issue16744

الثقافة CULTURE 18 Issue 16744 - العدد Tuesday - 2024/10/1 الثلاثاء «أوهام العقل»... صراع الذاكرة وألزهايمر في رواية هولندية وصــفــت صحيفة «نــيــويــورك تـايـمـز» رواية «أوهام العقل» للكاتب الهولندي جي برنلف بأنها «حكاية رائـعـة ومـروعـة إلى درجة أننا نشعر بمرافقة بطلها مارتن في تدهوره ليس كمراقبين، ولكن كمشاركين فـــي مـــأســـاتـــه». وصــــــدرت مـــؤخـــراً عـــن دار «الكرمة» بالقاهرة ترجمة هذا العمل على يــد أمـيـنـة عــابــد، كـنـص حـمـيـم ومــؤثــر عن الـتـدهـور الـدرامـاتـيـكـي الـــذي يعانيه رجل مسن يصاب بمرض ألزهايمر في سردية تستمد قوتها من الصوت الفريد والرائع لـلـرجـل نـفـسـه، ولــهــذا الـسـبـب مــا زالـــت من أكـثـر الــروايــات قـــراءة فـي الأدب الهولندي ألـف نسخة، كما 750 وبيع منها أكثر من تُرجمت إلــى العديد مـن اللغات وتحولت إلى فيلم سينمائي. يـعـيـش الـسـبـعـيـنـي مـــارتـــن كـــايـــن في الــبــدايــة بــذهــن حــاضــر وإن كـــان مـرهـقـا مع زوجته في ولاية ماساتشوستس الأميركية، وُلدا في هولندا وتحمل بصعوبة الاحتلل الـــنـــازي لـهـا قـبـل أن يــهــاجــرا إلـــى الـــولايـــات المـتـحـدة. وفـــي حــ أن مــارتــن اعـتـبـر نفسه لفترة طويلة شخصية «هامشية» اجتماعيا وحياته العائلية «غير مبهرة»، فإن له قدرة مـتـمـيـزة عـلـى المــاحــظــة والإدراك حـتـى مع تـدهـور حالته الصحية: «يـبـدو أنـنـي أفقد كلماتي مثلما يفقد شخص دمـــه». ويقرر: «ســـأخـــتـــلـــق حـــيـــاة لــنــفــســي مــــن دقـــيـــقـــة إلـــى دقيقة وأصــدقــهــا»، لكنه فـي النهاية يصل إلـــى قـنـاعـة أنـــه «الــوحــيــد الــبــاقــي عـلـى قيد الحياة من أبناء لغتي». كتب برنلف رواية قاتمة وعميقة عـن الـخـسـارة التي لا رجعة فيها، فقدان الـذات وفقدان اللغة والعلقات والــــذكــــريــــات. ولـــكـــن رغـــــم ذلــــــك، فـــــإن صـــوت مارتن في نهاية الرواية يوحي بالأمل. » مجموعة 2012 - 1937« أنتج برنلف كــبــيــرة مـــن الأعـــمـــال بـمـا فـــي ذلــــك الـقـصـائـد والــقــصــص والــــروايــــات والمـــقـــالات وتـرجـمـة الشعر وكان محرراً لدوريات أدبية وحصل على العديد من الجوائز. ومن أشهر رواياته . ومن 1984 «أوهام العقل»، التي صدرت عام أجــــواء الـــروايـــة نــقــرأّ: «لـعـل الـثـلـج هــو الــذي يجعلني أشـعـر بـهـذا الـتـعـب الـشـديـد حتى فــي الــصــبــاح. لا تـشـعـر فــيــرا بـالـتـعـب، إنها تحب الثلج وفــي رأيـهـا ليس ثمة مـا يعلو على منظره عندما تختفي آثار الإنسان من الطبيعة وعندما يصبح كـل شــيء مساحة واحدة بيضاء لا تشوبها شائبة. تقول إنه منظر في غاية الجمال، يكاد يكون ساحراً لـكـن هـــذا المـنـظـر لا يـــدوم هـنـا وقـتـا طـويـاً، مــــا إن تــمــضــي بـــضـــع ســــاعــــات حـــتـــى تـــرى آثــــار الأقــــــدام وآثـــــار الــعــجــات فـــي كـــل مـكـان وتنهمك جرافات الثلج في تنظيف الطرقات الـرئـيـسـيـة. أسـمـعـهـا وهـــي تـعـد الـقـهـوة في المطبخ، لا شيء يدل على المكان الـذي يمتد فيه شــارع فيلد أمــام منزلنا ســوى العمود الأصـــفـــر الـــتـــرابـــي الـــقـــائـــم فـــي مـــوقـــف بــاص المـدرسـة. بخصوص هـذا الأمــر، لا أفهم أين بقي الأولاد الــيــوم، أقــف هنا خلف النافذة كـــل صـــبـــاح أتــحــقــق مـــن درجـــــة الــــحــــرارة في بـادئ الأمـر ثم انتظرهم إلـى أن يظهروا من بــ جــــذوع الـشـجـر مــن جـمـيـع الـجـهـات في الــصــبــاح الــشــتــوي الــبــاكــر بـحـقـائـبـهـم على ظـــهـــورهـــم وقــبــعــاتــهــم وأوشــحــتــهــم المـلـونـة وأصـواتـهـم الـحـادة الأميركية. هــذه الألــوان المـتـنـوعـة تـبـعـث عـلـى الــســعــادة فــي نفسي، أحـمـر نـــاري، أزرق كـوبـالـتـي، صبي يرتدي سترة صفراء صفار البيض بطاووس مطرز على الظهر، صبي يعرج على نحو خفيف ويصعد آخر الأولاد إلى باص المدرسة. إنه ريـتـشـارد، ابــن تـــوم، حـــارس المــنــارة. يقرقع المـــنـــزل فـــي عــــوارضــــه مــثــل زورق قـــديـــم في الخارج، تتدحرج الريح عبر رؤوس أشجار الصنوبر الــجــرداء المتمايلة. وفــي لحظات ثابتة يتناهى الصفير الــهــادر المـكـتـوم من صــفــارة الــضــبــاب، أقــصــد صــفــارة التحذير مــن الــضــبــاب، بـجـانـب المــنــارة الـقـائـمـة على الصخرة الأخيرة الناتئة من البحر». القاهرة: «الشرق الأوسط» بين جون ستيوارت ميل وهيغل عالم بلاصراع؟ ، عـانـى الفيلسوف 1826 فــي خـريـف عـــام الإنـجـلـيـزي جـــون ســتــيــوارت مــيــل، مــن انـهـيـار عصبي مفاجئ. الـذيـن يعرفون ميل وسيرته ونـضـالـه الـقـانـونـي وكـتـبـه الفلسفية يعرفون أنه من أبرز الفلسفة الإنجليز إلى جوار راسل وهيوم وهوبز وبيكون، ولعلّي لا أكون واهما إن قـــلـــتُ إن مـسـاهـمـتـه فـــي الــتــأســيــس لمـذهـب «المـــنـــفـــعـــة» كـــانـــت أهـــــم مــــن مــســاهــمــة مــؤســس المذهب جيريمي بنتام. هذا المذهب الذي ترجع أصـــولـــه إلــــى الإغــــريــــق، خــصــوصــا الـفـيـلـسـوف المنسيّ أرسطبوس، تلميذ سـقـراط، وأبيقور، ثـــم حـــوّلـــه الإنــجــلــيــز مـــن كـــونـــه مـــجـــرد مـذهـب للّذة الفردية يدعو لِلعَبّ من الملذّات وتحاشي الألم إلى مذهب للمنفعة العامة، على مستوى الـــدول وتـطـورهـا. لقد سـاهـم ميل فـي صناعة مذهب يقول إن كل عمل بشري لا بد أن يهدف إلــى تعزيز أعـظـم قــدر مـن الـسـعـادة لأكـبـر عدد مـن الـنـاس، وكـــرّس قـــدراً كبيراً مـن طاقته عبر العقود المتتالية لتقوية هــذا المـذهـب وتحرير مـخـطـوطـات بـنـتـام الــشــاقــة. وأدخــــل فــي نطاق الــنــفــعــيــة الــــدعــــوة إلــــى إصــــاحــــات اجـتـمـاعـيـة مــخــتــلــفــة تـــــــراوح بــــ تــحــســ الـــعـــاقـــات بـ الجنسين وأجور العمال وحماية حرية التعبير وتـوسـيـع دائــــرة الـنـاخـبـ البريطانيين وحـق المرأة في التصويت. حـــــدث الانــــهــــيــــار الـــعـــصـــبـــي كـــــان شــائــعــا بالنسبة إلـى المشغولين بالفلسفة والفلسفة ويبدو أنه كان ناجما عن إرهاق ذهني تراكمي. لكنك حين تقرأ وصف ميل لتلك الحالة وما دار حولها مـن أيـــام، قـد تصل إلــى شــيء مختلف. يبدو أنــه قـد فقد البوصلة وصــار يشعر بأنه لـــم يــقــل شــيــئــا ذا بـــــال، وأن كـــل مــطــالــبــاتــه لو تحققت فإنها لن توصله إلى حالة الرضا التي عـاش حياته ينشدها. لقد اكتشف فجأة أنْ لا جدوى من تحقيق أحلمه، لأن تحقيق الأحلم وإشـبـاع الرغبات سيؤدي إلـى السآمة والملل، كما حـــذّر آرثـــر شوبنهاور مـن قـبـل، وبالتالي سنبقى مثل البندول نتراقص بين الألم والملل. فــــــي أعــــــقــــــاب هــــــــذا الاكــــــتــــــشــــــاف، انــــزلــــق الفيلسوف إلى حالة من الاكتئاب استمرت ستة أشهر، ويبدو أن الأزمــة كانت نتيجة طبيعية لقلقه بشأن إمكانية السعادة في العالم المثالي الذي سعى إلى تحقيقه؛ عالم بل صراع. رغــم عظمة ميل فـإنـه كــان حـالمـا أكـثـر من الــــازم. فــي تــصــوري أن الفيلسوف الـــذي فهم حـقـا حقيقة الـــوجـــود وســـر الـحـيـاة هــو هيغل من خـال منهجه الجدلي (الديالكتيك). ميزة فكر هيغل هي أنـه يرحب دائما بعالم تجتمع فـيـه المــتــنــاقــضــات، عــالــم صــــراع لا يـنـفـك حتى يـبـدأ مـن جـديـد، عـالـم الأحــــزان والأفـــــراح، عالم الـفـوز والهزيمة. بـل عندما يأتي الحديث عن الحرب فإنه يرحب بها، متابعا أستاذه البعيد هيراقليطس الـــذي قـــال «الــحــرب أُم الجميع». ليس حبا فـي سفك الــدمــاء وإنـمـا ينطلق هذا المـــوقـــف مـــن عقلنيتهما الــواقــعــيــة الــصــارمــة. أولاً: لأن الحرب لا انفكاك عنها وأنها ستبقى تقع بين البشر على المصالح بغضّ النظر عما نقوله ونفعله، ولو تحول نصف سكان الكوكب إلـى البوذية المسالمة لغزاهم النصف الآخـر أو هيمنوا عليهم. ثانيا: أن الحرب نافعة وتؤدي إلى التقدم الحضاري. إذا تصورنا كيف قَبِلَ هيغل الحرب، فل شــك أنـــه يقبل الـحـيـاة بـمـرّهـا وحـلـوهـا بنفس الطريقة. إنــه لمـن العقل أن نـرحّـب بالتناقض، فالتناقض سر الـوجـود، وصــراع الأضـــداد هو الـحـقـيـقـة الأولــــــى. هــــذا الـــصـــراع هـــو ســبــب كل تغير يحدث في العالم، وينبغي ألا نخاف من التغير. ثمة غـايـة سامية تكمن وراء التغير، هي قيادة الوعي المشترك بين كل البشر صوب المعرفة الفلسفية. فالوعي الحقيقي لا يحدث إلا بالخروج من دائرة الوعي الفردي المحبوس في ذاتـه، المعزول عن العالم، والارتـفـاع به إلى مستوى الصراعات الفكرية والشراكة العقلية والـروحـيـة، مـن خـال عيش الفلسفة بوصفها خـبـرة نـــرى فيها الــتــاريــخ كـلـه، وبـحـيـث تبدو الأحــــداث التاريخية كتحقق للفلسفة ينقلها إلى الواقع. نـحـن نـبـصـر الـتـنـاقـض وهـــو يــســري في الــطــبــيــعــة والـــفـــكـــر والإنـــــســـــان فــــي كــــل لـحـظـة، نــــراه فـــي حــركــة الـــكـــواكـــب، فـــي تـغـيـر الـظـواهـر الطبيعية، في تقلبات الأجـواء، مثلما نراه في حياتنا الشخصية، في تناقضاتنا وانقلبنا على ذواتنا. في ذلك يقول هيغل: «إن التناقض مبدأ كل حركة وكل حياة وكل تأثير فعّال في عالم الواقع». لا يوجد عالَم ساكن كعالم دعــاة تطوير الــــــذات وفـــاســـفـــة الــــــزن، لأن الـــعـــالـــم دائـــمـــا في حــركــة وتــطــور وتـغـيـر، وبـالـتـالـي فـكـل تصور سكوني مرفوض، وكل فصل بين المحسوسات والتصور العقلي مرفوض. ولـــــو أمـــعـــنّـــا الـــنـــظـــر لـــوجـــدنـــا أن عـمـلـيـة الــــصــــراع لــيــســت مـــجـــرد نـــشـــاط ذهـــنـــي تــرفــي، بــل هــي كــل مــا يحيط بـنـا مــن هـــذا الـعـالـم، من الــثــلــج الـــــذي يُــنــفــى فـيـصـيـر مـــــاءً، والمـــــاء الـــذي يُـنـفـى فيصير بـــخـــاراً، والـحـيـتـان الـتـي تموت فيتحول بعض أجزائها عبر الـزمـن إلـى نفط، كل ذلك يسير على نفس الخطة. وعندما ننظر إلى نظامنا الشمسي، سندرك أن هذا الكوكب الــذي يوجد الآن فـي مـكـان، يُعلن أيضا أن من طبيعته أن ينتقل إلى مكان آخر، لأنه لا مناص له من الحركة التي ستنقله إلى وجود مغاير. وعندما تنظر في نفسك، في أمسِك، فترى أنك كنت تسير فـي طريق مــا، فتنزع نفسك اليوم إلى معارضة ما كنت عليه بالأمس ومسيرتك تـلـك، فينشأ صـــراع شـديـد بــ الأمـــس والـيـوم وتُمزّق، ثم يكون هناك مُركّب يتجلى في الغد. كل هؤلاء شهود عدول على صدق الديالكتيك وأنــه واقــع نعيشه فـي كـل لحظة؛ فـي الطبيعة وفــــي الإنـــســـان وفــــي الــفــكــر. وكـــمـــا قــــال هـيـغـل: الفرح يظهر من خلل الدموع، والحزن الشديد يتجلّى في ابتسامة. * كاتب سعودي * خالد الغنامي هيغل خبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة مع تعقّد الحياة وتطوّرها بعيداً عنضوضاء العالم كــنــتُ أحـــســـبُ أنّ الـــعـــبـــارة الأيـقـونـيـة الــشــائــعــة الـــتـــي ســــــادتْ فـــي عـــقـــود سـابـقـة بـصـيـغـة تـــســـاؤل: هـــل الـــفـــن لـلـفـن أم الـفـن للحياة؟ قد ماتت وتلشى ذكرُها في لجج هـذا العصر الــذي تعاظمت فيه الفردانية بــدفــعٍ مـبـاشـر مــن المــنــجــزات الـتـقـنـيـة غير المــســبــوقــة؛ لـــكـــنْ يـحـصـل أحــيــانــا أن تـقـرأ فــي بـعـض وســائــل الـتـواصـل نـقـاشـات قد تستحيلُ مـعـارك سجالية يـبـدو أطرافها وكــأنّــهــم لـــم يـــغـــادروا بــعــدُ أجـــــواء الـحـرب الثقافية الـــبـــاردة الـتـي كـانـت جـــزءاً فـاعـاً فـــي الـــحـــرب بـــ المــعــســكــريــن الاشـــتـــراكـــي والـرأسـمـالـي. ربـمـا مـن المـهـم الإشــــارةُ إلى أنّ مــفــردة «الــفــن» فــي الـتـسـاؤل الإشـكـالـي تعني كـــلّ الـــضـــروب الإبــداعــيــة المـتـصـوّرة مـــن كــتــابــة (تـخـيـيـلـيـة أو غــيــر تخييلية) وشعر وفنون تشكيلية. أعتقدُ أنّ التساؤل السابق فاسدٌ في أساسه المفاهيمي لأنّه يُــخــفــي رغـــبـــة مــضــمــرة فـــي تــأكــيــد قـنـاعـة مـسـبـقـة ســعــى المــعــســكــر