issue16759

الثقافة CULTURE 18 Issue 16759 - العدد Wednesday - 2024/10/16 الأربعاء اسمه الغني بالدلالات بدا مزيجاً من إغواء اللون وترجيعات الزمن الأندلسي شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل قــلّ أن حظي شـــارعٌ مـن شـــوارع المـدن الحديثة، بالمكانة الـتـي حظي بها شـارع الــحــمـــراء فـــي الـعـاصــمــة الـلـبـنـانـيـة. لا بل إن اســـم ذلـــك الـــشـــارع، يـكـاد يـكـون مـوازيـا لاســم بـيـروت نفسها، واخــتــزالاً لصورها المــتــقــلــبــة فــــي مــــرايــــا الــتــفــتــح أو الــــذبــــول، الازدهــــار أو الانــحــال. صحيح أن الرقعة الـــضـــيـــقـــة لــلــمــديــنــة المــــحــــشــــورة بــــن فـكـي الــجــبــال والــبــحــر، لـــم تـسـمـح لــلــشــارع بـأن ينافس على مستويي الـطـول والاتــســاع، كلً من الشانزليزيه في باريس، أو الشارع الـخـامـس فــي نــيــويــورك، أو أكـسـفـورد في لـــنـــدن، ولـــكـــن الــصــحــيــح أيـــضـــا أن شـــارع الــحــمــراء الــــذي يـمـتـد مــن مـحـلـة الصنائع شـــرقـــا، لـيـنـتـهـي فـــي الـــغـــرب عــنــد تـقـاطـع الـــســـادات، وبــطــول ألـــف وخمسمائة متر، قـــد اكـتـسـب سـمـعـتـه ومـكـانـتـه مـــن عـوامـل مـخـتـلـفـة حـولـتـه فـــي الـنـصـف الــثــانــي من الــــقــــرن الـــعـــشـــريـــن إلــــــى واحـــــــد مــــن أشــهــر الـــشـــوارع فــي بـــاد الــعــرب، وأكـثـرهـا صلةً بروح العصر وصور الاجتماع المديني. وإذا كـان اسـم الحمراء بحد ذاتـه هو أحد العناصر المهمة التي منحت الشارع جـاذبـيـتـه وســـحـــره الــفــريــديــن، فـــإن سبب التسمية لـم يكن واحـــداً عند أولـئـك الذين تـصـدوا بـالـدراسـة المعمقة لتاريخ المدينة العريق والحافل بالأحداث. فإذ يذكر عبد اللطيف فاخوري أن سبب التسمية يعود إلى بني الحمرا الذين قدموا تحت ضغط الــقــبــائــل الـقـيـسـيـة مـــن الــــعــــراق إلــــى سهل الـبـقـاع الـلـبـنـانـي، قـبـل أن يـهـبـطـوا لاحقا إلـى بـيـروت، ليقطنوا ضاحيتها الغربية المسماة برأس بيروت، يرجح سمير قصير أن تــكــون تـسـمـيـة الــحــمــرا مـرتـبـطـة بـذلـك الــفــيــض الـــافـــت مـــن «أنــــــوار الــنــيــون الـتـي أضـــــاءت قـبـل عــقــود عـــدة لافـــتـــات المـقـاهـي وقــــاعــــات الـسـيـنـمـا والمــــشــــارب والمـــقـــاهـــي، بالإضافة إلى المظاهر الأوروبية التي تسم الأمكنة والنساء». وإذ يشير قصير إلى احتمال أن تكون التسمية مرتبطة بكثبان الـرمـل الحمراء التي زرعها الفلحون بالصبار في أزمنة سابقة، يؤكد في الوقت نفسه على الذاكرة العربية الجمعية التي أعادتها التسمية إلـــى أطـــيـــاف قـصـر الــحــمــراء فـــي غـرنـاطـة، حيث التماثل وارد بي الشارع البيروتي والأنــدلــس الحافلة بـصـور المــلــذات والمتع ونضارة العيش. وحـــيـــث لــــم تـــفـــت المــــؤرخــــن الإشــــــارة الـــى الـــــدور المـفـصـلـي الــــذي لـعـبـه تأسيس جامعة بيروت الأميركية في الثلث الأخير مـن الـقـرن الـتـاسـع عـشـر، فـي نمو المنطقة الـــواقـــعـــة بــــن شــــارعــــي بـــلـــس والـــحـــمـــراء، فــإن مـراكـز الثقل البيروتية الكبرى ظلت حـتـى منتصف الــقــرن الـفـائـت مــوزعــة بي وسط المدينة والمنطقة المعروفة بالزيتونة وبعض المتفرعات الأخرى. لا بل إن الكاتب والأكــــاديــــمــــي الــلــبــنــانــي جــبــرائــيــل جـبـور يتحدث عن أحـوال المحلة التي كان يطلق عـلـيـهـا قـبـل قـــرن مـــن الـــزمـــن اســـم «مــزرعــة الــحــمــرا»، إذ كـــان الــشــارع المــعــروف باسم جـان دارك يرسم بأبنيته القليلة الحدود الغربية للعاصمة اللبنانية. والــواقــع أن الـصـعـود المـتـسـارع لـدور الـــــشـــــارع كــــــان يـــتـــغـــذى مــــن عــــوامــــل عــــدة، بـــيـــنـــهـــا تـــعـــاظـــم دور الـــعـــاصـــمـــة نـفـسـهـا الــتــي تمكنت بـفـضـل مـوقـعـهـا الـجـغـرافـي المـــــمـــــيـــــز، وبـــــمـــــا تـــمـــتـــلـــكـــه مــــــن مـــســـاحـــات الـــحـــريـــة والـــتـــنـــوع، إضـــافـــة إلــــى إفــادتــهــا مــن فـائـض الـــثـــروة الـعـربـيـة الـنـفـطـيـة، من أن تــتــحــول إلــــى نـقـطـة الـــتـــقـــاء نــــــادرة بي الـشـرق والــغــرب، وأن تصبح قِبلة العرب ومـصـرفـهـم ومطبعتهم وفـنـدقـهـم ومـركـز تـرفـيـهـهـم ومــوئــل المــعــارضــن مـنـهـم. ولـم يكن مستغربا أن يصبح شـــارع الحمراء منذ حقبة الاستقلل المنصة الأهـم لرياح الـحـداثـة الـــوافـــدة، وهـــو الـــذي اسـتـطـاع أن يـوائـم بنجاح باهر بـن أقانيم الاقتصاد والسياحة والثقافة والاحـتـفـاء بالحياة. وفــــي حـــن اســتــطــاعــت واجــــهــــات مـحـاتـه الأنـيـقـة والـلـمـاعـة أن تـبـهـر أنــظــار زائـريــه بــآخــر ابـــتـــكـــارات دور الأزيــــــاء فـــي أوروبــــا والـــعـــالـــم، انــتــشــرت بـــن ظـهـرانـيـه الـعـديـد من دور السينما والمسرح وصــروح الفكر والـفـن ومــقــرات الأنــديــة الثقافية. دون أن نغفل الدور الرائد لجريدة «النهار»، التي تمكنت بما اجتذبته من قامات صحافية وفكرية أن تشكل العمود السياسي الفقري للكيان اللبناني، بقدر مـا تمكن ملحقها الـــثـــقـــافـــي مــــن أن يــــرفــــد حــــركــــة الــتــجــديــد الشعرية والأدبية، ببعض أفضل أسمائها ونتاجاتها. ولا نستطيع أن نغفل في الوقت ذاته الدور المحوري الذي لعبته مجلة «شعر»، وندوتها الحوارية الأسبوعية، في إطلق الـــثـــورة الـثـانـيـة لـلـحـداثـة، بـعـد أن تكفلت «الآداب» بالثورة الأولـى. كما لا نستطيع أن نغفل «الــنــدوة اللبنانية» التي أرادهــا مـيـشـال أســمــر أن تــكــون مـنـصـة مفتوحة وجـــريـــئـــة لــــحــــوار الـــثـــقـــافـــات، ولا مــســرح الـــبـــيـــكـــاديـــلـــلـــي، الـــــــذي اســـتـــضـــاف صـــوت فــــيــــروز ومــــســــرح الـــرحـــبـــانـــيـــن الــغــنــائــي، فضلً عن دالـيـدا وميكيس تيودوراكيس وشــــــــارل أزنــــــافــــــور، وغـــيـــرهـــم مــــن فــنــانــي الــعــالــم ومــبــدعــيــه. أمــــا مــقــاهــي الـرصـيـف التي انتشرت على جانبي الشارع، والتي اتسعت دائـــرة روادهـــا لتشمل خليطا من الـنـخـب المـثـقـفـة، بشقيها المـقـيـم والـــوافـــد، فقد بدت التجسيد الأمثل لصورة المدينة الـــشـــرفـــة، مــقــابــل أنــــــواع أخـــــرى مـــن المــــدن، مغلقة على نفسها وشبيهة بالقلع. أمــــا الــعــد الـعـكـسـي لازدهــــــار الــشــارع ودوره المــهــم عـلـى الـصـعـد كــافــة، فـقـد بـدأ مع انـدلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي لـم يستطع تجنب شظاياها ومفاعيلها المــــدمــــرة، ثـــم زاد مـــن حـــدتـــه تـــــذرر الـكـيـان نـــفـــســـه، الـــــــذي نــــخــــره الــــفــــســــاد والـــتـــنـــابـــذ الـــطـــائـــفـــي مــــن كــــل جــــانــــب، دون أن يــتــاح لـــلـــشـــارع المــتــمــاهــي مـــع روح بــــيــــروت، أن يستعيد وهجه السابق وماضيه الوردي. صـحـيـح أن قـــوة الـحـيـاة الــتــي تعتمل في أحشائه قد عصمته من السقوط بالضربة القاضية، إلا أنه كان يخسر دوره بالنقاط، ويفقد بي صدمة وأخـرى ما تبقى له من رصيد. وقد يكون زياد الرحباني بما يملكه مـــن مــوهــبــة ورؤيــــــة ثــاقــبــة الــــى المـسـتـقـبـل واحـداً من الفناني القلئل الذين حدسوا بــــالمــــآلات الــقــاتــمــة لـــشـــارع الـــحـــمـــراء، كما لــلــمــديــنــة بـــرمـــتـــهـــا، حــــن ذهـــــب فــــي عـمـلـه المميز «شي فاشل» إلى القول بأن انفراط عــقــد المـــديـــنـــة يــعــنــي بـــالـــضـــرورة انــهــيــاراً لمسرحها، بما هو فن مديني بامتياز. ولم يمر بعد ذلك وقت طويل حتى أقفل مسرح البيكاديللي أبوابه، وأطفأت دور السينما أضــواءهــا الــواحــدة تلو الأخــــرى، وأقفلت مقاهي الرصيف العريقة كـ«الهورس شو» و«الــســتــرانــد» و«الألــــــــدورادو» و«المـــودكـــا» و«الويمبي»، ليبدأ بعدها عصر المقاهي المــــعــــولمــــة ومــــطــــاعــــم الــــوجــــبــــات الــســريــعــة ومؤسسات تبييض الأموال. وفي ظل الانهيار المالي الأخير، حيث لم تعد المداخيل الشحيحة لمثقفي المدينة وكتابها الأحياء، تسمح لهم بدفع التكلفة الباهظة لفناجي قهوتهم التي دأبوا على احتسائها فـي مقاهي الـشـارع الرئيسي، راح هؤلاء يبحثون في متفرعات الحمراء الضيقة عن أماكن أقل كلفة وأكثر تواضعا للقاءاتهم اليومية، وهــو مـا عـثـروا عليه بـعـد لأي فــي مقهى «الــحــمــرا إكـسـبـرس»، الــذي تـذكّـر بساطته وطابعه الرومانسي بـــصـــوت فـــيـــروز وأغــــانــــي مـــــاري هـوبـكـنـز الدافئة. وإذا كـانـت الــصــورة النمطية التي رســـمـــتـــهـــا لـــــشـــــارع الـــــحـــــمـــــراء، الـــــذاكـــــرة الـــجـــمـــعـــيـــة لــــســــكــــان الأريــــــــــــاف الـــنـــائـــيـــة والــــضــــواحــــي المـــهـــمـــشـــة، تــــبــــدو مــزيــجــا معقداً من «الحقد» الطبقي على الشارع، والـوقـوع المضاد في فخ جماله المغوي، فـــإن الـــحـــروب والأزمـــــات المـتـعـاقـبـة التي نزلت بـه، قـد قلصت المسافة بينه وبي ضــــواحــــي المـــديـــنـــة وأحـــيـــائـــهـــا الــفــقــيــرة الأخــــــــرى، مـتـكـفـلـة بــتــحــويــل الــضــغــائــن المترسبة في أذهــان «أعـدائـه» السابقي إلــى رغـبـة ملحة فـي ارتــيــاده أو الإقـامـة بـن ظهرانيه. والأرجـــح أن الـذيـن قـرروا بــــعــــشــــرات الآلاف الــــلــــجــــوء إلــــــى شـــــارع الـــحـــمـــراء، بـفـعـل الـــدمـــار الـــكـــارثـــي الـــذي ألــحــقــتــه بـمـنـاطـقـهـم وأمــــاكــــن سـكـنـاهـم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لم يجدوا في الشارع المنهك من الإهمال والغارق في نفاياته وفوضاه، ما يطابق تصوراتهم عنه، بـل وجـــدوا فيه نسخة معدلة قليلً عن الشوارع البائسة التي غادروها مكرهي. ولعل أكثر ما يستوقف الوافدين إلى الشارع في الآونة الأخيرة، هو عدم قدرتهم وسط زحام البشر والسيارات والدراجات الـنـاريـة على التحرك مـن أماكنهم بوصة واحـــــدة، إلا بــبــذل الـكـثـيـر مــن الــعــنــاء. أمـا اللون الأحمر الذي انتزع الشارع منه اسمه وبـريـقـه الـشـهـوانـي، فـقـد تـراجــع منسوبه إلى حد بعيد، لتحل محله الألوان الداكنة والسوداء كأسمال (الملبس الرثة) بعض سكان الشارع الجدد، ولضيوفه الهائمي عــلــى وجـــوهـــهـــم، بــحــثــا عـــن أمـــــان مـفـقـود ووطن متعذر التحقق. شارع الحمراء في بيروتحين كان شوقي بزيع العد العكسيلازدهار الشارع ودوره المهم على الصعد كافة بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في مـقـابـر الـبـحـريـن الأثــريــة عــن مجموعات مـتـنـوعـة مــن الـلـقـى، منها مـجـمـوعـة من الــــرقــــائــــق الـــذهـــبـــيـــة، زُيّــــــــن بـــعـــض مـنـهـا بنقوش تصويرية تتميّز بطابعها الفني المتقن. تعود هذه المجموعة إلى الحقبة الـــتـــي عُـــرفـــت بــهــا هــــذه الـــبـــاد الــجــزريــة بــاســم تــايــلــوس فـــي الـــقـــرون الأولـــــى من عـصـرنـا، وتـشـهـد لتقليد فـنـي جنائزي شاع في نواحٍ عدة بالشرق الأدنى، وبلغ ساحل الخليج العربي. خــرجــت هـــذه الــرقــائــق الـذهـبـيـة من مقابر عــدة موغلة فـي الـقـدم، تقع اليوم في المحافظة الشمالية، وتطل على شارع البديع. تُعرف هذه المقابر بأسماء القرى التي تجاورها، وهي مقبرة أبو صيبع، ومقبرة الشاخورة، ومقبرة الحجر. تقع أولـــى هـــذه المـقـابـر عـلـى تــل دائــــري يبعد كيلومترات غــرب المـنـامـة ونحو 8 نحو مــتــر جـــنـــوب دوّار جـــنـــوســـان عند 500 شـــارع الـبـديـع، وهــي مـن المــواقــع الأثـريـة التي شرع فريق بحريني في استكشافها . أظـــهـــرت أعـــمـــال المـسـح 1983 مــنــذ عــــام قبوراً عدة، حوت مجموعات من الأواني الـفـخـاريـة والــزجــاجــيــات والـحـلـى، دخـل قسم كبير منها القاعة التي تحمل اسم تـايـلـوس فــي مـتـحـف الـبـحـريـن الـوطـنـي رقــــائــــق بــيــضــاويّــة 4 بـــالمـــنـــامـــة، ومـــنـــهـــا مــصــنــوعــة مــــن الــــذهــــب، تُـــشـــكّـــل زوجــــن متشابهي من الأقراص كما يبدو. عُــــثــــر عــــلــــى زوج مـــــن هـــــــذه الـــقـــطـــع الذهبية عند أعـلـى صــدر أحــد الـراقـديـن في هذه المقبرة، وعُثر على الـزوج الآخر المشابه له عند أسفل الصدر، ممّا يوحي بأنها مشابك صُنعت لتثبت عند أطراف رداء الـجـثـمـان أو كـفـنـه. يحمل كــل زوج من هـذه الأقـــراص صورتي منقوشتي، تمثّل الأولــى وجـه رجـل ملتحٍ يظهر في وضـعـيـة جـانـبـيـة، وتـمـثّـل الأخــــرى قامة نــســر مــجــنّــح يــظــهــر كـــذلـــك فـــي وضـعـيـة مــمــاثــلــة. تــحــتــلّ صــــورة الـــرجـــل مـسـاحـة 5.3 بــيــضــاويــة مــســطّــحــة يــبــلــغ طــولــهــا سنتيمتر، وتظهر على شكل نقش ناتئ حُــــــدّدت تـفـاصـيـلـه بــأســلــوب يـجـمـع بي الـدقـة والإتـقـان والـرهـافـة. الطابع الفني يـونـانـي، مــع أنــف طــويــل، وعـــن يحدّها جــفــنــان بـــــــارزان، وفــــم مـطـبـق تـحـيـط به لـحـيـة تـنـسـدل مـــن أعــلــى الـوجـنـتـن إلـى أســـفـــل الــــذقــــن. يــرتــفــع هــــذا الـــوجـــه فــوق عنق ترتسم فـوق كتفي يعلوهما ثوب يـــونـــانـــي تـــقـــلـــيـــدي، كـــمـــا تـــوحـــي ثــنــايــاه الملتفة حــول المـنـكـب. فـي المـقـابـل، تحتل 4 صـــــورة الــنــســر مــســاحــة يـبـلـغ طــولــهــا سنتيمترات، وتُمثّل طيراً يقف منتصبا، فاتحا جناحيه المنبسطي في الفضاء. تـتـكـرّر صـــورة هـــذا الــرجــل الملتحي مع اختلف في التفاصيل على قطعتي ذهبيتي مــن الــطــراز نـفـسـه، مصدرهما مقبرة الشاخورة التي تقع شمال غربي القرية التي تحمل اسمها، على بعد نحو مــتــر جـــنـــوب شـــــارع الـــبـــديـــع. وهــي 700 مقبرة كبيرة تُشكّل موقعا كبيراً يشمل سـلـسـلـة مـــن الـــتـــال المـنـخـفـضـة، تـحـوي مجموعة من مدافن تعود لفترة تايلوس. تظهر صورة الرجل الملتحي على صفحة مــنــمــنــمــة مــســتــطــيــلــة، كـــمـــا تــظــهــر عـلـى صفحة دائرية، وتوحي ملمحها بأنها تـمـثّـل وجــهــا واحــــداً يـخـتـزل فــي وحـدتـه شبها مثاليا يتجاوز الملمح الفرديّة. يــظــهــر المـــثـــال الأنــــثــــوي عــلــى قــرص سنتيمتر، 3.2 دائـــري يبلغ طــول قـطـره مـصـدره كـذلـك مقبرة الـشـاخـورة. الأنـف طويل ومتصل بالجبي، والعي مفتوحة وســـط هـدبـهـا، والـثـغـر صـغـيـر. الـوجـنـة مكتنزة، والعنق منتصب، ويـحـدّه عقد تنسدل منه سلسلة من الحبات الرباعية الأضــــــــاع. الـــشـــعـــر مــــرفــــوع إلـــــى الـــــــوراء، مـــع جـــدائـــل مـــعـــقـــودة تــبــلــغ أعـــلـــى طــرف الظهر. تبدو هذه الصورة المنقوشة على صفحة رقيقة من الذهب مماثلة للصور المنقوشة على الجواهر التي يُشار إليها باسم «قميو»، وهو اسم خاص بصنف مـــن الـــجـــواهـــر، عُــــرف فـــي مـــيـــدان الـفـنـون الفاخرة الكبرى بشكل واسـع على مدى عصور. إلــــى جــانــب هــــذه الـــرقـــائـــق الـذهـبـيـة التي تتبنّى أسلوبا تصويريا، تحضر رقـــائـــق أخــــرى تـحـمـل طــابــعــا تـجـريـديـا، مصدرها مقبرة الحجر التي تتبع قرية تحمل هـذا الاســم، تقع كذلك على شارع الـبـديـع، وتـحـديـداً بــن قـريـة أبـــو صيبع وقــريــة الــقــدم. تنقسم هـــذه الـرقـائـق إلـى مـجـمـوعـتـن. عــثــرت بـعـثـة مـحـلـيـة على ، وهي 1971 المجموعة الأولــى خـال عـام مكونة من قطع صغيرة متعددة الأشكال صُنعت لتزيّن أكاليل خاصة بالراقدين. وعــــــثــــــرت بــــعــــثــــة مـــحـــلـــيـــة أخــــــــــرى عــلــى وعــام 1992 المـجـمـوعـة الـثـانـيـة بــن عـــام ، وهي مكوّنة من رقائق مستطيلة 1993 ذات أطراف مقوّسة، صُنعت لتثبّت فوق أفواه الراقدين في قبورهم. اسـتُـخـدم الــذهــب مـنـذ أقـــدم العهود فــــي مـــيـــاديـــن فــنــيــة مــــتــــعــــدّدة، وتــــعــــدّدت أشكاله بي حضارة وأخرى، وبي حقبة وأخــرى. في «اللطائف والظرائف»، نقل الثعالبي عــن شـــداد الـحـارثـي فــي «بــاب مـــدح الـــذهـــب»: «الـــذهـــب أبــقــى الـجـواهـر على الدفن، وأصبرها على المـاء، وأقلّها نـقـصـانـا عـلـى الـــنـــار، وهـــو أوزن مــن كل شيء إذا كان في مقدار شخصه، وجميع جواهر الأرض إذا وضع على الزئبق في إنائه طفا، ولو كان ذا وزن ثقيل وحجم عــظــيــم، ولــــو وضـــعـــت عـلـيـه قـــيـــراطـــا من الـذهـب لـرسـب حتى يـضـرب قعر الإنـــاء، ولـــه حـسـن وبــهــاء فــي الــعــيــون، وحـــاوة في الصدور، ومنه الزريابات والصفائح الـــتـــي تـــكـــون فـــي ســـقـــوف المـــلـــوك، وعـلـيـه مـــدار التبايع منذ الــزمــان الأول والـدهـر الأطول». افـــتـــن أهــــل الأرض بـــالـــذهـــب «مـنـذ الـزمـان الأول والـدهـر الأطــــول»، وجعلوا مـــنـــه ثـــمـــنـــا «لــــكــــل شـــــــــيء»، كـــمـــا تـشـهـد الـحـضـارات المتعاقبة على هـذه الأرض. تـعـكـس قـطـع الـبـحـريـن الـذهـبـيـة تقليداً فنيا راسخا شـاع في مقدونيا القديمة، كــمــا فـــي مـــواقـــع تــقــع الـــيـــوم فـــي مـنـاطـق حـــــدوديـــــة مــــن بـــلـــغـــاريـــا. ويـــتـــمـــثّـــل هـــذا الـتـقـلـيـد فـــي صـنـاعـة رقـــائـــق مـــن الـذهـب تستقر على أعضاء معيّنة من الجثامي، وعـلـى مـواقـع مــحــدّدة مـن الأكــفــان. امتدّ هـــذا التقليد إلـــى الــشــرق الأدنــــى، وشــاع فـي الساحل الفينيقي، كما تشهد قطع عُــثــر عليها فــي صــيــدا وجـبـيـل وبعلبك وحمص. بلغ هـذا التقليد الجنائزي نينوى في شمال العراق، ووصل منه كما يبدو إلـى الجزيرة العربية، كما تؤكد القطع التي خرجت من مقابر البحرين، والقطع المــشــابــهــة الـــتـــي عُـــثـــر عـلـيـهـا فـــي نـهـايـة الــقــرن الـعـشـريـن بـمـدفـن شُــيّــد فــي شـرق مستوطنة ثــاج الـتـي تتبع الـيـوم شمال شرقي المملكة العربية السعودية، وتقع كيلومتراً مـن مدينة 95 على بعد نحو الـجـبـيـل غـــربـــا، وســـط وادٍ ضـحـل يمتدّ على الطريق التي كانت تسلكها قديما القوافل التجارية. قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة 3 قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها محمود الزيباوي تعكسقطع البحرين الذهبية تقليداً فنياً شاع في مقدونيا القديمة

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky