issue16763

الثقافة CULTURE 17 Issue 16763 - العدد Sunday - 2024/10/20 األحد األدب الكردي المكتوب بلغات أخرى الهويّة... والحريّة األدبيّة مـــا الـــــذي يـــحـــدّد هـــويّـــة األدب: هـــل الــلــغــة أم القضايا واملـواضـيـع الـتـي يعالجها؟ وهــل يحق لـأديـب أن يختار لغة غير لغته األم مـن دون أن يُـــعـــد خــائــنــا لــهــويّــتــه الــثــقــافــيــة؟ هـــل يـمـكـن للغة وحدها أن تكون معيارًا لتصنيف األدب؟ بالنسبة لـــأدب الــكــردي املـكـتـوب بالعربية أو الـتـركـيـة أو الفارسية، يـواجـه الـكُــتّــاب تـسـاؤالت حــول انتماء هذا األدب، وما إن كان يندرج ضمن األدب الكردي أم أنّه يصنّف في مكتبة األدب العربي أو التركي أو اللغة التي يكتب بها. هـــذه الــتــســاؤالت تفتح الــبــاب لـنـقـاش أوســع حــول مفهوم األدب والـحـرّيـة األدبــيــة فـي اختيار اللغة وأبعادها، ذلك أن النظر إلى األدب فقط من خـال لغة الكتابة يضيّق آفـاق فهمنا لهويّته، ال سيّما فـي ظــل احــتــدام العصبيّات الـلـغـويّــة التي تكون أصــداء للصدامات السياسيّة والصراعات التاريخيّة املتجدّدة. ال يـخـفـى أن الـــكُـــرد عـــانـــوا عـبـر الــتــاريــخ من ظـــروف سياسيّة واجتماعية صعبة، جعلت من لغتهم وثقافتهم عرضة للتهميش والتجاهل في الكثير من املناطق التي عاشوا فيها. هذه الظروف الـتـاريـخـيـة كــانــت مـــن بـــن األســـبـــاب الــتــي دفـعـت بالكثير من األدبـاء الكرد إلى دراسـة لغات أخرى غير لغتهم األمّ، مثل العربية والتركية والفارسية، واستخدامها في كتاباتهم. هـذه الـظـروف أصبحت واقـعـا مفروضا على األجـــيـــال املـتـعـاقـبـة مــن الـــكُـــرد، إذ اضــطــر الـعـديـد من املثقفي واألدبـــاء إلـى الكتابة بلغات اآلخرين - الــتــي أصـبـحـت لـغـاتـهـم األم إلـــى جــانــب لغتهم الكرديّة - لتحقيق التواصل مع مجتمعات أوسع، أو حتى مع مجتمعهم نفسه، والبحث عن فرص لنشر أعمالهم في ظل القمع املفروض على لغتهم األمّ. هــذه الضغوط التاريخية أثّـــرت على الـكُــرد، لكنّها لم تُضعف هويّتهم الثقافيّة أو تلغها، بل عـلـى الــعــكــس، الـكـثـيـر مــن الــكــتــاب الـــكُـــرد تمكّنوا مــن اسـتـثـمـار هـــذه الـلـغـات الـجـديـدة للتعبير عن قــضــايــاهــم وتـــجـــاربـــهـــم، مـــع االحـــتـــفـــاظ بـروحـهـم الكرديّة الواضحة في مضامي أعمالهم. عــنــدمــا نــنــظــر إلــــى األدب الــــكــــردي املــكــتــوب بلغات أخــرى، نجد أنّــه يعبر عن تجربة متنوّعة ومــعــقــدة. الــكــاتــب الـــكـــردي الــــذي يـخـتـار الـكـتـابـة بالعربية أو التركية أو الفارسية ال يتخلّى عن هويّته، بل يعبّر عن ذاته باللغة التي تمكّن منها واكتسب علومه ومعارفه ودراساته بها، ويبحث عــن جـمـهـور أوســـع وتــواصــل أكـبـر مــع الـعـالـم من خلل لغة قد تكون أداة أفضل لتحقيق ذلك. ومن هــذا املنطلق، يجب الــدفــاع عـن حـريّــة األديـــب في اختيار لغته، وما يهم في هذه الحالة هو القضايا التي يعالجها الـكـاتـب، وكيفية تناوله للتجربة اإلنسانيّة. والـــكـــاتـــب الــــكــــردي الـــــذي يـكـتـب بـلـغـة أخـــرى ال يمكن فصله عــن هـويّــتـه الـكـرديـة ملــجــرّد أنـــه ال يــســتــخــدم لــغــتــه، وهـــــذه الــلــغــة الـــجـــديـــدة تصبح وسيلة لنقل تجربته وثقافته إلى جمهور أوسع. وهـنـا نــرى أن الـهـويّــة األدبــيّــة اإلنـسـانـيّــة الرحبة لـيـسـت مـــرهـــونـــة بـالـلـغـة وحـــدهـــا، بـــل بـالـتـجـربـة واملضمون الذي يقدّمه الكاتب. عــلــى ســبــيــل املــــثــــال، ســلــيــم بــــركــــات، الــكــاتــب الـكـردي الــذي يكتب بالعربية - ومثله املـئـات من األدبـــــاء الـــكـــرد مـــن ســـوريـــا والـــعـــراق وأنــــا مـنـهـم - يـظـل وفـيـا لــجــذوره وهـويّــتـه الــكــرديّــة، حـتـى وإن كـــانـــت لــغــتــه األدبـــــيّـــــة هــــي الـــعـــربـــيـــة. مــواضــيــعــه ورؤيته األدبية تعكسان ثقافته الكردية وتجربته الخاصّة في ميدان األدب العربي الشاسع. ويَشار كـمـال، الـــذي كتب بالتركية، عـالـج قضايا كـرديّــة بحتة، ممّا يجعل أدبــه كـرديّــا في الجوهر، حتى وإن كانت وسيلة تعبيره التركية. ومـن هنا فإن بركات وكمال وأمثالهما ال يعدون «خائني» أو متنكّرين لهويّتهم ألنّهم يكتبون بالعربية، بل هم يستخدمون لغاتهم لتوسيع دائـرة قرّائهم ونقل تجاربهم الخاصّة إلى جمهور أوسع. مـن املـؤسـف أن الكاتب الـــذي يختار الكتابة بلغة أخرى غير لغته األم يُتّهم أحيانا بالخيانة، أو يُنظر إليه على أنه دخيل على األدب اآلخر. هذا التفكير يغلق األبواب أمام تعدّدية التجارب وثراء األدب. والـكـاتـب الـــذي يكتب بلغة «اآلخــــر» ليس غريبا أو طارئا، بل هو جزء من التجربة األدبية العامليّة التي تجمع بي الثقافات وتتعالى على التصنيفات الضيّقة. هنالك نوع من االزدواجيّة في التعامل مع هذه الظاهرة كرديّا، إذ يميل بعض الكُرد إلى اعتبار الكتابة بلغة أجنبية مثل اإلنجليزية أو الفرنسية أو األملانية أو اإلسبانية نوعا من «الفتح األدبي». ويُــنــظــر إلـــى هــــؤالء الـــكُـــتّـــاب عـلـى أنّـــهـــم يـحـقّــقـون إنجازًا كبيرًا، إذ يتمكّنون من الوصول إلى طيف عاملي أوســع. وهـذا يعكس اعترافا بقدرتهم على اختراق الساحة األدبيّة العاملية على أمل التأثير فيها. في املقابل، يُنظر إلـى الكتابة بالعربيّة أو التركيّة أو الفارسيّة على أنّــهـا نـوع مـن الخيانة للغة األمّ. ويُعاني بعض الكتّاب الذين يختارون هذه اللغات من ضغوطات اجتماعية وثقافيّة، إذ تُعد خياراتهم بمثابة تراجع عن هويّتهم الثقافية ووالئهم وانتمائهم للغتهم. ويـــشـــعـــر الــــعــــديــــد مــــن الـــــكُـــــرد بـــــــأن الــعــربــيــة والتركية والفارسية تمثّل «أدوات» إلدامة التحكّم بهم وبـخـيـاراتـهـم الـثـقـافـيّــة، إذ تُــعـد هــذه اللغات قوى مهيمنة تُلغي وتُهمّش لغتهم األصليّة. في نــظــرهــم، يُــمــثّــل اســتــخــدام هـــذه الــلــغــات نــوعــا من االستسلم والتبعيّة للغات الـدول التي تضمّهم، ممّا يؤدّي إلى فقدان الهوية الثقافيّة واللغويّة. تــتــجــلّــى هــــذه الـــنـــظـــرة فـــي الــــصــــراع الــلــغــوي للحفاظ على لغتهم وهويّتهم فـي مواجهة هذه الـــلـــغـــات الـــســـائـــدة، وتُـــســـاهـــم فـــي تــعــزيــز مـشـاعـر الـفـقـدان والـحـرمـان الثقافي لــدى الـكـرد. لــذا، تعد الكتابة باللغة األم بمثابة دفــاع عـن الـهـويّــة، في حـــن يُــنـظـر إلـــى الـكـتـابـة بـلـغـة أجـنـبـيـة «بـعـيـدة» وسيلة للهروب مـن القيد الثقافي الـــذي تفرضه هذه اللغات األخرى «القريبة». بعيدًا عـن التصنيفات الـجـاهـزة، فـــإن األدب الــــكــــردي املـــكـــتـــوب بــلــغــات غــيــر الـــكـــرديّـــة يعكس الـــتـــعـــدّديـــة الــثــقــافــيــة والـــتـــاريـــخـــيـــة الـــتـــي عـاشـهـا الـــكـــرد عــلــى مــــر الـــتـــاريـــخ، واألدبـــــــاء الـــكُـــرد الــذيــن يكتبون بلغات اآلخــريــن الـتـي أصبحت لغاتهم، يعيدون تشكيل الهوية األدبيّة عبر لغات جديدة، ويضيفون ثــراء وتنوّعا إلـى عالم األدب بــدال من تقليصه. هذا التعدّد اللغوي يعكس أيضا واقـع الكرد الذين عاشوا لقرون تحت تأثير حضارات وثقافات مـــتـــعـــددة. بـــالـــتـــالـــي، فـــــإن الـــكـــتـــابـــة بـــلـــغـــات أخــــرى تـعـد اسـتـمـرارًا طبيعيّا لـهـذه التجربة التاريخية املــــتــــعــــدّدة. لـــذلـــك ال يــجــب إقـــصـــاء األدب الـــكـــردي املكتوب بلغات أخـرى من هويته الكردية. فاللغة قـد تكون وسيلة للتعبير، لكنها ليست املقياس الوحيد لتحديد هويّة األدب. التجربة اإلنسانية التي يعيشها الكاتب، والقضايا التي يعالجها، هي من ضمن ما يشكّل جوهر األدب وهويّته. ال بــد مـن أن نـخـرج مـن دائـــرة التجريم هـذه، وأن نبتعد عن وصف الكاتب بالخيانة أو التنكّر أو التعدّي ملجرّد أنـه يستخدم لغة أخــرى. األدب أوّال وأخـــيـــرًا لـيـس أســيــر لـغـة أو قــومــيّــة، بـــل هو تعبير عن الروح اإلنسانية بكل تنوّعها وغناها. وفـــي عـالـم األدب، ال تـقـاس األمــــور بتلك الـحـدّيّــة الصِداميّة التصنيفيّة املقولبة، ألن الهويّة ليست سجنا أو قيدًا، بل هي مساحة حرّة مفتوحة على الــتــنــوّع واالخــــتــــاف. واألدب الـحـقـيـقـي يـتـجـاوز الـــحـــدود الــجــغــرافــيّــة والـلـغـويّــة لـيـصـبـح تـجـربـة إنــســانــيــة شـــامـــلـــة. كــمــا أن الـــكـــاتـــب الـــــذي يـخـتـار الكتابة بلغة أخرى ال يتخلّى عن هويته، بل يعيد تشكيلها بطريقة تتيح لـه الـتـواصـل مـع شرائح أكبر وتوسيع آفاقه. ومن هنا فإن الهويّة األدبيّة ليست ملكا للغة واحدة، بل هي انفتاح على العالم وعلى التجارب اإلنـسـانـيـة. وإصــــرار الـبـعـض عـلـى تـحـديـد هـويّــة األدب بلغة واحدة أو ثقافة واحدة هو عائق أمام الحرية األدبـيـة وأمـــام انفتاح األدب على العالم. هـــــذه الـــحـــرّيـــة األدبــــيــــة هــــي مــــا يــجــعــل األدب فـي جوهره حرًّا وخلّقا، إذ يتجاوز الحدود اللغوية والــثــقــافــيــة لـيـصـل إلــــى جــمــهــور أوســــع ويــتــنــاول قضايا إنسانية مشتركة. الــلــغــة بـــا شــــك تـــعـــد أحــــد مـــقـــوّمـــات الــهــويــة األساسية، وهي ركيزة من ركائز الهويّة األدبيّة، لـــكـــنّـــهـــا لـــيـــســـت هــــي الــــهــــويّــــة بــمــعــنــاهــا الــــواســــع واملـــنـــفـــتـــح. الـــهـــويّـــة األدبــــيــــة ال تُـــخـــتـــزل فــــي لـغـة معيّنة، بل تمتد إلى األفكار، القضايا، والتجارب اإلنسانيّة التي يطرحها الكاتب. والكاتب يمكن أن يحمل في كتاباته روح ثقافته وهويّته حتى وإن عبّر عنها بلغة أخرى. الكاتب الكردي الذي يكتب بالعربية أو التركية أو الفارسية ال يتخلّى عن هويّته بل يعبّر عن ذاته باللغة التي تمكّن منها هيثم حسين قمة كبرى من أجل شاعر... ونصف العالم يحضر لالحتفاء به مخدوم قولي... حارس األمة التركمانية زرت عشق آباد قبل أيـام، بدعوة من جمهورية تـركـمـانـسـتـان، لـحـضـور الفعالية املـركـزيـة والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلثمائة عام على والدة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي، لم أكن متشجعا في بداية األمـر لحضور الفعالية؛ ذلك أني ال أعرف أحدًا في هذا البلد، وال توجد لدينا سفارة، وال أظن عـراقـيـا واحـــدًا يسكن فيها، رغــم أن اســم عشق آبـاد يتردد في السرديات التاريخية والدينية بوصفها مدينة لها عمق تاريخي، وواحدة من عواصم الشرق الـقـديـم، فيها اخـتـبـأ الــتــاريــخ، وفـــوق رمـالـهـا صلى املتصوفون واعتكف الــزاهــدون، وربما وصـل إليها أجـــدادنـــا قـبـل أكــثــر مــن ألـــف عــــام، فـعـانـقـوا فطرتها والتحموا بجللها وجبالها، ولكني أخيرًا تشجعت للحضور إلى هذه الفعالية، بعد أن قرأت عن الشاعر مـــخـــدوم قـــولـــي، وعــــن تــركــمــانــســتــان، وعــــن طبيعة الحياة فيها، فانطلقت إليها بعد عناء رحلة مضنية وترانزيت طويل نسبيا. وحي وصلت كنت أتوقع أن يكون الحفل واالحتفاء بالشاعر مثلما نقيمه نحن ببلداننا في مناسبات كهذه؛ يعني أن يحضر على أعلى تقدير وزير الثقافة وعدد من األدباء واملهتمي بــــهــــذا الـــــشـــــأن فـــــي قــــاعــــة مـــغـــلـــقـــة، ونـــــعـــــزف الـــســـام الجمهوري، ونفتتح املهرجان بالقصائد والكلمات، ونعود إلى بيوتنا بعد ذلك. ولكني حي وصلت، وقبل أن أتحدث عن الحفل املركزي بودي الحديث عن املدينة (عشق آباد)؛ ذلك أن أول ما فاجأني هو اللون األبيض، فاملدينة كأنّها مصبوغة باللون األبيض، من رأسها حتى قدميها؛ إذ ال يوجد أي لون غيره، فالبنايات كلها من الرخام األبيض، وواجهات البيوت أيضا، والعلمات الدالة، واألرصفة، وحتى سيارات التاكسي. ترك هذا اللون مسحة هائلة من األناقة والذوق على مفاصل املدينة، وكـذلـك النظافة الـتـي تحلَّت بها املـديـنـة، مما جعل منها مـديـنـة غــارقــة بـــالـــذوق، حـتـى إنـــي ســألــت أحـد املرافقي لنا: ملــاذا عشق آبــاد مدينة غير سياحية؟ فــأجــاب أنـنـا نخشى مــن الـسـيـاح أال يـحـافـظـوا على نــظــافــتــهــا؛ حــيــث إن الــنــظــافــة لــديــهــم تــحــولــت إلــى وســــواس قــهــري، مـمـا جـعـل الـسـلـطـات لـديـهـم تمنع الـتـدخـن فــي كــل األمـــاكـــن، وهـــذا مــا أزعـجـنـا - نحن املدخني. أعــــود إلــــى املـــوضـــوع املــــركــــزي، وهــــو االحــتــفــاء بمرور ثلثمائة عام على والدة شاعر تركمانستان، مخدوم قولي فراغي، الذي أصبح لديهم أيقونة كبرى وجامعا للهوية التركمانستانية، وهـو عمل عظيم بالنسبة للشعراء، حـن يتحولون إلــى آبـــاء للمم، وصُنّاع للهوية الوطنية أو األممية، وهذا ما حدث مـع مـخـدوم قـولـي، وربـمـا حــدث مـع شـعـراء آخـريـن، ولـكـنـهـم نــــــادرون فـــي هــــذا الــتــوصــيــف، وقــــد جــــاءوا بــطــرق مـخـتـلـفـة، فـمـثـا املـتـنـبـي لـــدى الــعــرب تحول إلـــى حـــارس للغة الـعـربـيـة ومـلـهـم للهوية الثقافية واملعرفية، وأحـد مصادر الفخر واالعتزاز والحكمة لـديـنـا؛ فــا يـكـاد شـخـص عـربـي ال يحفظ ولـــو بيتا للمتنبي، وكذلك شكسبير لدى اإلنجليز، وبوشكي لــدى الـــروس، كذلك مـخـدوم قولي تحول إلــى جامع للهوية ورمز تلتف حوله األمة التركمانية. وصلنا إلى الفندق الرابعة فجرًا، وأبلغونا بأن التحرك سيكون في السادسة صباحا، فاستغربنا ملـــاذا هـــذا اإلصــــرار عـلـى حـضـور الفعالية صباحا؟ عـــمـــومـــا تـــحـــركـــنـــا مــــن الـــفـــنـــدق الــــســــادســــة صــبــاحــا ووصــلــنــا إلـــى تـمـثـال الــشــاعــر املـحـتـفَــى بـــه، فكانت الصدمة الهائلة؛ حيث وجدنا نصبا للشاعر، ولكنه متر ينظر إلـى املدينة بكاملها، 100 نصب بـحـدود وكــأنــه حـارسـهـا الـشـخـصـي، وأبــوهــا الـــذي ال يـنـام. شخص، منهم 2000 ويُقدر عدد الحاضرين بحدود املـــســـؤولـــون والـــــــــوزراء والــــنــــواب والــدبــلــومــاســيــون وموظفو الدولة من الدرجات العليا، إلى أن نصل إلى طلبة الجامعات، وكل شخص يحمل باقة ورود بي يديه، حتى نحن الضيوف الذين قدمنا من املطار، حـمَّــلـونـا بــاقــات ورود لنهديها للشاعر فــي ذكـــراه. التمثال لوحده يحتاج إلى وقفة للقراءة واملعاينة، ذلك أن املساحة املخصصة له تُقدَّر بكيلومتر كامل أو أكثر، والقاعدة التي نُصب عليها التمثال تُقدَّر 50 بخمسة دونــمــات، والـصـعـود إلـيـه عبر أكـثـر مـن مدرجا، ومن ثم النصب الذي ال يُرى ارتفاعا وعرضا، مما منح الهيبة والعلو والفخامة والـجـمـال، وهو أول نصب في العالم - حسب علمي - يُمنَح لشاعر بهذا الحجم والفخامة، وهذا له رسائل عديدة تريد أن ترسلها الدولة في اتخاذها الشاعر مخدوم قولي رمزًا لوحدتها وهدفا النطلقها. ضـيـوف عــديــدون وشخصيات كبيرة مـن دول آســيــويــة وعـــربـــيـــة، بـــوفـــود رفــيــعــة املــســتــوى قــدَّمــوا جميعهم بـاقـات الــــورد؛ حيث كــان وزيـــر الخارجية الـــتـــركـــمـــانـــســـتـــانـــي فــــي اســـتـــقـــبـــال الـــــوفـــــود بــمــدخــل الـــســـاحـــة املـــخـــصـــصـــة لــلــنــصــب الـــكـــبـــيـــر. أنـــظـــر إلـــى التركمانستانيي ذكــــورًا وإنـــاثـــا، وكـأنـهـم فــي عيد ديـــنـــي، أو وطـــنـــي، فــالــكــل يـــرتـــدي أجـــمـــل املـــابـــس، ويحمل باقة الـــورد، ويُــصـوَّر مع التمثال، ويتبادل التهاني مع مَن معه، بالضبط كأنهم في عيد الفطر أو األضحى. انتهينا من مراسم وضع الزهور، وهو مشهد عاما، حيث اإلتيكيت الرسمي 20 لم أرَه منذ أكثر من ملــثــل هــــذه الــتــقــالــيــد، بــعــد ذلــــك ذهــبــنــا إلــــى الـحـفـل الــرســمــي، حـيـث الـقـاعـة املــركــزيــة الـتـي تـضـم مجمل الـــوفـــود املـــدعـــوة لــهــذا الـحـفـل، وحـــن دخـلـنـا الـقـاعـة وجدنا أن الحفل ليس احتفاال بشاعر، إنما الدولة رئيس 12 عقدت قمة كبرى؛ حيث تفاجأنا بحضور جــمــهــوريــة، ومـمـثـلـن عـــن كـــل الـــــدول املـــدعـــوة، وكـــل أمـامـه علم بـــاده. وافتتح القمة رئيس الجمهورية مـــحـــمـــدوف، ومـــــن ثــــم ألـــقـــى رؤســـــــاء الــجــمــهــوريــات املتبقون كلماتهم بهذه املناسبة. إن مثل هذا الحدث وهذا االهتمام النوعي بالشعراء أظنه يحدث للمرة األولــــــى؛ فـــي أن تـنـعـقـد قـمـة كــبــرى مـــن أجــــل شـاعـر، وأن يـحـضـر الــعــالــم لـاحـتـفـاء بـــه، وإلـــقـــاء الـكـلـمـات باملناسبة. ماذا يريد الشعراء إذن؟ هل هناك خلود أكثر من هذا؟ أن تلتحم أمة بكاملها ألجله، وتصوغ حدثا مر عليه ثلثمائة عام لتحتفي به داعية نصف العالم له، عابرين القارات واألمم من أجل مصافحته. إنها والدة جديدة لهذا الشاعر، فمن لم يعرفه عرفه من جديد، ومَن لم يقرأ له فسيقرأه من جديد، وسيحفظ له نصوصه، وحي نقرأ مخدوم من جديد سنكتشف معه أسـمـاء املــدن والـقـرى التي كــان يسكن فيها أو يمر بجانبها، وهـي ظـاهـرة واضـحـة فـي قصائده؛ حــيــث تـكـثـر أســـمـــاء الـــقـــرى واملــــــدن، وبـــهـــذا يـتـحـول شـــعـــره إلــــى مـوسـوعـة أمــمــيــة ملــرحــلــة مـــن املـــراحـــل، وستبدأ املؤسسات الثقافية ودور النشر بترجمة أعمال مخدوم لثقافاتها، ونشرها بما يليق بشعره، ومكانته في أمته. فعل إنها والدة جديدة ملخدوم قولي، واالحتفاء مناسبة مهمة لجميع الشعراء في العالم ألن يعيدوا حساباتهم مع الشعر ومستقبله؛ حــيــث كـــثـــرت فـــي الـــســـنـــوات األخــــيــــرة اســتــطــاعــات الــرأي ومـقـاالت وكتب كثيرة تتحدث عن أفـول زمن الشعر، وأن العالم يتغير تجاه تلك الفنون، وأنها تُستَبدل بها التقنيات الحديثة، وأن جمهور الشعر إلـــى زوال، وهـــذا مــا ذكــرتُــه فــي إحـــدى مـقـاالتـي عن أفــــول جـمـهـور الـشـعـر، وهـــي شــكــوى ونــــدب للشعر بــزوالــه وزوال جــمــهــوره، ولـكـنـي حــن رأيـــت كيفية اســتــذكــار الــشــاعــر الـتـركـمـانـسـتـانـي مـــخـــدوم قـولـي راجــعــت أوراقــــي وتــراجــعــت عــن بـعـض مـمـا أطلقته مـن أفــول نجم الشعر؛ حيث وجـدتـه فـي تلك البلد شخصية محورية في صناعة األمـة والحفاظ على هويتها ولغتها وقوميتها، ولكني في الوقت نفسه ال أريد أن أكون مندفعا وعاطفيا تحت وطأة النصب العظيم والـحـدث التاريخي وطريقة االحتفاء؛ فلو عملنا استطلعا لـلـرأي لـدى هــؤالء الـذيـن حضروا للحتفاء باكرًا في البرد؛ فهل سيحضرون من دون توجيه رسمي، ويضعون باقات الـورد تحت قدمَي الشاعر؟ ولـكـن مــع كــل شـــيء شـكـرًا لـهـذا الــحــدث العظيم الــذي يعيد الثقة بالشعر والـشـعـراء، ويعطي درسـا للحكومات واألمـــم بطريقة االحـتـفـاء بهم بوصفهم حُرَّاسا على حدود هذا العالم على حد قول كادامير. عارف الساعدي نصب الشاعر مخدوم قولي يَشار كمال سليم بركات

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==