issue16806
هلسيأتي يوم نرى فيه الكتب تُباد مرة أخرى، ليسبالنار، بل بالنسيان واللامبالاة التي قد تجلبها التقنية؟ الثقافة CULTURE 18 Issue 16806 - العدد Monday - 2024/12/2 الاثنين بسمة عبد العزيز ترصد مفارقاتها في «مقام الكلام» واقع اللغة العربية ما بين الأصيل والمستعار ترصد الكاتبة والروائية المصرية بسمة عبد العزيز في كتابها «مقامُ الكلام - في نكش المألوف من ألفاظ وأحـوال» علاقة اللغة بمتن الحياة اليومية، وبما تنطوي عليه من دلالات وإشــــــارات بــ غــيــة، فتستهل كـتـابـهـا بنظرة مشهدية بانورامية تقف فيها على تحوّلات تلك العلاقة التي بلغت حد «الامتهان»، حسب توصيف الكتاب لها. يعتمد الــكــتــاب، الـــصـــادر أخــيــراً عــن دار «الشروق» بالقاهرة، على استقصاء تمثيلات صورة اللغة العربية في لغة الشارع اليومية والواقع المعيش، متأملاً وقوعها بين الإقصاء المُــتــعــمــد والاتـــهـــامـــات بـالـتـعـقـيـد والـــجـــمـــود،، ويــــتــــم ذلــــــك ضـــمـــن ســــيــــاقــــات أوســــــــع، تـشـمـل الـخـطـاب التعليمي والـثـقـافـي، فترصد كيف اسـتـحـالـت الـلـغـة وســـط هـــذا الـسـيـاق هجيناً مـن حـــروف عربية وأجـنـبـيـة، بما أربـــك اللغة وأفـــقـــدهـــا صـــوابـــهـــا، حــتــى إن قـــواعـــد الـنـحـو طُوّعت لصالح هذا الهجين لا العكس، وهو ما تستعرضه الكاتبة في مشاهد تسعى لمُحاكاة هذا الارتباك بلغة تستنطق هذا الخلل فتقول: «يبدو أن أحاديثنا صـارت غريبة في وقعها عــلــى الأذن المـنـضـبـطـة، عـجـيـبـة فـــي فـحـواهـا وتـراكـيـبـهـا، تخلط كـلـمـات متباينة الـجـذور ببعضها، وتشتق من لغة على مقياس أخرى، وتستخدم أدوات التعريف والإشــــارة مـع ما لــيــس مـــن جــنــســهــا، تــجــمــع المـــفـــرد ذا الأصـــل اللاتيني على وزن الجمع الـعـربـي، وتصيغ المضارع بالياء من الفعل الإنجليزي». منطوق ومكتوب لا يُــــمــــيّــــز هــــــذا الارتــــــبــــــاك الــــلــــغــــوي بـ المنطوق منه والمـكـتـوب، فتستشهد صاحبة روايــــــــة «الــــطــــابــــور» فــــي كـــتـــابـــهـــا بـــمـــفـــارقـــات تـــســـمـــيـــات الأســـــــــــواق الــــتــــجــــاريــــة، ولافــــتــــات الـــبـــقـــالات، والمـــطـــاعـــم، وأســــمــــاء المـــشـــروعـــات الجديدة التي غلب عليها اللغة الإنجليزية، مُميزة بين دول تترك الأمـر لدفة العشوائية، وأخــرى ما زالـت تُعلي من استخدام العربية الخالصة على اللافتات، وتضع الأمـر ضمن نـسـق عـــام أوســــع مـــا بـــ تــوجــهــات الأنـظـمـة الـــحـــاكـــمـــة، وصــــــــولاً لـــتـــأثـــيـــرات هُــــويــــة رأس المــــال والاســـتـــثـــمـــارات الأجــنــبــيــة، وجـنـسـيـات الكيانات الكبرى الـعـابـرة للحدود والـقـارات في تأثيرها على اللغة وشخصيتها، تقول: «تـــتـــراوح أســـمـــاء الأســـــواق فـــي بـــلـــدان الـعـرب بوجه عام ما بين لغتهم وغيرها، على عكس عديد من الدول الغربية التي تنص قوانينها على ضرورة كتابة أي لافتة باللغة الرسمية لـلـبـ د، فــــإذا أضـيـفـت أخــــرى نُـقـشـت أحـرفـهـا على مساحة أقل. راجعت أسماء الأسواق في بعض الدول المجاورة، فوجدت كثيرها عربياً خـــالـــصـــ ، كــالــعــلــيــا وصــــحــــارى والـــرويـــشـــدي والعزيزية والرياض، ونادرها أجنبيّ». وتـضـع الكاتبة مُـفـارقـة تخصيص يوم للغة العربية في مرمى الشجون، وسط إهمال الــحــديــث عـنـهـا، وفـــي ظــل تــوصــيــات ووعـــود بــــرّاقــــة تــتــبــخــر حـــتـــى مـــوعـــد الــــيــــوم الــعــالمــي الجديد لها، فيما يبدو وكأن اللغة أصبحت بضاعة «معطوبة» لا يريد أحد أن يبتاعها. فروع وأجنحة ) صـفـحـة 228( يــحــتــفــي الـــكـــتـــاب، عـــبـــر بـالـلـغـة عـلـى طـريـقـتـه الــخــاصــة، فينحت من الـلـغـة الـعـربـيـة جـمـالـيـات ومـشـهـديـات أدبـيـة مـــوصـــولـــة بـشـغـف الـتـنـقـيـب و«الـــنـــبـــش» في معينها، كما يشير عنوانه، لتبتكر الكاتبة مــن مــصــادر الـكـلـمـات فــروعــ وأجــنــحــة، على فــــصــــ ً، تُـــســـمـــي كــــل فـــصـــل بـكـلـمـة 54 مـــــــدار واحـدة يدور حولها المتن، وتخرج بمُفارقات مُشاغبة، واشتقاقات بالغة الشجن. ترتحل الكاتبة بالكلمات التي اختارتها عناوينَ لفصولها، في جــولات حُــرة تتحرى جـذورهـا المُعجمية والـبـ غـيـة، دون أن تقف عــنــدهــا، بـــل تــتــجــاوزهــا لـتـخـلـق تــنــاصــ مع مُـفـارقـات مُـعـاصـرة لا تخلو مـن طــرح أسئلة نــقــديــة تـسـتـدعـي الـــتـــراث الـــعـــربـــي، والأمـــثـــال الـــعـــامـــيـــة، والـــسّـــيـــر الــشــعــبــيــة، والأســــطــــورة الـــتـــاريـــخـــيـــة، وأدبــــــيــــــات الـــشِـــعـــر والــســيــنــمــا والمـــســـرح، فــي نسيج يستجلي مــن المــفــردات «المــــــألــــــوفــــــة» طــــبــــقــــات أعـــــمـــــق مـــــن الــــتــــأويــــل، والمُــــــراوحــــــات الــفــلــســفــيــة والأدبـــــيـــــة المُــــوازيــــة للقاموس اللغوي. فــفــي فــصــل بــعــنــوان «عـــبـــث»، تـسـتـدرج مـن المعجم تعريفه بــ«الـلـعـب»، فالعابث هو الــ هــي، الــ عِــب بـمـا لا يعنيه، فـيُـقـال: عبث الدهر بـه. ويأخذها المعنى إلـى عالم الأديـب الـفـرنـسـي الـــراحـــل ألـبـيـر كــامــو الــــذي تتوقف عند جملته: «فـإذا لم نكن نؤمن بشيء، وإذا لــم يـكـن هــنــاك مـعـنـى لأي شــــيء، وإذا كـنـا لا نستطيع تـأكـيـد أي قـيـمـة، أصــبــح كـــل شـيء ممكناً، ولا أهمية لكل شــيء»، تُعلق الكاتبة بــأن عـبـارتـه تلخيص شـامـل جـامـع لمضمون الـعـبـث وفـــحـــواه، وقـبـل أن تستدعي الكاتبة صـاحـب «الـــطـــاعـــون»، كـانـت قــد تـوقـفـت قبله عند خليل مطران وهو يقول: عبثٌ طوافي في البلاد وعلةٌ في عِلّةٍ منفاي لا استشفاء فتُعلق هنا على بيت «شاعِر القُطرين» بــــأن الأســــفــــار لـــم تُــخــفــف عــنــه أوجــــــاع الــحُــب والشوق، وأن ترحاله ذهب سُدى، وتستطرد: «ربــــمــــا يُــــرافــــق الـــعـــشـــقَ بـطـبـيـعـتـه شـــــيء مـن الــعــبــث عــلــى اخـــتـــ ف