نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، ال نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حينا وتأخير آخر الثقافة CULTURE 17 Issue 16791 - العدد Sunday - 2024/11/17 األحد «مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة تُــــغــــذّى جـــــذور الــقــيــم الــثــقــافــيــة كلما تعمقت صلتها بــتــراث األمـكـنـة والــنــاس. لكن مـــاذا لـو اكتشفنا أن الـعـالـم، بقاراته الخمس، قادر على أن يكون مهدًا لقصيدة واحدة؟ عن أي ناس وأية جغرافيا نتحدث حينها؟ هذا هو السؤال الذي يجيب عن كتاب «مـانـسـيـرة» الـشـعـري، الـــذي أطـلـقـه أخـيـرًا 86 الشاعر اإلماراتي عادل خزام، بمشاركة شاعرًا وشاعرة من مختلف بقاع األرض، في تجربة أدبية عاملية غير مسبوقة. تـــمـــثـــل تـــجـــربـــة «مــــانــــســــيــــرة» رحـــلـــة شعرية جماعية حيث تتضافر جهود هذا الــعــدد الكبير مــن الــشــعــراء، كـــل بخلفيته الـثـقـافـيـة ولـغـتـه األم، لـنـسـج نـــص واحـــد مُشترك. هـذا التنوع يُضفي على الكتاب ثـــراء فنيًا وجماليًا استثنائيًا، فينسجم تنوع األساليب الشعرية والرؤى الفكرية، لـيُــشـكّــل لــوحــة فسيفسائية تـعـكـس غنى التجربة اإلنسانية. وحـــتـــى عـــنـــوان الـــكـــتـــاب يُـــجـــسّـــد هــذا الــتــمــازج الـثـقـافـي بــبــراعــة، فـهـو دمـــج بني » الـــتـــي تعني Man« الــكــلــمــة اإلنــجــلــيــزيــة اإلنسان، والكلمة العربية «سيرة»، ليُعبّر عــــن جــــوهــــر املـــــشـــــروع فــــي تـــقـــديـــم ســـيـــرة إنسانية شاملة، تحتفي بتنوّع البشرية ووحدتها في آن واحد. تتخطى «مانسيرة» حدود الجغرافيا والـــلـــغـــة لــــتُــــقــــدّم تـــجـــربـــة شـــعـــريـــة كــونــيــة تحتفي باإلنسان وقيمه املُشتركة، وتُؤكّد قــــــدرة الـــفـــن عـــلـــى تـــوحـــيـــد الـــبـــشـــريـــة رغـــم اخـتـافـاتـهـم. إنـهـا ملحمة تُــعـيـد صياغة مفهوم الهوية واالنتماء، لتُؤسّس لِعالم أكثر تسامحًا وانفتاحًا، عالم تُشكّل فيه الــكــلــمــة جـــســـرًا لــلــتــواصــل والـــتـــفـــاهـــم بني جميع الثقافات. يبدأ الكتاب بمدخل أسطوري شبيه بامللحم التاريخية ولكن بنفَس حديث: َفي البَدْء كان العالَم شيئًا واحدًا ًال غرب ال شرقَ، ال وضوح وال غموض وال البداية تعرِف أن لها نهاية َوال الــــنِّــــهــــايــــة بَــــــــــــدَأتْ، أو صـــــــار لـهـا مُؤيِّدون «مــــانــــســــيــــرة»: جـــســـر لـــلـــتـــواصـــل بـ الثقافات يفتح لنا هذا املدخل نافذة على فكرة «وحــــدة الــعــالــم»، حـيـث تـتـاشـى الــحــدود الــجــغــرافــيــة والــثــقــافــيــة، ويــصــبــح الـعـالـم بـأسـره موطنًا واحـــدًا لإلنسانية جمعاء. إنـهـا دعــــوة للتأمل فــي انـقـسـامـات العالم وصــراعــاتــه الـتـي ال طـائـل مـنـهـا، فــي حني أن البشر جميعًا يتشاركون الحلم نفسه: عالم يسوده السلم واملودة. تكمن أهمية «مـانـسـيـرة» فـي كونها أكــثــر مـــن مــجــرد تــجــربــة شــعــريــة جــديــدة، فهي تُجسّد تحوال عامليًا في مفهوم األدب، حـيـث تـتـراجـع «األنـــــا» لِــصـالـح «الـنـحـن»، ويــــتــــعــــزز مـــفـــهـــوم الـــجـــمـــاعـــة فـــــي عـمـلـيـة التأليف اإلبــداعــي. وتُــتـيـح هــذه املشاريع الـــجـــمـــاعـــيـــة الـــفـــرصـــة لِــــتــــداخــــل األصــــــوات وتنوّع األساليب، مما يُثري األدب ويُعزز جاذبيته، ويمنح الـقـراء فـرصـة لِلنفتاح عـلـى عـــوالـــم وثــقــافــات مُــتــعــددة مـــن خـال نص واحد. فــــــي الــــفــــصــــل الـــــثـــــانـــــي مــــــن املـــلـــحـــمـــة «دوران اإلنــســان فــي الـجـغـرافـيـا والــزمــن» تنتقل الـقـصـيـدة مــن أفــكــار تـشـكّــل العالم إلى استقراء رحلة البشرية وتشتتها في الصراعات واالختلفات: ظـل البشر، دهــرًا بعد دهـــرٍ، يتناسلون في مراعي الفوضى وقرنًا بعد قــرنٍ، صــارت تُــبـاد أمـم بكاملها وتنبعث أخرى ولم يمض وقت طويل، في القرن األخير إال وكانت الخيول قد عبرت إلى الصحراء وهي تتبع اتجاه البوصلة املكسورة ظــلــوا يـتـجـهـون جـنـوبـ خـاسـريـن شمالهم الحقيقي حــ نـصـل إلـــى الـفـصـل الـثـامـن على ســـبـــيـــل املــــثــــال وهــــــو بــــعــــنــــوان: «مــجــتــمــع القنبلة الذرية» تحيلنا امللحمة إلى الهوة العميقة التي يحدّق فيها البشر اليوم في مـصـيـرهـم املـــرعـــب، حـيـث يـتـهـدد الـكـوكـب بـــالـــفـــنـــاء عـــلـــى يــــد املـــهـــووســـ بـالـسـلـطـة والجشع والحروب. يصرخ شعراء العالم قائلني: نُحدّق في عيون املوت ويحدّق هو في عيوننا... ها هو املوت األعمى، يترك آثاره أينما ذهب أما نحنُ، فنترك أثر الحياة وكلماتنا هــذه، وأفـكـارنـا، إنما هـي إمضاء بأننا كنّا هنا واإلمضاء بمثابة جذر، جذر حي للخلود. والجذور داللة على الحياة في حد ذاتها. هكذا تسترسل في رصدها لتحوالت الــبــشــر مـــن الـــوحـــدة إلــــى الــــصــــراع، وتــقــرأ مــشــهــديــة الـــعـــالـــم الـــيـــوم املـــهـــدد بــالــدمــار الـــهـــائـــل الــــــذي يــنــبــعــث مـــنـــه. ومـــــع تـــوالـــي الفصول تكون الرؤية قد تشبّعت بأسئلة الوجود كلها، إلى أن نصل في النهاية إلى املـــآالت والتوصيات فـي ختام هـذا النص صفحة 265 العظيم حقًا الـــذي يمتد إلــى تقريب ًا. وأنت أيها اإلنسان الفرد – اإلنسان الجماعة إليك وصيّة الدهر األولى، وها نحن نكررها للمرة األلف إذا مشيت، اُكتب خطواتِك بأنفاسِك واشبُك صوتك بالريح ال تدَع أحدًا حتى نفْسك يسلبك الدَّهشة أنت املسافر في الضوء أنت العارف امللهَم تحد كبير ال شك أن جمع هـذا العدد الكبير من الشعراء في عمل واحد يمثل تحديًا هائلً، ســـواء مـن حيث التنسيق أو الترجمة أو الحفاظ على وحدة النص وتماسكه. إال أن عادل خزام نجح في تجاوز هذه التحديات بــبــراعــة، فــقــام بـجـمـع الـقـصـائـد ونسجها بـإبـداع ليُخرج لنا نصًا واحـــدًا متناغمًا، يـــســـتـــقـــي جـــــــــذوره مـــــن تــــنــــوع الــخــلــفــیــات الثقافیة واللغویة، ويصهرها في بوتقة إبـــداعـــيـــة واحـــــدة تُـــثـــري الــلــغــة واألســـلـــوب الشعري. وبـــيـــنـــمـــا كـــــانـــــت تــــــجــــــارب الـــتـــألـــيـــف الجماعي السابقة تركز على سرديات آداب شعوب أو مجتمعات واحدة، مثل «الكتاب الـصـيـنـي» أو «كــتــاب جـــاك كـــيـــرواك»، فـإن «مانسيرة» تتجاوز هذه الحدود لتُصبح تجسيدًا شعريًا لِرؤية عاملية، تُعبّر فيها الــكــلــمــة عـــن تـــجـــارب إنــســانــيــة مُــشــتــركــة، وتستند إلــى خصوصية الشعر بوصفه وسـيـلـة لِــلـتـعـبـيـر عـــن الــعــواطــف واألفـــكـــار بِعمق. ًدبي: شاكر نوري الشاعر العراقي بقي سنوات يأمل أن يكتب رواية وفعل أخيرا عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر «غـــــريـــــزة الـــطـــيـــر» روايــــــــة لــلــشــاعــر الــــعــــراقــــي عـــبـــد الـــــزهـــــرة زكــــــي، صــــدرت أخـيـرًا فـي بـغـداد، والقــت احتفاء نقديًا ملحوظًا، وهــي الــروايــة األولـــى لـه بعد صــــدور مـجـمـوعـتـه الــشــعــريــة الـكـامـلـة، وإســهــامــه عـلـى مـــدى أربــعــ عــامــ في املشهد الشعري العراقي. هــــنــــا حــــــــــوار مــــعــــه حــــــــول روايـــــتـــــه الجديدة وتجربته الروائية: أنــــت شـــاعـــر مـــكـــرس، ولــــك حـضـور > مهم في راهن الشعر العراقي. وأخيرًا فاجأت القراء والنقاد برواية جديرة بالوقوف عندها، ما الذي دفع بك إلى ذلك؟ - الـــشـــعـــر، أتــــوقــــع الـــشـــعـــر ولــيــس ســـواه، هـو مـا دفــع بـي إلــى الـــروايـــة، أو بتعبير آخر هو ما ألجأني إلى السرد، وكــــــان ســــــردًا روائـــــيـــــ . لــلــشــعــر فـضـائـل كــثــيــرة عــلــى مَــــن يــقــيــم فـــيـــه، والــكــتــابــة السردية هبة هداني إليها الشعر حني فتح لي أفقًا آخر في الكتابة، وهو أفق الكتابة الروائية. مــنــذ أكـــثـــر مـــن عــشــريــن عـــامـــ كــان الشعر يستدعي مني، من خلل ما كتبت مـــن دواويــــــن، اعــتــمــاد تـقـنـيـات «الــســرد الشعري» في كتابة الكثير من نصوص تلك الـدواويـن، حتى تكرّس هـذا بشكل خاص في ديوان «شريط صامت»، وهو ديـــوان مكرس تمامًا لـرؤيـة الحياة في ظــــروف الـــحـــرب والــعــنــف الــتــي عـاشـهـا العراقيون، ثم ما تله من دواوين. لــكــن الـــشـــعـــر، فـــي جـــانـــب مــهــم من صيانيته، عـــادة مــا يـحـصّــن نفسه من االنـسـحـاق، ومــن مــــواراة هـويـتـه، وذلـك كلما كــان بـصـدد االنـفـتـاح على السرد وســــــواه، بـــهـــذا كــنــت أمـــيّـــز بـــ الـــســـرد، كما هـو فـي مواطنه بـالـروايـة والقصة الـقـصـيـرة وســواهــمــا مـــن فــنــون الـسـرد النثري، وبـ الطابع الـخـاص، التقني والـبـاغـي والتخييلي، ملـا سميته قبل قليل بـ«السرد الشعري». بهذا، وفي موازاة اندفاعي باعتماد الـــســـرد فـــي الــشــعــر، كــانــت كـتـابـتـي في النثر تنمّي قدراتها حتى صـار السرد في أحيان كثيرة من مستلزمات كتابتي املــقــالــة، وحــتــى بـعـد ذلـــك حـــ أنـجـزت كـتـاب «واقــــف فــي الـــظـــام»، وهـــو كتاب أقـرب إلــى السيرة الشخصية ممتزجة بــســيــرة مـجـتـمـع خــــال ســـنـــوات أواخــــر القرن املاضي، وحتى كتابتي بعد ذلك «طـــريـــق ال يــســع إال فـــــــردًا»، وهـــــذا كما تعرف كتاب نظري في الفكر الشعري. كــــا الـــكـــتـــابـــ كــــانــــا يـــعـــتـــمـــدان بـشـكـل أســاس على اإلفـــادة من الـسـرد. لقد عد بعض النقاد والـقـراء كتاب «واقـــف في الـظـام» روايــة سيرية، وهـذا ما لم أكن مخططًا لـه، لكني كنت خـال العشرين عـــامـــ األخــــيــــرة أروي األفــــكــــار والـــــرؤى والـــوقـــائـــع، والـقـصـائـد أيــضــ كحكايا، كوقائع سيرة لألفكار واألحداث. لم تشر، في هذا السياق واالستذكار، > إلـــى كـتـابـك األخــيــر «فـــي نـبـض الــعــالــم»، وهـو كتاب مكرس بالكامل عن الحياة في العمى، لقد امـتـزج فيه الـسـرد بالشعر بشكل حـاد، أعــتــقــد أنــــه حــمــل عـــنـــوانـــ فــرعــيــ تــصــف به نصوصه على أنها «سيرة األعمى، وقد رأى كل شيء»... - نعم، هـذا الكتاب ما كـدت أكمله، وقـد استغرق مني عـامـ، حتى وجدته يسلمني مـبـاشـرة إلـــى كـتـابـة الـروايـة، «غريزة الطير». تريد أن تقول إن الرواية كانت بوحي > من هذا الكتاب؟ - ال، أبـــــدًا... لـكـن كـتـاب «فـــي نبض الـعـالـم» كــان قـد مضى بـي إلــى الـسـرد، إلى أقصى ما مضيت به في السرد، لقد خــرجــت مـنـه وأنــــا مـشـبـع بــــروح الـسـرد وطاقته. فـي الحقيقة بقيت سـنـوات طويلة كنت آمـــا خللها أن أكـتـب روايــــة، ولم أســـتـــطـــع ذلــــــك، لــــم أجــــــــرب، لــــم أحــــــاول. فجأة وجدتني أكتب وأستمر أكتب بل انقطاع. كنت أشعر أنـي ممتلئ بطاقة كبيرة على الــســرد، كما لـو أن سنوات التمني كانت خزانة ملؤها تلك الطاقة، لــقــد انـفـتـحـت الـــخـــزانـــة ومــعــهــا تـدفـقـت كتابة السرد. كيف حصل هذا؟ > - الحكمة التي خرجت بها تفيد أال تقسر نفسك على الكتابة إن استعصت، وال تتمنّع عليها إن أقبلت. هـــــذا مــــا يــحــصــل عــــــادة فــــي كـتـابـة الشعر، وأجد أنه قابل للتعميم على أي كتابة جادة ومنطلقة من دافع حقيقي. قوبلت «غـريـزة الطير» باستحسان > مـن قبل الـنـقـاد والـكـتّــاب، هـل ستكون نقطة افــتــراق عـن الـشـعـر، خصوصًا أنــك أصــدرت كتاب «األعـمـال الشعرية» بعد فترة قصيرة على صدور الرواية؟ - ال، ملــــــاذا نــعــتــقــد أنـــــه ال تـعـايـش مـا بـ األجــنــاس املتنوعة فـي الكتابة والـــفـــن؟ ملــــاذا نعتقد أال يـنـهـض جنس كـتـابـي لـــدى كـاتـب إال عـلـى دفـــن جنس آخــــر؟ نـحـن بـشـر بـــــأرواح ووجـــــدان في تغير مستمر، والحاجات هي، ال نحن، الـتـي تستدعي تقديم فـن كتابي حينًا وتـأخـيـر آخـــــر. وواقــــعــــ حــتــى مـــن دون االنــــشــــغــــال بــــالــــروايــــة مــــن املـــمـــكـــن عـــدم اإلقـــبـــال عــلــى كــتــابــة الــشــعــر، والـعـكـس صـحـيـح أيـــضـــ . ال مـشـكـلـة فـــي ذلــــك ما دامــت الكتابة تعبيرًا عـن حـاجـة، تكف الـــحـــاجـــات ربـــمـــا فــتــكــف مــعــهــا الــرغــبــة بالكتابة، سواء في الشعر أو في سواه. ولــكــن كـلـمـا فــكّــر شــاعــر بكتابة > رواية فغالبًا ما يقال إن اللجوء للرواية نـتـاج لـ حـسـاس بـإزاحـتـهـا الـشـعـر من عــــرشــــه، خــــاصــــة مــــع تــــطــــور هــــــذا الــفــن «أعني الرواية» في العراق، في العقدين األخيرين؟ - كلنا كما أعتقد نتحدث هنا عن األدب الجاد، عن الكتابة الجادة. وإزاء جـــديـــة الـــحـــيـــاة فـــي الـــكـــتـــابـــة، شـــعـــرًا أو روايـة، ال أعتقد أن التنافس ما بينهما انتحاري، أي ال يقوم فن إال بنحره فنًا آخر. نــــحــــن نــــحــــيــــا فــــــي عـــــالـــــم مــســتــمــر بـــتـــغـــيـــراتـــه الـــســـريـــعـــة، تـــغـــيـــرات تـلـقـي بظللها على كل شيء... فرص اإلمتاع تـتـنـوع، بـمـا يـدفـع بـمـايـ الـبـشـر إلـى أن ينشغلوا باهتمامات قد ال تطرأ في بالنا. ال يـــنـــبـــغـــي لــــنــــا، نـــحـــن بـــشـــر هـــذه السنوات، أن نتأسى على بشر املستقبل الفـــتـــقـــادهـــم مــــا نـــــــراه اآلن ضــــــــرورة ال تستقيم الحياة من دونها. الشعر واألدب والفن عمومًا يجري إنتاجها استجابة لحاجات منتجيها أوال وإن انتفت حاجة املحتاجني لهذا اإلنتاج مستقبل فل ضير في ذلك. أكـــتـــب الــشــعــر كــحــاجــة شـخـصـيـة، وكـــتـــبـــت الـــــروايـــــة كــاســتــجــابــة لـحـاجـة أخرى مقابلة. في الحالني كنت أتنفّس متعتي الوجدانية والذهنية، وبالتالي فــــا أقــــــف كـــثـــيـــرًا عـــنـــد مــــن ســيــبــقــى أو سيموت من الفنون واآلداب. ما زلت بصدد الصلة ما بني الشعر > والسرد... لكن بدا لي أثناء قراءتي الرواية أنك كنت حذرًا من الوقوع في أسر الشعر بلغتك، فاعتمدت لغة واضـحـة، أتــســاءل: مـا إذا كان ذلك بسبب واقعية الكثير من أحداث الرواية؟ - فــعــا كــانــت هــــذه مـشـكـلـة أثــنــاء الــكــتــابــة. لـيـس مـــن الـيـسـيـر أن تـعـرف أنــــك، كــشــاعــر، مـــا زلــــت مـسـتـمـرًا بلغة الــشــعــر فـيـمـا أنــــت تـكـتـب روايــــــة. هــذه مشكلة كثير من الشعراء الذين كتبوا الـــــروايـــــة، وهـــــي أيـــضـــ مــشــكــلــة كــاتــب الرواية غير الشاعر حني يريد «تزيني» لغة الرواية ببلغة شعرية، هذه بلغة غـالـبـ مـــا تــكــون فــجّــة ملجيئها خـــارج سياقها املألوف. سوى هذا التعمد هنالك اللوعي، فبعد سـنـوات طويلة مـن كتابة الشعر تـــأخـــذ بـــاغـــة الــلــغــة الــشــعــريــة فـرصـهـا لـلـعـمـل والــظــهــور فـــي الـكـتـابـة الـنـثـريـة بتلقائية دونما وعي من الشاعر. قـــد تـسـاعـد الــخــبــرة الـصـحـافـيـة، لـكـاتـب مـثـلـي، فــي ضـبـط انـدفـاع لغة الشعر، لكن الكتابة الصحافية شأن آخــر. ففي الـروايـة يكون الكاتب أمـام وضع آخر ال صلة له بلغة الصحافة، إنـــــه أمــــــام روايـــــــــة، وهـــــي نــــص أدبـــــي، تحتاج بـاغـة أدبـيـة نثرية، وهـــذا ما يضاعف مسؤولية الكتابة فـي نص أدبــــي روائــــــي. كـــان خـــيـــاري أن أرجـــئ الــتــفــكــيــر فــــي هـــــذه املـــشـــكـــلـــة ملــــا بـعـد االنتهاء من الرواية، وفعل قمت بأكثر من مراجعة لها، كنت أسعى خللها الصطياد أي أثــر بلغي شعري جاء في غير محلّه، وباملقابل عملت على تنمية البلغة النثرية األدبية في نص الرواية. في كل حال هي مهمة ليست باليسيرة لكنها لـم تكن مستحيلة، وكـــان لـصـبـري عـلـى الـــروايـــة أثـــر مهم في هذا الجانب. هــــل كـــنـــت مـــتـــعــمـــدًا تـــنـــاص عـــنـــوان > الــراويــة، «غـريـزة الطير»، بشكل أو بآخر مع «منطق الطير» لفريد الدين العطار، خاصة أن هناك تماثال بينهما في الثيمة املركزية، كما تتجلى سرديًا في الـروايـة، مما يوحي بأنها نص موازٍ؟ - حقيقة لم أكن أفكر بهذا، لقد جاء هـــذا الــعــنــوان «غـــريـــزة الــطــيــر» مـتـأخـرًا بـعـد إنــجــاز مراجعتها وبـعـد أكـثـر من عنوان لم تصمد جميعها أمـام تبرّمي منها لحني مـا استقررت على العنوان األخير، وهو مستل من منت الرواية. أعتقد أن اهتمامات «غريزة الطير» كانت أرضية، وثيقة الصلة واالنشداد إلــــــى حــــيــــاة أفــــــــراد ومـــجـــتـــمـــع ومـــديـــنـــة بخلف ما عني به كتاب «منطق الطير» من اهتمامات متعالية. الطير يتعالى فــــي كــــتــــاب فــــريــــد الــــديــــن بــيــنــمــا طــائــر الرواية أوّاب منشد إلى مدينته وأرضه. فـــي كـــل حــــال، ال أدري، ربــمــا يجد قارئ ما يمكن أن يؤكد الصلة التناصية التي تشير إليها ما بني الكتابني. إلـــى أي مـــدى ظـلـت «غـــريـــزة الـطـيـر» > تــتــحــدث عـــن إشــكــالــيــة الــهــويــة االجـتـمـاعـيـة، وعــ قــتــهــا بـــاآلخـــر الـــــذي يـقـاسـمـهـا املـــكـــان، والــوجــود، مـن خــ ل الشخصيات الـتـي أرى أنها استحدثت بقصدية واضحة؟ -ـ كنت منشغل في الرواية، بجانب أســـاس منها، بمصائر األرستقراطية الـــوطـــنـــيـــة الـــعـــراقـــيـــة، الـــتـــي نـــشـــأت فـي أربعينات وخمسينات القرن العشرين وبـــــدأت بـــاالنـــدحـــار مـــا بــعــد ذلـــــك. األب سـلـيـمـان زيــنــي كـــان عــضــوًا فـــاعـــاً، في شــبــابــه بـــالـــبـــصـــرة، بـــالـــحـــزب الــوطــنــي الديمقراطي، وكنت أرى فيه معبّرًا إلى حـد ما عن مصير الليبرالية العراقية، وهــــذا جــانــب مـــن ســـيـــرورة املـجـتـمـع لم يحظ باهتمام يذكر سواء في األدب أو الفكر السياسي. الشخصية املحورية آدم زيني، تقدمه > بوصفه املـرشـد والـحـكـيـم، فالجميع يخطب وده وينشد حمايته، حتى (األب) سليمان زيــنــي يــقــول عــنــه: «هـــو مـعـلـمـي»، هـــل هـنـاك قصدية مـا فـي بـنـاء هــذه الشخصية، أم هو اعتراف، وانحياز منك، لحكمة ودرايـة اآلخر ذي النسب اإلنجليزي؟ - ســــعــــيــــت كـــــثـــــيـــــرًا مـــــــن أجــــــــــل أن أضــمــن لـشـخـصـيـات الـــروايـــة حـريـتـهـا، استقلليتها عـنـي. مــن هـنـا تمتع آدم بقدر واف من الحرية التي جعلت منه شخصًا يبدو مستقرًا آنًا ومضطربًا في آن آخر. كل شيء واضح في ذهنه، لكن التعبير عن كل شـيء يظل بالنسبة له غير ممكن وغير واضح وحتى ملتبسًا بالنسبة لآلخرين. ال أســــتــــطــــيــــع هــــنــــا الـــــتـــــحـــــدث عــن شـــخـــصـــيـــة مــــثــــل شـــخـــصـــيـــة آدم. ثــمــة الكثير لــم تقله الـــروايـــة، وهـــو مـمـا ظل يـعـتـمـل فـــي دخــيــلــة آدم، وبـــعـــض هــذا الكثير يستعصي فهمه وإدراكـــــه علي أنا املؤلف الذي متّع شخصيات روايته بحريتها واستقللها عنه. لم يكن هذا خلل في البناء الروائي، إنما هو تعبير صامت عن طبيعة شخصية آدم، وهي طبيعة كتوم. شخصية آدم هـي مـن نسج جهده الشخصي في أغلب طباعها. بالتأكيد هـــــو وَرِث جــــانــــبــــ مـــــن خـــــصـــــال أمـــــه، املحافظة اإلنجليزية وبعضًا من طبائع أبــيــه الـلـيـبـرالـي الــعــراقــي، لـكـن آدم ظل ماهرًا في صنع شخصيته كما أرادهـا هو وحرص عليها. حـــكـــايـــة (جــــاســــم الــــســــمــــاك)، وهـــو > شـخـصـيـة ثــانــويــة فـــي الــــروايــــة، حـــول رؤيـتـه رفــــــض الـــــكـــــ ب نـــهـــش جـــثـــث الـــقـــتـــلـــى عـــام . هل ترى ذلك إحالة واضحة للواقعية 1991 السحرية، والتي يرى الكثير من النقاد التأثر الواضح للروائيني العراقيني بها؟ - حكاية جـاسـم حقيقية، روى لي صـــديـــق بـــصـــري واقــعــتــهــا. فـــي أحـــيـــان كـثـيـرة كـــان واقـعـنـا أغــــرب مــن الـخـيـال. ثـمـة الـكـثـيـر مــن الـكـنـوز الـــســـوداء التي ينبغي لـــ دب أن يخرجها مــن خـزائـن األلـم العراقي، ما زال أدبنا زاهـدًا بهذه الكنوز. قبل أن أودعك، هل من رواية أخرى؟ > - أنجزت بشكل أولي رواية قصيرة «الـــســـيـــدة مـــفـــسّـــرة األحــــــــام»، أبـقـيـتُــهـا بعيدة عني منذ أسبوعني، ربما أحتاج إلـــــى أســــبــــوع آخـــــر ألعــــــود بـــعـــده إلـيـهـا بهدف املراجعة قبل دفعها للنشر. بغداد: عالء المفرجي عبد الزهرة زكي عادل خزام
RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==