issue16746

Issue 16746 - العدد Thursday - 2024/10/3 الخميس كتب BOOKS 17 غاييل فاي وكمال داود من بين المرشحين للفوز القائمة الأولى لـ«غونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة بعد أيــام مـن انـطـاق المـوسـم الأدبــي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولــى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة 16 الأدبـــيـــة هـــذه الـسـنـة. وضــمــت الـقـائـمـة 8 عـــمـــاً روائــــيــــا، تـلـيـهـا قــائــمــة ثــانــيــة مـــن أسماء إلى 4 أسماء ثم القائمة الأخيرة من أن يـتـم أخــيــراً الإعــــان عــن اســـم الـفـائـز في الرابع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني). الـــقـــائـــمـــة الأولـــــــــى تـــمـــيـــزت بــحــضــور قــــــوي لـــكـــتـــاب مـــــن أفــــريــــقــــيــــا، طـــغـــت عـلـى أعـــمـــالـــهـــم إشـــكـــالـــيـــات الـــــذاكـــــرة والـــهـــويـــة والمــنــفــى والـــحـــداثـــة مـــن مـنـظـور تـجـاربـهـم الـــشـــخـــصـــيـــة والــــثــــقــــافــــيــــة. أبـــــــــرز هـــــــؤلاء: الجزائري كمال داود عن روايته «الحور» (دار نشر غاليمار)، وغاييل فاي وروايته «الجاكرندا» (دار نشر غراسي) والمغربيان عبد الله الطايع عن روايته «معقل الدموع» (دار نــشــر غـــولـــيـــار)، وروبــــــ بــــــاروك عن عمله «كــل ضجيج كليز» (دار نشر ألبان ميشيل). هـــذه الأعـــمـــال الــروائــيــة لـفـتـت انـتـبـاه النقاد فـأشـادوا بقيمتها الأدبـيـة، ومعها بـــالـــتـــأثـــيـــر المـــــتـــــزايـــــد لـــــأقـــــام الأفـــريـــقـــيـــة ومساهمتها الإيجابية في بعث الحيوية فـــي المــشــهــد الأدبــــــي الــفــرنــكــفــونــي. اثــنــان مـــن الـــروائـــيـــ الأربــــعــــة مـــرشـــحـــان لـلـفـوز ، حيث 2024 بــجــائــزة «الــغــونــكــور» لـسـنـة نقلت كثير مـن وسـائـل الإعـــام أن كــاً من غاييل فــاي وكـمـال داود يملكان حظوظا قوية للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة. سنة) 42( وقـــد سـبـق للكاتب غـايـيـل فـــاي أن فـــاز بــعــدة جــوائــز عــن روايـــتـــه الأخــيــرة «وطني الصغير» (دار نشر غراسي) التي اسـتـحـضـر فـيـهـا مــعــانــاة طــفــل حــاصّــرتــه ذكـــــريـــــات الـــطـــفـــولـــة والأحــــــــــداث الـبـهـيـجـة والمأساوية التي عاشها قبل أن يغرق وطنه الأم روانـــدا فـي بحر مـن المـجـازر الدموية. غـايـيـل فـــاي عـــاد هـــذه الـسـنـة وبـعـد غياب دام ثمانية أعوام برواية «جاكاراندا» التي يـواصـل فيها استكشاف إشـكـالات المنفى والـــذاكـــرة والــهــويــات المـتـعـددة مــن موطنه رواندا التي يعيش فيها الآن. فــــي حـــــــوار مــــع صــحــيــفــة «لـــومـــونـــد» بعنوان: «الجاكرندا المسلسل الأدبـــي...»، وصـف غاييل فـاي عمله الأخـيـر بما يلي: «جـــــــذور شـــجـــرة الـــجـــاكـــرنـــدا تـــغـــوص فـي أراض كثيرة مثل قصّة حياتي، وأزهارها الـبـنـفـسـجـيـة الـجـمـيـلـة تـشـهـد عـلـى مـيـاد مــــزيــــج جــمــيـــل مــــن المـــنـــفـــى والـــــقـــــدرة عـلـى التأقلم». الـــكـــاتـــب الـــجـــزائـــري كـــمـــال داود يعد أيضا من أقوى المرشحين، وكان قد اقترب 2014 مــن الـجـائـزة دون أن يـفـوز بـهـا عـــام بفضل نجاح روايته المثيرة للجدل «مرسو القضية المضادة» (دار نشر غاليمار) التي كــان قـد استوحاها مـن روايـــة ألبير كامو ) معيداً سرد 1942 ذائعة الصيت (الغريب أحداث الرواية من وجهة نظر الضحية. في عمله الجديد «الحور» (دار نشر غاليمار) يـسـتـكـشـف الــكــاتــب الـــجـــزائـــري الــتــوتــرات بـــ الـتـقـالـيـد والـــتـــحـــولات الــتــي تـمـر بها المجتمعات العربية من خلل قصّة «فجر»، وهــــي فـــتـــاة تــنــجــو مـــن الـــذبـــح فـــي عملية إرهابية تعرضت لها وهي طفلة، فتعيش خـــرســـاء لـكـنـهـا تــصــبــح صـــوتـــا لـضـحـايـا العشرية الـسـوداء التي مـرت بها الجزائر في حقبة التسعينات. رواية الكاتب المغربي عبد الله الطايع «معقل الدموع» (دار نشر غوليار) لاقت هي الأخرى اهتمام النقاد وهي تروي بشجاعة وحـسـاسـيـة إشـكـالـيـات الـحـب والتهميش في مجتمع مغربي لا يزال محافظا للغاية. خــال عــرض تقديمي لكتابه، قــال الكاتب المغربي المقيم في فرنسا: «(معقل الدموع) صــــرخــــة ونــــــــداء لـــإنـــســـانـــيـــة. إنــــهــــا قــصّــة أنـــاس يحبون ويعيشون بشكل مختلف، ويـبـحـثـون رغـــم كــل شـــيء عــن مـكـانـهـم في عالم لا يفهمهم دائما». ويُــكــمــل هــــذه الــقــائــمــة روبـــــن بـــــاروك، وهــو كاتب مـن أصــول يهودية سيفاردية وقـــد نـقـل مــن خـــال روايـــتـــه الــجــديــدة «مـع كل ضجيج كليز» (دار نشر ألبان ميشيل) صـــــورة حـــيّـــة لمــديــنــة مـــراكـــش الـــتـــي عـرفـت مولد أجـــداده. تميز العمل بتحليل دقيق للتحولات التي يشهدها المجتمع المغربي عامة والجالية السيفاردية بصّفة خاصة من خلل شخصية جدتّه بوليت. الحضور القوي للكتاب ذوي الأصـول الأفريقية في قوائم المرشحين لـ«جائزة الغونكور» ليس ولـيـد الــيــوم، بــل هــو جـــزء مــن تقليد قديم وعلمة قوية على الاعتراف المتزايد بالأدب الأفريقي على الساحة العالمية بصفة عامة ومـسـاهـمـتـه فــي إثــــراء الأدب الفرنكفوني بصفة خـاصـة. وقـد كـان رينيه مـــاران أول كاتب أسود يفوز بـ«جائزة الغونكور» عام عن روايته «باتوالا»، التي انتقد فيها 1921 الاستعمار بشّدة وشكلت نقطة تحول في تاريخ الأدب الفرنسي، ثم الكاتب المغربي عـــن روايـــتـــه 1987 الــطــاهــر بـــن جـــلـــون فـــي «الـلـيـلـة المـــقـــدّســـة». وآخـــرهـــم كـــان الـكـاتـب السنغالي محمد مبوغار صـار الـذي حاز 2021 على الجائزة الأدبـيـة المرموقة سنة عن روايته: «الذاكرة الأكثر سرّية للرجال» (دار نـشـر فيليب راي)، حـيـث استكشفت الــــــروايــــــة المــــســــتــــوحــــاة مـــــن قــــصّــــة «كـــاتـــب أفريقي منسي» بأسلوب أشــاد بـه النّقاد إشكالات الذاكرة والأدب وهويات ما بعد الاسـتـعـمـار، فــي الــوقــت الـــذي نسجت فيه روابــط معقدة بين أفريقيا والـغـرب. ورغم أن الفائز لا يحصل على أي مكافأة مالية كـبـيـرة، فـــإن جــائــزة «الــغــونــكــور»، إضـافـة لأنــهــا تـجـسـيـد لاعـــتـــراف الـــوســـط الأدبــــي، فهي أيضا مـرادفـة لنجاح شعبي ومـادي كبير. فوفقا لأرقام معهد «أديستا» وصلت مبيعات الرواية الأخيرة الفائزة «الاعتناء 570 بها» للكاتب جان باتيست أندريا إلى ألـــف نـسـخـة وقـبـلـه روايــــة مـحـمـد مـبـوغـار ألف نسخة رغم 560 صار «ذاكرة الرجال» بـ أن الكاتب لم يكن معروفا قبلها. باريس: أنيسة مخالدي محمد بوغار كمال داود غاييل فاي عبداللهالطايع «متتالية سردية» تلعب على حبال الذاكرة والمكان الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريحلا تستثني أحداً» تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الــريــح لا تستثني أحـــداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهضمعمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة، إلا أن دائرتها السردية لا تكتمل سـوى بتوالي الأحــداث التي تتشارك فضاء الحدث. تـلـعـب قــصــص المــجــمــوعــة، الـــصـــادرة عــن دار «حـــيـــاة»، عـلـى رمــزيــة الــريــح التي تمنحها الكاتبة سلطة غاشمة وسحرية، وفــــي المــقــابــل يــبــدو الــبــشــر مــحــض هشيم في قبضتها، فتكون «ليلة الريح الأولــى» هـــي الـــحـــدث المــــركــــزي الـــــذي تــظــل تـبـعـاتـه الكابوسية تـاحـق أهـالـي الـقـريـة وتجلب مـعـهـا الأهـــــــوال. وأولـــهـــا أنــهــم لـــم يــعــودوا يـــتـــذكـــرون شــيــئــا مـــمـــا جـــــرى لــيــلــتــهــا، فـي تلميح مبكر لما يحمله تشوّش الذاكرة من لعنة، ثـم سـرعـان مـا تستحوذ «الـرائـحـة» بطاقتها الحسيّة على زمام الأمور، فتزيد مـــن غــبــش الــــرؤيــــة، بــعــدمــا تـــســـود رائــحــة «طــاغــيــة لا مـثـيـل لــهــا» فــضــاء الــقــريــة في أعـــقـــاب تــلــك الــلــيــلــة، بــمــا لــهــا مـــن خـــواص غـرائـبـيـة، فــا تشمها الـنـسـاء، فيما تُـزكـم أنوف الرجال، فيكون ظهورها واختفاؤها بـعـد ذلـــك دلــيــاً عـلـى مــا غـيّـرتـه الــريــح في أجوائها، والسطور التي خطّتها ومحتها، ولا تــخــتــفــي تـــلـــك الـــرائـــحـــة ســـــوى بـمـولـد أشهر من تلك الليلة، ليكونا 9 طفلين بعد طفلي الريح، وحاملي سرّ الأم التي اختفت فــــي ســــنــــوات طــفــولــتــهــمــا الأولــــــــى، وتـــبـــدو فـصـاحـتـهـمـا المُـــبـــكـــرة وظــــــروف نـشـأتـهـمـا الـــغـــريـــبـــة كــفــيــلــة بـــــأن تــجــعــل أهـــــل الــقــريــة يصفونهما بـ«المبروكين»، فيقطعان على مدار المتتالية القصصية دروبا تأملية في اقتفاء الحكمة، وتلمّس النبوءة، وأسـرار الكلمات، كما يصبحان قبلة لأهـل القرية من «السائلين»، الذين تُخرجهم الريح من رقــودهــم، لتوقظ داخـلـهـم الألـــم، والشعور العارِم بالذنب. قلوب مثقوبة فصول رئيسية 3 تتفرع الحكايات عبر هي: «الرجل الذي تكلّم ثم صمت» و«الرجل الـــذي سيُحب الـتـجـوال»، و«الـفـتـاة الـتـي لم يـــعـــرف أحـــــدٌ اســـمـــهـــا». تـــواصـــل الـحـكـايـات تـقـاطـعـهـا عـلـى مــــدار المـتـتـالـيـة القصصية مع ثيمات العمل الرئيسية وأبـرزهـا الفقد والانتظار، فـ«الرجل الـذي تكلّم ثم صمت» يظّل مـع تقدمه فـي العمر يتوّسل «طيف» أمه التي غابت في طفولته، وتظل حيثيات غيابها مُغبشة ومثيرة لتوالد الحكايات، بما يزيد من عزلته واغترابه، وتظل «الريح» عـلـى مـــدار المُـتـتـالـيـة هــي صـاحـبـة السطوة السردية، فالسرد يبدأ بها، ثم تباغت أهل القرية مرة أخرى مع نهاياته، لتترك الحياة بينهما وبعدهما غارقة في الهشاشة، فهي لم تترك البشر عُــراة من أسمالهم فحسب، بـــل كـشـفـت عـــن نــدوبــهــم الـــغـــائـــرة، لا سيما تلك التي تسكن الأمهات، ويبدو ثمة آصرة بين الرجلين أبناء الريح وبين أمهات القرية المـكـلـومـات، الـبـاحـثـات عــن رتـــق لـ«قلوبهن المثقوبة» بفقد أبنائهن، فتبدو لعنة أمهم الـغـائـبـة، أو الأم «الأولـــــى»، وكـأنـهـا تُلحق أمـــهـــات الـــقـــريـــة مـــن بـــعـــدهـــا، مـــتـــوســـات أن يــرشــدهــم أحـــد لأبـنـائـهـن ويـمـتـص ملوحة قــلــوبــهــن. ويـــصـــف «الــــرجــــل الـــــذي سـيُـحـب الـــتـــجـــوال» جــــرح الأمــــومــــة بـــاعـــتـــبـــاره الألـــم الوحيد المستعصي: «أُعــد وصفات لأهالي عـــــامـــــا، وصـــــفـــــات حـــلّـــت 13 الــــقــــريــــة طـــــــوال أحـــوالـــهـــم المـــعـــقـــدة، أعـــــد قــلــبــا صـلـصـالـيـا، ومسحوقا للنسيان، ودواءً للحقيقة، أعد أدويـــة لكل مـن طـلـب، لكنه الآن يعجز أمـام الأمهات اللتي أردن استرداد أبنائهن ذوي العيون الرمادية، السوداء، البنية، الزرقاء، الـــخـــضـــراء الــصــغــيــرة»، وهــــي الــفــكــرة الـتـي تتردد على مدار المتتالية، بتراوحات فنية تفيض من رحم الأمومة، وتعود أدراجها له من جديد في قصة أم أخرى. اختلاط الزمن تـشـتـق المُـتـتـالـيـة الـقـصـصـيـة، الـتـي حازتجائزة الشارقة للبداع العربي، من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي الذي ينهل من الحكايات، وقوة تأثيرها، واللعب بالكلمات، فنرى رجلً أصابته لعنة اللغة، ولكنه للمفارقة كلما كـــان «يـفـقـد حــرفــا زادت كـلـمـاتـه وزادت فصاحته»، كما تشتق من مفردات البيئة البدائية دلالات بلغية، فنجد الكلمات تندفع كــ«الـعـواصـف الـرمـلـيـة»، وهــو ما يمكن فهمه ضمن اجتراح العمل لإيقاعه وقوانينه الخاصة، فالمكان برغم تأطيره الظاهر بـحـدود القرية والـصـحـراء فإنه ســــــيّــــــال، يـــفـــيـــض عــــلــــى هــــامــــش الــــواقــــع وفــــي عــمــق المُـــخـــيـــلـــة، حــيــث «المـــنـــامـــات» مـــكـــان لــلــقــاء الأحـــبـــة، والـــصـــحـــراء مـكـان لابتلعهم، أمـا الزمن فيُفتته السرد في سعي لتوظيف دلالته وأثره على أبطاله، حـيـث نـجـد هـــنـــاك: «زمــــن الــصــمــت، زمـن الـكـام، زمـن الانتباه، زمـن الانـتـظـار...»، فـــالـــزمـــن يــخــتــلــط كـــالـــكـــوابـــيـــس، ويـفـقـد أفـقـيـتـه المنطقية وواقـعـيـتـه وهـــو يعود أدراجــــــــــه مـــعـــكـــوســـا، كـــمـــا نــــــرى الأبــــنــــاء الـذيـن يـعـودون أجـنّـة، والـعـيـون تتحوّل لـــحُـــفـــر فـــــارغـــــة، وحــــتــــى نـــمـــش الــــوجــــوه يـكـبـر ويــصــغــر، وكـــأنـــه يـــحـــوم فـــي مـــدار زمـــنـــي مـــعـــزول يــخــصســـيـــرة أصــحــابــه وحكاياتهم. وفيحينتنحاز الكاتبة عائشة مختار للنزعة السحرية في بناء عالمها السردي، فإنها في الوقت نفسه تتلمس هُوية ذاتية تتقاطع مع المــوروث الشعبي في كثير من مـحـطـات المُـتـتـالـيـة، فالشخصيات تنتظر «الكرامات» في مناماتهم، وتقطع المسافات مــن أجـــل الـحـصـول عـلـى مــشــروب سحري يضمن لـهـم الــحــب، فــي اسـتـثـمـار لطاقات الـغـرابـة فـي قواميس الـوصـفـات السحرية الـشـرقـيـة، الـتـي تفيض بـرائـحـة «الأبــخــرة والأهــازيــج والـتـمـائـم»، فـي تـوسّـل لأسئلة وجودية مؤرقة لدى أبطال المُتتالية، بداية من الموت، وحتى الحب، والنوم، والأحلم، والاستبدال، وأهـوال الخطيئة، وهو الأرق الذي وجد مُتنفسه في طرح الأسئلة التي لا تخلو من غضب، فالراوي يتقمص صوت «الفتاة التي لـم يعُد يعرف أحـد اسمها»، ويــســأل: «أمـــا جمالها فما المـغـزى منه إذا كــان قـد حُـكِـم عليها بالتعاسة؟ والطيور التي حـاولـت أخـذهـا إلـى المجهول لمــاذا لم تُحاوِل مرّة ثانية؟ والعدل أين اختفى!». القاهرة: منى أبو النصر حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء» حــــ كـــتـــبـــت حـــنـــا آرنــــــــدت كـــتـــابـــهـــا عـن «إيخمان في القدس» كانت تسعى إلى تبيئة مـفـهـوم «تـفـاهـة الــشــر» فــي المــجــال الإنـسـانـي المـــعـــاصـــر، بــمــا هـــو تـــجـــاوز غــيــر مــفــهــوم في الـــســـيـــاســـة والأخــــــــــاق والــــعــــقــــيــــدة. كــــــان فـي اعــتــقــادهــا أن إرادة الأذى زيــــغ مــلــتــبــس، لا تــفــســره صـــولـــة الانـــتـــقـــام ولا الــتــســلــط، ولــم ينأ عـن فهمها أن الـشـر سقم مقيم يتجاوز المـحـرقـة الـيـهـوديـة، إلــى كـل اقـتـراحـات المـوت الغفير، حين يتراكم بصفات وأشكال مرعبة دون مبرر ولا دليل، شأن ما يحدث في قطاع غزة منذ سنة، لهذا اعتُبرت أطروحتها لمدة غـيـر يـسـيـرة سـنـداً لمــحــاولات فـهـم الوحشية الأســــــطــــــوريــــــة الــــفــــجــــائــــيــــة وغـــــيـــــر الأصـــلـــيـــة للمجتمعات، ولعله من سخرية التاريخ أن تضحى دليلً مضيئا اليوم لمحاولة فهم ما يجري من قبل الضحية (السابقة/ المؤبدة) أمام أنظار العالم. لــــكــــن المــــفــــهــــوم الــــــــــدال عــــلــــى الـــتـــوحـــش الإنـــســـانـــي وعـــلـــى انــــعــــدام المـــبـــرر فـــي الأذى، والعبثية فـي التعذيب والـقـتـل، كــان شاملً لـــانـــحـــراف الــبــشــري تــاريــخــيــا إلــــى تخفيف العالم من تخمة الأصول والهويات، ذاك كان ديــدن الـحـروب الدينية والطائفية والعرقية مـــن حـــرب طــــــروادة إلـــى الإبــــــادة الـعـرقـيـة في فـلـسـطـ ومـحـيـطـهـا الـــيـــوم، وفــــي مـحـاكـمـة «إيخمان» كان انعدام الفهم والحافز صادما، لكن العقاب أيضا كان بدون أفق، إذ هل يكفي عقاب شخص لإقامة العدالة، إزاء جرائم تهم مجتمعات، أو دولاً أو البشرية جمعاء؟ ما الذي يمكن أن ينتهي إليه الأمر خارج الإدانة القضائية للفرد؟ في الآن نفسه الذي لا يطول فيه العقاب «جرم الدولة» إلا رمزيا. في تاريخ البشرية كان الإعدام السياسي انتقاما بــدون مـبـررات أخلقية فـي محطات عديدة، ولا يحقق الإحساس بإقامة العدالة فــي عـمـقـه، لــهــذا سـيـطـر الـعـبـث فــي الـعـقـاب، وهـــو مــا جـعـل ميشيل فـوكـو يكتب «تـاريـخ الــجــنــون فـــي الــعــصــر الــكــاســيــكــي»، مــؤرخــا لــلــعــســف والإقـــــصـــــاء والــتــهــمــيــش لمـنـكـوبـ (ذهنيا وجسمانيا) ممن كان عزلهم ونفيهم وإرسالهم للمهالك في سفن لا تعرف شطآنا، حـــاً لمصيبة الـبـشـريـة، وهـــو الـحـقـل الـدلالـي الــــذي يـمـتـح مـنـه الــســلــوك الـعـقـابـي للجيش الإســرائــيــلــي مـنـذ «طـــوفـــان الأقـــصـــى»، تجاه ساكنة غــزة الـذيـن تـــدرج الانـتـقـام الجماعي منهم من العزل إلى تنظيم إبــادات جماعية، إلـى دفعهم للهروب إلـى المهالك، فيما يشبه «ســـفـــيـــنـــة الـــحـــمـــقـــى» المـــطـــوحـــة بــالمــنــكــوبــ للمجهول التي تحدث عنها ميشيل فوكو، حيث قرنت الضحية بغياب العقل، (لنتأمل مـعـجـم الإعـــــام والـسـيـاسـيـ الإسـرائـيـلـيـ الــــذيــــن تــقــلــبــوا بــــ مــــراتــــب وســـــم الـضـحـيـة بـالـجـنـون مـنـذ بــدايــة الـــحـــرب)، وهـــو المعنى ذاتــــه الــــذي يـنـهـض عـلـيـه مــفــهــوم الـضـحـايـا «البلهاء» الـذيـن تحدثت عنهم حنا آرنــدت، فـالـضـحـيـة هــنــا نـــتـــاج لـثـنـائـيـة مـتـضـامـنـة: هي «غياب العقل» و«عبثية الشر»، تدعمها قاعدة عقائدية أساس هي «من أجل السماء». في مقال للصحافية الأميركية المقيمة في القدس إليانا رودي تحدثت عن «بينالي الــــقــــدس لـــلـــفـــن الــــيــــهــــودي المــــعــــاصــــر»، الــــذي ينتظم منذ سنوات في المدينة المحتلة، بما هو «لحظة للتأمل في مفهوم النزاع» ضمن المحتوى الثقافي لليهودية، ولم يكن العنوان الـعـام للبينالي مفارقا لمضمون مـا ورد في عبارة الصحافية، والمتكرر بصيغ شتى في وثــائــق الـبـيـنـالـي، إذ اخـتـصـرت فـيـه الهوية اليهودية وما تنطوي عليه من ذاكرة متصلة بالصراع في شعار: «من أجل السماء». يعرض البينالي كل دورة أعمال فنانين يهود من إسرائيل وبلدان أوروبية وأميركية وآسيوية وأفريقية، وبمشاركة عدد محدود مـن الفنانين غير اليهود، فـي عـدة فضاءات في القدس، أغلبها مواقع في القدس الشرقية من مثل محطة القطار الأولى، ومركز التراث الـيـهـودي لشمال أفـريـقـيـا، ومتحف هيشال شلومو، ومـركـز «أخـيـم حـاجـد»، وفـي المركز طــبــعــا «بــــــرج داوود»، أمــــاكــــن بـتـسـمـيـاتـهـا الجديدة المستحدثة على أنقاض التسميات العربية القديمة، وبتصفح سريع للتغطيات الصحافية العالمية المواكبة لمضامين الأعمال الـفـنـيـة المــقــدمــة فـــي دورات الـبـيـنـالـي تتبين هيمنة سؤال «الانتماء» في اتصاله بالعقيدة «الــــيــــهــــوديــــة» وبــــــــــالأرض والمـــــــــاء والـــســـمـــاء والمدينة والرموز والمباني.... وبتعبير إيدو نـوي، مدير محتويات المعارض المقامة، فإن اختيار الفضاء جاء باعتبار «القدس تختزل رمزيا جوهر النزاع». في كتاب «العنف والمقدس» يستحضر المفكر الفرنسي رونــي جـيـرار قـاعـدة شديدة الـــــدلالـــــة فـــــي هــــــذا الــــســــيــــاق، هـــــي مـــــا ســـمـــاه «مثلث الرغبة»، حيث الراغب والمرغوب فيه يحتاجان دومــا إلـى وسيط مؤثر يتخذ في أحوال كثيرة صيغة نص، قد يكون له مظهر مـقـدس، مـن هنا يمكن فهم عـنـوان البينالي في إحدى دوراته الأخيرة: «من أجل السماء» الذي يستحضر مفردات ومعاني مشتقة من الآية التوراتية، «إن أي نزاع من أجل السماء سوف يـدوم في نهاية المطاف، ولن يـدوم أي نزاع آخر ليس من أجل السماء». الرغبة المتصلة بالانتماء، لا تنفصل - بحسب روني جيرار – عن وجود «منافس»، بـمـعـنـى: «أن المــــرء لا يــرغــب فـــي هـــذا أو ذاك مـــن الأشـــيـــاء لمـــا لـلـغـرض المـــرغـــوب مـــن قيمة فــي ذاتــــه، بــل لأن امــــرأً آخـــر نـظـيـره صـيـره له مرغوبا، بفعل امتلكه لـه، أو مجرد الرغبة فــيــه»، وهــو مــا يجعل مــن وســاطـة الـنـص أو طــــرف ثــالــث لازمــــة لـتـخـطـي رغــبــة المــنــافــس، الأمــــر هـنـا لا يــفــارق مـقـولـة: «الــــنــــزاع»، التي تخفف مـن مضمون المعتقد الأصـلـي المركب والشديد التعقيد، والمولد لمستويات العنف الـــحـــســـي، المـــتـــصـــل بــــالمــــصــــادرة المــــاديــــة قـبـل المصادرة الرمزية. وقــــــد يـــســـتـــوعـــب المــــشــــاهــــد ضـــمـــن هـــذا السياق المفهومي عـدداً كبيراً من التأويلت لصيغ ومقترحات الأعمال الفنية المعروضة، بالنظر إلـى كونها تسعى إلـى إعــادة تمثيل الـنـزاع والانتماء، بل أحيانا تعيد رسـم كنه «اليهودية»، بوصفها هوية تتخطى نطاق الـــعـــرق والمــعــتــقــد، إلــــى الــخــطــابــات المختلفة المنتجة بوازع الرغبة في الانتساب العاطفي، وهـــو الافـــتـــراض الــــذي يمكننا مـــن فـهـم ذلـك الإلــــحــــاح عـــلـــى جـــعـــل فـــنـــانـــ مــــن الــــولايــــات المتحدة يستعيرون «يهوديتهم» في المعرض بـمـا هــي عتبة لـتـجـاوز «الـتـضـامـن مـــع» إلـى «التماهي بـ» في رباط مقدس. شرف الدين ماجدولين حنا آرندت ميشيل فوكو المفهوم الدال على التوحشالإنساني كان شاملاً للانحراف البشري تاريخياً وكان ديدن الحروب الدينية والطائفية والعرقية

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky