issue16772
الثقافة CULTURE 18 Issue 16772 - العدد Tuesday - 2024/10/29 الثلاثاء كثيراً ما تم استخدام الفن وسيلةً للدعاية السياسية التاريخ هو ما يصوّره الفنانون فـــــــــي لـــــــوحـــــــة شــــــهــــــيــــــرة لــــلــــفــــنــــان المـــســـتـــشـــرق يـــوجـــن ديـــــاكـــــروا، صـــور فــيــهــا رجــــــاً تـــركـــيـــا يـسـتـسـلـم لـــفـــارس يوناني، يظهر خضوع الرجل التركي وضعفه مقابل قوة الفارس اليوناني. والذي لا يقرأ التاريخ، ستترسخ عنده هذه الصورة السلبية للترك وضعفهم وقــــــــوة الـــــيـــــونـــــان. لــــكــــن هـــــل هـــــــذه هــي الحقيقة؟ إن التعبير عن الأحداث السياسية فـنـيـا كــــان وســيــلــة لـلـتـأثـيـر ولـتـرسـيـخ صورة ذهنية معينة وليس بالضرورة تــعــبــيــراً صــــادقــــا، فـــالـــفـــن لـــيـــس مــجــرد تعبير عــن الـــواقـــع، وهـــذا لا يعني أنـه يـسـتـخـدم لـتـزيـيـف الـــواقـــع! لـكـن كثيراً مـا تـم اسـتـخـدام الـفـن وسـيـلـةً للدعاية الــســيــاســيــة، ولـــعـــل أكـــثـــر الـسـيـاسـيـن الـذيـن استخدموا الـفـن بـهـذه الطريقة هـــو نــابــلــيــون بـــونـــابـــرت فـــي الــلــوحــات الــــتــــي صـــــــورت انــــتــــصــــاراتــــه الــحــربــيــة عـلـى الــرغــم مــن هـزائـمـه المــتــكــررة. وقـد اشـــتـــهـــر نـــابـــلـــيـــون أكـــثـــر مــــن غـــيـــره مـن حــكــام فــرنــســا؛ لأنــــه الــســيــاســي الأبــــرز الــــذي اســتــخــدم الــفــن لـتـلـمـيـع صـورتـه وتـــرســـيـــخـــه فـــــي الــــــذاكــــــرة الــجــمــاعــيــة والأحداث التاريخية. الـــفـــن لـــيـــس مـــعـــركـــة ســيــاســيــة أو حربية فقط، بل كذلك وسيلة الأحـزاب السياسية للترويج لقيمهم المختلفة، كـــمـــا فـــــي الأحـــــــــــزاب الـــشـــيـــوعـــيـــة الـــتـــي استخدمت تيار الواقعية الاشتراكية لــلــتــرويــج لـلـقـيـم الـشـيـوعـيـة والـتـأثـيـر على وعـي المجتمع ونظرتهم للحياة، عــبــر الــتــصــويــر المــثــالــي لـلـحـيـاة تحت الاشــــتــــراكــــيــــة، فـــمـــن خـــــال هـــــذا الـــنـــوع مـــن الــتــصــويــر «يــتــعــلــم المــــواطــــن كيف يــــكــــون مــــواطــــنــــا مــــثــــالــــيــــا». نـــجـــد ذلـــك فـــــي الأعــــــمــــــال الأدبــــــيــــــة الــــكــــبــــرى كــمــا روايــــــــــة «الأم» لمـــكـــســـيـــم غــــــوركــــــي، أو لــــوحــــات الـــواقـــعـــيـــة الاشـــتـــراكـــيـــة الــتــي عــبّــرت عــن طبقتي الـعـمـال والمـــزارعـــن وإظـــــهـــــار رمــــــــوز شـــيـــوعـــيـــة كـــالمـــطـــرقـــة والمــنــجــل بـاعـتـبـارهـمـا رمـــزيـــن لهاتي الطبقتي، والــلــون الأحـمـر الـــذي يعبّر عــن التضحية والــــدم. وقـــد كـانـت أبــرز مواصفات الفن الواقعي الاشتراكي هو كـونـه واضــحــا وقــابــاً للفهم وواقـعـيـا فـي تمثيله، لمخاطبة مختلف أطياف المـجـتـمـع، خــاصــة الــعــمــال، وتـصـويـره لـــلـــحـــيـــاة الـــيـــومـــيـــة، وخـــدمـــتـــه ودعـــمـــه لأهداف الحزب والدولة. الفنّ والدعاية السياسية إن اسـتـخـدام الفن وسيلةً للدعاية الـسـيـاسـيـة كــــان إحــــدى الـــوســـائـــل الـتـي اسـتـخـدمـهـا الـيـهـود لاكـتـسـاب تعاطف الــعــالــم، كـمـا نـــرى فــي الـفـن السينمائي الأكــــثــــر جــمــاهــيــريــة وانــــتــــشــــاراً حــالــيــا، إضـــافـــة لأشـــكـــال الـــفـــنـــون الأخـــــــرى، كما فــــي مـــتـــاحـــف الـــهـــولـــوكـــوســـت المـــتـــعـــددة حـــول الـعـالـم الـتـي يبلغ عــددهــا، حسب مـــتـــحـــفـــا 20 ، مــــــوقــــــع الأمـــــــــــم المــــــتــــــحــــــدة ومــــوقــــعــــا. وتــــركــــز هـــــذه المـــتـــاحـــف عـلـى تعريف وتوثيق الإبـادة الجماعية التي تـعـرّض لها اليهود فـي الـحـرب العالمية الـــثـــانـــيـــة، وكـــيـــف أن كــثــيــراً مـــن الــيــهــود رفضوا العودة لألمانيا أو أوروبا بعدما تعرضوا لجرائم كراهية، فكانت أرض المـــيـــعـــاد - فــلــســطــن - الـــتـــي يــرتــبــطــون بــهــا ديـــنـــيـــا، هـــي الـــوطـــن الـــجـــديـــد لـهـم! وهـــــذه الــــعــــروض المــكــثــفــة والمـتـسـلـسـلـة في المعارض والمتاحف، وإنتاج الأفـام السينمائية، واستخدام الفن في إثـارة الــعــواطــف، وتـشـريـع احــتــال فلسطي؛ كانت إحدى وسائل الدعاية السياسية لليهود، في مقابل ضعف التعبير الفني عند الطرف المقابل في فلسطي. فل نجد مـقـابـل كـثـافـة الــحــضــور الــيــهــودي عبر الفن فـي العالم، حـضـوراً عربيا موازيا عن القضية الفلسطينية، عبر التعبير الـــفـــنـــي، والمــــعــــارض والمـــتـــاحـــف المـعـنـيـة بالقضية الفلسطينية التي توجد غالبا في مناطق نزاع مما يجعلها أقل شهرة على الساحة الدولية مقارنة بمتاحف الهولوكوست. ولـــعـــل الــفــنــان الـفـلـسـطـيـنـي نـاجـي الــــعــــلــــي هــــــو أشـــــهـــــر فـــــنـــــان فــلــســطــيــنــي اســـتـــخـــدم الـــفـــن لـلـتـعـبـيـر عــــن الـقـضـيـة الــــفــــلــــســــطــــيــــنــــيــــة، مـــــــن خـــــــــال رســـــومـــــه الكاريكاتورية الناقدة وابتكار شخصية الــطــفــل حـنـظـلـة ذي الـــســـنـــوات الــعــشــر، الــــــذي لا يـــكـــبـــر، لأنـــــه اســـتـــثـــنـــاء كـــمـــا أنّ فقدان الوطن استثناء. إلا أن فن ناجي العلي قــاد لمقتله، دون معرفة مـن وراء تصفيته؛ هل هي إسرائيل أم القيادات الفلسطينية التي كـان ينتقدها! وعلى الرغم من شهرة ناجي العلي في البلد العربية، حيث كان فنه موجها لمخاطبة هذه الشعوب، فإن انتشاره العالمي كان أكـثـر مــحــدوديــة، فـلـم يـصـل تـأثـيـره إلـى مستوى بعض الفناني العالميي الأكثر انتشاراً وتداولاً. وفــــــي الأدب كــــانــــت روايــــــــة غــســان كنفاني «عائد إلـى حيفا» التي صورت تــــرحــــيــــل الـــفـــلـــســـطـــيـــنـــيـــن مـــــن بــيــوتــهــم ودفــعــهــم خـــارجـــا لـيـحـل مـكـانـهـم يـهـود مـــهـــاجـــرون مـــن أوروبـــــــا، والــــعــــودة بعد عـــامـــا، والـــحـــوار مـــع الــســكــان الـجـدد 20 يهوداً وعربا، وتناولت مواضيع الهوية والانتماء وحق العودة والوطن كماضٍ وذكريات والوطن كذلك كمستقبل. وعــــلــــى الـــــرغـــــم مـــــن وجــــــــود بــعــض المنتجات الثقافية والفنية العربية التي تعبر عن الصراع العربي - الإسرائيلي وتـتـنـاولـهـا، فـــإن التعبير عــن فلسطي فـنـيـا يـظـل قـلـيـاً وضـعـيـفـا نسبيا عند مقارنته بما تم إنتاجه من قبل الطرف المقابل لهم؛ اليهود. لــقــد مــــرّ فـــي الـــعـــالـــم عــــدد كــبــيــر من الإبــــــادات الـجـمـاعـيـة وجـــرائـــم الـكـراهـيـة، إلا أن أكــثــر مـــا يــــردد ويـــــروى ومـحـفـوظ تــــاريــــخــــيــــا ومُــــــعــــــتــــــرَف بــــــه عــــلــــى نـــطـــاق واســــــع هــــو إبـــــــادة الـــيـــهـــود، وقـــــد ســاهــم تكثيف التعبير الـفـنـي عــن هـــذه الإبـــادة واسـتـمـراريـتـه فـي رسـوخـهـا فـي الـذاكـرة الجماعية. إن أهـمـيـة الـتـعـبـيـر الـفـنـي تـتـجـاوز جــمــالــيــتــه أو المـــتـــعـــة الـــتـــي يـــوفـــرهـــا فـي تذوقه؛ إذ إن للفن دوراً فاعلً في توثيق الأحداث والقضايا الاجتماعية وتأثيرها عـــلـــى الإنـــــســـــان. فـــالـــفـــن لا يـــعـــكـــس فـقـط التعبير الذاتي للفنان وفرديته، بل يعبّر كذلك عن التجارب الجماعية والتحديات الـــتـــي تـــواجـــهـــه وتــــواجــــه المــجــتــمــع الـــذي يعيش فـيـه ورؤيــتــه الإنـسـانـيـة والفنية وحـسـاسـيـتـه تـــجـــاه الأحــــــداث الـــتـــي يمر بــهــا. إن هـــذا الـــنـــوع مـــن الـتـعـبـيـر يُسهم فـــي تـشـكـيـل الـــوعـــي الــجــمــاعــي وتــعــزيــز فـهـم الـعـالـم بشكل أعـمـق للقضايا التي يــطــرحــهــا. كــمــا أن الـــفـــن يـمـثـل دوراً في تعزيز النقاشات حول القضايا المختلفة، فـــهـــو وســـيـــلـــة لــلــتــغــيــيــر أو بـــشـــكـــل أدق الـتـأثـيـر. يـقـال إن الـتـاريـخ هـو مـا يكتبه المنتصرون، ولكن في كثير من الحالات الـــتـــاريـــخ هـــو مـــا صـــــوّره الــفــنــانــون، بما يبرز دورهم في توثيق الحقائق وإيصال الأصوات المختلفة. * كاتبة وناقدة سعودية * د. جواهر بن الأمير ًاستسلامرجل تركي لفارسيوناني الدماغ البشري يعمل كماكينة سردية ومُعالِج معا منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين أتـــيـــحـــت لـــــي فـــــي الأســــبــــوعــــن المـــاضـــيـــن تجربةٌ جميلة قــرأتُ فيها كتابيْ مميّزين عن طـبـيـعـة الـفـعـل الـقـصـصـي (الــــســــردي). الـكـتـاب الأوّل عنوانه: «الـروايـة الفلسفية كنوعٍ أدبـي - »the Philosophical Novel as a Literary Genre ، والكتاب Michael Mitias لمؤلفه مايكل ميتياس . الكتاب الثاني عنوانه: 2022 من منشورات عام »How Fiction Works - «كيف تعمل القصص لمؤلفه الناقد الأدبـي ذائع الصيت جيمس وود الذي يكتب منذ سنوات عديدة في James Wood مطبوعات ومـواقـع عالمية أهمها النيويوركر. ، وتتوفر له ترجمة 2009 صـدر كتاب وود عـام عــربــيــة أنـــجـــزهـــا فــــاح رحـــيـــم. قـــادتـــنـــي هــاتــان الـــقـــراءتـــان إلــــى الــتــفــكّــر الـحـثـيـث فـــي إشـكـالـيـة العقل الفلسفي مقابل العقل القصصي: هل هي إشكالية حقيقية؟ هل ثمّة تعارض مؤكّد بي العقليْ؟ وهل منطق الفلسفة يلغي بالضرورة مــنــطــق الـــقـــصـــة؟ انــتــهــيــتُ إلــــى أنـــنـــا لــســنــا في حاجة لتجسير الـهـوّة بينهما؛ لأنّـهـا (الـهـوة) مفترضة ونـتـاجُ وهــمٍ راســخ لأسـبـاب تعليمية ومـهـنـيـة. يعمل المـنـطـق الفلسفي والقصصي (السردي) في كلّ عقل بشري بطريقة متزامنة، وهذا ليس محض رغبة شخصية بقدر ما هو وسيلة تكيفية لعيش حياة طيبة ورفيعة في معاييرها المُشخّصة. آلاف عام في 5 ظهر الفلسفة منذ أكثر من كـلّ أنحاء العالم. منذ البدء رأى الفلسفة في ) وظيفة أساسية Arguments( صناعة الحُجج لهم؛ لذا تراهم انخرطوا في مناقشات حجاجية قاسية لم تهدأ يوما ما. تنازعوا فلسفيا بشأن مـوضـوعـات عــديــدة: مـن أيــن جــاء الـعـالـم؟ ومِــمّ صُنِع؟ ولماذا وُجِدنا نحن البشر في هذا العالم؟ على الرغم من الحجاج القاسي بي الفلسفة فإنّهم اتفقوا على أمر واحد: القصة ليست أداة يمكن الاعـتـمـاد عليها فـي التفكير. هُـــمْ رأوهــا وسيلة لا تخلو من جنبة انحيازية (تمييزية)، ووســـيـــلـــة تــتــبــع هــــوى خــالــقــهــا، ومـــغـــالـــيـــةً في الاعــتــمــاد عـلـى الـحـقـائـق الــحــاضــرة؛ لـــذا كــرّس الــفــاســفــة أنــفــســهــم لإيـــجـــاد أداة تـفـكـيـر أكـثـر صرامة، وشيئا فشيئا تشاركوا قناعة راسخة .Logic بأنّ تلك الأداة هي المنطق قبل الميلد تمكّن الفيلسوف 350 في سنة ،)Polymath( المـــقـــدونـــي مــتــعــدد الاشـــتـــغـــالات أرســطــو، مـن جمع وتـوحـيـد الأقـيـسـة المنطقية .)Organon( المتناثرة بعمله الكبير: الأورغانون جابهت سطوة المنطق الأرسطيّ العتيدة تحديا بيّنا خلل عصر النهضة الأوروبية، عندما عمد الفلسفة الطبيعيون ذوو العقول التجريبية (مـــــن أمــــثــــال لــــيــــونــــاردو دافــــنــــشــــي، وغــالــيــلــيــو غـالـيـلـي، وويــلــيــام هـــارفـــي) إلـــى اسـتـبـعـاد (بـل وحـــتـــى مــهــاجــمــة) الــكــتــب المـــدرســـيـــة الــخــاصــة بالمنطق الأرسطيّ؛ لأنهم وجدوه قصير النظر مــحــدوداً، تـنـخـره الـهـشـاشـة، وغـيـر ذي فـائـدة؛ لكنّ المنطق استعاد بعض مجده الغابر فكانت لـــه عــــــودةٌ خــــال عــصــر الــتــنــويــر بــفــعــل جـهـود ديـكـارت وعبارته التأسيسية في «الكوغيتو» Cogito Ergo : (إشـــــارة إلـــى الــعــبــارة الـاتـيـنـيـة - أنــا أفـكّـر إذن أنــا مــوجــود)، وكـذلـك علم Sum الفلك الرياضياتي الذي وضع أساسه إسحاق نيوتن، ومفهوم العقل المتسامي الـذي جـاء به إيــمــانــويــل كـــانْـــت. مـنـذ تـلـك الــجــهــود المـتـقـدّمـة فـي جبهة المعرفة البشرية راح المنطق يندفعُ حثيثا في توسيع مكانته في نطاق الفلسفة. مـــع أواخــــــر الـــقـــرن الــتــاســع عــشــر صــــار المـنـطـق الأرسطيّ أساسا في انبثاق الفلسفة التحليلية )، عندما وسّـع غوتلوب Analytic Philosophy( ) مـــن نـــطـــاق الــقــوانــن Gottlob Frege( فــريــغــه )Calculus( المنطقية الأرسـطـيّـة لتكون حسابا يمكنه تناول أي محاججة. هـــــــذا هـــــو مـــــا جــــعــــل الــــفــــاســــفــــة (وعـــــامـــــة الإنتلجنسيا والأكاديميي) يعزفون عن ربط القصة بالتفكير. تمكّنت منهم دهـشـةٌ مديدة راســـــخـــــة بـــلـــحـــظـــات الإلـــــهـــــام واســـــعـــــة الـــنـــطـــاق الـتـي تـأتـي مـع الفلسفة، ابــتــداءً مـن الفلسفات الهندية القديمة حتى الانعطافة اللغوية التي جــــاءت مـــع نــشــر كــتــب فـتـغـنـشـتـايـن وتـأسـيـس مدرسة التحليل اللغوي والفلسفة التحليلية البريطانية. من المـشـروع أن نتساءل: ما الذي يـمـكـن أن يــكــون خــاطــئــا مـــع هــــذه الـنـسـخـة من المقايسة الفكرية؟ لـــم يــكــن الــفــاســفــة ومـــريـــدوهُـــمْ مخطئي بـشـأن اعـتـبـار المـنـطـق تـفـكـيـراً. هُـــمْ أخــطــأوا في اعتبار المنطق الشكل الأوحــد للتفكير. السبب وراء هذا الأمر هو وجود - على الأقل - طريقتيْ للتفكير: المنطق والقصة. كلّ من المنطق والقصة بوسعه حلّ معضلتٍ ليس في استطاعة الآخر تقديم حلّ مناسب لها، وكلّ من المنطق والقصة بمستطاعه تخليقُ أشـيـاء لـن يستطيع الآخـر تخليقها أبداً. ثنائية الذكاء هذا (الذكاء المنطقي والذكاء القصصي) يمكن عرضُها بمقاربتيْ: تحليلية وتــجــريــبــيــة. فـــي المـــقـــاربـــة الـتـحـلـيـلـيـة: تـــوظّـــفُ القصة والمنطق طُرُقا إبستمولوجية (معرفية) مختلفة ومتمايزة. طريقة المنطق هي المعادلة )، أو بطريقة أكـثـر دقّــة Equation( المـسـاواتـيـة مـــن الـــوجـــهـــة الــتــقــنــيــة: الاســــتــــدلال الارتـــبـــاطـــي ) الـــــذي يـسـتـبـعـدُ Correlational Reasoning( المــــؤثــــرات الـــفـــردانـــيـــة؛ فـــي حـــن تـعـتـمـد الـقـصـة طريقة الخبرة الذاتية، أو بتوصيف أكثر تقنية: ). كــلّ Causal Speculation( الـــتـــأمّـــل الـسـبـبـي مقاربة لها نطاقها الإجـرائـي الـخـاص: المنطق ثابت يعتمد على تكرار كثرة من الوقائع؛ في حــن أنّ الـقـصـة مـتـطـايـرة تـمـتـاز بـالـخـفـة، وقـد تعتمد على بيانات قليلة أو حتى قد لا تحتاج إلــــى أي مــنــهــا (تــخــلــيــق ذهـــنـــي خـــالـــص أو ما .)Novel of Ideas يسمى في العادة رواية الأفكار فــــي المـــقـــاربـــة الــتــجــريــبــيــة: يــمــكــن اقــتــفــاءُ أثـــــــر كـــــــلّ مـــــن الــــقــــصــــة والمــــنــــطــــق فـــــي عــمــلــيــات ميكانيكية مختلفة فــي الــدمــاغ الـبـشـري. هـذا مـــكـــافـــئ لـــلـــقـــول (وعــــلــــى خـــــاف مــــا ظـــنّـــه كـثـيـر مـن العلماء الإدراكــيــن مـن قـبـلُ، ولا يــزال قسمٌ ضئيل منهم يعتقد بــه) إنّ الـدمـاغ البشري لا يعملُ كحاسوب. تعتقد الرؤية الحديثة لعمل الدماغ البشري أنّه يعمل جزئيا كحاسوب (أي مُعالِج منطقي)؛ لكنّ الدماغ البشري يعمل في مـعـظـم فـاعـلـيـاتـه كماكينة ســرديــة لأنّ واحـــدة مـــن بـــن غــايــاتــه الـرئـيـسـيـة الــتــي تـــطـــوّرت عبر الفاعلية الداروينية هي التأثر بالبيئة المحيطة والاستجابة لها بفعل تكيفي مناسب يستفيد مـــن فـــواعـــل الــتــغــذيــة الاســـتـــرجـــاعـــيـــة الـحـسـيـة (الخبرة). هذا الفعل يتطلبُ تأمّلً تسبيبيا؛ أي بعبارة أخرى: يتطلبُ تفكيراً قصصيا. هــذا مـا تغافله الفلسفة والإنتلجنسيا. هُـــم حـسـبـوا أنّ الــذكــاء يمكن اخــتــزالُــهُ فــي آلية (ميكانيزم) مـفـردة، وعندما جعلوا تلك الآلية مـكـافـئـة لـلـمـنـطـق بــــات مـــن الــبــديــهــي أن تُــتــرك للقصة وظيفةٌ وحيدةٌ باقية هي مناقلة الأفكار. كـــان الـفـاسـفـة غــارقــن فــي لــجّــة الـثـقـة المـفـرطـة بهذا الاستنتاج إلى الحد الذي جعلهم يغفلون أو تناسون عقبةً بيّنة: تستطيعُ القصة مناقلة الأفـكـار فقط عندما يمتلك الـدمـاغ الـقـدرة على التفكير بصورة طبيعية (تلقائية) في القصة، أي: عـنـدمـا تـقـتـرن الــقــدرة المنطقية مــع الـقـدرة السردية (الحكائية)، وبعكس هذا لن تستطيع الــقــصــة الــتــأثــيــر الــســلــس والــتــلــقــائــي فــيــنــا. ما رآه الفلسفة طـــرداً للقصة مـن مملكة التفكير البشري كان في الحقيقة تأكيداً لتغلغل الشكل القصصي في نظام التشغيل الأساسي للذكاء الـبـشـري. هـــذا الـنـسـق هـائـل التعقيد للتداخل الــــخــــاق بــــن المـــنـــطـــق والـــقـــصـــة هــــو مــــا ســاعــد البشر على تخليق حبكات قادت إلى الصنائع الإبـــداعـــيـــة الـــخـــاقـــة لـــكـــلّ شــــيء فـــي الــحــضــارة البشرية على المستويي المادي والرمزي. الـــدور الـقـيـادي الــرائــد للفاعلية السردية يعني - بي ما يعنيه من تفاصيل كثيرة - أنّ المـنـهـاج الـــدراســـي المُـــؤسّـــس عـلـى المـنـطـق الــذي اعتمدته مدارسنا لعقود طويلة إنما هو قصير النظر لسببيْ على الأقل: أولاً: لأنّـــــه قـــلّـــل إلــــى حـــد بـعـيـد مـــن قيمة الــكــيــفــيــة الأســــاســــيــــة الـــتـــي يــفــكــر بـــهـــا الــكــائــن البشري بصورة طبيعية، وترتّب على هذا الأمر نتائج سلبية عميقة الأثر من حيث مترتباتها الاجـــتـــمـــاعـــيـــة. مــــأسَــــسَــــت المـــنـــاهـــج الـــدراســـيـــة الـــقـــائـــمـــة عـــلـــى المـــنـــطـــق الـــخـــالـــص لــفــعــالــيــاتِــنــا المــــدرســــيــــة ودفـــــعـــــت بـــالـــتـــامـــيـــذ إلــــــى مـــهـــاوي الـحَـيـرة، والـشـعـور بالخجل والـفـشـل، وكبحت الـتـنـامـي المـتـوقّـع لـأخـاقـيـات الـرفـيـعـة عندما تعاملت مع التلميذ بقسوة مفرطة عبر تقييم العقول البشرية بمقاييس الواجبات المطلوب تنفيذها بدقة منطقية كلسيكية صـارمـة مع عدم الحيود عنها. من هذه الواجبات: الحفظ، والـتـفـكـيـر الــنــقــدي، والـتـعـلـيـل الــكــمــي... وهــذه كلها واجبات يمكن إنجازها بكيفية أفضل من الـبـشـر بـواسـطـة هـواتـفـنـا الـذكـيـة وحواسيبنا المـــحـــمـــولـــة. أكّـــــــدت المـــنـــاهـــج الــــدراســــيــــة أيـــضـــا، وبـكـثـيـر مــن الـحـمـاسـة المــفــرطــة، عـلـى الأقـيـسـة المنطقية والكمية والبيانات، وهذا ما ساهم في تعظيم مناسيب تشوّه الشعور بالشخصانية ،)Depersonalization( الفردية والكينونة الذاتية والهشاشة، والاحتراق النفسي... ثانيا: تتغاضى المناهج الدراسية الحالية عن التاريخ الطبيعي لتطوّر أدمغتنا البشرية. ذلـــك الــتــاريــخ يـشـوبـه الــغــمــوض. هـــذا صحيح تماما، لـكـنْ بـرغـم هــذا نـحـنُ نعلم أنّ التركيبة المنطقية للدوائر العصبية في أدمغتنا البشرية لـــيـــســـت انـــعـــطـــافـــة تــــطــــوريــــة حـــديـــثـــة أطـــاحـــت بالتقنية العقلية التي طوّرت القصة وأحاطتها بالرعاية الكاملة على مدى حقب زمنية طويلة. كان للمنطق (للتفكير المنطقي، لا فرق) الكثيرُ من الزمن لكي يضع بصمته المميزة على تطوّر الذكاء البشري، ولو أنّ آليات التطور الدارويني ابـــتـــغـــت طـــــرح الـــقـــصـــة جـــانـــبـــا وتـــركـــهـــا تــــذوي بـعـيـداً عــن مـتـنـاول فـاعـلـيـاتـنـا الـدمـاغـيـة لكان من المنطقي أن يمتلك المنطق الهيمنة الكاملة عـلـى أدمـغـتـنـا بــــدلاً مـــن أن يـرتـضـي الـتـعـايـش مـع التفكير القصصي. تـقـودُنـا هــذه الحقائق الأســاســيــة إلـــى اســتــدعــاء الــعــديــد مــن الأسـئـلـة ذات النكهة التمردية على المواضعات السائدة: مــــاذا لــو أنّ الـفـاسـفـة قـــــدّروا الـقـصـة (التفكير الـــقـــصـــصـــي) كـــمـــا فـــعـــلـــوا مــــع المـــنـــطـــق؟ أظــنّــهــم لــو فـعـلـوا لـكـنّـا انتهينا إلـــى إشـكـالـيـة غـريـبـة: ربــمــا لـــو تـعـامـلـنـا مـــع الـقـصـة مـثـلـمـا تعاملنا مـع المنطق لخسرنا الـقـوة الـذاتـيـة الكامنة في التفكير القصصي، ولجعلنا التفكير القصصي أقـــرب إلــى المــهــارات الشائعة الـتـي تفتقد نـدرة العبقرية الـفـرديـة والـكـشـوف الـذاتـيـة المـتـفـرّدة على المستويي التقني والرمزي. الـــقـــصـــة تــســعــى لــتــقــديــم إجــــابــــات وقـتـيـة ) مـن الـقـدرة على Good Enough( ٍ لها حـد كــاف تناول المعضلت الواقعية في الحياة البشرية. القصة انتقالة مـن الإجــابــات المطلقة للمنطق إلى البراغماتية الوقتية للتفكير القصصي. مع الارتقاء المستدام بتفكيرنا القصصي نستطيع أن نجعل حـيـواتـنـا الأرضــيــة أكـثـر مـنـاعـة ضد الــهــشــاشــة والانـــكـــســـار، وأكـــثـــر صــحّــة جـسـديـة ونفسية وذهـنـيـة، وأكــثــر ســعــادة. لا أظـــنّ هـذا المـسـعـى أقــــلّ أبــــداً مــن شـــرف المـسـعـى الــــذي ظـلّ جـوهـر الـفـعـل الفلسفي ومـبـتـغـاه مـنـذ بواكير الفلسفة وحتى يومنا هذا. لطفية الدليمي المنهاج الدراسي المُؤسّس على المنطق الذي اعتمدته مدارسنا لعقود طويلة إنما هو قصير النظر
Made with FlippingBook
RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky