issue16799
بودلير: يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو، وكم هو مزعج وثقيل الدم... أوف! أوف! أوف! الثقافة CULTURE 18 Issue 16799 - العدد Monday - 2024/11/25 الاثنين طعم الجبل تـفـتّـش فـــي الــقــامــوس عـــن فــحــوى كلمة «جــــلــــيــــل»، وتـــظـــهـــر لــــك المــــعــــانــــي: «الـــعـــظـــيـــم، الـخـطـيـر، المــــهــــمّ...».. ويـمـكـن أيـضـا أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الـــحـــدّ مـــن نـــواحـــي الـــفـــنّ والأخــــــاق والــفــكــر». أســـتـــطـــيـــعُ أن أدلــــــي هـــنـــا بــــدلــــوي وأقـــــــول إنّ «الـجـلـيـل» هــو مــا يـلـزمـنـا الـحـديـث عـنـه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسـمـى» أو «الشّيطان» بـــكـــام عــــــــاديّ، فــــــإنّ صـــفـــة الـــجـــالـــة تـنـتـفـي، ويتولّد لدينا شعور باللّمبالاة. «لــو مـــرّت يـومـيّـا خــال ألــف سنة ريشة طـاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلم بوذا، إّ أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صـفـة الـجـالـة، حـتـمـا. هـنـاك فــجــوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجللة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيما أن يحياه». جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الـــغـــرب غــــزو الـــجـــبـــل. يــرتــجــي الــــشّــــرق تــأمّــل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمــر ليس غريبا تماما عن الطبيعة الـبـشـريّـة، فنحن نتعرّف فـي سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهـــذه الـخـطـوة تــــؤدّي إلـــى اتّـصـالـه بـالـشّـيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهـــذه الـحـاسّـة لأنّــهــا الأقــــرب إلـيـه والأســهــل، مـثـلـمـا يـفـعـل الــعــشّــاق الـــذيـــن يـــبـــدأون الـحـبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلـك كـلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعا بــهــذا الــفــعــل، الــــذي يـعـنـي المــعــرفــة الحميمة والعميقة لكل الجسدَين والقلبَين. ورغــــم أنّ الـجـبـل يُــعــدّ مــن الــجــمــاد، فـإن نـــســـغَ الـــحـــيـــاة فــيــه قـــــوي، وهــــو يــشــمــخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والـــسّـــعـــادة وأنــــت تـتـجـوّل عـلـى سـفـح الجبل قاصداً القمّة، عند السّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حــديــداً. حـــدث هـــذا الأمـــر مـعـي كـحُـلُـم غـريـب؛ كنت أنـظـر مـن خــال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخـذت رعشة بيضاء تهزّ قـلـبـي عــنــدمــا اكــتــشــفــتُ، فـــي بـــريـــق الـشّـمـس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائـرة كبيرة وصعد بعد ذلك عاليا مــوغــاً فــي الــسّــمــاء الـقـصـيّـة. هــا هــي صــورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حـــيـــث كــــنــــتُ أتـــــجـــــوّل، ثـــمـــة مـــرتـــفـــع صــخــري شــاهــق، وفـــي الأســفــل تـرتـمـي مـديـنـة دهـــوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والـشّـمـس، والــنّــاس فـي الـــشّـــوارع كنقاط من النّمل. أخـذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط الــنّــســر فـــي طـــيـــران هـــــادئ راســـمـــا بجناحيه دائـــــرة واســـعـــة، ثـــم حــــطّ عــلــى صــخــرة قـريـبـة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّـي أعيش حياة حـارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ فـي سكونه المقدّس جبلً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة. ورد ذكـــــر «الــــجــــبــــل» بــــجــــوار «الـــطّـــيـــر» فــــي الـــكـــتـــاب المــــنــــزّل فــــي ثـــــاث ســــــور: «ص»: «إِنّـــا سَخّرْنَا الْـجِـبَـالَ مَـعَـهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ كُلّ لّهُ أَوّابٌ»، ۖ ً وَالِْشْــرَاقِ. وَالطّيْرَ مَحْشُورَة و(الأنــــبــــيــــاء): «وســـخّـــرنـــا مـــع داود الــجــبــال يــســبّــحْــنَ وَالـــطّـــيـــرَ وكُـــنّـــا فــاعــلــ »، و(ســـبـــأ): «ولـقـد آتينا داود مـنّـا فـضـاً يـا جـبـال أوّبــي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيـــات أو يسمع تـاوتـهـا، فـإنّـه يـشـكّ فـي أنّ حـيـاتـه مـــجـــرّد حـلـم يـخـطـف مـثـل طــائــر على قـاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت. تشبيه آخــر يـكـون الـجـبـلُ فيه حـاضـراً، والمقصود به حياتنا الفانية: «ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلّ/ أخفّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ». الاســــتــــعــــارة هـــنـــا قـــريـــبـــة، فــــظــــلّ الــجــبــل هـو الـطّـائـر الــذي يحلّق سريعا عند انقضاء الــنّــهــار، كـنـايـة عــن الأجــــل. لـكـنّ أنــهــار الشّعر تـجـري فـي كــلّ مـكـان، ولـيـس بـالـضـرورة أنها تــــصــــبّ فــــي بــعــضــهــا بـــعـــضـــا. لـــلـــشّـــاعـــر لـيـف أنينيسكي قصيدة تـــردُ فيها هــذه الــصّــورة: «الـــطّـــريـــق مـــضـــاءة بـلـيـلـهـا وجــبــالــهــا»، صـار الجبل مـصـدراً للضّياء، والعلقة باتت أكثر تــــطــــوّراً وتــعــقــيــداً، وكـــلّـــمـــا بـــعـــدت الاســـتــعـــارة ازدادت كـــــفـــــاءة الـــــشّـــــاعـــــر. مـــــن المـــــعـــــروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة الـسّـوفـيـاتـيّـة، وثــمّــة رمـــزيّـــة ديـنـيّـة مسيحيّة تــظــهــر فــــي هـــــذا الـــبـــيـــت مـــــصـــــوّرة، ومــخــتــزلــة بـشـبـح الــجــبــل فـــي الــــظّــــام. لا تــوجــد أشــجــار ولا يوجد نبات يعيش على الـسّـفـح، البعيد تماما عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الـضّـوء، والدّنيا ظـام لأنّ اللّيل أدلـهـمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد اليمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلً، وبـقـيـتُ أتــأمّــل المشهد فـي الـسّـريـر وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذبا إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يـزال محفوراً في ذاكـرتـي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّما في نومي إلى هذه الدّرجة، وهــــذه فــائــدة ثـانـيـة نـحـصـل عليها مــن رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب. في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحــــدة لـلـحـمـام الـــدّاجـــن فـــوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الـجـبـل، تــشــقّ بأجنحتها الـفـضـاء الـسّـاكـن، وتـنـتـزع نفسها مــن الــهــواء إلـــى هـــواء أعـلـى، وتــبــدو كـأنّـهـا تصطبغ بــــالأزرق فــي الـسّـمـاء الصّافية. هناك جرعة من حاجة النسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكـأنّ هناك لوحة في صـــدور محترفي تربية الـطّـيـور خُـــطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فل حاجة إلى أن يـعـيـش الــطّــيــر فـــي بــيــتــك». لا شـــكّ فـــي أنّ الغد في دهـوك سيكون حتما كاليوم، اليوم الــذي يشبه الأمـــس، ويشبه كـلّ الأيّـــام. سـربٌ مــن الـحـمـائـم يـــدور حـــول الـجـبـل فــي الـنّـهـار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلم، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها « :13 من الفناء. جاء في سورة السـراء - آية وَكُلّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الـــطّـــيـــرُ الـــجـــبـــالَ الــعــالــيــة، ويـــحـــرس النـــســـان أيضا من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضا؛ فهو لم يكن يوما ضعيفا وعاطفيّا، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم. بالضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفـقـة الــطّــور إحـسـاسـا عميقا بـــإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلـى درجـة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الـــديـــنـــاصـــور والــــحــــوت، تـــبـــدو بــالمــقــارنــة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة مـن الثـــم، كما لـو أنّــك أدّيــتَ طقسا دينيّا. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمــــــــدوّخ لـــواجـــهـــة الــجــبــل الـــــســـــوداء، ويــكــون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين الــســيــر عــلــى الأرض والــتــحــلــيــق فـــي الـــهـــواء. عــنــدمــا تـــحـــطّ قــــدم المـــــرء عــلــى الأرض، يـكـون ممتلئا تيها، لأنـه صـار يشعر بنفسه بريئة مـن كــلّ وزر، ومنيعة وأكـثـر أبـديّـة مـن الجبل ذاته. ولــكــن أيـــن تــذهــب الـطـيـور المــيّــتــة؟ نـــادراً مـا يعثر أحـدنـا فـي الطريق على عصفور أو حــمــامــة مــيّــتــة. إنــهــا تــولــد بـــــالآلاف كــــلّ يـــوم، وتقضي بالآلاف أيضا. فما مصيرها؟ سألتُ نــفــســي هــــذا الــــســــؤال، وبـــحـــثـــتُ فـــي المـــصـــادر والمـراجـع، وليس هناك جــواب. البعض يقول يـأكـلـهـا الــنّــمــل أو الـقـطـط والــــقــــوارض، وهـــذا جــــــواب غـــيـــر مــقــنــع الـــبـــتّـــة. هــــل تــــدّخــــر عـــظـــامَ مختلف أنـــواع الطير قـاعـدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقا في أعالي السماء؟ المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يـتـمـكّـن مـنـهـا إلا مــن كـــان ذا حـــظّ عظيم، ويمتلك عينا ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بـجـبـال الــجــزائــر ســـوف يـجـد ســعــدي يوسف نـفـسـه يــفــتّــش عـــن الــنــســاء الـــعـــاشـــقـــات، وهــو ينظر من خلل الجبل: «فـــي الـصّـيـف تـبـقـى المــديــنــة، ظُـــهـــرا، بل عـاشـقـاتْ/ كـان ينظرُ عَـبـرَ الـشّـجـرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال». الـــقـــصـــيـــدة هــــي «تـــســـجـــيـــل» مــــن ديـــــوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافــع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلت لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والـــــســـــراب: ســــــورة الـــنـــمـــل: «وَتَــــــــــرَى الْــــجِــــبَــــالَ تَـحْـسَـبُـهَـا جَـــامِـــدَةً وَهِــــيَ تَــمُــرّ مَـــرّ الــسّــحَــابِ»، والنبأ: «وَسُــيّــرَتِ الْـجِـبَـالُ فَكَانَتْ سَــرَابًــا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قــدرة الشاعر عــلــى اســتــعــمــال الــكــلــمــات كــطــاســم وحـقـائـق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وســـراب بـات فـي نظر الشاعر حصنا (أو مدفنا!) للنساء العاشقات، ملذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر». في الصفحات الأخـيـرة من روايــة «مائة عـــام مــن الــعــزلــة»، يــقــوم الـعـاشـقـان أورلـيـانـو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّا» بواسطة اللسان. عـنـوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جـالـة الــطّــور، لأنــه ليس هـنـاك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا. حيدر المحسن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة عندنا فقط بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟ لـم يكن بودلير متصالحا مـع المجتمع، ولا مـع الـعـالـم، ولا مـع نفسه، وبــالأخــص مع نفسه. كــان منشقا على ذاتـــه، ومنخرطا في حـــرب ضــاريــة جـوانـيـة لا تبقي ولا تـــذر. كـان يجلد نفسه بنفسه بـاسـتـمـرار، وذلـــك بنوع مـــن الــتــلــذذ الأقـــصـــى والمـــازوشـــيـــة. ولـكـنـه في بعض الأحيان كان يصبح ساديا. كان ساديا ومــازوشــيــا فــي الــوقــت ذاتــــه. كــل عـلـل الأرض كـانـت فـيـه. وعـــن ذلـــك أنـتـج الـشـعـر بـأعـظـم ما يـــكـــون. وعــلــى الـــرغـــم مـــن بــؤســه وعـــذابـــه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشــيــاء. هـل تــريــدون مـثـالاً على ذلـــك؟ إليكم هــــذه الـــرســـالـــة الـــتـــي كـتـبـهـا إلــــى أشـــهـــر نـاقـد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» مـــن عـــنـــوان كــتــاب الــنــاقــد الــفــرنــســي: «حـديـث الاثــــنــــ ». كــــان ســـانـــت بــيــف الأكـــبـــر ســنــا من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كـان ناقداً أدبـــيـــا فــــذاً يــرعــب مـعـظـم الـــكـــتّـــاب، بــمــن فيهم فـيـكـتـور هـيـغـو ذاتـــــه. يـكـفـي أن يـكـتـب مـقـالـة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الطلق. والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقا: أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسـالـتـك المــمــتــازة الـتـي أبـهـجـتـنـي. ولـكـن هل يـمـكـن أن تـكـتـب إلا رســـائـــل مـــمـــتـــازة؟ عـنـدمـا تـــقـــول لــــي فـــيـــهـــا: «يـــــا ابـــنـــي الــــعــــزيــــز»، فــإنــك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيــضــا. فعلى الــرغــم مــن أنـــي كبرت فــــي الـــســـن وشــــــاب رأســـــــي، وأصـــبـــحـــت أشــبــه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقــل)، فإنني بحاجة إلـى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت 120 تذكرني بذلك الشخص الــذي كـان عمره سنة، والــذي التقى فجأة بشخص آخـر عمره سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك! 90 ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك. هل تريدون مثالاً آخـر؟ في رسالته إلى فـيـكـتـور هـيـغـو راح بــودلــيــر يـمـجـده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقا. يقول مثلً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقا إنك شخصسعيد. ولكن بودلير راح فيما بعد وفـي إحدى رسـائـلـه إلـــى أمـــه يـقـول هـــذا الــكــام مستهزئا بفيكتور هيغو: لـقـد أجــبــرت قـبـل فـتـرة عـلـى قـبـول دعــوة للعشاء عند مـــدام فيكتور هيغو فـي دارتـهـا ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأنــــي لــســت جــمــهــوريــا ثـــوريـــا مــثــل والــدهــمــا المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درسا بليغا في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلم وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لقناعها بأنه ربما كـان قد وُجد رجـال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنونا، وبالتالي فل أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت. عـــنـــدمـــا كـــتـــب بـــودلـــيـــر هـــــذا الــــكــــام كـــان شخصا مجهولاً تقريبا من قبل معاصريه. لم يكن أحـد يعرف مـن هـو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأمـــــا فــيــكــتــور هـيـغـو فـــكـــان فـــي أوج شـهـرتـه ومــجــده. كــان ظله يخيم على فرنسا الأدبـيـة كــلــهــا. ومــعــلــوم أن فـيـكـتـور هـيـغـو أكــبــر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلم بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي. وفي مكان آخر يقول لأمه أيضا: فيكتور هيغو الـــذي قـطـن فــي بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هـــنـــاك فــــي تـــلـــك الــــجــــزيــــرة النـــجـــلـــيـــزيـــة الــتــي اخـتـارهـا. وذلـــك لكي أســامــره وأسـلـيـه بعض الـــوقـــت لأنــــه يـشـعـر بـــالـــوحـــدة والـــوحـــشـــة في جـزيـرة صغيرة معزولة. أعـتـرف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مــجــده وشــهــرتــه وثـــروتـــه، حـيـث كـــان ينبغي عـلـي فــي الــوقــت ذاتـــه أن أمـتـلـك كــل سخافاته وغـــاظـــاتـــه. اعــلــمــي أن مـــــدام فــيــكــتــور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما مـــن أغــبــى الأغـــبـــيـــاء. إذا كـنـت تــريــديــن قـــراءة ديـــوانـــه الأخـــيـــر(أغـــانـــي الـــشـــوارع والــغــابــات) فسوف أرسله لك فـوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قــرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فـيـكـتـور هــيــغــو. كـــم هـــو مـــزعـــج وثــقــيــل الــــدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحا هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلظاته وسخافاته. التوقيع: شارل بودلير. هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات لـيـسـت مـــوجـــودة فـقـط عـنـد الــشــعــراء الــعــرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضا. ولــكــن مــوقــف بــودلــيــر هـنـا صــــادق ويـتـجـاوز الـحـسـد، حـيـث يعبر عــن رؤيـــا أخـــرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنـــه يـمـدحـه أحــيــانــا، بــل وأهــــداه عـــدة قصائد فـي ديـوانـه الشهير «أزهـــار الـشـر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضا وازدواجيا ملتبسا. كــان يجمع بـ العــجــاب الـشـديـد والاحـتـقـار الأشد. غني عـن الـقـول أنـه فـي عصر بودلير لم يكن يوجد جــوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هــي وسـيـلـة الــتــواصــل الــوحــيــدة بــ الـكـتّـاب والأدبــــاء أو حتى الـنـاس الـعـاديـ . ورسـائـل بــــودلــــيــــر ذات أهـــمـــيـــة كــــبــــرى لأنــــهــــا تـنـضـح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير مـوجـود فـي رسائله كما هـو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قـراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنسانا محكوما عليه بالفشل الــــذريــــع فــــي الـــحـــيـــاة. ولــــذلــــك اضـــطـــر إلـــــى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شـــوارع بـاريـس. والــواقــع أن هــذه هـي الحياة الــوحــيــدة الــتــي كــانــت تـنـاسـبـه: الـتـسـكـع إلـى مـا لا نهاية ومــن دون أي هــدف. مـن أيــن جاء الـــشـــعـــر الـــعـــظـــيـــم؟ مــــن أيـــــن جــــــاءت الــقــصــائــد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الـحـيـاة لكي يـبـرر نفسه أمـــام المجتمع وأمــام أمـه بشكل خــاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلحقه وتقرعه بـاسـتـمـرار؛ لأنــه لـم يصبح موظفا كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسيا يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبـنـاء العائلت البورجوازية الـفـرنـسـيـة. كــل هـــذا فـشـل فــي تحقيقه. ولـهـذا الــســبــب كــــان الحـــســـاس بــالــذنــب والـتـقـصـيـر يلحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعـــلـــى سـبـيـل المـــقـــارنـــة عــنــدمــا مــــات فـيـكـتـور هيغو اكتشفوا أنــه خلف وراءه ثـــروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس فـي جيبه قـرش واحـــد. ولكن مـن الـذي انـتـصـر شـعـريـا فــي نـهـايـة المـــطـــاف؟ مــن الــذي أسّـــس الـحـداثـة الشعرية الفرنسية والعالمية حـتـى قـبـل رامــبــو ذلـــك المـجـنـون الآخـــــر؟). كـان الـحـظ الـعـاثـر يـاحـق بـودلـيـر بـاسـتـمـرار إلـى درجة أنه عد النحس شيئا مكتوبا على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيها معزيا فـي شخص الـكـاتـب الأمـيـركـي الشهير إدغــار آلان بــو. ومـعـلـوم أنــه كــان يـعـده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسما كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجما أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقا. فـــي بـعـض رســائــلــه كـــان بــودلــيــر يـقـول هــــذه الـــعـــبـــارة: أعــتــقــد بـــأنـــه مـــن الأفـــضـــل أن يــعــانــي الـــنـــاس الــطــيــبــون، الـــنـــاس الأبـــريـــاء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذابا. ينبغي أن يذوقوا كأس الألـم والمهانة حتى الثمالة. يــنــبــغــي أن يـــنـــزلـــوا إلـــــى الـــطـــبـــقـــات الـسـفـلـى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفا واحـداً. ويبدو أن تجربته فـي الحياة أثبتت لـه أن النسان الطيب تـدوسـه الـنـاس فـي الـغـالـب أو تتألب عــلــيــه. وبــالــتــالــي فـيـنـبـغـي أن يـتـحـمـل قـــدره ومـصـيـره كــونــه إنـسـانـا مـسـحـوقـا ومـقـهـوراً ومـنـحـوسـا. لا يـوجـد حــل آخـــر. وكـكـل مبدع حـقـيـقـي فــــإن الـــشـــعـــور بـــالـــخـــواء الــعــبــثــي أو العدمي كـان يكتسحه من الداخل اكتساحا. ولذا فكان يتحول أحيانا إلى شخص ساخر أو متهكم مـن الـطـراز الأول: أي إلــى شخص يستسخف كـل شــيء تقريبا، ويـزهـد فـي كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتبا مغموراً غير معترف به من قِبل الأوســاط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جــــداً إذا جــــاز الــتــعــبــيــر. فــهــو مـــؤلـــف ديــــوان شعر مُـدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الساءة إلى الدين والأخلق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً. هاشمصالح فيكتور هيغو شارل بودلير
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky