يعيد إحياء صاحب الهوية اليهودي الذي لم يكن له أي وجود فعلي في الجزء األول... ويبني له شخصية وعائلة وحياة كاملة الثقافة CULTURE 18 Issue 16792 - العدد Monday - 2024/11/18 االثنني فيموني عكاشة تروي سيرة أمها الهولندية في مصر «الخواجاية»... مفارقات العالقة بين الشرق والغرب كــثــيــرًا مـــا اهـــتـــم األدب الـــعـــربـــي بـــرصـــد تـجـلـيـات العالقة امللتبسة بني الشرق والغرب، ال سيما في بعدها الـعـاطـفـي الـرومـانـسـي، وهـــو مــا ظـهـر فــي روايــــات مثل «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«موسم الهجرة لـلـشـمـال» لـلـطـيـب الــصــالــح، لـكـن كــتــاب «الــخــواجــايــة» الـــصـــادر عـــن دار «الــــشــــروق» مـــؤخـــرًا اخـــتـــار أن يـطـرح القضية نفسها من خالل سيرة روائية واقعية تقدمها املؤلفة فيموني عكاشة ألمها الهولندية. أول تـجـلـيـات هــــذه الــعــ قــة مــفــارقــة اســــم املـؤلـفـة نفسه، فهي ابنة رجل مصري يدعى أنور عكاشة، وامرأة هولندية تدعى غيردا. اختار األب اسم ولديه، عبد الله وكمال، على اسم أبيه وأخيه، ثم أراد أن يرضي زوجته فاختار البنته هـذا االســم املركب الــذي يجمع بني اسم (فام)، أم زوجته، و(خوني) اسم شقيقتها، فجاء االسم (فيموني) بعد حذف حرف الخاء لثقله في النطق. تـــروي تلك الـسـيـرة إذن قصة الـحـب والــــزواج بني أنــــــور، مــهــنــدس الــنــســيــج املـــصـــري بــوســامــتــه ومــرحــه وثرائه األرستقراطي، وبني غيردا جليسة األطفال التي لم يتحمس أهله في البداية لها كخيار للزواج كونها أجنبية، فضال عن مهنتها. وفـي املقابل لم تكن عائلة «غــــيــــردا» مـتـحـمـسـة ألنـــــور بـسـبـب اخـــتـــ ف الـجـنـسـيـة والثقافة والجغرافيا. ذاكرة حديدية يــغــطــي الـــكـــتـــاب الـــفـــتـــرة مـــنـــذ الــســتــيــنــيــات حـتـى ، حيث لـم تكتف املـؤلـفـة بما 2011 يناير 25 انتفاضة رأته وسمعته، بل راحت تجمع شهادات عائلية من هنا وهناك وهي تحاول أن تلملم فتات ذاكرتها التي كانت أمها تطلق عليها «ذاكـــرة السمكة»، مقارنة بذاكرتها الــحــديــديــة الــتــي كـــانـــوا يـعـتـبـرونـهـا «أرشـــيـــف الـعـائـلـة الحي» سـواء في مصر أو في هولندا. كانت تعرف كل تـواريـخ العائلتني، مـن تــزوج ومـتـى ولــد أو مــات حتى إنها صححت لشقيقة زوجها (كـوثـر) ذات مـرة تاريخ مــيــ د ابــنــهــا الــثــانــي وأنــــه قـــد ولــــد قــبــل أســبــوعــ من تسجيله الرسمي في شهادة املـيـ د. يبرز في رد فعل شقيق املؤلفة حني عرف أن والدته قد أصيبت بالخرف فــصــاح: «يـــا نـهـار أســــود! مــن ســـوف يـخـبـرنـا بـتـواريـخ وأحداث العائلة؟ نحن ال نعرف شيئًا». كانت صدمة إصابة األم بخرف الشيخوخة نابعة من حقيقة أنها كانت متوهجة وحاضرة الذهن وتحب أن تلعب كـل ألـعـاب الــذاكــرة، حتى قبل أسـبـوعـ فقط مـــن وقــوعــهــا فـريـسـة لــلــمــرض، لـــم تـفـقـد قــدرتــهــا الـفـذة على الحكي وتذكر كل التفاصيل الدقيقة عن عائلتها منذ كانت طفلة صغيرة ومـا عاشته فـي أثـنـاء الحرب العاملية الثانية وقصصًا كثيرة عن حياة ملوك أوروبا واملـمـثـلـ واملـغـنـيـ واملـوسـيـقـيـ الــذيــن كـانـت تتابع أخبارهم وتعرف كل تفاصيلهم منذ صغرها وتحتفظ في كراسات خاصة بصورهم جميعًا، حتى الكومبارس املوجودين في خلفية مشهد ما. وتروي املؤلفة كيف اعتقدت أن جدتها الهولندية بـــــــاردة املـــشـــاعـــر وهـــــي صـــغـــيـــرة حــــ ذهـــبـــت بـصـحـبـة والـــدتـــهـــا لـــزيـــارتـــهـــا فـــي أوروبــــــــا. كــــان مـــوعـــد الــطــائــرة قـــد تـغـيـر ولـــم تـسـتـطـع أمــهــا أن تـخـبـر جـدتـهـا بموعد وصـولـهـمـا، فـأخـذتـا الـقـطـار مــن أمــســتــردام إلـــى مدينة زوولـــــــة، حــيــث تـعـيـش هـــنـــاك. كــانــتــا تــضــحــكــان وهـمـا تتخيالن اإلثـــارة التي سيحدثها وصولهما املفاجئ. وعندما وصلتا بالفعل، صدمت الحفيدة عندما وجدت جدتها تفتح الباب بكل هدوء وتسلم عليهما ببساطة كأنهما كانتا تشتريان الخبز من السوق وتأخرتا فقط ملدة نصف ساعة! ذُهـلـت الحفيدة مـن هــذا االستقبال الــبــارد، ولكن أمـــهـــا شـــرحـــت لـــهـــا أن الــــجــــدة تــشــعــر بـــالـــفـــرحـــة ولــكــن طريقتها في التعبير عن ذلك مختلفة عنهم في مصر، نــحــن الـــذيـــن نـــصـــرخ ونــبــكــي ونــتــعــانــق عــنــدمــا نـقـابـل شخصًا عـزيـزًا جــاء مـن الـسـفـر. مـن هنا عـرفـت املؤلفة مبكرًا ومنذ صغرها أنها معلقة بـ عاملني مختلفني تـمـامـ وثـقـافـتـ تـتـنـازعـان، لـيـس فـقـط بــ عائلتيها هنا وهــنــاك، ولـكـن بداخلها أيـضـا كـصـراع كــان كبيرًا فـي صغرها لكنها حسمته فيما بعد وتعايشت معه واستغلته لصالحها، مع انحياز كامل للحياة في مصر التي رفضت أن تغادرها إال لفترات محدودة. مــــن مـــنـــظـــور األم غــــيــــردا عــــن شــخــصــيــة زوجـــهـــا املستقبلي، كــان ألنـــور نصيب مـن اسـمـه، فهو يضيء املكان الذي يوجد به بحكاياته وضحكاته وشخصيته الجذابة. يعشقه الكبير والصغير على السواء كما أنه وسيم ورياضي ويمارس السباحة بانتظام. يستطيع التحدث ببساطة مع الجميع، أنيق في مالبسه ووجهه دائمًا مبتسم وله ضحكة خالبة. برع في الرقص، خاصة التانغو الذي قلما رأت أحدًا يرقصه ببراعة مثله. كان الفتى املحبوب فـي عائلته، أخـواتـه يفضلن أن يلجأن إليه في مشاكلهن أكثر من أخيهن كمال األكثر عصبية وتحفظًا. لم يكن غريبًا أن تقع في حبه من أول نظرة. لـــم يـسـر األمــــر بـسـ سـة مـطـلـقـة، فـقـد كـــان صعبًا على والد غيردا، الجد بيريند، أن تتزوج ابنته في بلد بعيد ومـن رجـل مسلم، خاصة أنـه لـم يـر أنــور أو أحـدًا من العائلة، لكن غيردا كانت قد أخبرته بالغرام الشديد بينهما فــي رسـائـلـهـا إلــيــه وإلــــى أمــهــا وأخـتـيـهـا، كما أخبرتهم بجدية أنـور في العالقة وحدثتهم كثيرًا عن شخصيته الحنونة املحبة. رحلة المرض والموت بدأت رحلة غيردا مع املرض و«التيه الطويل» حني بدأت تفقد تركيزها وتنسى الكثير من األشياء وتخلط بني األشخاص واألماكن، كما تخلط بني املطبخ ودورة املــيــاه. قــال طبيب الـصـدر الشهير إن مـا بها قـد يكون نقصًا فـي األكسجني وعليها أن تتوقف عـن التدخني. كان هذا أمرًا شبه مستحيل، فهي تدخن منذ كانت في الرابعة عشر وهـي اآلن فـي الرابعة والثمانني ال تترك السيجارة فمها. خبأت االبـنـة كـل السجائر، وبالفعل نجحت ملدة أسبوعني ولكنها شاهدتها ذات مرة تجلس في الشرفة وتمسك بوالعتها تشعلها وتشمها وتعود تشعلها وهــي تبحث فـي جيوبها عـن شــيء وتحضر حقيبتها وتلقي بكل مـا فيها آمـلـة أن تجد سيجارة. كانت تبحث في كل مكان باملنزل. شعرت ابنتها بمدى تـعـاسـتـهـا، قــــررت أن عـــدة سـجـائـر فـــي الـــيـــوم لـــن تضر لكن لم تتوقف حـاالت هذيانها وصراخها من ألم غير مفهوم. بل كانت حالتها تسوء. تنتابها نوبات من الشك واالرتياب في كل من حولها وبـدأت تتصرف تصرفات عـجـيـبـة. كــانــتــا عــلــى وشــــك الـــخـــروج ذات مــــرة، طلبت فيموني من الخادمة أن تعد حقيبتها ووضعت الدواء بداخلها مع بضعة مناديل ورقية. ظنت األم أن الخادمة تـريـد سرقتها أو ربـمـا تـريـد قتلها لسرقة خـاتـم أمها الثمني الـــذي تحبه، فـحـاولـت الـهـرب مـن املـنـزل وملــا لم تقدر تظاهرت بالنوم على املقعد وانتهزت فرصة دخول الخادمة إلـى املطبخ لتحضر كوبًا مـن املــاء ثـم اختفت من املنزل. جن جنون أوالدهـا تمامًا وهم يبحثون عنها في كل مكان، نزلت االبنة إلى الشارع تسأل كل من يمر إن كــان رأى امـــرأة كبيرة فـي السن تسير وحـدهـا. شعرت بالرعب أن يحدث لها مكروه وعندما رجعت إلى املنزل كانت تصرخ وتبكي كاملجنونة، وفجأة خرجت األم من وراء ستارة حجرة الطعام. صرخت فيها االبنة قائلة: - أنت هنا وراء الستارة طوال الوقت؟ ردت وهي تهمس: - قــدمــاي آملـتـانـي مــن كــثــرة الـــوقـــوف ولـــم أستطع مـنـاداتـك حتى ال تـعـرف تلك املـــرأة - تقصد الـخـادمـة - بمكاني وتقتلني. تقبلت فيموني مرض والدتها وصارت تتعامل مع مزاجها املتقلب كشيء روتيني. لم يكن هناك خيار آخر، تعودت أن تطلب من الطبيب تغيير دوائها عندما تزداد حاالتها سوءًا. كما رفضت أن تودعها دارًا للمسنني في هولندا لتلقي رعاية أفضل، كانت سرعان ما تطرد ذلك الخاطر بعيدًا. لم تتحمل أن تبتعد عنها كما لم تتخيل أنها ستفقدها قط، كانت تنخرط في البكاء إن تخيلت حدوث أي شيء لها. وتـــــروي فـيـمـونـي عــكــاشــة مـشـهـد الــنــهــايــة املــؤثــر قـائـلـة: «فـــي الـسـاعـة الـثـامـنـة صـبـاحـ ، استيقظت على مكاملة من املستشفى تبلغني أن السيدة غيردا توفيت. لــم أع مــا أقــولــه، طلبت مــن املـتـحـدث أن يـكـرر مــا قـالـه. وعندما فعل قلت له: هل أنت متأكد أنها السيدة غيردا؟ أبلغني تعازيه وكلمات أخرى حاول أن يواسيني بها. أقفلت الهاتف وأنـا أبكي، أمـي الصامدة دومـ ال يمكن أن ترحل عن الحياة، كيف لكل تلك البهجة والحيوية أن تموت؟». رشا أحمد األسير باسم خندقجي يصدر الجزء الثاني من روايته الفائزة بـ«بوكر» العربية «سادن المحرقة»... حوار مع الجالّد في تحد جديد لسجَّانه اإلسرائيلي، يصدر األسير باسم خندقجي، املحكوم بثالثة مؤبدات، الجزء الثاني من روايته «قناع بلون السماء» التي ،17 حازت «جائزة الرواية العربية» في دورتها الـ وأُعلن عنها في أبريل (نيسان) من العام الحالي. ويحمل الـجـزء الجديد الـصـادر عـن «دار اآلداب» عــنــوان «ســــادن املــحــرقــة»، وهـــو يـرتـبـط بالكتاب األول بلعبة ذكية، وشيقة، بحيث باإلمكان قراءته ربطًا بما قبله، أو منفصال عنه. لكن مَــن يعرف الكتاب األول ال يمكنه إال أن يعقد مقابالت دائمة، أو يستبطن أبعاد ما يقرأ، معتمدًا على األحداث السابقة. الـظـريـف فـي الــروايــة الـجـديـدة، أن اليهودي األشكنازي، أور شابيرا، الـذي كـان الفلسطيني، بــاحــث اآلثــــار نـــور الــشــهــدي (بــطــل الــجــزء األول) قـد عثر على هويته فـي معطف أســـود مستعمل اشتراه، وتقمّص اسمه واستخدم هويته ليلتحق ببعثة أثرية؛ شابيرا هذا هو الذي سيكون محور الـروايـة الجديدة. وهـي مفاجأة للقارئ، الـذي لم يكن يعرف عن هذا الشخص شيئًا على اإلطالق، وظنناه مجرد اسم يستخدمه الشهدي وتنتهي حكايته. شابيرا الشخصية الرئيسية 37( مـــــن مـــطـــلـــع الـــــــروايـــــــة، نــــعــــرف أن أور عــامــ ) كـــان مــن نـخـبـة لــــواء املـظـلـيـ فــي الجيش ،2008 اإلســـرائـــيـــلـــي، شـــــارك فـــي حــــرب غــــزة عــــام فـــي لـــبـــنـــان؛ حــيــث نــجــا مـــن املـــوت 2006 وحـــــرب بأعجوبة فـي بـلـدة بنت جبيل، بعد أن قُــتـل مَن مـعـه، وبـقـي أيـامـ بـ الجثث. وهــو مـصـاب بعد كل ما عـانـاه، بــ«اضـطـراب ما بعد الصدمة». لذا تم تسريحه من الخدمة، والترخيص له بتعاطي املاريغوانا. وهـا هو يتردد للعالج عند طبيبته النفسية هـــداس الـتـي تنصحه بــأن يكتب كـل ما يخطر له على دفتر صغير، كي تتوصل معه إلى «نقطة التعيني» أو العقدة األساس. بـمـرور األحــــداث، نكتشف خلفيات شابيرا وأزمــــاتــــه الـشـخـصـيـة والــعــائــلــيــة املـــركـــبـــة؛ والــــده فـــي غــيــبــوبــة، وأمــــه مــثــل جـــدّيـــه مـــاتـــوا بـفـيـروس «كــورونــا»، وأخـــوه األكـبـر جـدعـون قُتل فـي أثناء تـأديـة خدمته العسكرية فـي مخيم فـي رام الله، .1973 وخاله قضى محاربًا في سيناء عام بروفايل نموذجي أور هــــذا، لـــه بــروفــايــل نــمــوذجــي لشخص إسرائيلي، ليس فقط من حيث الصلة العضوية بني عائلته والجيش أو الحياة العسكرية، ولكن أيضًا هو واحـد من أحفاد الناجني من املحرقة النازية، وتربى على ذاكرة املحرقة وذيولها. وإن نشأ في عائلة علمانية ال عالقة لها بالدين، إال أن ذاكرته مضمخة برائحة مخيمات التعذيب، التي لم تتوقف جدته عن الكالم عنها. هو نفسه زار مخيم اإلبادة النازي «أوشفيتز» في بولندا، وال تـزال تلك الزيارة، على الرغم من أنها كانت وهو في املدرسة، تؤرقه. تـاريـخ مليء بالعنف والـتـراجـيـديـا. والــده كان مُصرًّا، رغم اعتراض والدته، على أن يلتحق ابناه، جدعون وأور، بالجيش. األب نفسه كان عسكريًا، وهـو ما يجعل أور يتخيل باستمرار الـــفـــظـــائـــع الـــتـــي يــمــكــن أن يـــكـــون قــــد ارتــكــبــهــا، ويــحــاول أن يفهم منه ذلـــك، حتى بعد أن دخل في غيبوبة. عبء نفسي ثقيل، يرزح تحته أور، الذي نراه متعبًا في منزله في جفعات شــاؤول، خصوصًا حني يكتشف أن اسمها العربي هو «دير ياسني»، بـكـل مــا يحمله اســـم املــكــان مــن ذكــريــات دمـويـة، وسمعة مرعبة. تـزداد هلوساته، يعيش منعزال دون أصـــدقـــاء، بــ نـــوم، يــحــاول مكافحة أخيلة تظهر لـه، تثير فــي نفسه الــرعــب. «فــتـاة القبو» الــتــي تـــطـــارده، أشــبــاح املــتــأملــ ، مــا يسمعه من جرائم ارتُكبت، لعل أحدًا من عائلته ارتكب أفعاال شائنة! كـل شــيء يـدعـو لـــأرق، حتى أحـ مـه، ال يعرف ملاذا يراها بالعربية، منذ سنتني! ما تراه يستطيع أن يفعل؟ لجأ إلـى معلمة فلسطينية، وهـا هـو يتابع دروســـ باللغة العربية لعل هذا يقربه، من فهم نفسه! وما ال يقوله، إنها قد تكون في ال وعيه، طريقة لفهم مَن حوله. عـبـثـ يــفــعــل. إضـــافـــة إلــــى أعـــــراض مـــا بعد الــصــدمــة، بــــدأت تـظـهـر عـلـيـه عــ مــات انـفـصـام. انـتـقـالـه إلـــى مــنــزل الـعـائـلـة فــي تــل أبــيــب؛ هربًا مـن لعنة ديــر يـاسـ ، ليس كافيًا ليخرجه من الجحيم. مفاجآت السرد يــنــجـــح بــــاســــم خـــنـــدقـــجـــي، فــــي مــفــاجــأتــنــا، بقدرته الساحرة على الربط بني جزئَي روايته. فــــــإذا كـــــان فــــي