issue16758

الثقافة CULTURE 18 Issue 16758 - العدد Tuesday - 2024/10/15 الثلاثاء في ثلاثة نماذج من القصة القصيرة الوطن في التجارب السردية السعودية حكاية الإنـسـان على الأرض ومسيرته فـي الحياةِ تتعددُ باختلافِ الألسنِ وتباينِ الثقافاتِ، وتتحدُ بالمقابلِ في لغةٍ كونيةٍ جامعةٍ عندَ تعبيرها عـنْ مفهومِ الأوطـــانِ. فالوطنُ حقيقةٌ فطريةٌ، ونزعةُ ذاتية اليقينِ، تتماهى فيها الأنـا بموضوعها بما يشكلُ هويتها ويــرســمُ مـسـارهـا، فيصبحُ الـوطـنُ هـــوَ جـسـد الإنـــســـانِ الـكـبـيـرِ المـمـتـدِ بـاتـسـاعِ حـــــدودهِ. ولـلـسـردِ تقنيتهُ الـخـاصـة وطـرقـه المـخـتـلـفـة فـــي الـتـعـبـيـر عـــن مــشــاعــر الــقــاص الحميمية وقيمه النبيلة التي يرفعها عالياً ويحتفي بها كما هـو نهجه اتـجـاه وطنه. فـــتـــارة، تُــبــرق الــعــواطــف عـلـى شـكـل غنائية تـنـتـشـي بــهــا حـــروفـــه وتــتــضــوع بــهــا جمله وتـتـشـرب بـهـا حـكـايـاتـه. وأخـــــرى، تنكشف العواطف مسرودة بكثير من التفاصيل في نسيج مـن الحكايات التي هيضها الحنين إلى زمن ماضٍ في بقعة كانت مسرحاً لتلك العواطف وحاضنة لها. مـــــن جــــانــــب آخـــــــر، نـــلـــحـــظ أن الــــســــرد، خصوصاً في جنس القصة القصيرة، وعند تناوله لموضوع الوطن، يفضل أن يختار - في الغالب - بين ثلاث طرق عند استعراضه لعواطفه: الوطن مختزلاً في مكان، أو الوطن مــن خـــ ل أحـــد رمــــوزه وشــعــاراتــه، والـثـالـث عــنــدمــا يـــوظـــف الـــقـــاص تـقـنـيـة «الــتــجــريــد» لـيـتـنـاولـه مــن زاويــــة الـــوجـــدان. وفـــي جميع طـــــــرق الـــــتـــــنـــــاول، نــــجــــد أن الـــــســـــرد بـــتـــعـــدد أساليبه، يستعير من الشعر بعض أدواتـه مـثـل الـكـنـايـة والمــجــاز وأحـيـانـ الاسـتـعـارة، ليخلق من ذلك صوراً شعريةً يتقارب فيها مع جنس القصيدة بصيغتها النثرية. قبضة من تراب، نثار الذهب: فـــي الـــنـــمـــوذج الأول «الــــوطــــن بـرمـزيـة المــكــان» يطالعنا تـركـي الـرويـثـي فـي قصته «طـــمـــيـــة»، بـــإحـــدى تـقـنـيـات الـــســـرد بـتـدويـر الـــــــزوايـــــــا لـــخـــلـــق مــــنــــظــــور مـــخـــتـــلـــف لــــرؤيــــة المـــــوضـــــوع. فـــفـــي قـــصـــتـــه، يــتــأنــســن المـــكـــان، ويــكــتــســب صـــفـــة الأنــــثــــى، ويـــصـــبـــح الـجـبـل كائناً أسـطـوريـ ، واعـيـ متكلماً: «أنـــا جبل، أنــــثــــى جــــبــــل، هــــل قـــلـــت لـــكـــم هــــــذا مــــن قــبــل، ذاكــرتــي أكلتها الأيــــام والـلـيـالـي، هــل قـرأتـم قـــصـــتـــي؟». بـــل يـمـتـلـك الــجــبــل المـــقـــدرة على الـــحـــركـــة والــــتــــرحــــال فــــي مـــســـاحـــة شــاســعــة مـــن الــجــغــرافــيــا: «حــــدث أن جــبــً يــقــال لها (طـمـيـة)، تـمـردت وســـارت فـي ليلة ظـلـمـاء... فـــرأت جـبـً أبيض يـقـال لــه (قــطــن) يختلف عــن جـبـال منطقتها الـــســـوداء». يبوح الجبل بعواطفه متحدثاً عن نفسه وعن مشاعر من سكن بجواره بصيغة سردية مبتكرة: «إني أنتظركم، فتعالوا بسرعة، عن أي سرعة أتحدث، من مضى على مكوثها قرون، بأي قياس تقاس الـسـرعـة عـنـدهـا؟ هـــذه الأمــــور نسبية، الـسـرعـة والـحـقـيـقـة وكـل المحسوسات والمعارف، اسألوني فأنا التي أعرف، لا يهم، المهم أن تأتوا وتحيوني، لا تنسوا». مـــا يـــحـــاول الـــقـــاص إثــــارتــــه مـــن خــــ ل أســـطـــرة المــــكــــان، أن يعبر عما يجيش في وجــدان الجماعة ومخيالها إزاء نظرتها وحـفـاوتـهـا بعظمة الطبيعة الحاضنة لـإنـسـان والمـتـرفـقـة به، وبـاعـتـبـار أن ذلـــك الــ وعــي الـجـمـاعـي، بمثابة المـسـتـودع الــذي تتوارثه الأجيال، ويشتمل على صور مترابطة وزخـارف رمزية كثيرة تكمن لا شعورياً في أنفسهم، كما يراه عالم النفس يونغ. سليل النخلة، حفيد الوطن: أما ناصر الحسن في قصته «تباريح الصرام» - كنموذج لتوظيف الرمز الوطني - فهو يتناول مفهوم عشق الوطن من خـــ ل أحـــد رمــــوزه الـتـي شكلت جـــزءاً مــن عـ مـتـه وشـــعـــاره، أي النخلة، باعتبارها رمزاً وطنياً بامتياز، وذلك من خلال توظيفه لها في حكاية. لون من التذكير بالماضي الذي هو إحدى مهمات الكاتب «للتذكير بمجد الماضي من أجل الإبحار نحو المستقبل»، كما يقول ويليام فوكنر. نــاصــر الـحـسـن يـصـف الــعــ قــة بـالـنـخـلـة بـصـيـغـة سـرديـة - شـاعـريـة فــي نـصـه: «جــذبــه حفيف الـسـعـف وهـــو يختلط مع أصــــوات الـبـ بـل كمقطوعة كـونـيـة، شنفت أسـمـاعـه وهـــو يلف (كرّ) النخل حول خصره النحيل، استعداداً لصعوده، رفع رأسه مبتسماً ينظر إلى هام النخلة كمن يستأذن سيدة نبيلة للرقص، يتأكد من ربط الحبل جيداً، يقبض عليه بسواعد قروية جافة كتربة قبر منسي، ثـم يضع رجـلـه على جذعها المـمـوج الـدافـئ بحكايا الأجـــــداد، أخـــذ فــي الـصـعـود وهـــو يستذكر مـوطـئ قـدم أبيه وجـده، وفي كل مرة يباعد (الكر) عن جذع النخلة، يلتحم معها كمن يريد ضم معشوقته لأول مــرة، يتنشق عبق تمرها يخطو في مدارجها وصوته يبح عن همهمة خفيضة، يبتعد عن الأرض فيصغر الحقل في عينيه كطائر مسافر، يقترب من نصفها فتهرب العصافير من سعفاتها، يتردد صدى الذكريات في رأسه: النخلة أمنا يا ولدي، تغذينا وتطعمنا صيفاً وشتاءً، وإن كنت باراً بها، فاحرصعلى رعايتها كحرصك على عينيك». الهوية... المجرد والحسي: قـد لا يـكـون الإيــحــاء بالمعنى مـيـزة سـرديـة بشكل مطلق، لكن عندما يستعير السرد هذه الأداة من الشعر، فهو في حقيقة منزعه محاولةً لاستطالة أفق انتظار القارئ للمعنى المراد إيصاله. ففي القصة القصيرة بـشـكـل خــــاص، تــقــوم هـــذه الـتـقـنـيـة أو الأداة بمناورة المتلقي ولا تمنحه المعنى بسهولة؛ كحبل طويل في نفق مظلم يمسك به القارئ حـــتـــى نــهــايــتــه لـــلـــوصـــول إلـــــى المـــحـــطـــة الــتــي اســـتـــدرج فـيـهـا الــقــاص قـــارئـــه. بينما تقنية الإيحاء بالمعنى في القصيدة الكلاسيكية لا تتعدى نطاق البيتين حتى تتضح قصدية الشاعر. فـمـحـمـد الــــراشــــدي فـــي قـصـتـه «بـطـاقـة هـــــويـــــة» - كــــنــــمــــوذج ثــــالــــث - يــــوظــــف هــــذه التقنية بمهارة شديدة، وينوع على مفهوم «الهوية الوطنية» باصطناع مفارقات لفظية وحـبـكـات درامــيــة مختلفة. يستعرض فيها مـــدلـــولات المـعـنـى وفـــق أحـــــداث يـمـتـزج فيها الخيالي بالواقعي، مشكلاً مشاهد فانتازية. فالقاص، يستعرض في سـرده عمق وتجذر الـهـويـة الوطنية فـي الـــوجـــدان، وينزلها من مفهومها «التجريدي» إلى الحسي الملموس. الحكاية تبتدأ بهذا المشهد: «اكتشفت ذلـك أول مـرة مصادفة؛ حين ناولني موظف الأحوال المدنية بطاقة الهوية الجديدة. كانت أنيقة وصقيله وبياناتها مخطوطة بحروف وأرقـام واضحة. راجعت البيانات على عجل وحـ تأكدت من صحة المكتوب فيها، قمت أحاول إدخالها في الجيب المخصص لها من المحفظة. كـان مقاسها أكبر قليلاً من مقاس جـيـب المـحـفـظـة، وعـنـدمـا حــاولــت أن أضغط طــرفــهــا قــلــيــً لأســلــكــهــا عـــنـــوة فـــي الــجــيــب؛ انـــغـــرس الـــطـــرف المـــرهـــف فـــي إبـــهـــامـــي حتى نضحت قطرة دم صغيرة على حافة البطاقة. عرفت لحظتها أن بطاقة الهوية الجديدة تلك لا تشبه بقية البطاقات فـي محفظتي؛ فهي إلى جانب أنها لامعة جـداً، وأنيقة جـداً؛ هي كــذلــك مـرهـفـة الـــحـــواف جـــداً إلـــى الــحــد الـــذي يمكن معه أن تجرح وتنهر الدم...». إذن، هــذا هـو مشهد التهيئة والمـدخـل إلـــــى المـــفـــهـــوم الــعــمــيــق لــلــهــويــة بــاعــتــبــارهــا عـاطـفـة فـطـريـة سـامـيـة غـالـبـ ، ولـهـا جانبها الآيـــديـــولـــوجـــي الــــــذي يـــجـــب الـــتـــعـــاطـــي مـعـه بحذر. ولعل ذلك المعنى يتضح بتقدمنا في قراءة النص: «كان استخدامي لتلك (الْهَوَيَةْ) كما ينطق الناس اسمها مختصراً هنا - في مواضع القطع والبتر والجرح أكثر بكثير من استخدامها فيما أعـــدت لأجــلــه، وفـــي المــــرات القليلة الـتـي كـــان فيها شـرطـة نقاط التفتيش يطلبون فيها أوراقي الرسمية؛ كنت أضحك في نفسي حــ أتـخـيـل أنــهــم سيعتقلونني بتهمة حــيــازة ســـ ح أبيض وإشهاره أمام رجال الأمن». وفي الجزء الأخير من الحكاية، يعود الخطاب السردي إلى التجريد في المفهوم مجدداً؛ ويكون فضاؤه هذه المرة هو الحلم، حيث المساحة الـتـي تمهر فيها المخيلة وتنشط للبوح: «وفـي المساء كنت أراني في المنامات دائماً في حشود من البشر تحتدم بينهم طــبــول مـجـنـونـة الإيـــقـــاع. وهـويـتـي فــي المــنــام تستحيل خنجراً طـويـً معقوفاً وفــاخــراً... كنت أشـق الـجـمـوع... أرقـص بينهم الـعـرضـة وخـنـجـري يـبـرق كالشهاب فــوق هـامـتـي. وفي المنام أيضاً كنت أنـازل بخنجري غرباء أراهـم في الحلم أشـراراً تتمزق أوصالهم بحد هويتي». رؤية قيد الاختبار بــهــذه الــنــمــاذج الـــثـــ ث، يـمـكـنـنـا الـــوصـــول إلــــى اسـتـنـتـاج واضـــح فيما يخص الأســلــوب الــســردي فـي القصص القصيرة عـنـد تـنـاولـه لمــوضــوع الـــوطـــن؛ فـهـو يـصـبـح عـاطـفـيـ ، شـاعـريـ ، تجمح فيه العواطف بمحرضات الحنين إلى زمان «طوباوي»، وتتقاطع مع أمكنة أثيرة مكونة حدثاً ورؤيـة متخيلة؛ لوصف مــشــاعــر الـــــذات إزاء مـــوضـــوع تُــعــلــي مـــن شــأنــه ويــســكــن عميقاً فــي حـنـايـاهـا؛ فتترجمه فــي جـنـس أدبـــي يـمـتـزج فـيـه الـسـردي بالشعري. فالتناول بوحي الحنين «نوستالجيا» كان مدلوله في السابق «مرضاً منغمساً في الماضي»، بينما ينظر إليه اليوم «باعتباره عاطفة مبهجة تعيد صياغة المستقبل»، كما ترى ذلك المؤرخة في تاريخ الطب أغنس أرنولد فوستر. وفيما عدا النماذج السابقة، يتم تناول الموضوع الوطني في القصص القصيرة السعودية بطريقة غير مباشرة، وعلى شكل إشارات تبرز التحولات الجذرية في حياة الفرد السعودي، وحـقـبـة دخــولــه فــي الـعـصـرنـة والــحــداثــة بـفـعـل خـطـط التنمية والإنجازات الكبرى المتحققة، وهو تعبير عن الامتنان والشعور بالعرفان، وتطلعات لاستشراف المستقبل. وبهذا، يكون القاص، كما هو الشاعر في نظمه، قد عبر عن مجتمعه بأسره؛ لأن القصة لا تكتفي بسرد مغامرات أفراد فحسب، إنما سرد «المجموع الذي نـدعـوه (مجتمعاً)، وهــو لا يتألف مـن أنـــاس، بـل مـن كـل مـا هو مادي وثقافي»، كما يقول ميشيل بوتور. * كاتب سعودي كاظم الخليفة «النباتية» أول عمل مُترجَم بالإنجليزية للروائية الحائزة جائزة «نوبل» هان كانغ تطرح أسئلة لا نريد التفكير فيها فـي أغسطس (آب) المـاضـي، نشرت آن رايـس دعـوة للتمرد على تطبيق التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، تحذّر فيها من أن الصوابية السياسية (مصطلح يُستخدَم لوصف اللغة أو السياسات أو الإجـــراءات التي تهدف إلى تجنب الإساءة أو الحرمان لأفــــــراد مــجــمــوعــات مـعـيـنـة فـــي المـجـتـمـع) ستجلب نهاية العالم الأدبي: حظر الكتب، والـــقـــضـــاء عــلــى المـــؤلـــفـــ ، فـــضـــً عـــن أنـهـا سـتـدخـلـنـا فـــي عــصــر جـــديـــد مـــن الـــرقـــابـــة، وأعــلــنــت رايـــــس: «يــتــعــ عـلـيـنـا أن نــدافــع عـن الـخـيـال بـاعـتـبـاره مساحة يمكن فيها استكشاف السلوكيات والأفــكــار المخالفة لـــلـــقـــواعـــد»، وأضــــافــــت: «أعــتــقــد أنــــه يتعين علينا أن نكون على استعداد للدفاع عن كل الذين يتعرضون للازدراء». وباعتباري من محبي الأدب «المخالف لــــلــــقــــواعــــد»، فـــإنـــنـــي لـــــم أســـتـــطـــع تــحــديــد ســبــب شـــعـــوري بــــأن مــنــشــورهــا كــــان أكـثـر إزعاجاً من صرخات المعركة المعتادة التي يُطلقها المصابون بالجنون من الصوابية الـسـيـاسـيـة، لكنني وجـــدت أخــيــراً الإجـابـة بعد قـراءة روايـة الكاتبة هان كانغ - نوبل -: «النباتية»، وهـي: مـاذا لو 2024 ، لـــآداب كان هؤلاء الذين يتم ازدراؤهم قادرين على الدفاع عن أنفسهم؟ إن كــــل الــــتــــحــــذيــــرات المــــــوجــــــودة عـلـى الأرض لا يمكنها أن تُعِدّ القارئ للصدمات الــــتــــي ســـيـــتـــعـــرض لـــهـــا عـــنـــد قـــــــــراءة هـــذه الـــروايـــة الـتـي تُــعَــدّ أول عـمـل مُـتـرجَـم لهذه الكاتبة الكورية في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. فـفـي الـــبـــدايـــة، قـــد تـنـظـر إلـــى الـعـنـوان وتقرأ الجملة الأولى في الرواية التي تقول فـيـهـا الــكــاتــبــة: «قـــبـــل أن تــتــحــول زوجــتــي نــبــاتــيــة، كــنــت أعــتــقــد أنــهــا شــخــص عـــادي تــمــامــ فـــي كـــل شـــــيء»؛ إذ يــبــدو أن الــــزوج يعتقد أن الخطر الأكبر يتمثل في التحول إلى النظام الغذائي النباتي، لكن لا توجد نـــهـــايـــة لــــأهــــوال الـــتـــي تــــتــــردد داخــــــل هـــذه الـروايـة التي تؤكد على فكرة المــوت بشكل رائع. عـنـدمـا استيقظت يـونـغ - هــي (بطلة الــروايــة) ذات صباح مـن أحــ م مضطربة، وجــدت نفسها قد تحولت نباتية مروعة؛ إذ إن رواية هان القصيرة، المكونة من ثلاثة أجزاء، تتنقل بين الإثارة المنزلية والتحول والتأمل في حب النباتات، كما أنها تُروى مــن وجــهــات نـظـر زوجــهــا، الـــذي يعمل في مـكـتـب (وهــــو مــا يـظـهـر فــي الــجــزء الأول)، وصهرها المهووس، وهو فنان (يظهر في الجزء الثاني)، وشقيقتها الكبرى المثقلة بالأعباء، والتي تدير متجراً لمستحضرات التجميل (تظهر في الجزء الثالث). وتــــتــــحــــدد هــــويــــة هــــــذه الــشــخــصــيــات الثلاث إلى حد كبير من خلال ما يفعلونه لكسب العيش، وفي حين توقفت يونغ - هي عن القيام بأي شيء تقريباً، فإنها تقول في إحدى لحظاتها النادرة من الحوار المباشر: «كـــان لـــدي حــلــم»، وهـــو تفسيرها الوحيد لتحولها إلـى نظام أكـل الـخـضـراوات الذي اكتشفته حديثاً. في البداية، قوبلت يونغ - هي بازدراء عابر من قِبل العائلة والأصـدقـاء؛ إذ صرَح أحد أصدقائها على العشاء بشكل عدواني قـــائـــ ً: «أكــــره أن أشــــارك وجــبــة مــع شخص يعتبر أكــل الـلـحـوم أمـــراً مثيراً للاشمئزاز، لمـجـرد أن هــذا هـو شـعـوره الـشـخـصـي... ألا توافقني الرأي؟». وســـرعـــان مـــا يـخـلـق شـكـل يــونــغ - هي الــــجــــســــدي الآثـــــــــار الـــســـلـــبـــيـــة لـــلـــغـــايـــة الـــتـــي يــخــشــاهــا المـــقـــربـــون مـــنـــهـــا: فــــقــــدان الــــــوزن، والأرق، وانــــخــــفــــاض الــــرغــــبــــة الــجــنــســيــة، والـتـخـلـي فـــي نـهـايـة المـــطـــاف عـــن تفاصيل الحياة «المتحضرة» اليومية. إن هذه الرواية مليئة بكل أنواع التغذية القسرية والاعتداءات الجنسية واضطرابات الأكل، لكن هذه الأمور لا يتم ذكرها بالاسم فــــي عــــالــــم هـــــــان، غـــيـــر أن الأمـــــــر يـــظـــهـــر فـي الأحـــداث، فالتجمع العائلي الــذي تتعرّض فـيـه يــونــغ - هـــي لـلـهـجـوم مـــن قِــبــل والــدهــا بسبب أكل اللحوم يتحول دوامـة من الأذى الذاتي، ولم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي ينتهك فيها رجل (أو هي نفسها) جسدها، لكن انتهاك العقل هو قضية مختلفة. وتـــحـــتـــاج روايـــــــة «الـــنـــبـــاتـــيـــة» إلـــــى كـل هـــذا الـعـنـف؛ لأنـــه يـرتـبـط فــي عـالـم الكاتبة بـــالاحـــتـــيـــاجـــات الـــجـــســـديـــة: أكـــــل الـــلـــحـــوم، وممارسة الجنس، أو حتى رعاية الآخرين، لكن الـتـدخـل الـخـارجـي، مـن جـانـب العائلة والأصــــدقــــاء والأطــــبــــاء، يـعـمـل عــلــى تـعـديـل واقــــــع هـــــذه الــــــروايــــــة، إلا أن جـــهـــودهـــم فـي النهاية تـبـدو ضعيفة مثل إنـقـاذ آن رايـس لـ«المُحتقَرين». إذن، مَن هو الضحية هنا؟ فـــــي هــــــذه الـــــــروايـــــــة، نـــشـــاهـــد مــقــاطــع قـصـيـرة مـكـتـوبـة بـخـط مـائـل تـصـف أفـكـار يـونـغ - هــي، والـتـي تتضمن مونولوجات داخـلـيـة تشبه المـــذكـــرات الـيـومـيـة؛ إذ يبدأ أحد المقاطع بالقول: «لا أستطيع أن أثق إلا في صدري الآن، أنا أحب صدري، فلا يمكن قتل أي شــيء بـواسـطـتـه، لكن الـيـد والـقـدم واللسان والنظرة، كلها أسلحة غير آمنة»، ثـــم تـــدخـــل فـــي إدراك مــفــاجــئ بــــأن شكلها الـــقـــديـــم بــــات يـــتـــ شـــى، وتـــتـــســـاءل: «لمــــاذا أتغير هكذا؟ لماذا باتت أظافري حادة بهذا الشكل؟ ما الذي سأخدشه؟». وفــــــي بـــعـــض الأوقــــــــــــات، تـــحـــتـــاج لـغـة الدمار إلى تفاصيل حسية فقط مثل طائر يحتضر مختبئاً بـداخـل قبضة مـشـدودة، أو كــيــس نــصــف مـمـتـلـئ بــــالــــدم، أو زهـــور مـرسـومـة عـلـى جـسـد عــــارٍ، أو رائــحــة لحم مشوي لا تُحتمَل. وكانت روايـة «النباتية»، التي نُشرت ، وهـــي 2007 فــــي كــــوريــــا الـــجـــنـــوبـــيـــة عـــــام مـــســـتـــوحـــاة مـــــن قـــصـــة قـــصـــيـــرة لــلــمــؤلــفــة بعنوان «ثمرة امرأتي»، هي أول أعمال هان الـتـي ستتحول فيلماً روائــيــ طـويـً (وقـد صـدر فيلم ثــانٍ، مقتبس من قصة قصيرة .)2011 أخرى، في عام وتــــم الاحـــتـــفـــاء بـــالـــروايـــة بـاعـتـبـارهـا «ذات رؤيـــــا»، كـمـا أنــهــا نُـــشـــرَت فــي جميع أنــحــاء الــعــالــم، وكــــان حــمــاس مترجمتها، ديبوراه سميث، هو الذي ساعد على تقديم «الـنـبـاتـيـة» إلـــى دور الـنـشـر فــي بريطانيا والــــولايــــات المـــتـــحـــدة. وقــــد تـعـلـمـت سميث اللغة الكورية منذ نحو ست سنوات فقط، وأتــقــنــتــهــا مـــن خــــ ل عـمـلـيـة تــرجــمــة هــذا الكتاب. وتكمن الخطورة هنا في التركيز فقط على الجوانب الإثنوغرافية والاجتماعية، ففي بريطانيا، ظهرت رواية «النباتية» في قائمة أفضل الكتب مبيعاً في مؤسسة «ذا إيفيننج ستاندارد»، وقد حاول النقاد فهم مدى غرابة الرواية من خلال نسب ما فيها إلى الثقافة في كوريا الجنوبية. وحـــاول الـنـقـاد البريطانيون التأكيد عــلــى أن اتـــبـــاع الــنــظــام الــنــبــاتــي يــعــد أمـــراً مستحيلاً في كوريا الجنوبية، كما أنه من منظور النسوية الغربية المـعـاصـرة يجب إدانـة الرواية باعتبارها تجربة في «إذلال المرأة» أو «تعذيبها»، فهناك عالم كامل من الأدب خـارج الـدول الغربية لا يتناسب مع أسواقنا أو اتجاهاتنا. ونجد أن تناول هان الرائع للاختيارات الـشـخـصـيـة والـــخـــضـــوع يـتـجـلـى فـــي هــذه الــــروايــــة، كــمــا أن هـــنـــاك شـيـئـ مــمــيــزاً آخــر يتعلق بـالأشـكـال الأدبــيــة القصيرة، فهذه صفحة. 200 الرواية أقل من وترتبط رواية «النباتية» بأعمال أدبية صغيرة متنوعة أخرى، مثل رواية «أقارب ،2007 الدم» لسيردوين دوفي الصادرة عام » لميلفي، Bartleby, the Scrivener« وروايــة فــضــً عــن روايــــة الــرعــب الــرائــعــة «الـبـومـة العمياء» للمؤلف الإيـرانـي صــادق هدايت (كـــــان هـــدايـــت نفسه 1937 الــــصــــادرة عــــام نــبــاتــيــ ، وهـــنـــاك مــشــاهــد تـظـهـر بـانـتـظـام فـــي الـــروايـــة تـتـضـمـن المــنــاظــر الــتــي يـراهـا فــي كـوابـيـسـه، حـيـث يـتـم الـتـعـامـل مــع قتل الحيوانات باعتباره سبباً للجنون)، لكن في النهاية، كيف يمكن ألا نتذكر كافكا في وسط كل ذلـك؟ فربما يكون كافكا النباتي الأكـثـر شهرة فـي تـاريـخ الأدب، ويـبـدو أنه تحدث ذات مرة إلى سمكة في حوضسمك قائلاً: «الآن أخيراً يمكنني أن أنظر إليك في سلام، لن آكلك بعد الآن». ولـــكـــن قــصــة هــــان كـــانـــغ لــيــســت قصة تــحــذيــريــة لآكـــلـــي الـــلـــحـــوم، وذلـــــك بـالـنـظـر إلـــى أن رحــلــة يــونــغ - هـــي الـنـبـاتـيـة كـانـت بـعـيـدة كـــل الــبُــعــد عـــن الــتــوصــل لـلـسـعـادة؛ فالامتناع عن أكل الكائنات الحية لا يقود إلــــى الــتــنــويــر، ومــــع انـــصـــراف يــونــغ - هي أكثر فأكثر عن الحياة، فـإن مؤلفة الرواية تجعلنا نكافح للعثور على إجابة للسؤال عما إذا كان يتعين علينا أن نشجع بطلنا على البقاء أو الموت. ومع هذا السؤال يأتي سؤال آخر، وهو السؤال النهائي الـذي لا نريد أبـداً التفكير فـيـه؛ إذ تـسـأل يـونـغ - هــي فــي نـهـايـة أحـد أجــزاء الـروايـة قائلة: «لمــاذا يعد المـوت أمراً سيئاً إلى هذا الحد؟». * خدمة «نيويورك تايمز». وبوروشيستا خاكبور هي مؤلفة أميركية - إيرانية ولها روايتان: «الأبناء والأشياء الأخرى القابلة للاشتعال» و«الوهم الأخير» هان كانغ غلاف الترجمة الإنجليزية لرواية «النباتية» * بوروشيستا خاكبور كل التحذيرات الموجودة على الأرضلا يمكنها أن تُعِدّ القارئ للصدمات التيسيتعرضلها عند قراءة هذه الرواية

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky