issue16756

الثقافة CULTURE 17 Issue 16756 - العدد Sunday - 2024/10/13 األحد دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد االستشراقية» طــــــرحــــــت تـــعـــبـــيـــر «الــــــــروايــــــــة مــــــا بــعــد > االستشراقية» في رسالتك للدكتوراه من جامعة السوربون ، حدثينا عن ماهية هذا االصطالح. - عنوان الرسالة هو «الترجمة العربية لــلــروايــة الـفـرنـسـيـة مــا بـعـد االسـتـشـراقـيـة»، وهـــو عــنــوان أول مـــرة يـتـم صـكّــه فــي رسـالـة 1991 بــــحــــث عــــلــــمــــي، شـــمـــلـــت الــــفــــتــــرة مـــــن 30 حــتــى يــومــنــا هـــــذا، أي عــلــى مـــــدار نــحــو عـــامـــا. ويــشــيــر مـصـطـلـح «الــكــتــابــة مـــا بعد االستشراقية» إلى الفترة التي أعقبت صدور ) إلدوارد سعيد. 1978( » كتاب «االستشراق الـكـتـاب الـــذي شـكّــل صـدمـة لـلـغـرب بالطبع، وأثــــار مــوجــة مــن الــجــدل والــهــجــوم العنيف على االستشراق الكالسيكي. ومـن املعروف أن االرتباط الجزئي الذي تم بني االستشراق األدبـــــــي والـــعـــلـــمـــي مــــن جـــهـــة، واالســـتـــعـــمـــار الـسـيـاسـي والـعـسـكـري مــن جـهـة أخــــرى، قد أدى لـوصـم االسـتـشـراق بالتبعية املغرضة واملــــســــاعــــدة فــــي تــنــفــيــذ أجــــنــــدات سـيـاسـيـة تضر بالشعوب املُستعمرة أو التي تذكر في الكتابات االستشراقية. لذلك، فــأدب ما بعد االستشراق معني سـنـة عن 40 بـالـفـصـل بــ الـكـتـابـة فــي آخـــر الــــشــــرق، واالســــتــــشــــراق الــكــ ســيــكــي بـــدايـــة مـــن كــتــابــات أنــــور عـبـد املــلــك فـــي الستينات ومـــقـــالـــه الـــــبـــــارز «هـــــل مـــــات االســــتــــشــــراق؟» الــذي طــرح أسئلة شائكة قبل صــدور كتاب سنوات، وانتقاد 10 إدوارد سعيد بأكثر من متخصصني فرنسيني لهذا االستشراق الذي عاون االستعمار. ثم سكت الكالم عن الكتابة عن الشرق األوسط تحديدًا، وشمال أفريقيا، وبــــــدأت مـــوجـــة كــتــابــة جـــديـــدة مـــن الـكـتـابـة أخـــذت تتكثف وتـنـتـشـر وتــبــرز فــي فرنسا، التي رصدتها الرسالة باعتبارها «مـا بعد استشراقية»، وبيّنت اختالفاتها السياقية واألدبية عن االستشراق الكالسيكي القديم. كـيـف قــمــت بـمـعـالـجـة هـــذه املــرحــلــة من > الكتابة بحثيًا؟ فــــصــــول، األول 3 - امـــتـــد الـــبـــحـــث عـــبـــر اخترت فيه كُتابا ذاع صيتهم في هذا الكادر الزمني، وفي أعمالهم سمات أساسية حول الكتابة عـن الـشـرق، فتمركزت عينة البحث حول رواية «ليون األفريقي» ألمني معلوف، وروايـــــة «بــوصــلــة» ملــاتــيــاس إيـــنـــار، وروايــــة «املـصـريـة» لجيلبرت سـيـنـويـه. أمـا الفصل الثاني فتطرق لعلم اجتماع الترجمة، الذي يتناول املرحلة التي يقطعها الكتاب األصلي وصــــــوال لــتــرجــمــتــه، بــمــا فـــي ذلــــك حـيـثـيـات عملية الـنـشـر فــي فـرنـسـا والــعــالــم الـعـربـي، وتحديدًا األسباب التي تجعلنا نُترجم أدبا يتحدث عنا بـاألسـاس ولكن بلغة أجنبية، وأســـبـــاب حــمــاس الــنــاشــر الــعــربــي لترجمة هذا النوع من األدب، وسط تساؤالت طرحها البحث حول ما إذا كان لدينا فضول لرؤية أنفسنا في عني اآلخـر، وهل دعم املؤسسات األجنبية لترجمة أصوات غربية تتحدث عن الــشــرق مــن االتــجــاهــات الـتـي تـحـدد النشر؟ إضــــافــــة إلـــــى لــــقــــاءات مــــع مــكــتــبــات رصــــدت بـاإلحـصـاءات نسب مبيعات هــذا الـلـون من الـكـتـابـة، وحــــوارات مـع عينة مـن املترجمني الذين ترجموا روايــات فرنسية يـدور عاملها في الشرق، كما تطرق الحديث عن مترجمني ال يُفضلون ترجمة هـذا اللون من الـروايـات وأسبابهم في ذلك. عــلــم اجـــتـــمـــاع الــتــرجــمــة هـــو بــحــث في الـعـ قـة بــ الــكُــتــاب والــنــاشــريــن بوصفهم بـــــشـــــرًا فــــــي األســــــــــــاس لــــديــــهــــم مـــشـــاعـــرهـــم وأفكارهم، التي تحمل تأثيراتها على عملية الترجمة، ومدى حساسية مترجم في ترجمة نص يتحدث عن مجتمعه العربي، مكتوب بلغة أجنبية، فهل يتدخل الشعوريا، فرغم االحـــتـــراف يــكــون الــنــص بـيـد إنـــســـان، حيث هناك عامل التعليم وعالقته باللغة، فنحن نـفـكـر بـالـلـغـة، والــتــكــويــن الــفــكــري يــؤثــر في االختيارات اللغوية للمترجم مقارنة بالنص األصلي، وحساسيته في التعامل مع بعض األلفاظ، وهذا ما تناولته بتفصيل أكبر في الفصل األخير من الرسالة حـول إشكاليات الترجمة. مـــا الــســيــاقــات األبـــــرز لـلـكـتـابـة مـــا بعد > االستشراقية التي قمت برصدها؟ - الـــحـــديـــث عـــن كـــل مـــا هـــو اســتــشــراق ظــل شـائـكـا فــي فــرنــســا، أقــــرب لــتــابــو. ومـن أهــــم عــنــاصــر تـشـكـيـل مــعــالــم الــكــتــابــة «مــا بـعـد االسـتـشـراقـيـة» هــجــرة الـكـتـاب الـعـرب لـلـغـرب، حتى صـــارت كتاباتهم عـن العالم الــــعــــربــــي مـــرتـــبـــطـــة بـــنـــســـيـــج الـــكـــتـــابـــة فـي فرنسا، بداية من أمني معلوف، وسينويه، وطــاهــر بــن جــلــون، وآســيــا جــبــار، وروبــيــر سوليه. كـل تلك األسـمـاء مـن أصــول عربية تعيش فـي فـرنـسـا، فتشكيلهم وخلفيتهم الشرق أوسطية العربية بــرزت في الكتابة الــفــرنــســيــة، وظــــل ســـــؤال الـــهُـــويـــة مـطـروحـا فـــي أعــمــالــهــم. وكـــانـــت هـــي الـشـغـل الـشـاغـل ألمـــ مـعـلـوف، صــاحــب الــعــبــارة الشهيرة «هُــويــة واحــــدة وانــتــمــاءات عــــدة»، وعندما كتب الفرنسي ماتياس إينار عن الشرق لم يذهب إليه بأحكام مُسبقة، بل اندمج تماما فــــي املــجــتــمــع الــلــبــنــانــي والـــــســـــوري بـشـكـل وثيق، وليس بشكل فانتازي. فقد ابتعدت الكتابة هنا عن األسلوب املُعلّب الفانتازي املــشــغــول بــرصــد الـــشـــرق مـــن هـــذه الـــزاويـــة، كما فرضت موضوعات مثل الربيع العربي والهجرات الشرعية وغير الشرعية نفسها على األدب كقضايا معاصرة، مع مالحظة أن املجتمع العربي بشكل عام لم يعد بعيدًا بـسـبـب الـــهـــجـــرة، ولــــم تــعــد صــــورة الـعـربـي مــحــفــوفــة بــالــتــغــريــب الـــــذي كــــان أحــــد أبـــرز عناصر الـجـذب فـي الكتابة االستشراقية. كـتـابـات أمـــ مـعـلـوف، عـلـى سـبـيـل املــثــال، وسّـــعـــت الـكـتـابـة إلطــــار إنــســانــي أكـــبـــر، من خـــ ل تخليط شـخـصـيـات غـربـيـة وعـربـيـة فــي مــن واحــــد، فــالــحــدود تــم تمييعها من خـ ل الهجرات بشكل كبير، وهــذا انعكس على األدب. وألن املـــــوضـــــوع جــــديــــد فـــــي مـــجـــاالت الـبـحـث الـعـلـمـي، فـقـد انـعـكـس ذلـــك عـلـى قلة املـــراجـــع، فـهـنـاك أبــحــاث أكـاديـمـيـة فرنسية كثيرة، مثال عن أدب أمني معلوف، لكن دون الحديث عن ترجمة أعماله إلى العربية، وهو ما تناولته في البحث. كما لم تتوفر أبحاث تخص اعتبار أعماله «ما بعد استشراقية»، لذلك لجأت لتفكيك االستشراق الكالسيكي كــمــدخــل تـــاريـــخـــي ملـــا بــعــد االســـتـــشـــراق في األدب املترجم للعربية. في مشروعك للترجمة ثمة خيط أدبي > يتفاعل مع موضوعات تخص املرأة. حدثينا عن هذا االختيار؟ - يبدو أن ذائقتي تميل للموضوعات التي تتفاعل مع كيان املرأة، فأول عمل قمت بـتـرجـمـتـه كــــان روايــــــة «فــــاديــــت الــصــغــيــرة» للكاتبة جـــورج صـانـد، وكـانـت تتحدث عن فـتـاة مـراهـقـة فــي مجتمع مُــغـلـق تبحث عن الحرية، واملفارقة أن مؤلفة الـروايـة نفسها اخـــتـــارت اســـم رجـــل حـتـى تستطيع الـنـشـر، وهناك رواية «صرخة النورس» وهي من أهم األعـمـال التي قمت بترجمتها، وهــي سيرة ذاتية للممثلة الصمّاء الفرنسية إيمانويل البوري، التي طالبت منذ سنوات مراهقتها االعـــتـــراف بـحـقـوق الــصُــم فــي فــرنــســا، وهـي من أسست املسرح املرئي العاملي، وهـو أول مسرح يدمج الناطقني والصم، وكتبت هذه السيرة وهي في العشرين من عمرها. وأتــــــوقــــــف كـــــذلـــــك عــــنــــد كـــــتـــــاب «املـــــــــرأة الـــــثـــــالـــــثـــــة... ديــــمــــومــــة األنــــــثــــــوي وثـــــورتـــــه» لـــلـــفـــيـــلـــســـوف الــــفــــرنــــســــي املـــــعـــــاصـــــر جــيــل ليبوفيتسكي، الـــذي قـسّــم تــاريــخ املــــرأة من مـــراحـــل: األولــــى مرحلة 3 وجــهــة نــظــره إلـــى «املــــــــــرأة املُــــأبــــلــــســــة»، ثــــم مـــرحـــلـــة االحـــتـــفـــاء بظهورها وتمجيد جمالها كما تجلى في عصر النهضة، وكـــان الـرجـل فـي املرحلتني هــو مــن يـحـدد قيمتها، أمـــا املـرحـلـة الثالثة فهي املــرأة التي تجد طريقها في كل شيء، ويطرح تساؤالت كثيرة من خالل ربطه بني املراحل الثالث. كانت لديك محطة أخرى في ترجمة جيل > ليبوفيتسكي، من خـ ل كتاب «مملكة املوضة - زوال مـتـجـدد»، الـــذي يـطـرح فيه تـأمـ ت فيما يسميها بـ«الحداثة املفرطة». - تطرق ليبوفيتسكي ملوضوع املوضة بـعـيـدًا عــن الــطــرح التقليدي والـسـطـحـي لـه، والتفت إلـى الشبكة االجتماعية لتكوينها، واعـــتـــبـــارهـــا مـــظـــهـــرًا مــــن مـــظـــاهـــر املــنــافــســة االجـتـمـاعـيـة، وهــو مـا أطـلـق عليها «مملكة الـــزائـــل» بمعنى املـمـلـكـة الـتـي تـــزول وتـعـود مـــن جـــديـــد، لـــذلـــك فــــالــــزوال املُـــتـــجـــدد إحـــدى سمات املوضة، سواء في األزيـاء أو العمارة واألثـــاث حتى املوسيقى، فالحداثة املفرطة من موضوعات ليبوفيتسكي التي يتأملها فــي أعـمـالـه، وأعـتـقـد أنـــه أحـــد أبـــرز املفكرين في فرنسا، وأفخر أنني أول من قدمته إلى العربية، وأبدأ قريبا في ترجمة أحد أعماله الـجـديـدة، التي تسعى إلــى تفكيك الظواهر التي تبدو هامشية، ولكنها كاشفة عن أعمق مشكالت املجتمع. هل تعدّين أن حصول عمل أدبي على > جائزة أدبية حيثية كافية لترجمته إلى العربية؟ - ليس معيارًا كافيا أبــدًا، وقـد طالعت كثيرًا مـن األعـمـال التي حــازت جـوائـز أدبية فرنسية ولكنني شعرت بأنها غير موائمة لـذائـقـة الــقــارئ الـعـربـي، وهــنــاك مـعـيـار آخـر هو أنني ال بد أن أحب العمل الذي سأختار تـرجـمـتـه ألنـــنـــي أمـــضـــي وقـــتـــا طـــويـــ مـعـه، وفـــي الـتـرجـمـة الـــصـــادرة حـديـثـا لــي لــروايــة «حقيقة قضية هاري كبير» لجويل ديكر، لم يكن حصولها فقط على جائزة األكاديمية هـــو املــعــيــار الــوحــيــد الـــذي 2012 الـفـرنـسـيـة دفعني لترجمتها، ولكن تميز الـروايـة رغم كبر حجمها. إلـى جانب األسـمـاء املـعـاصـرة، ترجمت > ألسماء كالسيكية في األدب الفرنسي، أشهرهم مارسيل بروست. حدثينا عن تجربتك في ذلك، قياسًا بترجمتك ألعمال كتاب معاصرين. - أعـتـقـد أن الـعـامـل الـرئـيـسـي هـنـا هو الــحــفــاظ عــلــى الـــرســـالـــة واألســــلــــوب األدبــــي، فالكتابة الــروائــيــة هـــي أســلــوب بــاألســاس، فــ يمكن أن يشعر الــقــارئ أن جـويـل كيبر وإيمانويل البوري وبروست يحملون نفس األســــلــــوب حــــ يــتــرجــمــهــم نـــفـــس املـــتـــرجـــم، فــعــلــيــه أن يـــحـــرص عـــلـــى تـــقـــديـــم أســلــوبــيــة الكاتب، وأال يترك أسلوبه الـخـاص يطغى، فيلغي األســلــوب املـتـفـرد لـكـل كـاتـب أصـلـي. ويـــعـــد هـــــذا مــــن أهـــــم إشـــكـــالـــيـــات الــتــرجــمــة، فمارسيل بـروسـت على سبيل املـثـال ذهني جدًا في كتابته، ولديه ارتباط كبير بالصور التي يستخدمها بكثرة في تعبيراته، فيكون حفاظ الترجمة على أهمية هذه الصور لديه أمــــرًا ضــــروريــــا، حــتــى لـــو اضــطــررنـا لـلـجـوء للهوامش في أقل الحدود. وأحيانا ما يكون مــن مــفــارقــات االحــتــرافــيــة أن يـلـجـأ املـتـرجـم لبعض «الخيانة» للنص األصلي وإجراء ما يلزم من تغييرات شكليّة كي يراعي شفرات اللغتني (لغة املصدر، ولغة االستقبال). تــولــيــت مــنــاصــب مـهـمـة بـهـيـئـة الـكـتـاب > املصرية واملجلس األعلى للثقافة، برأيك ما أبرز مشكالت الكتاب املُترجم في مصر؟ - أعـتـقـد أن املــشــكــ ت األســاســيــة تظل فـــي تـكـويـن املــتــرجــم مـــن جــهــة، واملــيــزانــيــات املــرصــودة، ســواء لـشـراء الحقوق األدبـيـة أو إعــــادة طـبـاعـة عـنـاويـن مـطـلـوبـة مــن الــقــراء، ولكن يتم التوقف عن إعادة طباعتها، وهناك كذلك مشكلة في خريطة التوزيع، فال أفهم مثال ملاذا ال يقوم «املركز القومي للترجمة» بــتــوزيــع إصــــداراتــــه فـــي املـكـتـبـات املختلفة، وقصرها على منافذ املـركـز وبعض املنافذ فــي الـجـامـعـات ومــعــارض الـكـتـاب بالطبع؟ جهد ممتاز، لكنه غير كاف في ظل املتغيرات الحديثة التي تطرأ على حياة البشر. دينا مندور تُعد املترجمة املصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي األدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجـة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية حول «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد االستشراقية»، ومن أبرز أعمالها املترجمة: «الفالسفة والحب»، «صرخة النورس»، «مملكة املوضة زوال متجدد» و«حقيقة قضية هاري كيبر» الحاصلة على جائزة األكاديمية الفرنسية، وشاركت في عدد من املنح التدريبية بوزارة الثقافة الفرنسية، وهي عضو في «جمعية مترجمي اآلداب» بفرنسا... هنا حــوار معها حول ًإشكاليات الترجمة وهمومها األدبية واألكاديمية... تقول إنها تحب العمل الذي تترجمه وتقضي معه وقتا طويال القاهرة: منى أبو النصر طالعت كثيرا من األعمال التي حازت جوائز أدبية فرنسية ولكنني شعرت أنها غير موائمة لذائقة القارئ العربي كريم عبد السالم في ديوانه «أكتب فلسطين» الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة يـحـتـضـن الـــشـــاعـــر املـــصـــري كـــريـــم عبد الـــســـ م، فـلـسـطـ ، فـــي ديـــوانـــه الــــذي وسـمـه بـــاســمـــهـــا «أكــــتــــب فــلــســطــ - مـــتـــجـــاهـــ مـا بـــعـــد الـــــحـــــداثـــــة»، ويـــكـــشـــف أقـــنـــعـــة املــــواقــــف والسياسات املتخاذلة من حرب اإلبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على مـدار عام مضى، وال تزال مستمرة على يد املحتل اإلسرائيلي، محوال الشعر إلى فعل مقاومة يــعــري هـــذه املـــأســـاة، وحـــبـــال الــتــواطــؤ الـتـي تسهم فــي صنعها واسـتـمـراريـتـهـا، ضـاربـا عرض الحائط بكل القيم والقوانني واألعراف الدولية واإلنسانية. ومـــثـــلـــمـــا تـــتـــعـــدد صـــــور هـــــذه املـــأســـاة الــوحــشــيــة، تــتــعــدد صــــور فــعــل املـــقـــاومـــة في الديوان، الصادر حديثا عن دار «يسطرون» لـلـنـشـر بـــالـــقـــاهـــرة، مـــرتـــكـــزًا عــلــى الـسـخـريـة سالحا للهدم والبناء، وهتك املسكوت عنه، واملـــهـــمـــش فـيـمـا وراء األشــــيــــاء وفــــي طــوايــا صــفــحــة، يـتـحـول 114 الـــواقـــع املـــريـــر. وعــبــر الديوان إلى مسرح لتراجيديا مفتوحة على الــبــدايــات والــنــهــايــات، تختلط فيها امللهاة بـاملـأسـاة، ويــــراوح اإليــقــاع فنيا بـ اللهاث للقبض على الحدث في فورانه املاثل للعيان، وتــأمّــل مـا نجم عنه مـن خـــراب ودمـــار وقتل وتجويع وتشريد واغتيال لكل ما هو حي، جراء هذا العدوان املتوحش، الذي لم تعرف البشرية نظيرًا لـه فيما مــرت بـه مـن حـروب ونكبات. وأصبح يثير قلق الـوحـوش ملوك الــغــابــات والــبــحــار مـعـبـرة عــن قلقها الـبـالـغ والشديد على االحتمال، أو قدرة األرض على تحمل دماء وعظام األبرياء املقتولني غدرًا. فـــهـــكـــذا، مـــن شــعــريــة الــتــقــريــر بنسقها الـسـردي الـصـادم املـبـاغـت، وشعرية الـدرامـا الـــتـــي يـــتـــنـــازع فـيـهـا الــــصــــراع عــلــى الـتـشـبـث بإرادة الحياة والحلم بغد أكثر عدال وأمانا، إلى شعرية التهكم والسخرية حتى من املوت نفسه، باعتباره تناسال جـديـدًا للحياة في حيوات أجساد أخرى. يوثق الشاعر لكل هذه املرايا املهشمة بمجموعة من الصور امللتقطة من رحم املأساة في غزة، كما يستدعي صورًا أخــرى ألبـطـال ومناضلني قـاومـوا املستعمر املحتل دفاعا عن الحق والكرامة اإلنسانية؛ مثل جيفارا. ويستحضر الصورة التراثية األيقونة الشائعة لصلب املسيح، يكررها في لقطات متتالية تشبه البانوراما التشكيلية، حيت يـتـنـاثـر عـلـيـهـا الـــضـــوء والــعــتــمــة مـــن زوايــــا ومـسـاقـط مختلفة، سـاتـرًا عـورتـه بالكوفية الفلسطينية الشهيرة، في رمزية حية تمزج الـدال باملدلول، تشي بأن املسيح يصلب من جــديــد هــنــا، وأن كــل دعــــاوى الــخــ ص التي يطلقها املحتل هي محض افتراءات وأكاذيب مـــضـــلـــلـــة. وفــــــي صــــــور أخـــــــرى يــــبــــدو الــقــمــر بكامل اسـتـدارتـه محلقا بمفتاح الـقـدس في السماء، وتزينه هذه الكوفية أيضا؛ محتفظة بــنــصــاعــتــهــا بـــرغـــم الـــقـــذائـــف الـــتـــي تــصــوب إليها مـن كـل الجهات. كما يستند التوثيق على حقائق دامغة تتمثل في نص القرارات الدولية التي صدرت عن منظمة األمم املتحدة ، وتـــؤكـــد حـــق الفلسطينيني 1947 مـنـذ عـــام فـــي إقـــامـــة دولـــتـــهـــم املــســتــقــلــة فــــوق أرضــهــم املغتصبة. لكل هـذا يكتب الشاعر فلسطني، يمد ألــف «أكـتـب» فـي الـغـ ف، ويـأخـذ حرف الطاء شكل خريطة فلسطني، كأنه يثبتها في جـدار التاريخ كحقيقة غير قابلة للمحو أو ًالنسيان. وكما يقول مستهال الديوان: «أكتب فلسطني ألني لست قاتال أو شاهد زور أكتب فلسطني ليتوارى شبح املنفى وتغادر الطيور السماوات املستأجرة أكتب فلسطني فتعود املستوطنات وطنًا أكتب فلسطني فتطرد القواميس كلمة النكبة ويتراجع الضباع إلى البحر أكتب فلسطني ألنضم إلى الشهداء فــــي مــلــكــوتــهــم والـــضـــحـــايـــا فــــي مــحــارقــهــم والــ جــئــ فــي مخيماتهم واملـقـصـوفـ فــي عــراء اإلنسانية أكتب فلسطني ألنهض في نفسي، وينهض معي من يرى ويسمع أكــتــب فـلـسـطـ بـــاألحـــ م كــلــهــا، بـيـقـ األم الثكلى: سنبقى هنا... قلنا سنبقى أكتب فلسطني ضد الوحوش وفى مواجهة املجرمني ليت لي حيوات ألكتب وأكتب، وأصواتًا ألردد دون توقف، وأيدي كثيرة ألحمل البنادق». يـــضـــم الــــــديــــــوان ثــــــ ث قـــصـــائـــد تـشـكـل الكتلة األساسية هي: «ناقد في شرفة الطابق الـــعـــاشـــر، جـــولـــيـــات وداوود قــبــل املـــونـــتـــاج، إلهي إلهي... ملاذا تركتني»، تعقبها قصيدة صـفـحـة تـشـكـل مـحـور 50 طــويــلــة فـــي نــحــو اإليقاع لهذه الكتلة، يفكك فيها الشاعر اسم فلسطني ويحول حروفه ألوتار رنانة: «فاء... فـلـسـطـ ، الم... ألن املــســافــة صــفــر، ســـ ... السفاح املسكني، طـــاء... طبعا مع الوحوش أفـضـل جـــدًا، يـــاء... يـا ليل القمر فلسطيني، نون... نحيا سيرة مقاوم». بينما تبدو الذات الشعرية كأنها طفل يقف وسط الخراب على عتبة اللغة والكالم يعيد تهجئة االسـم، كأن االسم نفسه بمثابة مفتاح للولوج إلى العالم املحيط، ومعرفة خباياه وأسراره، ويتم ذلك في وحدات شعرية تلعب على جدل االتصال/ االنفصال، لتشكل من خالله ضفيرة شعرية يـتـواشـج فيها الـحـدث الــدامــي املتناثر على األرض، وما يتركه على عني النص والقارئ من ذبذبة بصرية نازفة أيضا. يــقــول الــشــاعــر فـــي الــنــص األول «نــاقــد في شرفة الطابق العاشر»، مستدعيا اآلخر الـضـد، فـي حـــوار ضمني أحــــادي، تعلو فيه نبرة االستعالء وادعــاء الحكمة، كما يسخر مــن فـكـر مــا بـعـد الــحــداثــة بـاعـتـبـاره أسلوبا يــــنــــطــــوي عــــلــــى الـــتـــشـــكـــيـــك فـــــي الــــتــــصــــورات والرؤى واألفكار الراسخة، فال ثقة في العقل والحقيقة والهوية واملوضوعية كقيم محفزة عـــلـــى الـــتـــقـــدم وبــــنــــاء املــســتــقــبــل، فــــي مـقـابـل الــتــرســيــخ لــفــكــرة «الـــتـــشـــيـــؤ» مـــعـــيـــارًا لـعـالـم جديد مصطنع ينهض على منطق السطوة والـــقـــوة والـــنـــفـــوذ، وهـــو املـنـطـق نـفـسـه الـــذي يحكم عقلية العدو الغاصب في هذه الحرب، َنلمس ذلك في مقتطف من هذا النص يقول: أحذرك جلوسُك على الرصيف ال يعطيك الحق أن ترى الحرب ال أحد هنا يتحدث عن القتل املنظم أو القتل العشوائي ال أحــد يتكلم عـن اإلبـــادة وهـــدم البيوت على رؤوس ساكنيها ال أحد يلتفت إلى األطفال املقتولني واألطفال املمزقني واألطفال التائهني تحت األنقاض ال أحد ال أحــــد مـــن فـريـقـنـا يـلـتـفـت إلــــى تــلــك األمــــور املعقدة تفهمني طبعًا، اغسل يديك من أوحال السياسة لو سمحت وابتعد عن العشوائيات والباعة املتجولني في املترو ومولد الحسني. ال يهمني أن تكون غير مرئي لكن ليس من شأنك أن ترى الطفلة امليتة من الجوع، أو الطفل املقتول واسمُه مكتوب على جبهته، ألن املوت يُنسي كثيرًا أو الطفل الذي يكتب اسم عائلته على كفه قبل أن ينام أو الطفل الـذي يقول ألمـه: أنـا خائف يا أمي، رغم موته منذ َساعتني ليس من شأنك أنت مجرد شاعر في صحراء ما بعد الحداثة عيناك ال تتعدى أوهامَك الصغيرة وخيالك ال يتجاوز باب بيتكم». جمال القصاص النص الكامل على الموقع األكتروني

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==