issue16750

ً ما الذي يجذبُ كاتباً روائياً مكرّسا للإبداع الأدبي للإقامة الدائمية في معهد أراده مؤسسوه أن يكون مركزاً بحثياً لدراسات التعقيد والنظم المعقدة؟ الثقافة CULTURE 20 Issue 16750 - العدد Monday - 2024/10/7 الاثنين رواية عن الديمقراطية التي تتحول إلى ديكتاتورية تصدر قريباً عن دار «نوفل - هاشيت أنـطـوان» روايــة «أبجدية الصمت» للكاتبة والــصــحــافــيــة الــفــرنــســيــة مـــن أصــــل إيـــرانـــي دلفين مينوي. وكتب الناشر عن الرواية أنها «روايـة ذكـــيـــة وواقـــعـــيـــة وغـــنـــيـــة بـــالمـــعـــلـــومـــات». و تذكّرنا مينوي بأن الديمقراطية قد تتحوّل بسهولة إلـــى «ديـمـقـراطـيـة اسـتـبـداديـة، ثم إلـى ديكتاتورية؛ وأن الحرية التي نعدّها أمــــراً مــفــروغــ مــنــه، لا يـلـزمـهـا الـكـثـيـر لكي تصبح فجأة نواة معركة!». الـــشـــخـــصـــيـــة الـــرئـــيـــســـيـــة فــــي الــــروايــــة «غــــوكــــتــــاي» ذلــــــك الــــــــزوج المُـــــحـــــبّ والــــوالــــد الحنون والأكاديمي المولع باللّغة والتّاريخ، أُلقي في السّجن، ليس لأنه اقترف جنحة أو جريمة، ولـكـن فقط لأنّـــه تـجـرّأ على توقيع عـريـضـة تُـطـالـب بـعـدم قـتـل مـدنـيّـ بسبب انتمائهم العرقي. «آيـــــا»، الـــزوجـــة، وهـــي أيــضــ أســتــاذة جامعية، هي الصوت الذي تستعيره مينوي صفحة، من 240 فـي الــروايــة، التي تقع فـي أجل تحليل ما آلت إليه الأوضاع السياسية في إسطنبول، ولتشيد عبرها بتلك الرغبة المتأصلة في نفوس المعلمين، الذين يؤمنون بأن للكلمات قدرة على إضاءة العالم. ولــكــن كـيـف تـخـبـر الأم «آيـــــا» ابنتها بــــأنّ والـــدهـــا فــي الــسّــجــن؟ كـيـف تُـفـسّـر لها أنّـــه اعـتُـقـل فقط لأنّـــه وقّـــع على عريضة كلّ مـا تُـطـالـب بـه هـو عــدم قتل مـدنـيّـ بسبب انتمائهم العرقي؟ «إنّـــه فـي الـسّـجـن... السّجن هـو المكان الـــــذي يـــوضـــع فــيــه الأشــــخــــاص الـــلّـــطـــفـــاء... الذين يُتّهمون بأنّهم أشـرار، ويُمنعون من الخروج منه». تتحدّث مينوي عن مواطنين صودرت أصـواتـهـم فـرسـمـوا طريقهم نحو الـحـريّـة. وتتحدّث عن الحبّ أيضًا: «ذلك الذي يربطكَ بــــــأرضٍ الــعــيــش فـيـهـا مـسـتـحـيـل والـعـيـش خارجها أكثر استحالة. وذلـك الـذي يجمع بــ زوجـــ فرّقتهما سلطة بـلـدٍ سيظلن يـــحـــاربـــان مـــن أجـــلـــه حـــتّـــى آخــــر رمـــــق. ففي قضايا الحقّ، التّنازلات ممنوعة. قد تتمكّن السّلطات من إسكات المعارضين، لكن كيف عساها تخفض دويّ معاركهم الصامتة». ودلــــفــــ مـــيـــنـــوي كـــاتـــبـــة وصــحــافــيّــة فــرنــســيّــة مـــن أصــــل إيـــرانـــي حـــائـــزة جــوائــز عـــدّة، مـارسـت مهنتها لـسـنـوات مـن إيـــران، ثـــمّ بـــيـــروت، والـــقـــاهـــرة، قـبـل أن تنتقل إلـى إســـطـــنـــبـــول حـــيـــث تـــعـــمـــل الـــــيـــــوم مـــراســـلـــةً خـاصّـة لصحيفة «لــو فـيـغـارو» الفرنسيّة. فـــي رصــيــدهــا الـكـثـيـر مـــن الــكــتــب، بعضها تُرجم إلـى أكثر من ثلثين لغة من ضمنها العربيّة. بيروت: «الشرق الأوسط» محمد المكي إبراهيم... شاعر قصيدته الوطن فـجـع الـــســـودان فــي سبتمبر (أيـــلـــول) المــاضــي، برحيل شاعر «أمّتي» محمد المكي إبراهيم. وبرحيله تـصـدق مــــرارةُ الـفـقـد، كما وصفها الفقيد فـي رثائه لأســـتـــاذه الــشــاعــر الـكـبـيـر مـحـمـد المـــهـــدي المـــجـــذوب: «برحيلك ينفصل الجمر عن صندل الشعر»! تزامن ميلد إبراهيم الفني مع انتفاضة أكتوبر ، بــإســقــاط الـــســـودانـــيـــ أول 1964 ) (تــشــريــن الأول نظام عسكري حكم البلد... هنا برز الشاعر محمد المكي إبراهيم بقصائد جديدة امتازت بتفرّدها عما سـبـقـهـا مـــن قـصـائـد شـــعـــراء كـــانـــوا أســــرى لـديـبـاجـة الـشـعـر الــعــربــي فـــي شـكـلـه الـــعـــمـــودي. نـعـطـي مـثـالاً للحداثيين داخل إطار عمود الشعر؛ التجاني يوسف بــشــيــر، وأحـــمـــد مـحـمـد صـــالـــح، ويـــوســـف مصطفى التني، ومحمد أحمد محجوب، ومحمد عبد القادر كرف، وآخرين. فـــي تــلــك الـــفـــتـــرة، أصـــــدر مـحـمـد المـــكـــي إبــراهــيــم ديــــوان «أمّـــتـــي» - بـــاكـــورة دواويـــنـــه الـشـعـريـة، وضــمّ قـصـائـد مـثـل «قــطــار الــغــرب» - تـلـك الــبــانــورامــا التي حملت النفس الملحمي، بمزجها بين أطياف الماضي والــحــاضــر، وحــــوار الـــتـــراث مــع الــحــداثــة داخـــل غـرف قـــطـــارٍ شــائــخ يــتــلــوى كـالـثـعـبـان بـــ عــاصــمــة إقـلـيـم كردفان في الغرب، والخرطوم عاصمة البلد: ها نحن تركنا عاصمةَ الإقليمِ دخلْنا وادي الصّبرْ ْكلّ الأشياءِ هنا لا لمعةَ تعلوها كلّ الأشياءِ لها ألوانُ القبر الصبرُ... الصبرُ... الصبرْ! وكـــــتـــــب المــــــكّــــــي «قــــــطــــــار الـــــــغـــــــرب» وهـــــــو طـــالـــب بمدرسة خورطقت الثانوية. وعلى الرغم من جودة هــــذه الــقــصــيــدة لـــشـــاب فـــي ذاك الــعــمــر الـــبـــاكـــر، فـــإنّ «الأكتوبريات» وما تلتها من قصائد كانت خطواتٍ متقدّمة في بناء الصورة وتركيب الجملة الشعرية. ويـــبـــدو ذلـــك جـلـيـ فـــي خـاتـمـة قـصـيـدتـه «إصـــبـــع في ِالشمس»: ْلأنّ بنا مداراتِ الشموس بوعينا تحيا خلايا الدهر والأشياء لأنّ تنصّلاً خلف وجودِنا الواعي يفجّر عبر وجداناتنا نبْعَ الحياةِ ومجدَها الأبدي بهذا الوعي أقبلُ ما بأيديكم وأنذرُ أن أعيشَ مع وضدّ وداخلَ الآخر! فــي ديـــوانـــه «أمـــتـــي» نـــرى تـــوق الــشــاعــر للوعي والحرية. فقد اكتظّ قاموسه الشعري بمفردات تفصح عن خروجه من النمطي والمألوف، مثل أن يشتقّ من الاسم فعلً: «تيَنْبع الجفاف»، و«تشيّأتُ دهراً»، أو أن يقدم اعـتـذاره عن سنوات النزق والتمرّد التي هجر فيها دراســــة الــقــانــون لـعـام كـامـل أو أكــثــر، متسكعاً وعاملً في ألمانيا ومعه صديق عمره الشاعر النور عثمان ابكر. كتب في هذه الفترة أكثر قصائده توجعاً على أمته التي تلهث في ذيل قطار التمديُن. نرى ذلك في رسائله الشعرية لشقيقته آمنة إبراهيم «أمـان»، وفــي قصيدته «الــشــرف الــجــديــدة»، الـتـي يـقـدّم فيها اعـــتـــذاره عــن رحـلـة الـبـحـث والاسـتـكـشـاف فــي العالم الجديد بعيداً عنهم: َسأعود لا إبلاً وسقْتُ ولا بكفيّ الحصيد روائعا ْمدّوا بساط الحبّ واغتفروا الذنوب وباركوا هذي الشهور الضائعه ما زال سقفُ أبي يظِلّ ولم تزلْ أحضانُ أمّي رحبةَ المثوَى مطيّبةَ الجنابْ! إن القارئ لأشعار المكي في مرحلة النضج يلمس الـفـارق في المـفـردة والـصـور الشعرية... بل والتحوّل الكبير في تناول موضوعاته، واعتداده بهويته التي بــرز بـاكـراً فـي طــرح تـيـار «الـغـابـة والــصــحــراء» الـذي تــصــدّره صديقه الـشـاعـر الـنـور عثمان ابـكـر، والــذي يرى أنّ هوية الأمة السودانية هي المزيج بين العروبة ِوالأفريقانية - بين صحراء العرب وغابات أفريقيا: اسمك الظافرُ ينمو في ضمير الشعب إيماناً وبُشْرى وعلى الغابةِ والصحراءِ يمتد وشاحا وبأيدينا توّهجْتَ ضياءً وسلاحا إن قـــصـــائـــد المـــكـــي فــــي مـــرحـــلـــة الـــنـــضـــج هــــذه، خـــصـــوصـــ فــــي مـــجـــمـــوعـــاتـــه: «بـــعـــض الـــرحـــيـــق أنـــا والبرتقالة أنـــت»، و«يختبئ البستان فـي الـــوردة»، و«لا خِـــبـــاء لــلــعــامــريّــة» تـــمـــزجُ الـــفـــكـــرةُ بــالــحــلــم، في ْغنائية عذبة وبعيدة عن هتافية الشباب: ْيا وردةً باللّونِ مسقيّه يا مجدولةً من شعر أغنيّه ْيا مملوءة الساقِْ أطفالاً خلاسيين ْيا بعضَ عربيه وبعضَ زنجيّه وبعضَ أقوالي أمام اللهْ! أو أن يـــســـتـــخـــدم مـــــفـــــردة مــــصــــدرهــــا ثــقــافــتــه الصوفية، فهو سليل أسـرة عريقة في التصوف من ناحية أمـه - أســرة الشيخ إسماعيل الـولـي - منشئ الـــطـــريـــقـــة الـــوحـــيـــدة المـــســـتـــمـــدّة مــــن تــــــراث الــــســــودان الصوفي: هُزّي إليكِ بجذعِ النخلِ ْواغتسلي من حزنِ ماضيكِ... في الرؤيا وفي الإصْرار هزّي إليك بأبراجِ القلاعِ تفيق! ويــــبــــدو أثــــــر الــــتــــصــــوّف كــــــــأروع مــــا يــــكــــون فـي قـــصـــيـــدتـــه «مـــديـــنـــتـــك الــــهــــدى والــــــنــــــور»، إذ حـفـلـت القصيدة بروحانيةٍ ربما لم نرَ مثلها إلا في أشعار سلطان العاشقين ابن الفارض، وقلة من أئمة شعر التصوف... إذ يناجي سيد المرسلين وقـد حـلّ زائـراً بـمـديـنـتـه المــــنــــوّرة، مــتــوســاً إلـــيـــه طــالــبــ الـشـفـاعـة. الـبـون شـاسـع بـ الفتى المـتـمـرد الأول فـي «الـشـرف الجديدة»، وعمر النضج الذي عبّ من تجارب الحياة ما أشبع وجدانه بنور الحكمة: ْمدينتُك الحديقةُ يا رسولَ الله ّكلّ حدائقِ الدّنيا أقلّ وسامةً وحضور هنالك للهواءِ أريجُه النبوي موصولاً بأنفاسِ السماءِ وكأسِها الكافورْ نـــود فــي خـاتـمـة هـــذه الـــقـــراءة أن نــصــوّب خطأً شـائـعـ . فـقـد درج بـعـض محبي الـشـاعـر أن يـنـادوه بــلــقــب «ود المـــــكـــــي». إنّ اســـــم «مـــحـــمـــد المــــكــــي» اســـم مركّب، كما جرت العادة عند أتباع ومريدي الشيخ إسماعيل الـولـي. يقرنون الاســم الأول بأحد أسماء أبناء أو حفدة منشئ الطريقة - إسماعيل بن عبد الله الكردفاني، كما كـان يـوقّـع اسمه فـي مؤلفاته. وفي حي القبة بالأبيّض حيث ضريح الشيخ إسماعيل، قلما يخلو بيت من اسم مركب مثل: محمد الباهي، ومـــحـــمـــد المــــكــــي، ومـــصـــطـــفـــى الــــبــــكــــري، والـــحـــنـــفـــي، والأزهري! وأخـــيـــراً... بـرحـيـل محمد المـكـي إبــراهــيــم تفقد قـصـيـدة الــحــداثــة بـيـت شـعـر ضـخـمـ . ويـفـقـد شعب السودان صوتاً طالما صدح بأجمل وأنبل القصائد في الاعتداد بأمته وأمجادها وتراثها. فضيليجمّاع ًمحمد المكي إبراهيم بساطة عميقة تُنتِجُ تعقيداً مدهشا التداخل العضوي بين العلم والأدب كنتُ تناولتُ في موضوع سابق نُشِر في ثقافية «الـشـرق الأوســـط» التعليق على روايـتـ مترابطتين ببعضهما، نُشِرتا للكاتب الأميركي الراحل كورماك مـاكّـارثـي قبل وفـاتـه بقليل. قـدّمـتُ فـي ذلــك الموضوع تلخيصاً سريعاً لحياة ماكارثي وشغفه الفكري الذي كان أحـدَ تمثّلته هو تبرّعه بمبلغ ربع مليون دولار الأميركي - الذي Santa Fe Institute لمعهد سانتا في » -، وظـــلّ مقيماً فيه كعضو SFI« يـشـارُ لـه اخـتـصـاراً دائـــمـــي حـتـى وفـــاتـــه فـــي يـونـيـو (حــــزيــــران) مـــن الـعـام ). تساءلت حينها: ما الذي يجذبُ كاتباً 2023( الماضي روائــيــ مـكـرّسـ لــإبــداع الأدبــــي لـإقـامـة الـدائـمـيـة في معهد أراده مؤسسوه أن يكون مركزاً بحثياً لدراسات Complex والـــنـــظـــم المـــعـــقـــدة Complexity الــتــعــقــيــد . يمكن للمرء أن يقول بثقة كاملة إنّ تجربة Systems ماكارثي شاهدة إضافية على التداخل العضوي بين العلم والأدب وسائر المناشط الإنسانية. على المستوى الشخصي دفعتني تـجـربـة مـاكـارثـي لــاســتــزادة في دراسـة تجربة معهد «سانتا في» المميزة، فعرفت أنّه مؤسسة بحثية لها منصة تعليمية تنشر باستمرار وانتظام فيديوهات تعليمية وكتباً تختصّ بدراسة ظـاهـرة التعقيد والـنـظـم التكيفية المـعـقـدة، وتختصّ بطيف واسع من الموضوعات المشتبكة في الرياضيات والفيزياء وعلوم الحاسوب والبيولوجيا والاقتصاد والسياسة والبيئة. إنها منصّة ثمينة متاحة للجميع، وأظـنـهـا سـتـكـون تـجـربـة فــي غــايــة المـتـعـة والــفــائــدة - وأتمنّاها تتحقق لأكبر عدد ممكن - لو حاولنا ولوج هذه المنصّة وتحصّلَ الفائدة من موادها المتاحة. ربما تكون لعبة الشطرنج مثالاً أفضل من سواه لتمثيل فكرة التعقيد. لوحة الشطرنج ثابتة من حيث موضعة القطع عند لحظة الشروع باللعب، وقواعد الشطرنج بسيطة للغاية؛ لكنّما احتمالات تحريك القطع والحصول على مواضع متباينة للقطع كبيرة للغاية. ربما المثال الآخر هو مكتبة بابل البورخسية التي هي في النهاية تمثّلٌ للكون وإمكانات تطوّره اللنهائية؛ لذا قيل إنّ بورخس أراد بمكتبته أن تكون كـنـايـة عـــن الـــكـــون: بـاثـنـ وعــشــريــن حــرفــ فـقـط مع نقطة وفارزة وفاصلة يمكن الحصول على ترتيبات مختلفة هائلة الأعداد (تدرسها الرياضيات في الفرع ). من الطبيعي والبديهي أن Combinatorics المسمّى نتساءل: كيف تقود تلك المــواد الأولية المـحـدودة في العدد إلى تشكّلت شديدة التعقيد (بمعنى مساءلة مـيـكـانـيـكـيـات الــتــشــكّــل)؟ والأكـــثـــر أهــمــيــة هــــو: كيف تقود التشكّلت المعقّدة إلى نشوء خـواص انبثاقية متمايزة نوعياً عن الأطوار السابقة. مثالُ Emergent التي هي خاصية consciousness ذلك: ظاهرة الوعي انبثاقية لتعقيد الدماغ البشري. اللغة هي خاصية انبثاقية أخـــرى للتعقيد الـدمـاغـي كما يــرى بحّاثة كثيرون. ***** - 1929( Murray Gell - mann مـــــوراي غـيـلـمـان ) هـو أحـد الآبـــاء المؤسسين لمعهد «سانتا فـي»، 2019 وتجربته العلمية والبحثية والفكرية تستحقّ دراسة معمّقة. يُعرَفُ عن غيلمان حصولُهُ على جائزة نوبل لمساهمته في اكتشاف الجسيم 1969 في الفيزياء عام ؛ وبــــذا فـهـو أحـــد كـبـار Quark الأوّلـــــي المــســمّــى كـــــوارك الفيزيائيين الـذيـن عملوا فـي البحث عـن الجسيمات الأساسية المشكّلة للكون. ثمة حقيقة يمكن حدسها عـنـد كـــلّ المشتغلين بـالـفـيـزيـاء الأســاســيــة تـتـمـثـلُ في أنّـهـم مشغوفون دومــ بظاهرة التعقيد مثل شغفهم بـــالـــقـــوانـــ الأســـاســـيـــة الـــتـــي تــحــكــمُ الـــعـــالـــم الـصـغـيـر على Macrocosmos والــعــالــم الـكـبـيـر Microcosmos مـسـتـوى الــكــون والـــفـــرد مــعــ . ثــم إنــهــم يـمـيـلـون كذلك بـدلاً من الاكتفاء Big Picture لرؤية الصورة الشاملة بالصورة المجتزئة. كتاب 2023 نشر «معهد سانتا فـي» أواخـــر عـام المؤسس الراحل غيلمان الذي اختار له عنوان «الكوارك والــنــمـــر»، مـــع عــنــوان ثـــانـــوي: مــغــامــرات فـــي البسيط والمعقّد. تأسرني الكتب التي تضمّ عناوينها مفردة «المغامرة». أليست حياتنا سلسلة مغامرات تتفاوت في الكم والنوع؟ نحن جميعاً نتشارك مغامرة العيش حتى من لم يشأ أن يجعل حياته مغامرة وفضّل عليها عيشاً مستكيناً ومرتهناً بشروط اللحظة الراهنة. يـؤكّـدُ المـؤلـف فـي مقدّمته للكتاب أنّ كتابه هذا لـيـس بـالـسـيـرة الــذاتــيــة، رغـــم أنّــــه يــضــمّ حــكــايــات من طـفـولـتـه وإشـــــارات إلـــى مجايليه فــي مـنـاشـط علمية مختلفة، كما أنّ الكتاب ليس حكاية تفصيلية لكيفية بلوغه اكتشافه المثير للجسيم الأســاســي (الــكــوارك) رغم أنّه يتناول حكاية المسعى البشري لمعرفة القوانين الأســــاســــيــــة والـــعـــنـــاصـــر الأســــاســــيــــة المــــكــــوّنــــة لــلــكــون والكائنات البيولوجية. وضــع المـؤلـف كتابه فـي أربـعـة أجــــزاء. فـي بداية الجزء الأوّل منها قدّم وصفاً للتجارب الشخصية التي قادته لكتابة كتابه هذا: «... كـنـتُ أمـضـي سـاعـات وســاعــات فـي جـــولات المشي الطويلة فـي الـغـابـات الاستوائية وأنــا أدرسُ الطيور وأنشغلُ بـالـخـطـط المـمـكـنـة لـلـحـفـاظ عـلـى الـطـبـيـعـة، وحـيـنـهـا أصـبـحـتُ مــأســوراً بـفـكـرة مـشـاركـة الـــقـــرّاء بـــــالإدراك المـتـنـامـي لـلـروابـط الجوهرية بين القوانين الأساسية للفيزياء والعالم الــذي نراه حولنا.....» ثــم يمضي فــي الـكـشـف عــن أصـــل تسمية عـنـوان كتابه: Arthur «... عندما قــرأتْ لي زوجتي قصيدة آرثـر زي الـتـي أشـــار فيها إلــى الــكــوارك والـنـمـر أصابتني صدمة Sze مباشرة للكيفية التي تمكّن فيها الشاعر من توظيفصورتين شعريتين تتماهيان تماماً مع موضوعي. الكواركات من جانب هي العناصر البنائية الأساسية لكلّ المـادة في الكون (ومنها أجسادنا)..... والنمور من جانب آخر هي الرمز القديم للقوة والسلطة، وهـي وإن كانت كتلة من مليارات الـكـواركـات؛ لكن أي كتلة عجيبة هي! إنها نتاجُ مليارات السنوات من التطوّر البيولوجي...». كلّ كتابٍ يختصّ بظاهرة التعقيد من الطبيعي أن نتوقّع في موضوعاته التنوّع والتوزّع على طيف بـحـثـي شــاســع يـتـخـالـف مــع قــراءاتــنــا الكلسيكية؛ لـذا يتوجب أن نكيّف بـدورنـا ذائقتنا المعرفية لهذا الــلــون مــن الـبـحـث الاسـتـكـشـافـي. يـخـصّـص غيلمان الجزء الأوّل من كتابه لدراسة العلقات بين المفاهيم المتعددة للبساطة والتعقيد والنظم التكيفية المعقدة في مجالات متعددة: طفل يتعلّم لغة، بكتريا تطوّرُ مـقـاومـة لــنــوع مــعــّ مــن المـــضـــادات الـحـيـويـة، يــفــرِدُ المؤلف حيزاً مهمّاً من هذا الفصل لدراسة الإشكاليات في Reductionism الــخــاصــة بــالمــقــاربــة الاخــتــزالــيــة دراسة النظم المعقدة. الجزء الثاني يتناول القوانين الأســـاســـيـــة لــلــفــيــزيــاء والـــتـــي تــحــكــم كــــاً مـــن الــكــون والـجـسـيـمـات الأســاســيــة. هـنـا يظهر الـــكـــوارك لاعباً أساسياً في الكتاب. الجزء الثالث يتناول تنويعات (جـــوانـــب) مـــحـــدّدة مــن الـنـظـم التكيفية المــعــقــدة؛ أمـا Diversity الجزء الرابع فيتناول موضوعات التنوّع . يشير المؤلف إلى إمكانية Sustainability والاستدامة إســـقـــاط بــعــض الأجـــــــزاء المـكـتـنـفـة بـتـفـاصـيـل تقنية غير معهودة لمعظم الـقـرّاء (مثل الأســس المفاهيمية لميكانيك الكم)؛ لكني أرى من الأفضل تعويد النفس على قراءات جديدة وعدم المكوث في فضاء القراءات السهلة المتسمة بالمتون المكرّرة والمفاهيم المستعادة من غير تطوير مفاهيمي حقيقي وصارم. يشير المؤلف إلى ملحظة غاية في الأهمية حول نمط التفكير العابر للمباحث الضيقة؛ فيكتب بهذا الشأن: «... النجاح في إحداث تلك الانتقالة (نحو الفكر العابر للتخصصات) يقترن في العادة مع نمط محدّد للتفكير. قدّم ) تمييزاً (صـار Von Schilling الفيلسوف (فــون شيلينغ Apollonians شـهـيـراً بــواســطــة نـيـتـشـه) بـــ الأبـولـيـنـيـ (الذين يفضّلون المنطق والمقاربة التحليلية وعـدم الارتكان الـذيـن يميلون Dionysians إلــى الـشـواهـد) والديونيسيين تجاه الحدس والتركيب والشغف الفكري، لكن ثمّة من هو بيننا ويـبـدو أنّـــه ينتمي لطائفة ثالثة أرغـــب فـي توصيفها الــــذيــــن يـــتـــشـــاركـــون صــفــات Odyssians بـــالأوديـــســـيـــ الأبولينيين والديونيسيين معاً. مثل هؤلاء يشعرون بوحدة طاغية وبالعزلة في المؤسسات التعليمية والبحثية الشائعة في العالم؛ لكنهم يجدون في (معهد سانتا في) بيئة ملائمة لمشاربهم الفكرية وشغفهم البحثي». ***** أعترف بأنّ كتاب غيلمان قراءة شاقة غير سائدة في أوساطنا؛ لكنّ المتعة على قـدر المشقة، والأفضل أن نـــتـــذكّـــر دومـــــ أنّ الــشــغــف كــفــيــل بــتــذلــيــل الـكـثـيـر مـن المـشـقـات الـخـاصـة بــالــقــراءات المخالفة لـلـقـراءات الـسـائـدة. مـن المفيد دومـــ أن نـجـرّب مــغــادرة منطقة الخاصة بقراءاتنا الكلسيكية. Comfort Zone الراحة لـنـجـرّبْ فـي الأقـــل؛ فـــربّ عـالـم خفي مكتنفٍ بأنماط غير معهودة من الدهشة ينفتح أمامنا مثلما انفتح لكورماك ماكّارثي قبلنا. لطفية الدليمي

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky