحــــدة طـريـقـ أو تتبنى رأيــــ حـتـى تـسـلـك الأخــــرى طـريـقـ غـيـره. و«الشكوكيون» يرفضون الجميع، وإن كان عداؤهم أشد للرواقيي. إلا أن الجميع متفقون عـلـى أن الفلسفة ليست لـعـبـ ، بــل هــي فن يهدف إلـى تحقيق الشفاء الـروحـي، قبل أي غاية أخـــرى. ولا شك أن المسيحية كانت تنافسهن في الخفاء، حتى جاء نصرها الكبير عندما عُمد قسطنطي مسيحياً فـي الـقـرن الـرابـع وأصبحت دين الإمبراطورية الرسمي بعد قرون من الاضطهاد. » لا ينطلق مـن العصر الهلنستي، بـل بـعـده، من 2 «المـجـالـد قـبـل مـيـ د 27 عـصـر الإمـــبـــراطـــوريـــة الــرومــانــيــة الــــذي ابـــتـــدأ سـنـة المــســيــح. لــقــد حُــســمــت الـــحـــروب الأهــلــيــة والـــصـــراعـــات الـسـيـاسـيـة بانتصار أوكـتـافـيـان على مــاركــوس أنـطـونـيـوس وكليوباترا في قبل الميلاد، والغزو اللاحق لمملكة البطالمة 31 معركة أكتيوم في عام قبل الميلاد، منح مجلس الشيوخ الروماني 27 في مصر. في عام أوكتافيان سلطة عسكرية شاملة، مما يعني توليه العرش كأول إمبراطور روماني. وعــــاش الـــنـــاس فـــي أول قــرنــن مـــن عـمـر الإمـــبـــراطـــوريـــة فـتـرة مـــن الاســـتـــقـــرار والازدهـــــــار غـيـر المـسـبـوقـن تــعــرف بــاســم «الــســ م الــرومــانــي»، ومـــن ضـمـن الأبـــاطـــرة الــذيــن حـكـمـوا كـــان الإمـبـراطـور مـاركـوس أوريـلـيـوس الــذي دعــا للفلسفة الـرواقـيـة. يـحـاول الفيلم تــصــويــره عــلــى أنــــه جــمــهــوري أوصــــى بـالـحـكـم مـــن بــعــده لمجلس الـــشـــيـــوخ. بـيـنـمـا الأقــــــرب لـلـصـحـة أن شــيــئــ مـــن هــــذا لـــم يــحــدث، وأنــــه أوصــــى بـالـحـكـم مــن بــعــده لــولــده كـــومـــودوس، وأنــــه قــد نكّل بالمسيحيي أشد تنكيل. مع القرب بي الفلسفتي إلا أننا نلحظ بينهما اختلافاً. ففي «الأبيقورية» تتحقق السعادة بالسعي وراء المتعة الذي يُفهم على أنــه غـيـاب الألـــم والـقـلـق، وتــدافــع عـن المــلــذات البسيطة والـصـداقـة، والـفـكـر باعتباره مفتاح حـيـاة الـرضـا. بينما تــرى «الــرواقــيــة» أن السعادة تكمن في الفضيلة والعيش وفق الطبيعة والعقل، وتنمية السلام الداخلي بغض النظر عن الظروف الخارجية، ولا يعطون الأولوية للمتعة. بدلاً من ذلك، يؤكدون على أن الفضيلة، ويعنون بها الحكمة والشجاعة والـعـدالـة والاعــتــدال، هـي الخير الحقيقي الوحيد، وأن الملذات الخارجية ليست ضرورية لحياة جيدة. إدارة الـعـواطـف وفهمها ضــروريــة عـنـد «الأبــيــقــوريــة» لأنها يمكن أن تـــؤدي إلـــى الألـــم والاضـــطـــراب. ولـــذا تشجع عـلـى تنمية المشاعر الإيجابية متوسلة بالصداقة والـتـأمـل الفلسفي. بينما تدعو «الرواقية» إلى السيطرة على العواطف ولا تدعو إلى ابتداع مشاعر إيجابية، بل تدعو إلى قبول ما هو كائن. المشاعر السلبية تنشأ من الأحكام الخاطئة، ولذا يجب على المرء أن يسعى جاهداً للحفاظ على الاتزان وقبول ما لا يمكن تغييره. وتؤمن «الأبيقورية» بمادية الكون، متأثرة بالمذهب الـذري. يعتقدون أن كل شيء مصنوع من ذرات، وأن الآلهة لا تتدخل في شؤون الإنسان. بينما يؤمن الرواقيون بعالم عقلاني منظم تحكمه سببية إلهية (لــوغــوس). إنهم يــرون أن الـكـون مترابط ويـؤكـدون على أهمية قبول الفرد لمصيره كجزء من خطة عقلانية أكبر. التركيز الأخـ قـي فـي «الأبـيـقـوريـة» يـقـوم على تكثير المتعة وتقليل الألـــم. ويتضمن ذلــك دراســـة متأنية لنتائج الأفـعـال على رفاهية الفرد ورفاهية المجتمع. فيما يقوم التركيز الـرواقـي على العيش الفاضل وقيام الفرد بدوره في المجتمع، وبالتصرف وفقاً للعقل والفضيلة، بغض النظر عن النتائج، هل هي سعيدة أم لا، وإن أدّت إلى حرمان الأم من ابنها. خالد الغنامي ًهدى بركات في «هند أو أجمل امرأة في العالم» العيشعلىحدّ الذاكرة... روائيّا «السحر»... دراسة أكاديمية ترصد مفاهيمشعبية خاطئة تلتقط هدى بركات، في روايتها الجديدة «هند أو أجمل امــرأة في العالم» الـصـادرة عن «دار الآداب» لـحـظـة مـــوت الأم. تـلـك الهنيهة المفصلية القاصمة، التي تنقل المــرء مـن حالة عيشه اللحظوية، إلى مراجعة الذات واستقراء الذاكرة وإعادة ترتيب الماضي، علىضوء الفقد العضوي الباتر. هكذا تترك الروائية لبطلتها المـصـابـة بـمـرض «الأكـرومـيـغـالـيـا»، أو تضخم الأطـــراف، حرية أن تمضي جيئة وذهـابـ على خــط الـــزمـــن، فــي مـحـاولـة للتصالح مــع الـــذات والذوات الأخرى التي أحاطتها. حين تموت الأم مـــاتـــت الأم إذن، وهـــــا هــــي هــــنــــادي تــعــود للوطن، وتـجـد نفسها فـي تلك الأمـاكـن القديمة الــتــي عـرفـتـهـا بـرفـقـة والــدتــهــا، لكنها هـــذه المــرة وحــــــيــــــدة، ومـــعـــهـــا زادهـــــــــا الـــثـــقـــيـــل مـــــن الـــصـــور والحكايات التي انقضت، وتجربتها القاسية في الغربة، وحاضرها الصعب، وقد تعرضت البلاد لعواصف من الأحداث الأليمة، لعل آخرها انفجار مرفأ بيروت، الذي تبدو آثاره جلية في الرواية، وفي حياة الأهالي. بـالـروايـة شخصيات عــدة: الأم التي رحلت وتـــركـــت خـلـفـهـا عـ قـتـهـا المـــتـــوتـــرة مـــع هـــنـــادي، وهند الشقيقة التي رحلت بـاكـراً، والجيران (أم مـــنـــصـــور)، والـــعـــمـــات وعـــامـــل الإنـــتـــرنـــت أحــمــد، والــحــبــيــب رشـــيـــد، وآخــــــــرون، يـــظـــهـــرون سـريـعـ ويغيبون. غير أن القصة تبدو للقارئ وكأنها «مــونــولــوغ» طـويـل بسبب أن الـــراويـــة - هـنـادي التي على لسانها يـدور السرد، وتتفرد وحدها بـأن تحكي لنا قصتها، من وجهة نظرها وكما تـــراهـــا، مــن زاويــــة خــاصــة بـسـبـب المــــرض الــنــادر الــذي تعاني منه وجعل حياتها متفردة أيضاً. فهو ينتج عن اضطراب هرموني لا يجعل الشكل مشوهاً والــــرأس متضخماً، والـجـسـد متعملقاً، والشعر كالإبر، فحسب، بل يتطور بمرور الوقت ويتسبب بإعاقات، وعلل تودي بصاحبها، أو في أحسن الأحوال تتسبب بتدهور صحته. حـال هنادي نعيشه معها وهـو يتردى مع تـقـدم العمر، ويسهم أيـضـ فـي تأجيج الـذاكـرة، وتفتيق الجراح. المشكلة تبدأ باكراً، حي تلحظ الأم المـفـتـونـة بـالـجـمـال أن هــنــادي الـتـي أرادتــهــا بـــدلاً عـن ابنتها الفقيدة هند بجمالها الأخـــاذ، لـــن تــكــون كـمـا تـمـنـتـهـا، بـــل سـتـجـلـب لـهـا شفقة الآخــريــن ونـظـراتـهـم المـــواربـــة، عـنـدمـا تـبـدأ تفقد حسنها، وتظهر عليها آثار المرض. «بدأت عظام رأسـي تكبر على غير اتساق. ذقني يبرز بقوة» تقول هنادي: «وفكاي صـارا كفكي رجـل تجاوز المـراهـقـة، مباعداً بـن أسناني. عظام الحاجبي انــتــفــخــت كـــمـــا عـــنـــد الـــــقـــــردة، وتــــكــــورت جـبـهـتـي وتحززت كطابة مبعوجة، وفقد صوتي نعومة صوت البنات». لـــم تـسـتـسـغ الأم الأمـــــر ولــــم تـتـقـبـلـه، لـذلـك تـحـجـب هـــنـــادي عـــن أعــــن الـــنـــاس، تـضـعـهـا في العلّية، تخبئها هناك، تناولها الأكل، وما يلزم، وربما غابت عن البيت لوقت، ونسيتها. بينما تقضي هـي وقتها بـقـراءة تلك المـجـ ت والكتب الـتـي تركها والـدهـا قبل أن يغيب. وحــن يسأل عـنـهـا أحـــد مـــن المـــعـــارف، تــقــول الأم عـنـهـا، إنـهـا سافرت عند عمتها. تـــحـــاول هـــنـــادي أن تــجــد المــــبــــررات لـجـفـاء والدتها: «حرام أمي حبيبتي. مسكينة. كان ذلك فوق طاقتها. كانت تتعذب أكثر مني من بلوتي». لقد أصيبت الأم بصدمة من مرض ابنتها؛ وباتت تختفي وتنام في غرفتها بالساعات، تخرج من الـبـيـت ولا تـــعـــود، تستفيق فـــي الـلـيـل وتبحلق بعيني مشدوهتي، كمن يستيقظ من كابوس. البحثعن الذات لا إحساس من هنادي بالضيم، إذن، بقدر ما هي الرغبة في الانفصال عن الأم، لكن عمتها الـتـي لـجـأت إليها ترسلها بـهـدف الــعــ ج، عند عمة أخرى في باريس، لن تعثر عليها أبـداً. في المـقـابـل، تقع هـنـادي فـي مطبات وتـتـعـرف على شـخـصـيـات لــكــل مـنـهـا سـمـتـهـا، هــنــاك غـلـوريـا الراقصة النيجيرية التي تحنو عليها، وفرنسوا الـــذي يتبي لها بعد ذلــك أنــه رشـيـد، الجزائري الأصل، المبتور الذراع، صاحب الماضي الغامض، تـربـطـهـا بـــه صـلـة حـــب لـــم تـكـتـمـل، وســـرعـــان ما يـــرجـــع إلــــى حـــيـــاة الــتــشــرد والمـــــخـــــدرات. هــــذا ما سيقودها إلى رجعة باتجاه الوطن. قـــلـــيـــً مـــــا انـــشـــغـــلـــت الـــــــروايـــــــات الـــعـــربـــيـــة بالعلاقة بي الأهـل وأولادهــم الذين يعانون من عاهات، وصلات تشوبها الكثير من التعقيدات، قد تتراوح بي الحب الجارف النابع من الشفقة، والنفور المتأتي من رفض القبول بواقع قاسٍ له تبعات ممتدة فـي الـزمـن. لكن هـنـادي، لا تحقد ولا تكره، بقدر ما تبحث عن نوافذ حب لتريح نفسها. «وأنــا في بحثي الـدائـم بل المحموم عن أصـــول الـحـب وأغـــراضـــه، وخــاصــة حــب الأم، أي حـــب أمــــي لــــي، كــنــت أحــفــر فـــي كــامــل كــيــانــي كل معلومة أقـرأهـا أينما وجـــدت». استشعرت هذا الـحـب مـثـ ً، حـن أصيبت بـالـجـدري، رأت لهفة أمـهـا عليها. فحب الأم حقيقة لا شـك فيها، إلا في بعض حـالات الخلل الهرموني الشاذة. هذا كله لترتاح وتقول إن الأمر قدري، ولا مسؤولية لأحد: «أنا ملكة الهواجس... ملكة الحظ السيئ». هنادي شخصية أقرب إلى اللطف والدعة، والأم تـبـدو وكـأنـهـا تمتلك الــشــيء وضــــده، لها ســـمـــات مـــتـــنـــاقـــضـــة، مـــمـــا يـــصـــعّـــب عـــلـــى الابـــنـــة العائدة، بناء شخصيتها من جديد، تحاول كي تحرر نفسها من عـبء العلاقة المتوترة مع الأم أن تجد لها مبررات لسوء مزاجها: «ربما صارت أمي قاسية ومنعزلة ولئيمة، أنا أيضاً قد أصبح كذلك، حي يشتد علي الألم. تصبح رؤية الناس أو سماع أصواتهم عذاباً خالصاً». مناجاة الكائنات وفيما يشبه الهروب أو مؤانسة الذات تلجأ هـنـادي إلـى مصاحبة الشجر والـنـبـات، والقطة زكية، التي ترافقها في يومياتها، والكلب رامبو، وشــجــرة الــتــن المـــوجـــودة فــي الــشــرفــة، وشـجـرة الـصـفـصـاف. تقضي وقـتـ مـع رشـيـد، وآخـــر مع الميكانيكي نبيل ونكتشف جانباً من شخصية هـــنـــادي وهــــي تــتــعــرف عــلــى عـــالـــم جـــديـــد، عبر الإنترنت بمعونة أحمد العامل الباكستاني قرب منزلها. لكن الكاتبة تبقي كل هذه الشخصيات فـي خـدمـة الكشف عـن أبـعـاد شخصية هـنـادي، وتــلــك الــعــ قــة المـلـتـبـسـة مـــع أمـــهـــا، وكــأنــمــا هي حكاية نسائية أكـثـر مـن أي شــيء آخـــر. ونساء لهن تجربة خاصة، لسن كبقية النساء. فالعلاقة بي الأم وشقيقها، بقيت متشنجة، ومع والدها لـم تكن سهلة. هـنـادي هـي الأخـــرى، كـان حظها مع الرجال يتحرك صعوداً ونــزولاً، لتنتهي في عزلتها. هـــــي أيــــضــــ رحــــلــــة بـــحـــث الابـــــنـــــة الـــغـــائـــبـــة الـتـي تشعر بـالـنـدم على مـا فـــات. هـربـت لتريح والدتها منها. «هربي كان صفقة لصالحنا نحن الاثنتان... لكنها قد تكون تغيرت وندمت وحي ندمت لم يعد بمقدورها أن تجدني، وأن تعتذر مني». تـتـحـرى حـقـيـقـة شـخـصـيـة الأم مـــن رائـحـة الــشــراشــف والـنـبـش فــي الأغـــــراض، ورق مخبأ، «لمــــاذا احـتـفـظـت أمـــي بـمـزقـة الــجــريــدة هـــذه وقـد طوتها بعناية؟ هل تكون نسيتها أو أضاعتها بي غيرها من الأوراق وتاهت عنها تماماً؟». إيقاع هادئ الـنـص يسير وفــق إيـقـاع هـــادئ، وبـطـيء، يـــواكـــب حـــركـــة هـــنـــادي الـــتـــي تـفـتـقـد للحيوية بـسـبـب المــــــرض، إلــــى أن نـكـتـشـف فـــي الـنـهـايـة سرّ والدها، وقصته المثيرة، التي خبأتها الأم عنها. وهو ما يربط النص قليلاً بما نشهد من أحداث حالية. حيث إن الأب ذهب إلى إسرائيل مــع الـعـمـ ء الــذيــن هــربــوا بـعـد حـــرب التحرير لا لأنـه عميل بل اعتقد أنها وسيلة 2000 عـام للهروب مـن وجـه العدالة بعد ارتـكـاب جريمة بـطـريــق الـخـطــأ ومـــطـــاردتـــه بــهــدف الـــثـــأر. ظن أن الــعــودة إلــى الـوطـن ستكون متاحة لاحقاً، لكنه بقي هناك، وفي إسرائيل صارت له حياة أخرى، نكتشفها في نهاية الرواية. صحيح أن تيمة الـحـرب ليست فـي مركز القصة، لكنها مبثوثة فيها، هـي فـي الخلفية من خلال غياب الأب وانكفائه عن الصورة، ثم حــن يـشـكـل المــفــاجــأة بـنـهـايـتـه غـيـر المـتـوقـعـة، ونكتشف أســــراره الــصــادمــة. الــحــرب حـاضـرة فـي التفاصيل اليومية، فـي تعامل الـنـاس مع بعضهم، في انقطاع المـاء، في غياب الكهرباء، وأزمات العيش. روايــــة تـأمـلـيـة، هـــادئـــة، مـشـغـولـة بالحفر الداخلي الباطني، أكثر من عنايتها بالصخب الخارج والإيقاع الحياتي للبطلة. وهي مواكبة حميمة لامــــرأة مـريـضـة، تـكـافـح وحــيــدة، دون تبرّم كي تصل إلى نهايتها بسلام. «الـسـحـر - فــي المعتقد الـشـعـبـي» عـنـوان الـــكـــتـــاب الـــــصـــــادر عــــن ســلــســلــة «الـــــدراســـــات الشعبية» بالهيئة المـصـريـة الـعـامـة لقصور الثقافة وتـرصـد فيه الباحثة شيرين جمال الدين البرادعي تجليات الممارسات العملية والمفاهيم المجتمعية وما يكتنفها من أخطاء وبــعــد عـــن المـنـطـق فـــي هـــذا الــســيــاق. وتشير فـــي الـــبـــدايـــة إلــــى أن «الـــســـحـــر» مـــن الـنـاحـيـة اللغوية جـاء في مختلف القواميس العربية بمعانٍ مختلفة، حيث نجد أن هناك «سحراً» بمعنى الخديعة أو إظـهـار الـشـيء على غير حـقـيـقـتـه، أو كــمــا يـــقـــول «المـــصـــبـــاح المــنــيــر»: «السحر هو إخراج الباطل في صورة الحق». أمـــا فــي «لــســان الـــعـــرب» فـهـو «صــــرف الـشـيء عـن حقيقته إلــى غـيـره فـكـأن الـسـاحـر لمـا رأى الـبـاطـل فـي صـــورة الـحـق وصـــوّر الـشـيء إلى غير حقيقته، فقد سحر الشيء عن وجهته». وتـذهـب بعض التعريفات إلــى إمكانية استخدام المصطلح لتحقيق «الإيذاء»، وسُمّى السحر سـحـراً لأنــه يـزيـل الصحة، ويـقـال في الـلـغـة «ســحــره بــكــذا» أي خــدعــه، وسـلـب لبه، وسحر عينه بمعنى استماله أو أفسده. وقـــــد فـــــــرّق ابـــــن خــــلــــدون بــــن «الـــســـحـــر» و«إتيان الكرامة»، فالكرامة لا يأتي بها سوى الولي، وذلك لكونه مجبولاً على أفعال الخير، مصروفاً عن أفعال الشر. أما الساحر فلا يقع منه إلا الشر ولا يُستخدم ســوى فـي أسباب الــــشــــر، وبــــذلــــك يـــكـــونـــا عـــلـــى طـــرفـــي نـقـيـض. كما ذكـر ابـن خلدون أن السحر علم مكتسب يتحصل بالتعليم والصناعة، بينما الكرامة هــــي مــنــحــة إلـــهـــيـــة لا تـــحـــتـــاج إلـــــى شـــــيء مـن المعاناة. والمعجزة كذلك لا تُعطى إلا لأنبياء الله ورسله، فهي قوة إلهية تبعث في النفس ذلــــك الــتــأثــيــر، وهــــي مـــؤيـــدة بــــروح الــلــه على فعل ذلـــك، بينما الساحر يفعل ذلــك مـن عند نفسه وبقوته النفسانية، على حد تعبير ابن خلدون. أما «العرَافة» فهي مهارة التنبؤ بواسطة الاتـــصـــال بـمـا يـوصـف بـأنـه «أرواح شـريـرة» وتــرتــد فــي مـعـنـاهـا الأصــلــي إلـــى مـعـنـى آخـر عكس ما صار شائعاً عنها، فقد كان العرّاف هو الشخصصاحب الحكمة والبصيرة. ومن أنـــواع الـعـرَافـة «الــفــأل»، وهـو قـــراءة المستقبل بـالـخـطـوط والـــرســـوم والآثــــار والأشـــكـــال، أمـا «الطيرة» فهي فأل يدعو إلى التشاؤم. ويــــشــــيــــر الــــكــــتــــاب إلـــــــى أن الــــســــحــــر فــي المعتقدات الشعبية، ينقسم إلـى نوعي هما «ســـحـــر الــــرفــــاعــــي» و«الــــســــحــــر الــــعــــدوانــــي»، يختلفان حسب الغرض المرجو منهما وموقع القمر الذي يلعب دوراً مهماً في نجاح أو فشل «العملية السحرية»، فالسحر الرفاعي ينجح في النصف الأول من الشهر القمري، أما النوع الثاني فيختص به النصف الثاني من الشهر ذاته. ويـــــعـــــد تـــصـــنـــيـــف الألــــــــــــــوان مــــــن أشـــهـــر التقسيمات الخاصة بالسحر، فاللون يرمز لـلـغـرض المــرجــو مــن الـعـمـلـيـة كـلـهـا. ويـهـدف «السحر الأبيض» إلى النفع للفرد والمجتمع دون إلحاق أذى بالآخرين، وهو يختصعادة بالتنبؤ بالمستقبل أو العلاج والـتـداوي، أما «الـسـحـر الأســــود» فـيـهـدف إلـــى إلــحــاق الأذى بالآخرين وتحقيق مصلحة شخصية. وبـــحـــســـب الـــبـــاحـــثـــة، عُــــرفــــت مـــصـــر فـي العالم القديم بأنها أرض السحر والسحرة؛ لأن المصري القديم عـرف التمائم والتعاويذ المكتوبة والرقى والطلاسم. وكـان الهدف من هـــذا كـلـه حـمـايـة حــيــاة الإنـــســـان والآلـــهـــة من الـقـوى الخفية التي لا يرونها، فكان السحر يـسـتـخـدم فــي عـــ ج الأمـــــراض ودرء الـخـطـر، ولـــم يـــمـــارس المـــصـــري الــقــديــم الـسـحـر لإيـــذاء الآخــريــن. واسـتـمـر الاعـتـقـاد فـي السحر لدى المصريي خلال العصور التاريخية المتعاقبة حتى أصبح أحـد الأمـــراض الاجتماعية التي انـــتـــشـــرت فــــي مـــصـــر فــــي ذلـــــك الــــوقــــت. وكــــان أكثر انتشاراً في «الحريم السلطاني»، حيث تــــعــــددت زوجــــــــات ســـ طـــن مـــصـــر فــــي حـقـب مختلفة وأخذت كل زوجة منهن تسعى لتكيد لـغـيـرهـا وتـظـهـر عـلـيـهـا، حـتـى أنـــه إذا مـرض الـسـلـطـان اتـهـمـت أمـــه إحــــدى زوجـــاتـــه بأنها سحرته، فيتم ضرب جواريها حتى يعترفن. أمـــا عـامـة الــنــاس فـحـاولـوا اتــقــاء شــر السحر بكثير من العادات والممارسات التي تعملها النساء في بيوتهن من إطلاق البخور وإحراق الأشياء والصور. وتـــعـــد الــــدوافــــع الـشـخـصـيـة أحــــد أشـهـر الأسباب التي تدفع البعض لاحتراف أعمال السحر، مثل الرغبة في تقديم المساعدة إلى الغير من خـ ل حل بعض مشاكلهم، كما أن هناك دوافع شخصية تكمن في رغبة البعض فـــي اكـــتـــســـاب مــكــانــة خـــاصـــة داخـــــل المـجـتـمـع ليتمكن من السيطرة على أعدائه والتخلص من أذاهم. وتلعب الـوراثـة دوراً رئيسياً في مزاولة الــســحــر، حـيـث يـتـعـلـم «الـــســـاحـــر» المـهـنـة عن والــــده أو أحـــد الـسـحـرة المـحـتـرفـن وقـــد يـرث السمعة التي يتمتع بها أستاذه و«عملاؤه» أيضاً. بيروت: سوسن الأبطح القاهرة: «الشرق الأوسط» تصوّر الرواية لحظة موت الأم وتنطلق منها إلى فضاءاتسردية متنوعة، بطلة مصابة بمرضتضخم الأطراف تحاول بحرية اكتشافذاتها

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky