issue16749

الثقافة CULTURE 17 Issue 16749 - العدد Sunday - 2024/10/6 األحد دانيال دينيكوال في محاولة لفهمه الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة ســــرد الــفــيــلــســوف الــيــونــانــي أفـــاطـــون فــــي كـــتـــابـــه «الـــجـــمـــهـــوريّـــة» حـــكـــايـــة الـكـهـف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة األكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الـفـلـسـفـة. وفــــي الــحــكــايــة، فــــإن الــجــهــل مثل مـجـمـوعـة مـــن الـبـشـر تـقـطـن فـــي ظـــام كهف تـحـت األرض، مـقـيـدة مــن الـسـاقـن والـرقـبـة حــتــى تــتــعــذر عـلـيـهـم الـــحـــركـــة حــتــى إلدارة رؤوســــهــــم، وال تــتــوفــر لــديــهــم ذاكـــــرة أخـــرى للحياة؛ ألنـهـم سُــجـنـوا بـهـذه الطريقة منذ الــطــفــولــة. أمـــامـــهـــم، ال يـــــرون ســــوى الــظــال املتحركة الـتـي تُلقيها أشـيـاء غير معروفة لهم، مضاءة بنار متراقصة يخبرنا أفلطون أنـــهـــا تــقــع فـــي مـــكـــان مـــا خـلـفـهـم ال يمكنهم رؤيــتــه. هـــذه املـجـمـوعـة مــن الـبـشـر التعساء ال تــعــرف شـيـئـا عـــن هــــذا الــعــالــم ســــوى تلك الظلل، وال تسمع سوى أصـداء من أصوات الحراس، الذين لم يسبق لهم أن رأوهـم قط. وعلى هذه الحال يقضون أيامهم. «الجهل» في هذا التمثيل املــروّع ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مـأزق شديد ومـــحـــنـــة تــــامــــة عــــدّهــــا أفـــــاطـــــون أســـــــوأ مـن الـسـجـن، وأبـشـع مـن الـعـبـوديـة، وأقـــرب إلى املـــــوت، فــيــقــول، مـسـتـعـيـرًا مـــن «األوديـــســـة» لهوميروس عند إشـارتـه إلـى املـوتـى الذين يقطنون في جحيم اآلخـرة، حيث يظل «من األفــضــل أن تــكــون خــادمــا مـتـواضـعـا لسيد فقير، وأن تتحمل أي شيء في هذه الدنيا، بدال من أن تعيش وترى ما يـرون». وبينما نتأمل هذا املـأزق األفلطوني املحكم، ندرك أن غياب الحريّة - وفـي الـصـورة هنا حجز الــحــركــة الــجــســديّــة - يـحـصـر عـــالـــم تـجـربـة الـــبـــشـــر فــــي لُـــجـــة الـــجـــهـــل الـــعـــمـــيـــق، ويـمـنـع عــنــهــم خـــــوض تــــجــــارب جــــديــــدة تــتــيــح لـهـم الــتــعــلــم وتـــفـــتـــح أمـــامـــهـــم آفــــاقــــا مـــغـــايـــرة ملـا عــــهــــدوه، فــيــعــجــزون عـــن فــهــم األشــــيــــاء، أو االنـــشـــغـــال بـــأمـــور ذات قــيــمــة، أو تــــذوق أي قــيــمــة مـــن قــيــم الـــجـــمـــال. إن الــجــهــل يــبــدو، وفـق أفـاطـون، وكأنه نتاج العجز، على أن الجهلة، في حكايته، ال يدركون وال يمكنهم أن يستوعبوا طبيعة محنتهم الـتـي فيها يــــرزحــــون، إذ ســيــؤمــنــون فـــي كـــل وقــــت بــأن الحقيقة ليست سوى تلك الظلل املتراقصة أمامهم على جدار الكهف، وستكون تجارب حياتهم مزيجا من خياالت مختلطة برجع صدى أصوات حرّاسهم. كـهـف أفــاطــون بالطبع مـحـض خـيـال، وســــرعــــان مــــا يــشــعــر قــــــارئ «الـــجـــمـــهـــوريّـــة» بـاالمـتـنـان، لـبُــعـدنـا عــن ذلـــك املــكــان القاسي والخانق بسجنائه املساكي، لكن بعد ذلك، وبشكل مرتجل تقريبا، يأتي بيان أفلطون الـــــصـــــارخ واملــــخــــيــــف: «إنــــهــــم مـــثـــلـــنـــا، وتــلــك صورتنا». ومن هذه النقطة تحديدًا ينطلق دانــيــال ديـنـيـكـوال، أسـتـاذ الفلسفة فـي كلية جيتيسبيرغ بـواليـة بنسلفانيا، فـي كتابه الـصـادر عن مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ «فهم للجهل: التأثير الصادم ملا قد ال نعرفه*»، في رحلة الكتشاف أبعاد بحر الجهل، والتدليل على أنّه أبعد ما يكون عن مجرّد نقص في املعرفة. يـأتـي هـــذا الـكـتـاب فــي وقـــت مــن تـاريـخ العالم يُعرَف بعصر املعلومات، حيث لم تعد املعارف نخبوية الطابع بعيدة عن متناول األكـثـريـة، كما ظلّت عبر آالف السني، ومع ذلـــــك يـــــرى ديـــنـــيـــكـــوال أنـــنـــا قــــد ال نـــكـــون فـي كثير من األحايي على درايـة كافية، ناهيك عــن تفشي املــعــارف الـخـاطـئـة، واالعــتــقــادات الـبـاطـلـة، والـتـعـامـي االخـــتـــيـــاريّ، واألخــبــار املزيفة. يـــبـــدو هــــدف ديــنــيــكــوال هــنــا أبـــعـــد من تقديم مطارحة فلسفيّة في األبستمولوجيا (علم املعرفة)، إذ يصرّ، في غالب الوقت على األقل، أن يُبقي الجدل قريبا من خبرة القارئ غير املتخصص، فيبدّد من أمامه املفاهيم الــخــاطــئــة الــشــائــعــة فـيـمـا يـتـعـلـق بـظـاهـرة الــجــهــل بــوصــفــه أكــثــر مـــن مــجــرد نــقــص أو غــــيــــاب لـــلـــمـــعـــلـــومـــات، بــــل نــــتــــاج تـــفـــاعـــات ديناميكية ومعقدة مـع املـعـرفـة، مستعيدًا الـــتـــمـــيـــيـــز - الـــشـــهـــيـــر اآلن بـــفـــضـــل خــطــاب لــدونــالــد رامـسـفـيـلـد (وزيـــــر دفــــاع الـرئـيـس األمريكي األسبق جورج دبليو بوش) - بي معلوم معلوم، ومجهول معلوم، ومجهول مجهول وكـذلـك معلوم مجهول، مستعينا باستعارات مجازية ملقاربة الجهل: بصفته مكانا، وحدودًا، وسدًّا، وتوجها. يمكن للجهل أن يصوّر أقرب ما يكون إلى مكان/ زمان نسكن فيه: كهف أفلطون - حيث الجهلة ال يدركون جهلهم ويركنون إلى اعتيادهم إياه ويعادون مَن قد يحاول لـفـت انـتـبـاهـهـم إلـــى مـــا ســــواه فيحسبونه مُهَرطِقا أو ضحية نظرية مـؤامـرة عليهم، مـــقـــابـــل فــــــــردوس «دانـــــتـــــي» مــــثــــاً، نـقـيـض الجحيم، حيث الجهل حالة سعادة يكتنفها انعدام للوعي. أيـــضـــا يـمـكـن تـــصـــوّر الــجــهــل بـوصـفـه حــــــــدودًا فـــاصـــلـــة تُــــوقــــف تــــمــــدد مــعــرفــتــنــا، ســـواء الـفـرديّــة أم الـجـمـاعـيّــة، لكن املساحة خارج تلك الحدود هائلة ومليئة بالوعود، والـــحـــدود نـفـسـهـا لـيـسـت نــهــائــيّــة، ويمكن دائــــمــــا تــحــريــكــهــا مــــن خـــــال الـــتـــعـــلّـــم، لـكـن املـسـافـة الـتـي يمكن لـبـشـري قطعها يوميا فـي استكشاف املـعـرفـة؛ دونـهـا سـقـوف، إذ لو قرأ املرء كتابا في كل يوم من حياته فإن ذلك يبقى أقل من مجموع الكتب التي تُنشر سنويا في الواليات املتحدة وحدها. يمكن فهم الجهل كـذلـك بوصفه سدًا نُشيّده باختيارنا عندما ننتخب أال نعرف شــيــئــا، العـــتـــقـــادنـــا أنّـــــه ال يـسـتـحـق تكلفة املـعـرفـة، أو ألنــه ال يتناسب مـع يقينياتنا األيديولوجيّة، أو دوافعنا السيكولوجيّة العميقة. وأخيرًا، تخلق هذه األماكن/ الحاالت الـــتـــي نــخــلــد إلـــيـــهـــا، والـــــحـــــدود الـــتـــي نـقـف أمامها، والـسـدود التي نختار تعليتها ما يمكن عــدُّه أفقا وتوجها ملقاربة اإلنـسـان - واملجتمع - أيضا علقته بالعالم. ومـــــــــع تــــوضــــيــــحــــه أشـــــــكـــــــال الــــجــــهــــل، يــســتــعــرض ديـــنـــيـــكـــوال عــــــددًا مــــن مــظــاهــره فــي مجتمعاتنا املــعــاصــرة، ويــطــرح أيضا تــنــاقــضــات أخــاقــيــة تـتـعـلـق بــــه، إذ بينما يجري التعامل مع تجريد الجهل على أنه شيء مريع ينبغي القضاء عليه، يرى أيضا أن بـنـاء الـثـقـة يتطلب أحـيـانـا تـقـبُّــل درجــة مـعـيـنـة مـــن الــجــهــل، ثـــم يــقــتــرح منهجيات مـمـكـنـة إلدارة جـهـلـنـا مـــن خـــال الـفـضـول، والـــســـعـــي لـــلـــمـــعـــرفـــة، وإلــــزامــــيــــة الــتــعــلــيــم، وتــوظــيــف عـــلـــوم اإلحـــصـــاء واالحـــتـــمـــاالت، وكـــذلـــك تـنـظـيـم الــعــاقــات االجــتــمــاعــيّــة من خـــــال الـــــوعـــــود، والــــعــــقــــود، واالتـــفـــاقـــيـــات، وااللتزامات املتبادلة. ولـعـل أثـمـن مـا ينتهي إلـيـه دينيكوال فـي محاولته هـذه القبض على الجهل هو تحذيره مـن الـهـدر على املستويي الفردي والجماعي املــازم للثقافة املجتمعية التي يــصــبــح فــيــهــا الـــجـــهـــل مـــكـــونـــا مــــن الــتــوجــه األيديولوجيّ، ومن ثم زعمه أن «االعتراف بإمكانية جهلنا - حيث قد ال نــدرك حدود فهمنا - هو باب الحكمة الذي وحده يفضي إلـى مجال معرفي يسمح لنا بـأن نـدَع عنّا املـــعـــارف الـخـاطـئـة، ونـقـلـل مـسـاحـة جهلنا الــعــنــيــد بـطـلـب املــــعــــارف؛ ولــــو بـتـعـب وألـــم يرافق عملية التعلم». دانيال دينيكوال يكتشف في كتابه «فهم للجهل: التأثير الصادم لما قد ال نعرفه» أبعاد بحر الجهل ندى حطيط الجهل ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفالطون أسوأ من السجن بقيت طي األدراج عقودا قبل أن يُفرَج عنها «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور تــعــرّف الـشـاعـر اللبناني وديـــع سـعـادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها ، بحسب 1968 الشاعر العراقي إلى لبنان سنة ما يروي، قاطعا الصحراء سيرًا على األقدام. صـــــارا صـــديـــقـــن، ال بـــل رفـــيـــقـــن، جمعتهما املقاهي والجلسات الشعرية والعائلية. وفي مــنــزل ســـعـــادة، فــي بــلــدة شـبـطـن اللبنانية، كتب بولص واحــدة من أجمل قصائده «آالم بـودلـيـر وصـــلـــتْ». لـكـن بـولـص سـيـغـادر إلـى ، وتصبح الرسائل 1971 الواليات املتحدة عام هــي صـلـة الــوصــل الــوحــيــدة بــن الـصـديـقـن، إضــــافــــة إلـــــى تـــلـــك الــــلــــقــــاءات الــــعــــابــــرة، الــتــي سـيـكـون آخـــرهـــا فـــي «مــهــرجــان لـــوديـــف» في ؛ أي قبل أن يرحل بولص عن 2007 فرنسا عام عاملنا بنحو شهر واحد. الرسائل التي تبادلها الشاعران، بقيت طـي األدراج إلــى أن أفـــرج وديـــع سـعـادة عما في حوزته منها، إضافة إلـى بعض ما كتب إلـى بولص وعنه، وصــدرت مؤخرًا عن «دار نلسن» فـي بــيــروت، فـي كـتـاب يحمل عنوان «رسائل وقصائد بي سركون بولص ووديع سـعـادة». هـي فـي أغلبها تلك الرسائل التي كـتـبـهـا بـــولـــص بــعــد وصـــولـــه إلــــى الـــواليـــات املــــتــــحــــدة، مــــبــــاشــــرة، وال يــــــزال قــلــبــه مـعـلـقـا بـــأصـــدقـــائـــه الــــذيــــن تـــركـــهـــم خـــلـــفـــه. فــــي هـــذه الرسائل يسأل بولص عن األصدقاء، يذكرهم واحــــدًا واحـــــدًا، ويـطـلـب مــن ســعــادة أن ينقل إليهم تحياته: «إلـــى أدونــيــس وجـــاد الحاج وريـــاض فـاخـوري وجــان دمــو واألب يوسف وخليل الخوري ودالل ونهى»؛ ذلـك أنـه «كل تـــذكُّـــرٍ، مــطــهّــر. األصـــدقـــاء الـبـعـيـدون ليسوا أشباحا أبدًا. بعض القريبي هنا، أشباح». إنــــهــــا الــــغــــربــــة الــــتــــي تــــتــــأكّــــل الـــشـــاعـــر وتـــشـــعـــره بــــاأللــــم. يـتـمـسـك بــالــشــعــر لــعــل به يـــكـــون الــــخــــاص، وهــــو بــالــفــعــل كـــذلـــك؛ لقد «ســاعــد الـشـعـر عـلـى إنـــقـــاذي كـثـيـرًا. مـنـذ أن وطئت هذه األرض األجنبية والشعر يلتهب فـــي بـاطـنـي لـــيـــوازن بـــن الـــبـــرد املــســمــوم في الخارج واليقظة العنيفة في الداخل». وتزيد من غربته اللغة، وصعوبة العثور على كتب ليصبح مستعدًا «أن أشـنـق أميركيا مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر، فأنا أقرأ ليل نهار هذه اللغة اللشعرية، بفضائلها التي ال تمسّني إطلقا: لغة البرد واألعصاب». الكتاب يضم في أغلبه رسائل بولص، فـي حـن أن رسـائـل سـعـادة بقيت فـي يـد من يمتلكون أرشيف الشاعر العراقي، وال ندري إن كـنـا سـنـصـل إلــيــهــا، وعـــوضـــا عـنـهـا نجد في املؤلّف تلك القصائد التي كتبها سعادة لصديقه، إضـافـة إلــى مرثيتي كتبهما فيه بــعــد وفــــاتــــه، ونـــبـــذة عـــن حـــيـــاة الــشــاعــريــن، وصورًا تجمعهما. يكتب وديـع سعادة أن «العلقة املتينة بـيـنـي وبــــن ســـركـــون بــولــص لـــم تــكــن عـاقـة صـداقـة، بـل علقة شعرية عميقة فـي فهمنا املشترك للشعر، بما هو ليس عملية كتابية فــحــســب، بـــل أســـلـــوب حـــيـــاة أيـــضـــا. لـــم يكن ســركــون شــاعــرًا فـقـط فــي الـكـتـابـة، بــل كذلك في أسلوب حياته. لم يكتب الشعر فحسب، بــل عـاشـه أيــضــا». ويـصـف الـنـاشـر سليمان بختي الكتاب بأنه «قطعة مـن حياة ربطت شــاعــريــن... ولـربـمـا آخــر مـا تصفّى مـن أدب التراسل على الورق بي الشعراء واألدباء». ويعتبر بختي في مقدمته أن الشاعرين من أركان جيل ما بعد مجلة «شعر» وروادها الــذيــن غـــيّـــروا وجـــه الـشـعـر الـعـربـي الـحـديـث وأسّــــســــوا قــصــيــدة الــنــثــر. وهـــمـــا مـــن الـجـيـل الـذي رسّــخ قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث. و«من خلل رسائل سركون بولص ) إلى وديع، أو من خلل الكلمات 2007-1944( والقصائد التي كتبها وديــع سـعـادة مهداة إليه، أو في وداعه ورثائه، نلمس مبلغ عمق الصداقة والهم الواحد والنظرة املشتركة إلى الــوجــود والـحـيـاة والــشــعــر». ويـشـيـد بختي بتلك الـشـفـافـيـة الــجــارحــة والــنــبــرة الـعـالـيـة، فيما يخطه بولص لصديقه. واحــــدة مــن املـسـائـل الـافـتـة الـتـي عــادة مــــا يــــعــــود إلـــيـــهـــا بــــولــــص فــــي رســـائـــلـــه هـي دور املـثـقـف، واسـتـقـالـيـتـه، وصــدقــه. يكتب لصديقه غاضبا، بعبارات متمردة: «ال تكن مثقفا يجمع أقنعة ويقرأ املشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج، أو لست أعرف من، أو كامو أو بودلير أو بــوذا أو الـشـيـطـان... وال تكن حتى أنـــت! وابـصـق على املثقف الغبي الـــذي يـحـاضـرك عـن (مـعـرفـة الـنـفـس) وباقي الخرق الثقافية األخرى». تدهشك هذه النزعة الطوباوية األخاذة، وهـو يريد للمثقف أال يكون شيئا آخـر غير «أنـــــــاه» املـــطـــهّـــرة مـــن كـــل مـــا حـــولـــهـــا، راغــبــا فــي الـتـخـفـف مــن األحـــمـــال. يكتب فــي إحــدى رسـائـلـه عــن غـضـب ال يستطيع أن يـقـاومـه، حي تخطر له «جميع األفكار الخاطئة التي تتسرب فـي وطننا وبــن مثقفينا عـن الفكر األوروبــــــــي وعــــن الــثــقــافــة األوروبـــــيـــــة، وذلـــك عـــن طـــريـــق مــجــمــوعــة مــــعــــدودة مـــن الــكــتــاب املسيطرين عـلـى املــجــات والــذيــن لـيـس لهم حق في ذلك». ويعتبر أن «الثقافة» هي «حلم يتغذّى عليه تلميذ الجامعة ذوو النظارات الطبية والـشـعـراء الـذيـن يعالجون (مسائل العصر) بجبي مقطب». أما الشيء الوحيد الذي يستحق املعالجة في رأيه فهو «أن تفتح فمك فجأة وأنت في الشارع ومن حولك طني الخلية اإلنسانية وتـقـذف مـن أحشائك ذلك البركان الذي هو أنت. وبعد ذلك تستطيع أن تقف ملدة نصف ساعة مراقبا بدهشة (أناك) املحترقة وهي تتسلق أكتاف البشر وتدخل أنوفهم الضائعة». أي ســـخـــط حـــمـــلـــه هـــــذا الــــشــــاعــــر؟ وأي عــبــثــيــة؟ وأي شـــعـــور عــمــيــق بــاملــســؤولــيــة؟ يـذكـرنـا مــا كـتـبـه بــولــص حـــول دور املـثـقـف، بـتـلـك املُـــثـــل ونـــبـــل املــــبــــادئ الـــتـــي ســـــادت في سبعينات القرن املاضي؛ إذ يقول عن واجب الــكــاتــب تــجــاه نـفـسـه أوالً، بـحـثـا عـــن الــنــور: «علينا أن نخترق هذا الدرع املميت؛ ثقب أو ثقبان ينبثق منهما الـضـوء ونـعـرف بيقي أن النهار هناك، إنه هناك! هذا ما حدث لي، ويمكنني القول إنني قد رأيت عدة ثقوب في ذلـك الــدرع، وعلى النور املتسرب منها أحيا اآلن». شيء من الصوفية، وكثير من الغضب، والرغبة في التغيير، واالنقلب على الذات. ومـــن جميل مــا نــقــرأه فــي الـرسـائـل هو حـديـثـه عــن مـشـاريـعـه األدبـــيـــة، وكـثـيـر منها ال أثــر لـهـا؛ روايـــة يكتبها بـعـنـوان «صـحـراء الـــعـــالـــم»، وتــحــضــيــره لــــدراســــة عـــن الـــروايـــة الحديثة، ومجموعة مـن القصص، ورسالة طويلة عن السياسة والفكر في أميركا لتنشر فــــي مــجــلــة «مــــــواقــــــف»، ومـــجـــمـــوعـــة شـعـريـة باإلنجليزية. فـــي الـــجـــزء الــثــانــي مـــن الــكــتــاب، عـوضـا عن رسائل وديع الضائعة، نقرأ قصائده في صديقه سركون، يقول في إحداها: ُأعطني رداءك يا سركون بردت أَدفئني قليال بترابك ويعتبر أن بولص «هو شاعر اللمكان، الــــذي عــبــر أمــكــنــة كــثــيــرة (الــــعــــراق، ولــبــنــان، والواليات املتحدة، وبريطانيا، وأملانيا...)، لــم يـكـن يعبر فــي الـجـغـرافـيـا. كـــان يعبر في ذاتـه، عموديا في األعماق، وفي الغور هناك يحاول هدم الحدود بي الحلم والواقع». وألن اللغة أصبحت وطـنـه االفتراضي الوحيد املتبقي؛ فقد «حفر فيها عميقا علّه يـجـد نـفـسـه». ويـتـحـدث ســعــادة عــن العلقة الـحـمـيـمـة بـــن ســـركـــون بــولــص وآالم شـــارل بودلير. «بـــودلـــيـــر الــــذي أبــحــر فـــي بـــاخـــرة نحو آسيا حامل آالمـه، وكـادت الباخرة تغرق به وبمن فيها، وصلت آالمه إلى سركون باكرًا. فمن أوائل قصائده (آالم بودلير وصلتْ). إال أن باخرة سركون لم تكن في البحر، بل في أحــشــائــه: (هــنــاك بــاخــرة ضـائـعـة تــرعــى بي أحشائي)». واخـتـار وديـــع سـعـادة قصائد مختارة اعـتـبـر أنــهــا تـحـمـل فـــي كـلـمـاتـهـا أصـــــداء من حكاية الـصـداقـة الـتـي جمعته بـبـولـص، من بينها قصيدة «رفاق» التي يقول فيها: لديك ما يكفي من ذكريات ْكي يكون معك رفاق على هذا الحجر اقعد وسَلِّهم بالقصص فهم مثلك شاخوا وضجرون قُص عليهم حكاية املسافات التي مهما مشت تبقى في مكانها َأخبرْهم عن الجن الذي يلتهم أطفال القلب عن القلب الذي مهما حَبِل يبقى عاقرًا حدِّثْهم عن العشب الذي له عيون وعن التراب األعمى ْعن الرياح التي كانت تريد أن تقول شيئًا ولم تقل وعــن الـفـراشـة البيضاء الصغيرة الـتـي دقَّــت على بابك في ذاك الشتاء كي تدخل وتتدفأ... وفــــــي قـــصـــيـــدة «غـــــيـــــوم» يـــكـــتـــب وديـــــع سعادة: في عيونه غيوم ويحدِّق في األرض علَّها تمطر الكتاب لطيف؛ ألنه يجمع بي شاعرين، لـــكـــل مــنــهــمــا فـــــرادتـــــه ومـــــزاجـــــه وشــطــحــاتــه وسورياليته، لكنهما يلتقيان في اعتناقهما الــشــعــر كــأســلــوب حـــيـــاة، ولـــيـــس كـــرديـــف أو مـــواز لها. ومـع أن الكتاب يبقى ناقصا تلك الــرســائــل الــتــي سـطّــرهـا وديــــع فــي ردّه على سـركـون، فـإن الوقت قد يكون كفيل بإظهار الضائع، وإعادة املفقود. بيروت: سوسن األبطح 2007 سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==