الــــجــــزء األول قــــد نـــجـــح فــــي رســـم سيكولوجية الشخصية الفلسطينية عبر نور الـــشـــهـــدي، والــــدخــــول إلــــى دهـــالـــيـــزهـــا، مـــن خــ ل اســتــقــراء أزمــــة الــهــويــة والـــوجـــود املـلـتـبـس، فهو هنا يفعل الـعـكـس. هــذه املـــرة، يـأخـذنـا فـي رحلة إلى أعماق شخصية أور شابيرا، بكل ما تنطوي عليه من أسئلة وضياع، واستفهامات، ومحاولة فهم للتاريخ املتصدع، وعالقته بالواقع املنفصم. وتـــكـــاد تــكــون الــــروايــــة كــلــهــا، مــحــاولــة بــحــث عن الــــذات، وعـقـد مصالحة مــع مـكـونـات فــي تركيبة الشخصية، من الصعب الجمع بينها. لكن الــروايــة ال تكتفي بـهـذا، فثمة مفاجآت عــديــدة تـتـوالـى، تجعل الـــقـــارئ، متعجال معرفة إجـــــابـــــات عـــنـــهـــا، خـــصـــوصـــ عـــنـــدمـــا يـــعـــرف أور بالصدفة أن هويته التي ضاعت في جيب معطف أخـيـه جــدعــون وقـعـت فــي يــد شـخـص آخـــر، وأنــه استخدمها بالفعل، وعمل بموجبها. هنا يبدأ البحث الفعلي، وتتوالى اكتشافات أور، ومغامراته ملعرفة حقيقة ما حدث، ومَن هو هذا الشخص املجهول؟ وماذا فعل بعد أن تقمَّص شخصيته؟ كــل ذلـــك سـيـسـاعـده عـلـى بـــدء فكفكة أزمـاتـه الـشــخـصـيـة، حــيــث يـظـهـر نــــور الـفـلـسـطـيـنـي في النصف األخير من الرواية، بصورة غير متوقعة. وال داعـــي ملـزيـد مـن التفصيل، كـي نبقي للقارئ متعة االكتشاف. فالكاتب يتمتع بأسلوب سردي مــنــســاب، مـــع حـيـل روائـــيـــة تــأخــذنــا إلـــى حبكات متوالية، تجعلنا في حالة انجذاب متواصل. الوجه والقناع تُسجَّل للكاتب، مهارتُه في إعـادة استخدام أدوات الجزء األول نفسها، بطريقة جديدة. فهو أديـــب يحب الـلـعـب، وبـمـقـدوره أن يسلي الـقـارئ بــهــذه الـحـبـكـات الـقـائـمـة عـلـى املــصــادفــات تـــارة، واألخـيـلـة تــارة أخـــرى. فهو يعيد إحـيـاء صاحب الهوية اليهودي الذي لم يكن له أي وجود فعلي فـــي الـــجـــزء األول، ويـبـنـي لـــه شـخـصـيـة وعـائـلـة، وحياة كاملة وتاريخًا مديدًا. كما أنه يجعل اللغة العربية محورًا من املحاور الرئيسية، تمامًا كما كانت العبرية في الجزء األول. وثمة في الجزأين صـديـقـة أو حبيبة عــربــيــة، وأخــــرى إسـرائـيـلـيـة، تلعب كل منهما دورًا في اإلضاءة على الشخصية الرئيسية. ونـرى الكاتب في النَصَّني، يركز على استبطان الجانب النفسي، وما يدور من حوارات ذاتية، في محاولة لولوج الدواخل املركبة سواء فلسطينيًا أو إسـرائـيـلـيـ. هـــذا الــصــراع الـدمـوي الـكـبـيـر، يصبح فــي مـسـتـواه األكــثــر درامـاتـيـكـيـة حـ نعاينه فــرديــ، ونـجـد األشــخــاص املفترض أنــهــم أعــــداء فــي حــالــة تــواصــل إنــســانــي، يلزمهم بــمــراجــعــات مـــؤملـــة. أمــــا الـكـلـمـة الــتــي ال بـــد أنـهـا أساس في النَصَّني معًا فهي «الكولونيالية» التي تستغرق من الكاتب عبر شخصية نور كثيرًا من الجهد لفهمها وإفهامها. رواية على الوتر الحساس تـأتـي «ســــادن املــحــرقــة» بــصــدورهــا فــي هـذا التوقيت تحديدًا، رغم أنها أُنجزت على ما يبدو قبل حربَي غزة ولبنان الحاليَّتني، وكأنها تجيب عن أسئلة كثيرة، صـارت تتردد على األلـسـن. إذ وأنـــت تـقـرأ الــنــصَّ، كـثـيـرًا مــا تلحظ أنـــه يـحـاول، من خالل استفهامات أور شابيرا، أن يجيب عن أسئلة من نوع: ملاذا كل هذا العنف عند الشخصية اإلسرائيلية؟ أو ما الخلفية التي تجعل مجتمعًا يفكر على نحو انـتـقـامـي؟ وفــي مـحـاولـة مـن أور للعثور على إجــابــات، يـتـحـاور مـع معلمة اللغة الــعــربــيــة، ويــصــطــدمــان بـــاســـتـــمـــرار، يـكـتـب على دفتره وكأنما ليفهم، يحاول أن يستنطق والـده تــــكــــرارًا، وهــــو فـــي غــيــبــوبــتــه، عـــن تــلــك الــحــادثــة الشهيرة في النقب لالعتداء الجماعي على فتاة صـغـيـرة، مــن قـبـل الـجـنـود، وفـــي قلبه خشية أن يكون والده مَارَس نوعًا من هذه البشاعات. األسير والغفران لسجَّانه يبقى أن باسم خندقجي، يكتب هذه الرواية سنة من عمره خلف قضبان السجن، 20 بعد مرور لكنه متحرر مـن الــجــدران، كما فـي الـجـزء األول، ويـسـطـر حـكـايـتـه، مـثـل طليق يـحـب الـتـجـول في الشوارع، يصف لنا القدس وتل أبيب، يجلس في املقاهي. يبدو خندقجي مثل مَن يأنف من الكتابة عن السجن، أو يعد الكتابة الروائية انتقاال إلى عالم الحرية. والـسـؤال الـذي من املحال أن تنهي قــراءة الـروايـة، دون أن تتساءل حوله، هـو: كيف يـمـكـن لـسـجـ ، عـــاش حــــاالت اضـطـهـاد قـصـوى، وعانى من سجَّانه ما عانى، يمكن له ليس فقط أن يتقمَّص عـدوه، وإنما أن يسخِّر قلمه للكتابة عن معاناته، بل يُــقـدِّم صورته ضحية أكثر مما هو مستعمر مغتصبٌ، ومرتكب جرائم؟ 2 يُــشــار إلـــى أن بـاسـم خندقجي اعـتُــقـل فــي وكـان ال يزال 2004 نوفمبر (تشرين الثاني) عام روايـــات: 3 مـن عـمـره، أصـــدر ديــوانــ ، و 19 فـي الــــ ، و«خسوف بدر الدين» 2017 «نرجس العزلة» عام .2020 ، و«أنـفـاس امـــرأة مخذولة» عـام 2019 عـام مــقــالــة، وأكــمــل دراســـتـــه في 200 ونــشــر أكــثــر مــن السجن. ومع صدور روايته «قناع بلون السماء»، وعدنا أنها ستكون ثالثية تحمل عنوان «ثالثية املرايا»، أي أننا ال نزال بانتظار جزء آخر، وهو ما يبرر النهاية املفتوحة واملعلقة التي تنتهي بها «سادن املحرقة». باسم خندقجي بيروت: سوسن األبطح
RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==