الاشـــتـــراكـــي إلــى ترسيخها ومفادُها أنّ الشيوعية تتناغم مــــع تــطــلــعــات الإنــــســــان عـــلـــى الـــعـــكـــس مـن الرأسمالية التي تعظّم فردانيته وجشعه ونـــــزوعـــــه الـــشـــخـــصـــي. عـــلّـــمـــتْـــنـــا تــــجــــاربُ كـثـيـرة أنّ الـتـبـنّـي الآيـديـولـوجـي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبـي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبــــــيــــــة، ولــــســــتُ فــــي حــــاجــــة إلــــــى إيــــــراد أمثلة عـن أعـمـال كُتِبت فـي ظـلّ «الواقعية الاشـــتـــراكـــيـــة»، وكـــانـــت غــايــة فـــي الـسـخـف والـــــــرداءة. مـــا سـأسـعـى إلــيــه فـــي الـفـقـرات الـــتـــالـــيـــة هـــــو مــــحــــاولــــة تـــفـــكـــيـــك الأســــــاس الـفـلـسـفـي الـــدافـــع لـــإبـــداع فــي حـقـل الأدب عـلـى وجـــه التخصيص رغـــم أنّ المقايسة يمكن تعميمها على جميع ضروب الإبداع الفني. الحياة مشقّة رغم كلّ اللذّات الممكنة والمـتـاحـة فـيـهـا، وخـبـراتـنـا فــي الـحـيـاة لم تـعُـدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة بـاتـت تتزايد مناسيبها مــع تـعـقّـد الـحـيـاة وتــطــوّرهــا. قــــارن نـفـسـك مــع أفـــاطـــون مــثــاً: بوسعك الـيـوم أن تـحـوز خـبـرات تقنية أعـظـم ممّا عــرفــهــا أفـــاطـــون وكــــلّ فــاســفــة الإغـــريـــق؛ لـــكـــنْ هــــل بــمــســتــطــاعــنــا كـــتـــابـــة «مــــأدبــــة» حــــواريــــة فـلـسـفـيـة تــتــنــاغــم مـــع مـتـطـلـبـات الــقــرن الــحــادي والـعـشـريـن؟ أشـــكّ فــي ذلـك كــثــيــراً؛ فــهــذا جـهـد أقــــرب إلـــى الاسـتـحـالـة ) فـي حياتنا Distractions( لأنّ الإلــهــاءات بــاتــت كــثــيــرة، وجـعـلـت مـاحـقـة الـقـضـايـا الوجودية الأساسية ووضعها في مقايسة فلسفية مناسبة - مثلما فعل أفـاطـون - مهمّة مستعصية. ربما سيتساءل سائل: ولمــاذا لا نكبحُ هـذه الإلـهـاءات من حياتنا ونـعـيـش بـعـيـداً عنها لـكـي نـكـون قـادريـن عـلـى امـــتـــاك الإحـــســـاس الـفـلـسـفـي الــــازم لـكـتـابـة أفــاطــونــيــة بــثــيــاب مـــعـــاصـــرة؟ لا يـمـكـنـنـا هــــذا لأنّـــــه يــعــنــي - بـــالـــضـــرورة - العيش في جزيرة مهجورة. دعونا نتذكّر ما كتبه الشاعر اللهوتي الإنجليزي جون ): «ما مِـنْ إنسانٍ جزيرةٌ John Donne( ْ دَن لــــوحــــده». مـــن غــيــر هــــذه الإلــــهــــاءات تـبـدو الحياة وكأنّها تفكّرٌ طويل لا ينقطع في مـوضـوعـات المـــوت والـشـيـخـوخـة والمـــآلات النهائية للوجود البشري المقترن بحسّ مـــــــأســـــــاوي. لا حـــــيـــــاة بــــشــــريــــة تـــســـودهـــا متعة كاملة. الإلــهــاءات تتّخذ فـي الـعـادة شكل ْ: شكل اختياري، نحن من يختاره (لــــعــــب، مــــشــــي، ســــفــــر، تــــجــــوال لـــيـــلـــي فـي الـشـوارع المــضــاءة...)، وشكل يتخذ صفة المـواضـعـات القانونية (دراســــة، عــمــل...). نفهم مــن هـــذا أنّ الإلـــهـــاءات مـفـيـدة لأنها تـبـعـدُنـا عــن الـجـلـوس المـسـتـكـ والـتـفـكّـر فــي ثـنـائـيـات المــــوت والــحــيــاة، والــبــدايــات والنهايات، والطفولة والشيخوخة... إلى جـانـب تمكيننا مـن إدامـــة زخــم متطلبات عيشنا اليومي. الـغـوص فـي لـجّـة الإلــهــاءات اليومية حـدّ الـغـرق فيها ليس بـالأمـر الطيب متى ما صار ممارسة روتينية نفعلها من غير تــدبّــر أو مـسـاءلـة. أظـــنّ أنّ أسـبـابـا كثيرة تدفعنا لخرق هذه الممارسة أحيانا: أولاً: الغرق في بحر إلهاءات المعيش الــيــومــي يـحـيـلُـنـا إلــــى الــشــعــور الـبـديـهـي بأنّنا كائناتٌ محلية مآلها الفناء، وقتية الــــوجــــود، مــحــكــومــة بـــقـــوانـــ المـــحـــدوديـــة الــزمــانــيــة والمــكــانــيــة. قـــد نــكــون كــذلــك في الـتـوصـيـفـات الـواقـعـيـة؛ لـكـنّ أحـــد شــروط الـــعـــيـــش الـــطـــيـــب هــــو الــــــطَــــــرْقُ عـــلـــى هـــذه المـــحـــدوديـــة بـمـطـرقـة ثـقـيـلـة بـغـيـة تكسير قشرتها السميكة الـتـي تحيط بـنـا حتى لـو تــمّ الأمـــر فـي الـنـطـاق الـذهـنـي. أظـــنّ أنّ المـسـعـى الـكـلـكـامـشـي حـــاضـــرٌ فـــي كـــلّ مـنّـا بقدر صَغُرَ أم كَبُرَ. العيش بغير ملمسة المثال الكلكامشي يبدو عيشا باعثا على أعلى أشكال الملل والشعور بخسارة الزمن والعبثية المطلقة لتجربة العيش البشري. ثـــانـــيـــا: تـــقـــتـــرن الإلــــــهــــــاءات الــيــومــيــة لــــلــــعــــيــــش بــــمــــنــــاســــيــــب مـــــتـــــصـــــاعـــــدة مـــن الـــضـــوضـــاء حـــتـــى بـــــات الـــكـــائـــن الــبــشــري يـــوصـــف بـــالـــكـــائـــن الـــصـــانـــع لــلــضــوضــاء. نـتـحـدثُ الــيــوم عــن بصمة كـاربـونـيـة لكلّ فرد منّا، وهي مؤشر عن مدى ما يطرحه الـــواحـــد مــنّــا فـــي الــجــو مـــن غـــــازات مـؤذيـة للبيئة. أظنّ أنّ من المناسب أيضا الحديث عن بصمة ضوضائية للفرد: كم تعملُ من ضوضاء في محيطك؟ نــــحــــنُ كــــائــــنــــات ضـــوضـــائـــيـــة بـــدافـــع الــحــاجــة أو الـتـسـلـيـة أو الــضــجــر. نصنع الـــضـــوضـــاء بـشـكـل أو بــآخــر وبـمـنـاسـيـب مــــتــــفــــاوتــــة. ثــــمــــة دراســــــــــــات مــتــخــصــصــة ومـعـمّـقـة فــي عـلـم الـنـفـس الـتـطـوري تـؤكـدُ أنّ البصمة الضوضائية يمكنُ أن تكون مقياسا تـطـوريـا لــأفــراد. كلّما تعاظمت البصمة الضوضائية للفرد كانت قدراته الـعـقـلـيـة والـتـخـيـيـلـيـة أدنـــــى مـــن نــظــرائــه ذوي البصمة الضوضائية الأدنـــى. ربما الــتــســويــغ الأقــــــرب لـــهـــذه الـنـتـيـجـة أنّ مَـــنْ يتكلمُ أكثر يفكرُ أقل. ثـالـثـا: هـــذا الـتـسـويـغ يعتمد مقاربة غـريـبـة تـــوظّـــفُ مــا يـسـمّـى مـبـرهـنـة غــودل Godel›s Incompleteness( فـي اللاكتمال )، وهــــي مــبــرهــنــة مـــعـــروفـــة في Theorem علوم الحاسوب والرياضيات، وأقرب إلى أن تــكــون رؤيــــة فـلـسـفـيـة قـابـلـة للتعميم، وهو ما سأفعله هنا. جوهرُ هذه المبرهنة أنك لن تستطيع البرهنة على صحة نظام ) بــالــلــجــوء إلــى Formal System( شـكـلـي عــبــارات مـن داخـــل نـطـاق الـنـظـام دومـــا. لا بدّ أن يحصل خطأ ما في مكان ما. يبدو لــي الـتـعـمـيـم عـلـى نــطــاق الـعـيـش الـيـومـي البشري ممكنا: لـن تستطيع عيش حياة طيبة إذا مــا اكتفيت بـالـقـوانـ الـسـائـدة والمعروفة للعيش. لا بدّ من نوافذ إضافية تــتــيــحُ لـــك الارتــــقــــاء بـنـمـط عــيــشــك، وهـــذه الـــنـــوافـــذ هــــي بــــالــــضــــرورة مـيـتـافـيـزيـقـيـة الطابع تتعالى على الواقع اليومي. رابعا: العيش اليومي فعالية شهدت نمواً مضطرداً في مناسيب العقلنة حتى لامست تخوم العقلنة الصارمة المحكومة بخوارزميات حاسوبية. العقلنة مطلوبة في الحياة بالتأكيد؛ لكننا نتوق إلى كبح سطوة قوانين هـذه العقلنة والتفكير في نطاقات غير معقلنة. اللعقلنة هنا تعني عدم التأكّد اليقيني المسبق ممّا سيحصل انــتــظــاراً لمــكــافــأة الــدهــشــة والمـــفـــاجـــأة بـــدلاً مـن الـحـدس الرتيب بالإمكانية الوحيدة للتحقق. خـامـسـا: الـعـيـش الـيـومـي يـقـتـرن في الــعــادة مــع مناسيب عـالـيـة مــن المـأزومـيـة الـــعـــقـــلـــيـــة والـــنـــفـــســـيـــة. عـــنـــدمـــا لا تـعـيـش بحكم الــضــرورة وحــدك فأنت تتفاعل مع آخـريـن، وهــذا التفاعل قـد يكون هـادئـا أو مشحونا بـقـدر مـن الـصـراع الــوجــودي. لا تـريـاق لـهـذا النمط الـصـراعـي المـحـتـوم إّ بكتابته وتحويله إلــى مـغـذيـات إبداعية أولية للكاتب. تحدّث كثيرٌ من الكتّاب عن أنّ الـكـتـابـة أضـحـت لـهـم مـثـل تــنــاول حبة الـضـغـط الـيـومـيـة الـــازمـــة لــعــاج ارتــفــاع الـضـغـط الـــدمـــوي لـديـهـم. إنّــهــم صــادقــون تـمـامـا. مــن غـيـر الـكـتـابـة يصبحون أقــرب لكائنات شيزوفرينية يـكـاد يقتلها الألـم والعذاب. الأدب الــجــيّــد بـــكـــلّ تـــاويـــنـــه، مثلما كـــلّ فعالية إبـداعـيـة أخــــرى، تــريــاقٌ ناجع للتعامل مــع الإفــــــرازات الـسـيـئـة المـتـازمـة مع وجودنا البشري. يخرجُنا الفن المبدع غــيــر المــــأســــور بـــمـــحـــدّدات الآيــديــولــوجــيــا مــن محليتنا الضيقة ومـــحـــدّدات الـزمـان والمكان، ويؤجج جذوة المسعى الكلكامشي فـيـنـا طـلـبـا لــخــلــود افـــتـــراضـــي نـــعـــرف أنــه لـن يتحقق، ويكبح سـطـوة الإلــهــاءات في حــيــاتــنــا ولــــو إلــــى أمــــد مـــحـــدود كــــلّ يـــوم، مثلما يكبحُ مفاعيل الضوضاء البشرية فينا ويجعلنا نصغي بشهوة وتلذّذ إلى أصوات أعماقنا التي تقمعها الانشغالات البديهية والروتينية. أفلاطون لطفية الدليمي بوسعنا اليوم أن نحوز خبرات تقنية أعظم ممّا عرفها أفلاطون لكنْ هل بمستطاعنا كتابة «مأدبة» حوارية فلسفية تتناغم ؟21 مع متطلبات القرن الـ

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky