الثقافة CULTURE 17 Issue 16784 - العدد Sunday - 2024/11/10 األحد الشاعر المصري محمود سيف الدين يحتفي بهما أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر يستحضر الـشـاعـر مـحـمـود سيف الـــديـــن صــــورة املـغـنـيـة الـفـرنـسـيـة إديـــث بياف، ويسمي بها ديوانه «مرآة جديدة إلديــت بـيـاف»، وفـي ظـال هـذه الصورة املـراوغـة يتكثف فضاء الشجن والحزن في الديوان، بخاصة أن الحزن كان سمة الفتة في مسيرة هذه الفنانة التي تقلبت ما بني الفقر والتشرّد حتى تربعت على عــرش الـشـهـرة واملــجــد، ولقبت بأيقونة الــغــنــاء الــفــرنــســي فـــي سـتـيـنـيـات الــقــرن املاضي، وحفزت أغنياتها روح املقاومة للحتلل األملـانـي لبلدها إبــان الحرب العاملية الثانية، وبـالـتـوازي يستحضر عـبـر فـصـلـه الــثــانــي «فـــي حـــب الـكـوكـب» صـــــورة كـــوكـــب الـــشـــرق أم كـــلـــثـــوم، الـتـي تربعت على عرش الغناء العربي أيضًا، ويـتـنـاص مــع أغـانـيـهـا فــي نسيج أغلب القصائد. تحضر إديث بياف عبر نص وحيد في الديوان، وفي واقع مضطرب يختلط فيه الحزن بعبثية الحياة، بينما تمرح الذات الشاعرة بطفولة في أجواء أغاني أم كلثوم، وتـكـاد تـرقـص على إيقاعها، كأن ثمة فجوة بني الصوتني، لم تنشغل بـــهـــا الــــــــذات الــــشــــاعــــرة، أو تـسـتـثـمـرهـا شـعـريـ ، فــي شـكـل حـــوار بينهما، الــذي تـــــعـــــززه وتـــحـــيـــل إلــــيــــه ظـــــــروف الـــنـــشـــأة والــروافــد املتشابهة بينهما فـي الكفاح مـــن أجــــل الـــفـــن، عــلــمــ بــــأن بـــيـــاف أطـلـق عليها أحد الكتاب الفرنسيني «أم كلثوم فرنسا». لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هـل أراد الـشـاعـر مـن وراء ذلــك أن يحرر الصورتني معًا من محنة اإلطار، ويجعل الـــغـــنـــاء بــمــحــمــوالتــه الـــرمـــزيـــة املــغــويــة يسبح في هواء الديوان والحياة، تاركًا له حرية تشكيل العلقة مع صورتيهما، ومـــــع صــــور أخـــــرى ألغــــــان شــهــيــرة في أفــــــام ســيــنــمــائــيــة كــاســيــكــيــة يـتـنـاص معها الــديــوان، كأنها روح لحكاية ما، مـعـلـقـة فـــي فــضــاء الـــغـــرابـــة الــتــي تشيع داللتها في أجواء الديوان بطرائق فنية متنوعة تـبـرز على نحو الفــت فـي بنية الـصـورة وإيـقـاع املشهد املسكون دائمًا بفعل التذكر والحنني للماضي. فتحت مــظــلــة الـــغـــرابـــة الـــتـــي تـــتـــأرجـــح بـثـقـلـهـا وخفتها، ما بني الظن واليقني، يتكشف الـشـعـر لنفسه، وتتخفف األنـــا اللهثة بــــ ضـــمـــيـــري املــتــكــلــم واملــــخــــاطــــب، مـن شـوائـب االسـتـطـراد والـتـبـريـر، وتصبح الــغــرابــة مــــرآة خــاصــة لـــلـــذات، ومـفـتـاحـ لــطــرق أبـــــواب الــعــالــم املــســكــون بــهــا، ما يــمــنــح املـــشـــهـــد الـــشـــعـــري حـــيـــويـــة الفــتــة فـــي الـنـظـر إلـــى الـطـبـيـعـة والــتــعــامــل مع الـعـنـاصـر واألشـــيـــاء بـإيـقـاعـهـا الـيـومـي الرتيب املباغت... يطالعنا هذا في نص «مـرآة جديدة إلديث بياف»، الذي يمهد له الشاعر بنص يسبقه بعنوان «ضوء مبهم فـي الــكــراس» يلعب فيه على وتر الـطـفـولـة القصية ومـحـنـة الـحـلـم الـدائـم بـــهـــا، فـيـمـا يـــأتـــي نـــص «بــــيــــاف» لـطـشـة مــأســاويــة ومــرثــيــة ملـشـهـد كــأنــه األخـيـر على مسرح الحياة... يقول النص الذي ِوسم عنوان الديوان: ِألن يَد الرَّبيع مَغلُولة إلى عُنقِه األيام البذيئة تمر من الفتنة إلى الهَمَجِيَّة ِوَاألغْنِيَة تَنهَار بَني يَديْنا فِي شِتَاء مَا َاملُسعِفُون دَائمًا فِي الطَّريِق لكنَّهُم ال يَصِلُوُن ٌقلبَان فِي نَحِيب يَختَلِط مَع املطر ُهَمْس نَاء وبكاء نَحِيل وَقت يتقلّص ِحَيثُمَا نَذهَب هُنَاك طَــوق ألَلـعَــاب الهَوَاء املَجنُونَة ِونَحن حَللنَا بهَيئَة تَلعَب عَلَى صَخرَة اللوْن مُوسِيقَى أخرَى األيَّام التِي ال نَعرِف سِوَاهَا تُـــشـــبـــه فــــرصــــة أخـــــيـــــرة لــــلــــوقــــوف عـلـى ْاملَسرَحِ. ِالحَياة ورديّة في الزِّحَام املُتالش ِالطبيعة ال تكف عن الثرثرة ًالفوضى جُرح هادئ في القلب أوَد لو أبصق قلبي مرة ِصرخة مُجَرَّدَة ٍكأن املَدِينة ربّة الحَرب سهم في قبضة هُالمِيَّة ملَاذا إذن.. نَــعـتَــنِــي بـالـشَّــمـس الــبَــعِــيــدَة عـــن أطــــراف أصَابِعِنَا عَــجــيــنــة الـــحـــب نـــحـــن والـــــشـــــوارع تـخـبـز عُيونَنَا ِالحب الذي نجهل ضيَّعَنا لم يُكلِّف خَاطِرًا واحِدًا للمُخَاطَرة ُانْحِنَاءَة الطريق كاسْتِوَائِهَا املُجون والظُّنون ٍإنها األرض التِي نَظَرَت فِي مِرآتِهَا طَوِيل وشَاهَدت فِي كل مرة ًشبحًا جميال إلديث بياف عينًا شَاخِصَةً... وحَنجَرة تـخـتـلـط الــغــرابــة بـالـلـوعـة واألســـى واإلحــــســــاس بـالـفـقـد والــــوحــــدة، وتــبــدو إديـــــث بـــيـــاف الـــتـــي لـــم يــبــق مـنـهـا ســوى «عـ شاخصة وحنجرة» كأنها صدى ملــرآة األرض األكـثـر اتساعًا ورســوخــ... فـيـمـا تــومــض صــــورة أخــــرى خـافـتـة في الــظــل تـبـحـث فـيـهـا الـــــذات الـــشـــاعـــرة عن كـيـنـونـتـهـا ومـــرآتـــهـــا الـــهـــاربـــة فـــي غـبـار األيـــــام والـــفـــوضـــى والــــزحــــام والــجــنــون، وكأنها تتعثر في حلم مشدود دائمًا إلى املاضي، تحاول استعادته بقوة الشعر، وفــــي الـــوقـــت نــفــســه، تـسـتـأنـس الــغــرابــة وتــلــعــب مــعــهــا، كـــأرجـــوحـــة مـــن أراجــيــح الطفولة والصبا والـــوجـــود... يقول في نص بعنوان «مباغتة» تتحول فيه الذات ِإلى مرآة لآلخر: انظر للطَّريق بعَينيك القَديمَتَني الـلَّــتـ تَركتُهُمَا جِـــوَار كــوْمَــة مــن ألـعَــاب الصِّبَا تذكرْ؟ كنت مُتَعَجِّال وَقتَهَا َقَفزت إلى القِطَار البِالسْتِيكِي ولم يزَل فِي حِجرِك ِأفلت املَكابِحَ، ِوأطلقْت نَفير الشَّقَاوَة فِي أّذُن األَرض أرقتَها بأظفَار نَبَشَت وَجه السَّفر وعَبر هَذِه اللُّعبَة القَديمَة يَا هَذَا بَاغَتتَك األيَّامُ.... وجِئت إلى هُنَا بـــبـــســـاطـــة شـــــديـــــدة ولــــغــــة سـلـسـلـة يـــتـــعـــامـــل الـــشـــاعـــر مــــع الــــغــــرابــــة، يــرســم صــــــورتــــــه ومـــــامـــــحـــــه فــــــي ظــــالــــهــــا بــا تعقيدات ومـفـارقـات شاسعة، فالغرابة تـــــتـــــراءى دائــــمــــ كــصــنــو لـــلـــحـــلـــم، صـنـو لألثر والحكاية، تشد الحواس والخيال إلـــى أفـــق أبـعـد وأعــمــق، مـمـا يـسـاهـم في كسر منطق الـعـاقـات التراتبية للزمن واألشياء، بحثًا عما يثير الدهشة وفي الوقت نفسه يثير الغرابة بشكل جديد... فل بأس أن يرسم الشاعر باسمها هذه الـصـورة لنفسه التي تطالعنا فـي نص بـــعـــنـــوان «أحـــــــــوال» يـــبـــدو فـــيـــه الـشـغـف ٍوالحنني إلى املكان: ّرأيتُني بائع عرقسوس ِفي حي شعبي ِكلمّا أملت اآلنية بعيدًا عن األكواب ِتهدّلت قصائد للمِالءَات اللَّف ِونوافذ العصر ِّواملشربيات ِرأيتُني ربَابة فوق كَتِف جَنُوبِي َويدًا تلوِّح فوق حبائل الصوت لجدران تَحكِي مَا فَات رأيتُني نشيدًا سَاحِليًا على امتداد الشاطِئ جمال القصاص تأمالت حول ماركيز وروايته األخيرة «موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب «مــوعــدنــا فــي شـهـر آب» الـهـديـة التي أرسل بها ماركيز من العالم اآلخر إلى قرائه بمناسبة مـرور عشر سنوات على رحيله، تثير كثيرا مـن األسـئـلـة، بـدايـة مـن النص ذاتـــه وكـاتـبـه وطبيعة تـعـاقـده مـع الـقـارئ، وانتهاء بأسئلة عامة أخرى حول صناعة النشر والـتـحـريـر وحـــدود حـريـة التصرف فــي نــص بـعـد رحــيــل كـاتـبـه، خـصـوصـ أن نـشـر الـنـوفـيـا الـقـصـيـرة قـــد أُتـــبـــع بـإعـان نجلي ماركيز عـن مسلسل تنتجه منصة «نـتـفـلـيـكـس» عـــن «مـــائـــة عــــام مـــن الــعــزلــة» أشــهــر روايـــــات مــاركــيــز الــتــي رفـــض رفضًا قـــاطـــعـــ نــقــلــهــا إلـــــى الــســيــنــمــا فــــي حــيــاتــه. الـسـؤال حـول أخلقية التصرف في أعمال الـــكـــاتـــب الــــراحــــل ســبــق تـــنـــاولـــه وال يمكن الـــوصـــول إلـــى كـلـمـة فـصـل بــشــأنــه؛ فـتـراث املبدع الـراحـل ملك لورثته بحكم القانون، يــــحــــلــــون مـــحـــلـــه ملـــــــدة خـــمـــســـ عـــــامـــــ فــي التصرف به قبل أن يصبح مشاعًا إنسانيًّا. وقد أجاد ابنا ماركيز الدفاع عن قراريهما بخصوص الروايتني. تـبـدو مقدمة الــروايــة الـجـديـدة التي وقعها رودريغو وغونثالو ماركيز بارتشا، عذبة ومراوغة، إلى حد يجعلنا نتوهم أن كاتبها هو ماركيز ذاته؛ حيث تتجلى فيها ســمــات أســلــوبــه، الــــذي يستند إلـــى حكمة الليقني (املبدأ الذي نظَّر له كونديرا، دون أن يتجلى في كتاباته بقدر ما يتجلى في أسلوب الساحر الكولومبي). بـدايـة هناك األســف على ذاكـــرة األب، وأنـــقـــل هـنـا وكـــل االقــتــبــاســات الـتـالـيـة عن نص الترجمة العربية التي أنجزها وضاح مـحـمـود، «كـــان فــقــدان الـــذاكـــرة الـــذي عـانـاه والدنا في السنوات األخيرة من حياته أمرًا غـايـة فــي الـصـعـوبـة علينا جميعًا، مثلما يمكن ألي امرئ أن يتصور ذلك بسهولة». ويـنـقـان عـنـه: «إن الــذاكــرة مـادتـي األولـيـة وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها ال وجود ألي شيء». ويــقــرر الـــولـــدان أن الـــروايـــة كتبت في مسار يتأرجح بني نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له، ويشيران إلى طبيعة العمل الصعب للمحرر على النسخ الــكــثــيــرة مـــن الــــروايــــة، ويـــتـــركـــان الـحـديـث عــــن ذلـــــك لــلــمــحــرر كـــريـــســـتـــوبـــال بـــيـــرا فـي ملحظاته املنشورة تذييل للطبعة ذاتها، العـتـقـادهـمـا بــأنــه سـيـفـعـل ذلـــك «بـطـريـقـة أفـــضـــل بـكـثـيـر مــمــا يــمــكــن أن نــفــعــل نحن االثنني معًا، ففي تلك األثناء لم نكن نعلم شـيـئـ عـــن الــكــتــاب بـاسـتـثـنـاء حــكــم غـابـو عـلـيـه: هـــذا الـكـتـاب ال نـفـع مـنـه وال بــد من تـمـزيـقـه». بـهـذه املـاحـظـة يهيئان الـقـارئ للمفارقة، فهما لـم يمزقا الـنـص، بـل قـررا نـشـره بعد أن نـظـرا فـي أمــر العمل فوجدا أنـه يزخر بمزايا كثيرة يمكن االستمتاع بها، ثم يقرران تحوطًا «في حقيقة األمر ال يبدو النص مصقوال كما هو حال أعماله الـعـظـيـمـة األخــــــرى؛ فـفـيـه بــعــض الــعــثــرات والــتــنــاقــضــات الــصــغــيــرة، إنــمــا لــيــس فيه شـــيء يـمـنـع الـــقـــارئ مــن الـتـمـتـع بــأبــرز ما فــي أعــمــال غــابــو مــن ســمــات مــمــيــزة». هو التلعب املاركيزي ذاته والقدرة على تقديم مرافعة مقنعة، وبعد ذلك يستبقان القارئ العدو، فيقوالن عن نفسيهما ما يمكن أن يقوله، ويؤكدان أنهما «قررا، بفعل يقارب أفعال الخيانة، أن ينشرا النص، مراهنني على مسرة القراء قبل أي اعتبار آخر، فإن هم احتفوا بالكتاب وســروا بـه، فعسى أن يغفر لنا غابو فعلتنا، ويعفو عنا». لـكـن تـذيـيـل املــحــرر كـريـسـتـوبـال بيرا ال يـــوحـــي أبـــــدًا بــــأن ثــمــة مــعــضــات كـبـرى واجهته في اعتماد نسخة الرواية. يحكي املـــــحـــــرر بـــــدايـــــة عـــــن تــــعــــارفــــه مـــــع مـــاركـــيـــز مـــصـــادفـــة بــســبــب غـــيـــاب مــــحــــرره األصـــلـــي كـــــاوديـــــو لـــوبـــيـــث المــــــدريــــــد، إذ هــاتــفــتــه الوكيلة كارمن بالثلس في أغسطس (آب) تطلب منه العمل مع ماركيز 2001 من عام على نشر مذكراته «عشت ألروي». وقد عمل بـيـرا مــع مـاركـيـز عـلـى أجــــزاء مــن املــذكــرات . ثـم تـأخـر استئناف العلقة 200 عـن بعد . وفي بناء ماركيزي 2008 بينهما إلى عام مــن االسـتـبـاقـات واإلرجــــــاءات التشويقية، يطلعنا املحرر على سيرة طويلة وعلنية لــــ«مـــوعـــدنـــا فــــي شـــهـــر آب» مــــع كــاتــبــهــا ال تجعل منها لقية أو مفاجأة أدبية باملعنى الـــــذي يـــكـــون عــنــد اكـــتـــشـــاف نـــص مـجـهـول تمامًا بعد رحيل صاحبه. يغطي املحرر وقت غيابه عن ماركيز بشهادة سكرتيرة ماركيز مونيكا ألونسو، الــتــي تــقــرر أنــــه انــتــهــى مـــن تـسـلـيـم املــــازم النهائية من املذكرات في يونيو (حزيران) ، وبــــدا خــاويــ بــا مــشــروع، 2002 مــن عـــام لكنها عــثــرت أثــنــاء تـفـقـدهـا األدراج على مخطوطتني، أوالهما تحمل عنوان «هي» والــثــانــيــة «مـــوعـــدنـــا فـــي شــهــر آب» ومـنـذ وحـــتـــى يـــولـــيـــو (تـــمـــوز) 2002 أغـــســـطـــس انكب ماركيز على العمل فـي «هـي» 2003 2004 التي تغير عنوانها عند نشرها في إلـــى «ذكـــريـــات غـانـيـاتـي الــحــزيــنــات». أمـا «مـــوعـــدنـــا فـــي شــهــر آب» فــقــد نــشــر منها ، مــمــا يــعــد إعـــانـــ بـأنـه 2003 فـــصـــا عــــام بدأ املضي قدمًا في مشروعه الثاني. لكن الخبر األول عن هـذه الـروايـة كـان أقـدم من حيث 1999 ذلــك، وتحديدًا يعود إلـى عـام فاجأ ماركيز الحضور في مؤتمر أدبي عن الخيال في الرواية اللتينية بقراءة فصل مــن هـــذه الـــروايـــة بــــدال مــن أن يـلـقـي كلمة، وبــعــد ذلـــك نــشــرت الـصـحـافـة خــبــرًا مـفـاده أن العمل الجديد عبارة عن خمس قصص بطلتها واحدة هي آنا مجدلينا باخ. يثني املـحـرر على انـضـبـاط مونيكا ألونسو التي الزمــت ماركيز فترة كتابته إلـــى عـام 1999 الـــروايـــة، مــن بـدايـتـهـا عـــام حـــ أنـــجـــز الـنـسـخـة الــخــامــســة من 2004 الــــتــــعــــديــــات وكــــتــــب عـــلـــى مــخــطــوطــتــهــا: «موافقة نهائية مـؤكـدة. تفاصيل حولها فــــي الـــفـــصـــل الــــثــــانــــي. انــــتــــبــــاه، قــــد يــكــون الفصل األخـيـر هـو فصل الـخـتـام، هـل هو األفضل؟». حسم ماركيز واضـح في بداية الـــعـــبـــارة. وأمــــا مـــا جـــاء بـعـد ذلــــك؛ فيمكن فـهـمـه فـــي إطـــــار الــــوســــاوس الـــتـــي تـاحـق الكاتب حتى أمام بروفات الطباعة. يقرر كريستوبال بيرا أن ماركيز كف عـن العمل على الــروايــة بعد تلك النسخة الـــخـــامـــســـة، وأرســــــــل نـــمـــوذجـــ عـــنـــهـــا إلـــى وكيلته كارمن بالثلس في برشلونة. عند هـذا الحد كـان من املمكن للرواية أن تنشر في حياته دون الدخول في معضلت نشر مـا بعد الـوفـاة، لكن كريستوبال ال يحكي شيئًا عما حدث بني ماركيز والوكيلة. هل عـــاد وطــلــب مـنـهـا الـتـريـث أم نصحته هي بذلك؟ لكنه يورد عبارة على لسان ماركيز قالها لسكرتيرته: «أحيانًا يجب ترك الكتب كــي تـــرتـــاح»، وإذا لــم تـكـن الــعــبــارة تـبـريـرًا لــقــرار بتعليق الــنــص، فـهـي مـقـولـة عـاديـة جدًا، يعرفها جميع املبدعني ويعملون بها. يخبرنا املــحــرر أن الـكـاتـب دخـــل بعد ذلــك فـي االسـتـعـداد ملناسبة عــزيــزة، وهي االحتفال بالذكرى األربعني لصدور «مائة ثـم العمل على 2007 عــام مـن الـعـزلـة» عــام جمع مـقـاالت كـتـاب «لــم آت أللـقـي خطبة»، فــــهــــل كـــــــان االنـــــشـــــغـــــال بــــالــــحــــدثــــ ســبــب التأجيل؟ يصل بنا املحرر إلـى أن الوكيلة أن يـحـث مـاركـيـز 2010 طـلـبـت مـنـه صـيـف على إنهاء «موعدنا في شهر آب» ولم يكن قد عثر على ختام لها حتى ذلـك التاريخ، لكنه عثر على إلهام النهاية بعد ذلك، «قرأ علي الفقرة األخيرة التي يختم بها القصة ختامًا مدهشًا». رغـــــم كــــل هـــــذا الـــتـــأهـــيـــل لـــلـــقـــارئ بـــأن العمل انتهى على النحو األمـثـل على يد صـــاحـــبـــه، يـــعـــود املـــحـــرر لــيــقــول إن ذاكــــرة ماركيز بدأت تخونه، فل تتيح له أن يوفق بني عناصر نسخته النهائية كلها، وال أن يثبت التصحيحات الـتـي أجـراهـا عليها. لدينا في حكاية املحرر الكثير من الفجوات مثل فجوات الخفاء التي يتركها الروائيون عـمـدًا. هـل تشبث ماركيز بروايته ورفـض نشرها بعد كتابة الخاتمة ملجرد أن يمأل أيـامـه ويقنع نفسه بـأنـه لـم يــزل فـي حالة كتابة، أم أن ظروفًا حالت دون النشر؟ ال يجيب املحرر عن هذا السؤال أيضًا، ويعود فيقرر أن السكرتيرة كانت قد أبقت عـلـى الـكـومـبـيـوتـر نـسـخـة رقـمـيـة «ال تـــزال تتعايش بني ثناياها مقاطع من خيارات أو مشاهد أخرى كان الكاتب قد أوالها عنايته ســـابـــقـــ »، وأنــــه عــمــل عــلــى تــحــريــر الـــروايـــة اعـتـمـادًا على الوثيقتني مـعـ، أي النسخة الـورقـيـة الخامسة والنسخة اإللكترونية، مـــــقـــــررًا بــــــأن عـــمـــلـــه كــــــان مـــثـــل عـــمـــل مـــرمـــم الـــلـــوحـــات، «إن عــمــل املـــحـــرر لــيــس تغيير نص الكتاب إنما على جعله أكثر تماسكًا، انطلقًا مما هو مكتوب على الورق». إذا كـــــان الـــكـــاتـــب قــــد اعـــتـــمـــد نـسـخـتـه الـــخـــامـــســـة، فــــلــــمــــاذا الـــــعـــــودة إلــــــى نـسـخـة إلكترونية سابقة؟ تـبـقـى كـــل األســئــلــة مـعـلـقـة، واملـــهـــم أن الرواية صدرت في النهاية بكيفية تجعلنا نفترض أن تضخيم عمل املحرر في املقدمة والتذييل عمل من أعمال الدعاية املصاحبة للنشر، ألنـنـا بـصـدد نـص يتمتع باملهارة املاركيزية املعتادة. الــبــطــلــة امـــــــرأة فــــي مــنــتــصــف الـعـمـر تـــذهـــب فــــي الـــــســـــادس عـــشـــر مــــن «آب» كـل سنة لتضع بـاقـة زنـبـق على قبر أمـهـا في جـزيـرة فقيرة، وتمضي ليلتها فـي فندق، حـــيـــث تــعــثــر عـــلـــى عــشــيــق الــــعــــام فــــي لــقــاء املـرة الـواحـدة. وفي نهاية الرواية تجد آنا مجدلينا ضائعة بني تجارب حب عابرة ال تجلب سعادة وعدم االستقرار في الـزواج؛ فتقرر في الرحلة األخيرة استخراج عظام أمــهــا لــتــأخــذهــا مـعـهـا وتــكــف عـــن الــذهــاب للجزيرة، األمــر الــذي يذكرنا بكيس عظام والــدي ريبيكا (ابنة املؤسس بالتبني في «مائة عام من العزلة») وقد أخبرتها عرافة بـأنـهـا لــن تـعـرف الـسـعـادة مــا دامـــت عظام أبويها لم تدفن، وبدورها تنقل الخبر إلى جـــوزيـــه أركــــاديــــو بــيــونــديــا فـيـتـذكـر كيس العظام الــذي حُمل مـع الصغيرة، ويبحث عـنـه فـيـدلـه الــبــنَّــاء بــأنــه وضــعــه فـــي جـــدار الــبــيــت، فـيـسـتـخـرجـه ويــتــدبــر لـــه قــبــرًا بل شـاهـد. وكـــأن االسـتـقـرار على سطح أرض يستلزم توطني عظام األسلف في باطنها. الرواية الجديدة أكثر شبهًا بتوأمتها «ذكرى غانياتي الحزينات» بداية من رفقة مخطوطيهما، مـا يـؤكـد أنهما كانتا آخر ما كتب ماركيز، وكلتاهما من أقـل أعماله ألقًا، وتثبتان معًا أنه رحل وفي نفسه شيء مـــن «الـجـمـيــات الـــنـــائـــمـــات» لــيــاســونــاري كـاوابـاتـا. لكن تتبعه لخطى كاواباتا في «مـوعـدنـا فــي شـهـر آب» يـبـدو أكـثـر رهـافـة مــن نــمــوذج الـغـانـيـات، فـقـد جـعـل البطولة لـلـمـرأة هـنـا ولـيـس لـلـرجـل، واسـتـغـنـى عن حـبـة املــنــوم، وإن ظــل الــنــوم حــاجــزًا يحول دون التعارف. وتـــبـــدو فـــي هــــذه الــنــوفــيــا الـقـصـيـرة مـهـارات ماركيز كلها، التي جعلته واحـدًا مــن الـسـحـرة الــذيــن يـجـبـرون الـــقـــارئ على التخلي عن املمانعة ومنحهم تواطؤه غير املشروط إكرامًا ملهارتهم. البناء محكم؛ فالشخصية الرئيسية آنــــــا مـــجـــدلـــيـــنـــا مــــرســــومــــة جـــــيـــــدًا، وكـــذلـــك بـنـاء شخصيات زوجــهــا وابـنـتـهـا وابنها ورجــالــهــا املــجــهــولــ ، الـجـمـيـع يتمتعون بـــالـــجـــودة ذاتــــهــــا فــــي حــــــدود مــســاحــاتــهــم بالنص. واملكان محدود بالبيت والعبَّارة واملقبرة وفـنـادق الـجـزيـرة، ومـع ذلـك تدبر ماركيز فـي كـل مـرة بـدايـة ونهاية مختلفة لكل فصل أو قصة من قصص الكتاب. بــــنــــاء الـــلـــغـــة هــــو ذاتـــــــه املـــعـــتـــاد لـــدى مـاركـيـز، مــن حـيـث اإلغــــراق فــي الـبـهـارات، وامليل إلـى الحماسة كاستخدام املطلقات فـي وصــف لـوثـات الـحـب الـتـي تغير حياة املـــحـــب إلــــى األبــــــد، «لــــن تـــعـــود أبـــــدًا مثلما كـانـت مــن قـبـل» أو تجعل الـعـاشـق يشعر بـــأنـــه يـــعـــرف اآلخـــــر «مـــنـــذ األزل». وهــنــاك دائـــــمـــــ الــــرغــــبــــات الــــجــــامــــحــــة، وااللــــتــــهــــام املــتــبــادل فــي نــــزال الــحــب. وتـمـتـد حماسة األســـلـــوب املــاركــيــزي حـتـى تـشـمـل حـفـاري الــــقــــبــــور، «اســــتــــخــــرج الـــــحـــــارس الـــتـــابـــوت بـمـعـونـة حــفــار قــبــور اســتُــقــدم للمناسبة مقابل أجر، ثم رفعا عنه الغطاء بل رأفة». كــمــا تـنـتـقـل املــشــاعــر مـــن الـشـخـصـيـة إلــى األشياء حولها، وكأنها تردد ما بداخلها، «وملا دخلت املنزل، توجهت إلى فيلومينا وسألتها مـذعـورة عـن الـكـارثـة الـتـي حلت فيه بغيابها، إذ الحظت أن الطيور لم تعد تــغــرد فـــي أقــفــاصــهــا، وأن أصـــص األزهــــار األمازونية والسراخس املــدالة، والعرائش املتسلقة ذات الــزهــور الــزرقــاء اختفت عن التراس الداخلي». لـديـنـا كـذلـك سـمـة املـفـارقـة املـاركـيـزيـة تـــرصـــع األســــلــــوب كــمــا فـــي هــــذه الـــعـــبـــارة: «وفـي السنوات األخيرة غرقت حتى القاع في روايــات الـخـوارق. لكنها في ذلـك اليوم تمددت في الشمس على سطح العبَّارة ولم تستطع أن تقرأ حرفًا واحدًا». يبقى فـي النهاية أن تـأمـل الـروايـتـ األخـــيـــرتـــ يـجـعـلـنـا نـكـتـشـف أن الـحـسـيـة وعــــرامــــة الـــحـــيـــاة ظـــاهـــرة مـــازمـــة ملــاركــيــز على نغمة واحـدة منذ بدايته إلى نهايته، وكـأنـه آلـة مضبوطة على هـذه الـدرجـة من الفحولة، بل أي أثر ملـرور العمر أو تداعي الـجـسـد املــــازم للشيخوخة، وال حـتـى أثـر الخوف من الذاكرة الـذي نجده في املقدمة والتذييل! عزت القمحاوي ماركيز يقول ولدا ماركيز إن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوعه إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له النص الكامل على الموقع اإللكتروني
RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==