مُـشـتـقـاتـه وفــاعــلــيــه»، فيما تستدرج وجهاً آخر للحب في فصل آخر بـعـنـوان «بـــقـــاء»، وفـيـه تتنقل بــ مــراوحــات تلك الكلمة الواسعة، وتتوقف عند قول عروة بن حزام: وما عجب موت المحبين في الهوى ولكن بقاء العاشقين عجيب وتعقّب عليه الكاتبة بأن التلظّي بسعير الهوى يفُتّ العضد، ويُشقي القلوب، فيصبح الوصال إذاً أمـراً مُضنياً، ويغدو البقاء أشد صـــعـــوبـــة مــــن الـــرحـــيـــل، بــــل مــــدعــــاة لـلـدهـشـة والعجب. فــهــكــذا تـــفـــرض فـــصـــول الـــكـــتـــاب الـشـيـق لعبتها الفنية الخاصة، معتمدة على إعـادة إنـــتـــاج المــــفــــردات الــلــغــويــة وتـــدويـــرهـــا لخلق مـــســـاحـــات ســــرديــــة وتـــعـــبـــيـــريـــة جـــــديـــــدة، مـا يعكس آصـــرة وطـيـدة مـع اللغة عـبّـرت عنها الكاتبة المصرية في مطلع الكتاب وهي تقول إن الفصول «يجمع بينها خيط اللغة الـذي أُوليه، لهوى في نفسي، كثيراً من الاهتمام». القاهرة: منى أبو النصر مع استمرار تطوّر التكنولوجيا وتغير أذواق القرّاء وأمزجتهم كيف تواجه الرواية تحوّلات العالم؟ هـــل يـمـكـن لـــلـــروايـــة أن تـصـمـد فـــي وجــه الـــزحـــف الــرقــمــيّ والـــتـــحـــوّلات الـسـريـعـة الـتـي تـشـهـدهـا الـــبـــشـــريّـــة؟ كــيــف يـمـكـن لـــفـــنّ عـريـق مـثـل الـــروايـــة أن يـتـعـامـل مـــع تـقـنـيـات الــذكــاء الاصطناعيّ والأدوات الرقمية الحديثة التي تُـعـيـد تشكيل طـــرق الـكـتـابـة والــتــواصــل؟ هل ستتحوّل الـروايـة إلـى شكل جديد من السرد الــتــفــاعــلــيّ أم أنّـــهـــا سـتـبـقـى وفـــيـــة لــجــذورهــا العميقة في تأمّل الواقع الإنسانيّ؟ ما مصير الأدب الـــروائـــيّ فـي زمــن تسيطر فيه السرعة عـلـى مختلف نــواحــي الــحــيــاة؟ هــل يـمـكـن أن تستمرّ الـروايـة كــأداة للمقاومة ضـدّ تسطيح المفاهيم والوجود الإنسانيّ؟ » يـــرســـم 451 فـــــي روايـــــــــة «فـــهـــرنـــهـــايـــت الأمـــــيـــــركـــــيّ راي بـــــــرادبـــــــري، صــــــــورة قـــاتـــمـــة لمستقبلٍ تتحوّل فيه الكتب إلــى رمـــاد؛ حيث يتنبأ بمصير كارثي ينتظر الكتاب والثقافة المـكـتـوبـة. الـــروايـــة، الـتـي تحمل عـنـوان درجـة حــرارة احتراق الــورق، تُظهر عالماً تُحرَق فيه الــكــتــب عـــمـــداً وتُــمــنــع الــــقــــراءة لأنّ الـسـلـطـات تــــــرى فـــيـــهـــا تــــهــــديــــداً لـــلـــنـــظـــام الاجــــتــــمــــاعــــيّ. ويـحـذّر بـرادبـري مـن مجتمع يتحوّل إلـى آلة استهلاكية تفرغ العقول من الأفكار النقدية، ويــجــعــل مـــن المـــعـــرفـــة عــــــدوّاً يــــطــــارَد ويُــــدمّــــر. ويــســلّــط الـــضـــوء عـلــى خـطــر الـــزحـــف الـرقـمـي وإمــكــانــيــة فـــقـــدان الإنـــســـان صـلـتـه بـالـكـتـاب، كوسيلة للتعلّم، وكنافذة تعبر إلى عمق الفكر الإنسانيّ. ويـــبـــدو تــحــذيــر بــــرادبــــري الــديــســتــوبــيّ المــســتــقــبــلــيّ أكـــثـــر أهـــمّـــيـــة الــــيــــوم مــــع الـــتـــقـــدّم الــتــكــنــولــوجــيّ الـــهـــائـــل وســـيـــطـــرة الــشــاشــات الرقمية على حياتنا اليومية. والسؤال الذي يــــراود بعضنا الــيــوم حـــول مستقبل الــروايــة هو: هل سيأتي يوم نرى فيه الكتب تُباد مرة أخرى، ليس بالنار، بل بالنسيان واللامبالاة التي قد تجلبها التقنية؟ لا يخفى أنّ الحديث عن مستقبل الرواية فـي الـعـالـم يستدعي تــأمّــً فـي مصيرها بين مــــوجــــات الـــتـــحـــوّل الـــثـــقـــافـــيّ والــتــكــنــولــوجــيّ الـــســـريـــع الـــــذي يـــغـــزو الـــعـــالـــم فـــي كــــلّ لـحـظـة. فـالـروايـة ليست بمنأى عـن هـذا التغيّر الـذي يُعيد تشكيل طرق التواصل والكتابة وحتّى القراءة. هنالك عدّة سيناريوهات يمكن الحديث عـنـهـا أو تــوقّــعــهــا فـــي هــــذا الـــســـيـــاق، أحــدهــا أنّ الـــروايـــة تــــذوب فــي الــعــالــم الــرقــمــيّ. وهنا نتصوّر أنّ الأدب الروائيّ، بمفهومه التقليديّ، سيتحوّل إلى شكل جديد من السرد التفاعليّ الـــرقـــمـــيّ. ذلـــك أنّــــه مـــع انــتــشــار أدوات الــذكــاء الاصـــطـــنـــاعـــيّ الـــتـــي تــمــكّــن المــســتــخــدمــ من الانغماس في النصوص بطرق غير مسبوقة، يمكن أن يتلاشى شكل الــروايــة الـورقـيـة. في هــــذا الــعــالــم المـسـتـقـبـلـيّ، قـــد تـصـبـح الـــروايـــة شكلاً من أشكال التفاعل بين القارئ والنصّ فـي واقــع مـعـزّز أو افـتـراضـيّ، حيث تكون كلّ قـــراءة تجربة جــديــدة، وكـــلّ قـــارئ شريكاً في بناء النصّ من خلال اختياراته وتفاعلاته مع الأحداث والشخصيّات. لـــكـــن هــــل يـــمـــكـــن أن يـــغـــنـــي هـــــذا الــشــكــل الــتــفــاعــلــيّ عـــن الــــروايــــة الــتــقــلــيــديــة؟ يصعب تـــصـــوّر أنّ الـــروايـــة بــكــلّ مـــا تـحـمـلـه مـــن عمق وتــأمّــ ت فلسفيّة وإنـسـانـيّـة قـد تـتـحـوّل إلى صيغة «تجربة» تفاعلية؛ لأنّها، في جوهرها، تُـمـثـل خـصـوصـيّـة فـــرديّـــة لا يمكن تـجـاوزهـا من خلال التقنيات والمـعـادلات الرقميّة. ربما تستطيع الرواية أن تستخدم هذه الأدوات في تـقـديـم نفسها بـطـرق مـبـتـكـرة، لـكـن تذويبها تماماً فـي العالم الـرقـمـيّ يبدو أمــراً مشكوكاً في استمراريته. السيناريو الثاني الـــذي يمكن الحديث عنه هـو توصيف الـروايـة كقناة للتعبير عن التحوّلات؛ حيث لا تختفي بشكلها المعهود، بـــــل تـــشـــهـــد تـــــحـــــوّلات عـــمـــيـــقـــة تـــتـــمـــاشـــى مـع الــتــغــيّــرات المجتمعية والــرقــمــيّــة. ومـــع تعقّد الــعــالــم وتــشــابــك قـــضـــايـــاه، قـــد نــجــد الـــروايـــة تـتـحـوّل إلـــى وسـيـلـة لفهم هـــذا الــواقــع المعقّد والتأمّل فيه أكثر لاستبطان العالم والغوص فـــي عــمــق الــنــفــس الــبــشــريّــة الــتــي تـبـقـى قــــارّة مجهولة ناضحة بالألغاز. لكن هذه الرواية قد تأخذ أشكالاً جديدة. قد تتقلّص أحجامها لتلائم زمناً يسيطر فيه القلق والـتـسـارع، وربـمـا تجد الــقــارئ يبحث عن قصص أكثر تكثيفاً وعمقاً. وربما يكون التوجّه نحو الروايات التي تتناول مواضيع مــعــاصــرة بــســرعــة أكــبــر مـــن أي وقــــت مـضـى؛ حيث يتحوّل الكاتب إلـى شاهد على عصره بــشــكــل مــخــتــلــف، مـسـتـلـهـمـ الــــواقــــع المـتـغـيّـر باستمرار. وهــنــاك سـيـنـاريـو مـخـتـلـف؛ حـيـث تبرز الــــــروايــــــة فـــيـــه كـــــــــأداة مــــقــــاومــــة أمـــــــام طـــوفـــان التكنولوجيا وتسطيح المفاهيم. وهنا يمكن أن نــشــهــد مـــوجـــة مــــن الـــــعـــــودة إلـــــى الــكــتــابــة التقليدية، مـع تصاعد الأصـــوات الـتـي تدعو إلى العودة إلى الأصل... إلى الرواية بوصفها فــنّــ يـحـفـظ الـتـجـربـة الإنـسـانـيـة العميقة من التفكّك والانـهـيـار. في هـذا التصوّر، قد تجد الـــروايـــة مـسـاحـة أوســــع لـلـتـأمّـل والـبـحـث عن المعنى، بعيداً عن ضجيج التكنولوجيا التي تسعى إلى اختزال الحياة في معادلات رقمية. هـــــــذه الـــــــروايـــــــة قـــــد تــــظــــلّ عــــصــــيّــــة عــلــى الاسـتـيـعـاب فــي عــوالــم الـــذكـــاء الاصـطـنـاعـيّ؛ لأنّــهــا تعتمد عـلـى الـتـأمّـل الفلسفيّ والعمق العاطفيّ والخصوصيّة الفرديّة، وهـو ما قد تعجز التقنية عــن مـحـاكـاتـه بشكل حقيقيّ. هــــذه الــــروايــــة قـــد تــكــون نــوعــ مـــن الـــفـــنّ الـــذي يـصـمـد أمــــام المــتــغــيّــرات؛ لأنــهــا تُـــقـــدّم تجربة إنسانية متفرّدة لا يمكن استبدالها. يـحـلـو لـــي أن أعـتـقـد أنّــــه مـــن المـــرجّـــح أن نشهد مزيجاً من التصوّرين الثاني والثالث. الــــــروايــــــة قــــد لا تـــــــذوب بـــالـــكـــامـــل فــــي الـــعـــالـــم الرقميّ؛ لأنّها تمثّل عمقاً يتجاوز ما تقدّمه التكنولوجيا فـي كثير مـن الأحــيــان. لكن في الوقت نفسه، ستظلّ بحاجة إلـى التكيّف مع الــزمــن والـتـغـيـرات الـتـي تـطـرأ عـلـيـه. سيكون على الروائيين إيجاد توازن بين الحفاظ على جوهر هذا الفنّ واستخدام الأدوات الجديدة لتعزيز تجارب القراءة وإثرائها. قد نرى الرواية تتحوّل إلى وسيلة أكثر تفاعلاً، لكنّها ستظلّ تحتفظ بمساحات من العمق والـتـأمّـل، وستبقى قـــادرة على تقديم تــــســــاؤلات حــــول مــصــيــر الإنــــســــان ومــعــانــاتــه وآمــالــه. والـــروائـــي المـعـاصـر يستخدم أدواتـــه الفنية ليكشف عـن الأغـــوار النفسيّة الخفيّة، ويتعقّب تلك التفاصيل الدقيقة غير المفهومة التي تشكّل جوهر الإنسان الحديث. والتقدم الرقمي يسمح للأدباء بتوسيع مفهوم الرحلة الــروائــيــة الــتــي تـتـعـمّـق أكــثــر فـأكـثـر، لتصبح أشبه بمحاولة دائمة لفك شفرات التعقيدات الإنسانية التي تجعل الإنـسـان مـا هـو عليه، ولــتــصــبــح أكـــثـــر قـــــدرة عــلــى تـتـبـع الــتــحــولات الــنــفــســيــة المـــحـــتـــجـــبـــة، لــكــنــهــا تــــتــــرك آثــــارهــــا العميقة على مصائر الشخصيات وأفعالها. ومع استمرار تطوّر التكنولوجيا وتغير أذواق القرّاء وأمزجتهم، يبقى السؤال الأهـمّ: هــل سـتـظـلّ الـــروايـــة، فــي أشـكـالـهـا المــتــعــدّدة، قادرة على أن تحافظ على مكانتها كفنّ قادر على ملامسة جـوهـر التجربة الإنـسـانـيـة في عالم يتسارع تغييره بشكل غير مسبوق؟ * روائي وناقد سوري * هيثم حسين أحمد الزين يتمثّل مأزقها في روايته الجديدة «رماية ليلية»... الحرب ومحنة الشخصية ثـــمـــة اشــــتــــبــــاك عـــمـــيـــق بـــــ ســــرديــــات المنفى وسرديات الحرب، وعلى نحوٍ يجعل مــن مفاهيم مـثـل الــوطــن/المــكــان، والـهـويـة/ الــوجــود، والــذاكــرة/الــتــاريــخ، إزاء مفارقات تــأخــذ بـالـكـتـابـة إلـــى مـــا يـشـبـه الـبـحـث عما يـسـنـدهـا مـــن تــعــالــقــات رمـــزيـــة، ومــــن أفــكــار وأصــوات وحـيـوات، وربما من مـدنٍ تُفقدها الحرب هويتها، فتُخفي ما فيها من الذاكرة والسيرة والوجود. روايـــــــة الـــكـــاتـــب أحـــمـــد الــــزيــــن «رمـــايـــة ليلية»، الصادرة عن دار المتوسط- ميلانو- ، تـــــأخـــــذنـــــا إلــــــــى ســـــــرديـــــــات الــــحــــرب 2024 وشـــخـــصـــيـــاتـــهـــا عـــبـــر مــــقــــاربــــة يـــومـــيـــاتـــهـــا المــســكــونــة بــالــغــرائــبــي والــعــبــثــي الــغــامــض والـــــســـــري؛ إذ تـــتـــحـــوّل صــــورهــــا عــــن المــــوت الـسـردي والفقد إلــى حـمـولات رمـزيـة لفكرة المــــــوت الـــوطـــنـــي، مـثـلـمـا تــتــحــول المــواجــهــة إلــى مـا يُشبه مشهداً فانتازياً يختلط فيه مــــــأزق الـــحـــضـــور بــــمــــأزق الـــغـــيـــاب، والـــحـــب بالخيانة، والــوجــود بالتشظي والـضـيـاع، فلا هروب منها إلا إليها، لتبدو الشخصية «الأضـــحـــويـــة»، وكـأنـهـا الـشـفـرة الــتــي تقود لعبة السرد إلى دلالة التورط في فخاخ هذه المآزق، حيث تفضح الحرب ما تخفيه اللغة، وما يمكن أن تحمله من أقنعة يتوارى خلفها المحاربون والمغامرون ورموز القبائل. لا تُـــــقـــــدم الــــــروايــــــة عــــرضــــ لـــلـــمـــعـــانـــاة فحسب، وإنـمـا تفضح مـا تصنعه الـحـرب، عـبـر أصــــوات الـنـاجـ مـنـهـا، وهـــي تتحول إلى صرخات فاضحة عن الخطيئة والفساد والخواء، وعن كسر إيهام الواقع عبر حركة الــشــخــصــيــات الـــتـــي تــتــمــرّد عــلــى جحيمها الوطني، وعلى منفاها، فيتحول بحثها عن الوجود إلى بحثٍ ضدي عن الذات والهوية والـــــــحـــــــب والأمـــــكـــــنـــــة، ومـــــــســـــــاءلـــــــة فــــاجــــعــــة للمصائر في اغترابها ومتاهتها، وفي حرب «الأخــــــــوة»، فتصطنع عــبــر تـقـنـيـة «الـــفـــ ش بـــــاك» ســـيـــرة مـــوازيـــة، تـــتـــبـــأر عـــنـــدهـــا كـثـيـر مــــن المــــــواقــــــف، وكــثــيــر مــن المـشـاعـر الداخلية الـــــــتـــــــي تـــــــمـــــــور بـــقـــلـــق الـــنـــفـــي، والــــخــــوف من ذاكــــرة الــحــرب، حــد أن عتبة العنوان تتحول إلى نص مـوازٍ يفضح عبثية تلك الـحـرب، وسـرديـة «المـكـان صفر» و«الـــزمـــن صـفـر» الـتـي تـتـوه فيها المـسـافـات بين القاتل والمقتول، والوجوه والبنادق. العنوان وموجهات السرد يــكــشــف الـــــــدال الـــعـــنـــوانـــي عــــن تــرمــيــزٍ لعبثية الـــحـــرب، إذ يـتـقـوّض عـبـره الــواقــع، ويغترب إزاءه الـحـدث، فيتحوّل الليل إلى زمـــن نفسي اضــطــهــادي، تـتـوه فيها معالم وجـــودهـــا، فـــ«تــبــدو كـــل الـــــرؤوس أشـبـاحـ » كما يصفها جاك بريفير، وهو ما يستبطن مــدى الـضـيـاع الـــذي تعيشه رؤوس الـحـرب وضـــحـــايـــاهـــا، عــبــر شـغـفـهـا بـالـتـطـهـيـر من فــظــائــع الـــحـــرب، وعـــبـــر بــوحــهــا واعــتــرافــهــا الـــــــســـــــوداوي، وعـــبـــثـــيـــة زمــــنــــهــــا، وغـــمـــوض مصيرها. شخصيات مأزومة الجندي المعوق الباحث عن التطهير، والمذيعة «ليلى» وموظفة الفندق «فـايـزة»، شــخــصــيــات تــحــمــل مــعــهــا أزمـــــــات الـــحـــرب، فتكشف عـن عوقها الــوجــودي، وعــن قلقها وشـبـقـهـا وعــــن تـشـوهـهـا الـــداخـــلـــي، مثلما تكشف شخصية «سلوى» عن محنة قلقها الـــــوجـــــودي والـــــثـــــوري، لــتــجــد نــفــســهــا أمــــام حـــيـــاة مـــعـــقّـــدة وشـــائـــهـــة، تـــمـــور بـــ الـنـفـي الـــداخـــلـــي والـــنـــفـــي الـــخـــارجـــي، حــتــى يـبـدو هـــــذا الـــنـــفـــي جـــوهـــر الــــصــــراع الــــــذي تـعـيـش تـداعـيـاتـه، وتـوقـهـا إلــى البحث عـن خـ صٍ ما، تتسع رمزيته مع اتساع أزمة وعي هذه الـشـخـصـيـات المــشــوه لمحنة الــحــرب الـتـي لا تنتهي، والـتـي تـحـول ليلها الــوجــودي إلى لـيـل عـابـث بــالــرمــي، وبـالـعـتـمـة الـتـي تتسع للتخيل، فتكون مصائر تلك الشخصيات مـرهـونـة بـسـرديـات يشتبك فيها المخيالي مـــع الــواقــعــي الــقــاســي، والآيـــديـــولـــوجـــي مع القبائلي، على نحوٍ تتشظّى معه الهويات والأمــكــنــة، مــن خـــ ل مــا تـتـعـرّض لــه ملامح وأســــمــــاء المـــــدن الـــتـــي تـفـقـد هــويــتــهــا، حتى يكون وجودها المأزوم والهش، نظيراً لمتاهة «الوطن» الضائع، فلا يحضر منه في لعبة الـسـرد إلا مـا يتساقط عبر الـتـذكـر والـبـوح المــونــولــوجــي، وعــبــر مــا ينبجس مــن خـ ل حكايات واعـتـرافـات شخصياته المفجوعة، تــلــك الـــتـــي تـعـيـش أوهـــامـــهـــا وانــكــســاراتــهــا وتـــحـــولاتـــهـــا، فـيـتـحـول إحــســاســهــا بـالـفـقـد إلـى ثيمة واخـــزة، وإلــى إثــمٍ عميق يلاحقها وهي تصطنع سردياتها -اعترافاتها داخل لحظات «الرمي الليلي»، الرمي الذي تعيش مـــعـــه الـــشـــخـــصـــيـــات- الأشــــــبــــــاح، إحـــســـاســـ بالهروب والنفي والخسارات المريعة؛ حيث تــفــقــد مــعــهــا الـــجـــســـد والـــعـــفـــة والإحــــســــاس بالوجود والأمان. تــفــضــح ثــيــمــة الـــتـــحـــول الــــــذي تـعـيـشـه الـــشـــخـــصـــيـــات المــــــأزومــــــة والأضـــــحـــــويـــــة عـن أزمـــــة الـــواقـــع الــيــمــنــي، وعــــن أزمـــــة الــتــاريــخ، وأزمـــة الـــذات، وعلى نحوٍ يجعل مـن الحرب بـــؤرة تمثيل فضيحتها الـكـبـرى، بوصفها مــلــحــمــة الـــــخـــــراب، وشــــفــــرة الـــتـــغـــيـــر، ولـعـنـة التقويض الباعثة على تشظية سرائر الكبت الــــوجــــودي والـــجـــنـــســـي، فــكــل شــــيء يـتـحـول تــحــت إكـــــراه الـــحـــرب، وكــــل شــــيء يـــدخـــل في طقس «الرماية الليلية» التي تطلق العنان لــلــكــراهــيــة والالــــتــــحــــام والـــقـــتـــل والانـــتـــهـــاك، وتغويل اسـتـعـارات المـكـان والجسد واللغة، لــتُــصــاب بـعـاهـة الــتــحــول أيـــضـــ ، والـتـشـظـي إلــى «هـويـات قاتلة ومقتولة» وإلــى «أماكن طـــــــــــــــاردة ومـــــــــطـــــــــرودة» مــــــــثــــــــلــــــــمــــــــا تــــــــتــــــــحــــــــول الشخصيات أيضاً إلى حيوات مُصابة بهوس تناقضاتها الغرائبية؛ إذ يـــــــتـــــــوزّع وجـــــودهـــــا بـ إحساسها بالعار، وإحــــســــاســــهــــا بـــقـــســـوة المـــــــنـــــــفـــــــى، وبــــــانــــــفــــــ ت الذاكرة وهي تتقشر عن ممنوعها، لتفضح عما يصنعه هــذا المنفى من منافٍ عميقة، ومن سيرٍ تــضــطــرب مـعـهـا عــوالــم الـــشـــخـــصـــيـــات الأخــــــرى التي تفقد تاريخها وقيمها ورهاناتها على اســتــعــادة الــتــاريــخ الــــذي تــحــول إلـــى مـيـدان مفتوح للرمي الليلي. السيرة والسرد والحرب ســــــرديــــــة الـــــنـــــص المـــــــجـــــــاور مــــــن أكـــثـــر اشــتــغــالات أحــمــد الــزيــن إثــــارة لـ سـئـلـة؛ إذ يـضـعـنـا الــــروائــــي أمــــام لـعـبـة ســـرديـــة يـكـون فـيـهـا هـــذا الــنــص هــو المُـــولـــد لــســؤال المـنـفـى، وســــــؤال الــشــخــصــيــة، وســــــؤال المـــكـــان، وهــي أســئــلــة تــظــل مـفـتـوحـة وفــاعــلــة فـــي صـيـاغـة المــبــنــى الــــســــردي لــلــنــص المــــجــــاور، بـوصـفـه نـــصـــ تــألــيــفــيــ يــســتــنــد إلـــــى فـــكـــرة الــتــعــرف على مـا تتعرّض لـه -الشخصيات والأمكنة والهويات- من تغيرات، جراء الحرب، وجراء الـنـفـي، بوصفها الـبـراديـغـمـات الـتـي يقترح وجـــودهـــا الــــروائــــي، كـاشـفـ مـــن خـ لـهـا عن محنة «لا انتمائها» وعـن رهــاب نقائضها، وعــــن لـعـبـة تـمـثـيـلـهـا لـــســـرديـــات الاســتــعــارة والـــتـــعـــويـــض والــــعــــاهــــة والــــفــــقــــد، بـوصـفـهـا دوالاً كاشفة عن أزمات ما تعيشه من تحول فــــاجــــع، وعـــمـــا تـــتـــعـــرّض لــــه مــــن إســـقـــاطـــات الـــــحـــــرب، فـــتـــبـــدو ســـيـــرهـــا وكــــأنــــهــــا تـمـثـيـل نكوصي لوجودٍ، تعيش تداعياته بنوع من الاعـــتـــراف/الـــرســـائـــل، أو الـــبـــوح، أو الشعف الجنسي، والإيهام بأن المجال السردي الذي تصنعه تلك الشخصيات هو أكثر إثـارة من الـــواقـــع نـفـسـه، وبــاتــجــاه يجعل مــن «المبنى السردي» تمثيلاً لمتن سردي يتسع فيه بوح الشخصيات الـنـافـرة والناجية مـن الـحـرب، بسرديات غامضة فيها من التورية والترميز القاسي أكثر من الواقع ويومياته الغائمة. عليحسن الفواز
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky