issue16745

ما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها بلا إنذار مسبق أو بإنذار لئيم من دون فاصلزمني؟ الثقافة CULTURE 18 Issue 16745 - العدد Wednesday - 2024/10/2 الأربعاء ميرزا الخويلدي سوق النشر السعودية... الملايين الضائعة! لعل واحدة من أهم القضايا التي يكشف عنها مـعـرض الــريــاض الــدولــي للكتاب، بـاعـتـبـاره أكبر ســوق للنشر الـعـربـي، هـي الـحـاجـة لـدعـم وتعزيز سوق النشر السعودية. أصبح متاحاً اليوم أمام المؤلفين السعوديين تقديم مؤلفاتهم الأدبــيــة والـفـكـريـة إلــى دور نشر محلية تتولى نشر إنتاجهم الفكري، هـذا يضمن لـلـعـديـد مـنـهـم الــحــصــول عـلـى عـــوائـــد كــانــت شبه معدومة من كتبهم التي تطبع في الخارج وتضيع مستحقاتهم المـالـيـة، جنباً إلــى جنب مـع الحقوق الـفـكـريـة، لــكــنّ المـثـيـر أن الـحـصّـة الـكـبـرى مــا زالــت تستحوذ عليها أســواق الطباعة العربية، فمع أن دار النشر سعودية إلا أنها في الغالب ليست سوى مكتبٍ لاستقبال الطلبات وتحويلها للخارج حيث تتم هناك العمليات الفنية والطباعة ثم التوزيع والشحن. في معرض الكتاب، أبلغني أحد الناشرين أنه سلّم روائياً سعودياً عوائد مالية لا تقل عن مائة ألف ريال، وهو رقم يبدو كبيراً إذا ما قيس بالفتات الـــذي يحصل عليه المـؤلـفـون المحليون مـن عوائد بـيـع كـتـبـهـم المـطـبـوعـة فــي الـــخـــارج. نـعـلـمُ أن دور النشر العربية تـواجـه صعوبات بالغة، وتتحمل أجور الشحن المرتفعة، وهي أجور تأخذ حصتها من نصيب المؤلف. الـيـوم أصبح أمامنا عــدد لا بــأس بـه مـن دور الـنـشـر الـسـعـوديـة الـتـي تـتـولـى كـامـل العملية في المملكة، هــذا يوطن ســوق النشر بـل يصنع سوقاً مليار دولار سنوياً. 2.5 حقيقية لا يقل حجمها عن دار نشر، لكن الأهم أن لدينا 520 لدينا أكثر من سـوقـ متنامية فــي الـتـألـيـف والـنـشـر، والجمهور الــســعــودي هــو مــن أكـثـر الـشـعـوب الـعـربـيـة اقتناء للكتب، وبـحـسـب تـقـريـر إحـصـائـي نـشـرتـه مكتبة الملك فهد الوطنية على موقعها الإلـكـتـرونـي، في ، يرصد حركة الإنتاج ٢٠٢٢ ) ديسمبر (كانون الأول الفكري السعودي في عشرة أشهر فقط، من يناير أكــتــوبــر (تــشــريــن الأول) 31 (كـــانـــون الــثــانــي) إلـــى ، فـقـد بـلـغـت أوعــيــة المـعـلـومـات الــتــي منحت 2022 وعاءً معلوماتياً، منها 7140 الرقم الدولي المعياري كتاباً إلكترونياً. 617 كتيبات، و 410 كتاباً و 6067 فيما بلغ عـدد شـهـادات الإيـــداع التي تم إصدارها شـــهـــادة إيــــداع 3153 شـــهـــادة إيــــــداع، مـنـهـا 7393 69 كتيباً، و 134 رسـالـة جامعية و 3633 للكتب، و مادة إلكترونية. 351 مطبوعة دورية و ومـــكـــتـــبـــة المــــلــــك فـــهـــد الـــوطـــنـــيـــة هـــــي الــجــهــة المسؤولة عن تطبيق نظام الإيداع الوطني، وتقوم بجمع وتنظيم الإنتاج الفكري السعودي وتوثيقه والـــتـــعـــريـــف بـــه ونـــشـــره وإصـــــــدار الـبـبـلـيـوغـرافـيـا الوطنية كل عام. وحـــ نـتـحـدث عــن ســـوق الـنـشـر الـسـعـوديـة فإننا نتحدث أيضاً عن سوق دولية آخذة بالنمو حيث مـن المـتـوقـع أن يبلغ مـعـدل النمو السنوي فــــي المــــائــــة عـــلـــى مـــدى 3 لـــســـوق الـــنـــشـــر الـــعـــالمـــيـــة الــســنــوات الـخـمـس المـقـبـلـة، وهـــي صـنـاعـة عالمية مـلـيـار دولار، ومـن 92.68 تـقـدر قيمتها حـالـيـ بــــــ .2025 مليار دولار في 104.21 المتوقع أن تصل إلى فيما تحقق الـكـتـب الإلـكـتـرونـيـة نسبة نمو فـي المـائـة سـنـويـ ، وتسجل الكتب 12 تقترب مـن في 24.4 الـصـوتـيـة نـسـبـة الـنـمـو الأعـــلـــى بـقيمة المـــائـــة، مـــا يـمـثـل فـــرصـــ تــجــاريــة واعــــــدة لـلـسـوق السعودية. لكنّ قيام سوق وازنة للنشر يتطلب الاهتمام بــحــركــة الــتــألــيــف والــتــرجــمــة مـــع مـــا تـتـطـلـب من إطـــــاق الـــعـــنـــان لــــإبــــداع وتــشــجــيــعــه واحــتــضــان المــبــدعــ ، وفــتــح آفــــاق جــديــدة أمــــام المــؤلــفــ ، بل الأهــــــم أيـــضـــ تـــحـــويـــل جـــمـــهـــور الـــــقـــــراء بــعــددهــم الـكـبـيـر إلـــى مـنـتـجـ لـلـثـقـافـة، وكـــذلـــك الاهـتـمـام بـالـطـبـاعـة مـــع مـــا تـتـطـلـب مـــن صــنــاعــة متكاملة تشمل التصحيح والتصميم والإخـراج والطباعة التي ينبغي توطينها عبر تشجيع إنشاء المطابع وتوفير الكوادر الفنية، ثم النشر سواء الورقي أو الإلكتروني، مع تعزيز نظام التسجيل والتوثيق وضـــمـــان حــقــوق المـلـكـيـة الــفــكــريــة، نــحــتــاج كـذلـك للنتقال سريعاً لعالم النشر الإلكتروني وتعزيز موقعنا فـي صناعة صيغ رقمية وتقنيات نشر متقدمة، مـن بينها الكتب الإلـكـتـرونـيـة، والكتب الصوتية، والطباعة عند الطلب، وطبعاً تحويل الكتب الورقية إلى كتب رقمية متوائمة مع أجهزة الــقــراءة الإلـكـتـرونـيـة، والمـنـصـات الـعـالمـيـة للكتب الرقمية. ســـوق الـنـشـر كـبـيـرة ومـتـنـامـيـة، ومـنـافـعـهـا فـكـريـة وابـــداعـــيـــة، ومــالــيــة أيـــضـــ ، فــهــذه الـعـوائـد يمكنها أن تخدم الثقافة والاقتصاد معاً. ألواح عاجية أنثوية من الإمارات ما سرّ هذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها؟ شهدت المواقع الأثرية الواقعة في الإمارات العربية خـــال الـعـقـود الأخــيــرة سلسلة مـتـواصـلـة مــن حملت التنقيب كشفت عن مجموعات متعددة من اللقى، منها مجموعة مميزة من القطع العاجية الصغيرة المزينة بـنـقـوش تـصـويـريـة. عُـثـر عـلـى الـقـسـم الأكــبــر مــن هـذه القطع في مقابر تعود إلى مطلع الحقبة الميلدية، ممّا يوحي بأنها تنتمي إلى الفنون الجنائزية كما يبدو، وتمثّل تقليداً محلياً خاصاً ازدهــر خـال تلك الحقبة في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية. شهد متحف إسبانيا الوطني للآثار في مدريد مــعــرضــ خـــاصـــ بـــآثـــار إمــــارة 2016 خــــال ربـــيـــع عــــام قطعة مـن اللقى مـتـعـددة الأنـــواع، 240 ّ الـشـارقـة، ضــم مـنـهـا قـطـعـة عــاجــيــة مـسـتـطـيـلـة صــغــيــرة تُــمــثّــل قـامـة أنثوية نُقشت ملمحها بأسلوب يغلب عليه الطابع 8.25 الـتـجـريـدي الـهـنـدسـي. يـبـلـغ طـــول هـــذه الـقـطـعـة سنتيمترات، ومصدرها موقع 3 سنتيمتر، وعرضها دبا الحصن الأثري الذي يحمل اسم المدينة التي تطلّ على ضفاف الشاطئ الغربي لخليج عمان، وتُشكّل في زمننا الامتداد الشرقي الطبيعي لإمارة الشارقة. خــــانــــات مـــتـــوازيـــة. 3 تـــتـــألّـــف هـــــذه الــقــطــعــة مــــن الخانة العليا مقوّسة، وتُمثّل رأساً أنثوياً في وضعية المواجهة، حــدّدت ملمحه بشكل مختزل. الوجه كتلة دائـــريـــة، مــع امـــتـــداد بـسـيـط فــي وســـط الــجــزء الأســفــل، يجسّد على الأرجح العنق. العينان دائرتان كبيرتان، يــتــوسّــط كــــاً مـنـهـمـا ثــقــب يــمــثّــل الـــبـــؤبــؤ. الأنــــف شق عــــمــــودي بـــســـيـــط، والــــفــــم شــــق أفـــقـــي صـــغـــيـــر. الــشــعــر عـلـى شـكـل هـــال يـعـلـو الـــــرأس، وخــصــاتــه شـبـكـة من الخطوط العمودية المتوازية تنسدل على شق الكتفين المستقيمين. الخانة الوسطى على شكل مكعّب، تمثّل صــــدر الــــبــــدن، ويــعــلــوهــا عــقــد تـتـمـثـل حـــبّـــاتـــه بشبكة مشابهة، تستقرّ فوق دائرتين تحتلّن الجزء الأوسط، تماثلن في تأليفهما العينين بشكل متطابق، مع شق في الوسط يماثل شق الأنـف. يتحوّل هذا الصدر إلى وجـهٍ ثـانٍ، يحدّه شقان هلليان تحيط بهما الذراعان الملتصقتان بالبدن. الخانة الثالثة أكبر حجماً، وهي مستطيلة، وتـمـثّـل الـحـوض والـسـاقـ ، مـع مثلّث في الـوسـط يخرقه شـق عـمـودي فـي الـوسـط. تحيط بهذا المثلث شبكة من الخطوط الأفقية ترتسم فوق سلسلة من الشرائط العمودية، تزين كما يبدو فخذَي الساقين. نقع على قطعة أخــرى من هـذا الـطـراز، مصدرها كذلك من دبا الحصن، تمثّل تأليفاً يختلف في مكوّناته. الـــوجـــه مـــثـــلّـــث، وتــنــحــصــر مــامــحــه بـعـيـنـ دائـــرتـــ يخرق كلً منهما ثقب البؤبؤ، وأنـف على شكل خانة مستطيلة غاب عنها الشق الأعلى. تحيط بهذا المثلث كتلة مـقـوّسـة تعلوها شبكة مــن الـخـطـوط العمودية تـرسـم خـصـات الشعر المنسدلة بشكل مستقيم على الكتفين. تعلو الـصـدر دائــرتــان متماثلتان تستقرّان فــوق يدين مـجـرّدتـ مرفوعتين نحو الأعـلـى، حُــدّدت أصابعهما على شكل أسـنـان المـشـط. يحضر الخصر تحت هـاتـ الـيـديـن المثلثتين، وتــحــدّه مساحة أفقية تتّخذ كذلك هذا الشكل الهندسي. يعلو هذه المساحة مثلث يمثّل الــحــوض، يخرقه فـي الـجـزء الأسـفـل شق عـمـودي. تحدّ هـذا المثلث ساقان مقوّستان، توحيان بــــأن صـاحـبـتـهـمـا فـــي وضــعــيــة الـــقـــرفـــصـــاء. الــقــدمــان كتلتان كبيرتان مسطحتان، وأصابعهما محدّدة مثل أصابع اليدين. تمثّل كـلّ من هاتين القطعتين اللتين خرجتا من مــوقــع دبـــا الـحـصـن الأثـــــري نــمــوذجــ فـنـيـ يــتــكــرّر في مجموعة كبيرة من القطع مصدرها مدينة الدُور التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة. خرج هذا الموقع من الظلمة إلى النور حين استكشفته بعثة ، بعدها تناوبت فرق 1974 و 1973 عراقية بـ عامي تنقيب أوروبـيـة متعدّدة على العمل فيه، وكشفت عن مـبـانٍ متنوعة، وسلسلة مـن القبور حـوت مجموعات كـــبـــيـــرة مــــن الـــلـــقـــى يـــعـــود تـــاريـــخـــهـــا إلـــــى الــــقــــرن الأول من هذه 5 الميلدي. عُثر على ألـواح عاجية أنثوية في القبور، وهي من الحجم الصغير، ويتراوح طولها بين سنتيمتر. تبدو 2 و 3 سنتيمترات، وعرضها بين 4 و 7 هذه المجموعة الأكبر من نوعها في الإمــارات، وتماثل قطعها قطعاً أخرى مصدرها موقع مليحة الذي يبعد كيلومتراً شرق مدينة الشارقة، وموقع أعسمة 50 نحو الذي يقع في جبال الحجر ويتبع إمارة رأس الخيمة. خارج الإمــارات، يحضر هذا الطراز بشكل عارض كما يبدو، وينحصر هذا الحضور بقطعتين عُثر عليهما في مقبرة أبو صيبع، في شمال جزيرة البحرين. تمثل القطعة الـتـي عُـرضـت فـي متحف إسبانيا الوطني للآثار نموذج المرأة المستقيمة الذي يتكرّر عبر تنويعات مختلفة في العديد من القطع التي عُثر عليها في مدينة الدُور الأثرية، ويتميّز هذا النموذج بذراعين ملتصقتين بــالــبــدن. فــي المــقــابــل، تـمـثـل الـقـطـعـة التي تـمـثّـل امــــرأة فــي وضـعـيـة الـقـرفـصـاء نـمـوذجـ مـغـايـراً، تتعدّد تنويعاته كذلك في مدينة الدُور، كما في المواقع التي تتبع في زمننا الشارقة ورأس الخيمة. ويتميز هذا النموذج بيدين مرفوعتين، ترتسمان فوق مساحة الـصـدر. إلــى جـانـب هـذيـن النموذجين اللذين تحضر فيهما الأنـثـى عـاريـة، يظهر نـمـوذج ثالث تـرتـدي فيه هــذه الأنـثـى ثـوبـ تزيّنه شبكة مـن الخطوط الغائرة، تـخـتـلـف تـقـاسـيـمـهـا بـــ قـطـعـة وأخـــــرى. يـحـضـر هـذا الـنـمـوذج فـي مجموعة مــحــدودة مـن القطع مصدرها مــوقــعــا مـلـيـحـة ودبـــــا الــحــصــن فـــي الـــشـــارقـــة، ومــوقــع أعسمة في رأس الخيمة. وتقابل هـذه القطع قطعتان من مدينة الــدُور، كشفت عنهما بعثة بريطانية خلل عملها في هذا الموقع. تـخـتـزل هـــذا الــنــمــوذج قـطـعـة مـــن مــوقــع مليحة، سنتيمترات، تمثّل 3 سنتيمترات، وعرضها 7 طولها امـرأة ترفع ذراعيها نحو الأعلى، وكأنها في وضعية الابتهال. يتبع الوجه التأليف المعهود، وتكلّله مساحة مقوّسة تستعيد تسريحة الشعر السائدة. في المقابل، تحضر فـي أسـفـل العنق دائـــرة واحـــدة تماثل دائـرتـي الـعـيـنـ . يـحـتـل وســـط الــصــدر شــريــط عــمــودي مزين بشبكة من الخطوط الأفقية، يتكرّر في الجزء الأسفل من هـذه القطعة العاجية، مشكّلً زينة تنورة واسعة تلتف حول الخصر، وتحجب الساقين بشكل كامل. من تكون هـذه الأنثى التي تتعدّد تجلياتها في مقابر الإمــــارات الأثــريــة؟ تـتـعـدّد الـــقـــراءات فـي تحديد هذه الهوية، كما في تحديد وظيفتها، غير أنها تبقى قـــراءات افتراضية. في الخلصة، تحافظ هـذه الأنثى عـلـى ســـرّهـــا، وتــشــكّــل لــغــزاً يـمـثـل تـحـديـ أمــــام كــل من حاول فكّه. محمود الزيباوي قطعتان من موقع دبا الحصن تقابلهما قطعة من موقع الدُور وقطعة من موقع مليحة الغزاة والمحتلون اعتبروها جزءاً لا يتجزأ من الغنائم البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟ لـطـالمـا كـانـت الـبـيـوت، بأشكالها وأنماطها كــافــة، ظهير حـيـواتـنـا الأوفــــى، والـسـجـل الـرمـزي الذي يؤرّخ لحظة بلحظة، لتحولات أعمارنا منذ صــرخــة الــــــولادة وحــتــى ذبــــول الأنـــفـــاس. وســـواء اتــــخــــذت الـــبـــيـــوت شـــكـــل الـــكـــهـــوف والمـــــغـــــاور زمـــن الأســــاف الـبـدائـيـ ، أو شـكـل المــنــازل المتواضعة والبيوت الطينية البسيطة في الريف الــوادع، أو ارتـفـعـت قـصـوراً بـاذخـة وأبـنـيـة شاهقة فـي المـدن المعولمة، فهي تظل بالنسبة لقاطنيها، الحاضنة والكنف وفسحة الطمأنينة والملذ الآمن. وقــــد يــكــون الـفـيـلـسـوف الــفــرنــســي غـاسـتـون بـاشـار، أحــد أكـثـر الفلسفة المعاصرين احتفاءً بـالـبـيـوت، وتغنياً بـمـا تمثله مــن وداعــــة العيش ودفء الوجود الأصلي. وهو ما يبدو على نحو جلي، في كتابه الفريد «جماليات المـكـان»، حيث يـؤالـف على طريقته بـ الفلسفة والشعر، وبين الـــحـــواس والــــحــــدوس، راســـمـــ لـلـبـيـوت صـورتـهـا المــحــمــولــة عــلــى أجــنــحــة الـــتـــأويـــل، ومــتــحــدثــ عن دلالات المداخل وغرف الاستقبال والطعام والنوم، ومـتـنـقـاً بــ أحــشــاء الأقـبـيـة وفــضــاء الـشـرفـات. والبيوت عند باشلر ليست الأماكن التي تحتوي على الزمن مكثفاً فحسب، بل هي الدروع الصلبة الـــتـــي تــعــصــم الإنــــســــان مــــن الـــتـــفـــتـــت، و«تــحــمــيــه مــن أهــــوال الأرض وعـــواصـــف الــســمــاء». والـبـشـر الأوائـــــل الــذيــن كــانــوا يـكــبــرون فــي أمــاكــن مبهمة ومجهولة الأســمــاء، بـــدأوا بعد مـكـابـدات طويلة وشـاقـة «يتعرفون إلـى المـكـان ويستدعونه بحب ويسمونه بيتاً. كما أخـــذوا يلقون فيه جذورهم ويتوجهون نحوه بالحب، وحـ يبتعدون عنه يُــفــضــون بحنينهم إلـــيــه، ويـكـتـبـون عـنـه أشـعـار الشوق وكأنهم عشاق». وإذا كـــان الــشــعــراء والــكــتــاب والــفــنــانــون قد أولوا البيوت الكثير من الاهتمام، وأفردوا لها عبر العصور الكثير من القصائد واللوحات والأغاني، فـلـيـس غــريــبــ أن يــتــوقــف الـــشـــعـــراء الـــعـــرب ملياً عند مـا وفّــرتــه الـبـيـوت لهم مـن مشاعر السكينة والأمــــان، وســط الـخـاء الـصـحـراوي المفتوح على المجهول، والمثخن بالوحشة والـخـوف والاقتتال الدائم. وسـواء كانت طينية أم حجرية، خياماً أم مضارب، فقد سمى العرب البيوت منازل؛ لأنهم يدركون في قرارتهم أنهم سكانها المؤقتون الذين ينزلون فـي ضيافتها، ويحطون بـ ظهرانيها رحالهم، ويودعونها أجسادهم الآيـلـة إلـى موت محقق. والأرجح أن اتسام تلك الأماكن بالهشاشة، وافتقارها إلــى الصلبة والـثـبـات، هـو الــذي دفع الـعـرب الأقـدمـ إلـى أن يطلقوا اسـم البيت، على السطر الشعري المـؤلـف مـن شطرين متناظرين، والـــــــذي يـــتـــكـــرر بــالــطــريــقــة نــفــســهــا عـــلـــى امـــتـــداد الـقـصـيـدة، كما لـو أنـهـم رأوا فـي الـشـعـر، الظهير الـــرمـــزي الــــذي يعصمهم مــن الـــــزوال، ويــوفــر لهم سبل الالتئام وأسباب الخلود. ومـــــع أن امــــــرأ الـــقـــيـــس قــــد أعـــطـــى الأولــــويــــة لـلـحـبـيـب عـلـى المـــنـــزل، وهـــو يـصـعـد سـلـم الـبـكـاء الـطـلـلـي، فـــإن ذلـــك لا يقلل أبـــداً مــن قيمة المــنــازل، بــقــدر مـــا يــؤكــد عـلـى اعــتــبــارهــا امـــتـــداداً لأجـسـاد ساكنيها ووعــــاءً لأرواحـــهـــم، وخــزانــ لذكرياتهم وحنينهم العصي على النفاد. ولهذا السبب حذا الشعراء اللحقون حـذو سابقيهم، فاحتفى أبو تــمــام بـالـبـيـوت الــتــي سكنها بــصــورة متتابعة، جاعلً الحنين إلى المنزل الأول، صـورة من صور الحنين إلى الحبيب الأول الأول. وهو ما عبر عنه في بيتيه الشهيرين: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول ِكم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل ومثلما فعل أبو تمام، هتف المتنبي بحرقة ُمماثلة: ُلك يا منازل في القلوب منازل أقفرتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهل ولعلنا في ضـوء هـذه التوطئة نستطيع أن نـــدرك السبب الـــذي يـدفـع الــغــزاة والمـحـتـلـ ، منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، إلى جعل البيوت جــزءاً لا يتجزأ من غنائم الـحـرب، حتى إذا تعذر القبض عليها بصورتها السليمة، تـم إحراقها وتحويلها رماداً، أو تدميرها وتسويتها بالأرض. ولعل ما فعلته قوى الاحتلل الإسرائيلي ببيوت غــــزة والــضــفــة ولــبــنــان، هـــو الــشــاهــد الأبـــلـــغ على مــا تــقَــدم. فـمـا الـــذي يعنيه دكّ الـبـيـوت والمـبـانـي والأبـراج على رؤوس ساكنيها، بل إنذار مسبق، أو بــــإنــــذار لــئــيــم دون فـــاصـــل زمـــنـــي؟ ومــــا الـــذي يـعـنـيـه انــقــضــاض الـــطـــائـــرات المـحـمـلـة بـالـقـذائـف الفتاكة على البشر الآمنين لتسوية أحياء كاملة بــــــــالأرض، ودون تـمـيــيــز بــــ المــقــاتــلـــ والــبــشــر الــعــزّل؟ ألا تعبّر الـنـشـوة الـغـامـرة الـتـي يعيشها الـطـيـارون المطلون مـن شاهق على المــدن والقرى المكلفين تدميرها، عن نزوع سادي، مماثل تماماً لذلك الــذي انتاب نـيـرون، وهـو يحوّل رومــا التي أحرقها لوحة بصرية ممتعة، أو لذلك الذي حمل فــي أحــشــاء طـائـرتـه قنبلة هـيـروشـيـمـا، منتشياً بمشهد المدينة التي تحولت خلل لحظات قليلة ركاماً؟ والمؤلم ألا يكون هذا النزوع مقتصراً على أفـراد بعينهم، بل تتسع دائرته لتشمل الجماعة الإثـنـيـة أو السياسية الـتـي يمثلونها، والــتــي لا ترضى بأقل من إبادة الآخر ومحوه من الوجود، بذرائع أسطورية ولاهوتية تم اختلقها لمثل هذه الأهداف؟ منازل دمرّتها الحرب في غزة (شاترستوك) شوقي بزيع النصالكامل على الموقع الإلكتروني

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky