issue16743

الثقافة CULTURE 18 Issue 16743 - العدد Monday - 2024/9/30 الاثنين محمد عبلة: أعيشالفن بمحبة الناسوالحياة يكشف الـفـنـان التشكيلي محمد عبلة فــي كتابه «مصر يا عبلة – سنوات التكوين» عن خريطة متعددة الأبـــعـــاد والمـــامـــح لـلـواقـع المــصــري فــي فـتـرة حـرجـة من الــــســــبــــعــــيــــنــــات شـــــهـــــدت كــــثــــيــــراً مــن الـــــتـــــحـــــولات المــــفــــاجــــئــــة عــــلــــى شــتــى المستويات السياسية والاجتماعية والـــــثـــــقـــــافـــــيـــــة، مــــــن أبـــــــرزهـــــــا تـــوغـــل الــــجــــمــــاعــــات الإســـــامـــــيـــــة المـــتـــطـــرفـــة فــي نـسـيـج الــحــيــاة، مـلـقـيـةً بظللها الـكـئـيـبـة عـلـى المـعـنـى والـقـيـمـة للفن والجمال ودورهما في بناء المجتمع. ورغــــم أن الــكــتــاب الـــصـــادر عن «دار الــــــشــــــروق» بـــالـــقـــاهـــرة مــعــنــيّ بــــالــــســــيــــرة الـــــذاتـــــيـــــة لــــلــــفــــنــــان، فـــإنـــه بــــالــــتــــوازي مـــعـــهـــا، وعـــلـــى هـامـشـهـا يحفر سيرة خاصة للحياة والتشبث بـــــإرادة الأمـــل فــي مـواجـهـة الصعاب الجمّة التي واجهها من أجـل بلورة حلمه وتحقيقه بصورة فنية راقية على أرض الواقع. تــشــكــل الـــطـــفـــولـــة المـــحـــطـــة الأُم في رحلة هـذه السيرة، وهـي طفولة قـرويـة محضة، لا طــرف فيها سوى ضــــرورة الـعـيـش والـتـأقـلـم مــع حياة شجية في كنف أسرة تنتمي لعائلة كــبــيــرة بـــدويـــة الأصـــــل هـــاجـــرت إلــى مــــصــــر، وبــــعــــد مـــــــوت الــــجــــد تــحــمــل الأب رعـايـتـهـا بـالمـحـبـة والـــكـــدح في مهن شتى. فـي هــذا المـنـاخ ترعرعت طفولة عبلة، وانبثقت موهبته في الـرسـم... هنا تبرز الــلــبــنــة الأولــــــى فـــي ســـنـــوات الــتــكــويــن، الـــتـــي تــعــد أحــد الــدروس الأساسية في الفن بشتى دروبــه وتقاطعاته؛ حيث المحاكاة هي المعلم الأول للفنان؛ محاكاة الطبيعة وفــضــاء الـقـريـة بحقولها وأشــجــارهــا وطــيــورهــا، مما ســـهّـــل مــــن عــمــلــيــة الـــتـــعـــلـــم وكـــســـر جـــمـــودهـــا الـنـمـطـي المدرسي، وشحذ خيال الطفل بطاقة خصبة للتحليق فيما هو أبعد وأعمق. بــدأت هـذه المحاكاة بشخبطات دأب على رسمها بالطبشور على جــدران وسـور المـدرسـة، كأنه بتلقائية طـفـولـيـة أراد أن يـكـسـر حــاجــز الـــفـــراغ الــوهــمــي بينها وبين العين العابرة التي تتأمل المدرسة بخشية وحذر. الطريف أنه كان يستسلم للعقاب بوصفه مكافأة على هذه الشخبطات. يوثق الكتاب لهذا النزق الطفل بنظرة لا تخلو من محبة لتلك الأيام قائلً: «أول هدية تلقيتها في حياتي كانت علبة طباشير ملون من ناظرة المدرسة الابـتـدائـيـة (أبـلـة نجية) وهــي الـتـي اعـتـادت مـن قبل أن تعاقبني عـلـى شخبطاتي الـتـي تـــرى أنـنـي بـهـا أشـــوّه جدران المدرسة، تغيّرتْ الحال بعد أن زار المدرسة مفتش التربية الفنية، وطلب مني أن أرسم على السبورة مباراة لكرة القدم بين فريقي الأهلي والزمالك، ولما فرغت من الرسم، وأعجب به، أوصى الناظرة بمكافأتي، وقال لها: اهتمي بيه. ده فنان. رافقني هذا اللقب من يومها طيلة سـنـوات دراســتــي، وكـــان عـــذراً لـي إذا ارتبكت أي خطأ؛ (أصله فنان)». لكنّ هذا العذر الذي أصبح بمثابة رخصة وحصانة فنية، لم يفلح في ثني والده عن إصراره على أن يلتحق عبلة بالكلية الـحـربـيـة، بـعـد حـصـولـه على شهادة الثانوية العامة، حتى يتباهى بابنه الضابط في أوساط القرية، معززاً ذلك بأنه تحدث مع مسؤولين كبار سيسهّلون له الأمـر، ساخراً من رغبته في دراسة الـفـن والـتـحـاقـه بكلية الـفـنـون الجميلة بـالإسـكـنـدريـة: «هل سمعت أن هناك رئيس مجلس مدينة خريج فنون جميلة... رئيس البلد كلها، واحد من الجيش، هل هناك فنان أصبح رئيساً للجمهورية؟ راجع نفسك يا محمد». لـم يكن أمـــام عبلة ســوى الـتـمـرد على سلطة الأب بكذبة بيضاء مؤكداً أنه سيحقق رغبته لكنه ذهب في الطريق المعاكس والتحق بكلية الفنون، لكنّ المصادفة تـخـونـه وتـفـضـح كـذبـتـه الـبـيـضـاء؛ فـفـي محطة القطار وهو عائد من الإسكندرية يفاجأ بوالده أمامه، ويكشف شعره الطويل عن السِر، فيجذبه والده منه صارخاً في وجهه: «فيه حد في الكلية الحربية شعره طويل كده؟». ويـهـدده بـأنـه ســوف يتخلى عنه إذا لـم يسحب أوراقـــه مـن كلية الـفـنـون، ويـرجـوه أن الفرصة لا تـــزال مواتية، وأنه إذا لم يفعل ذلك فعليه أن يتحمل وحده مسؤولية اختياره، لكنّ عبلة يُصرّ، لتتعقد حبال القطيعة بينهما لسنوات، حتى إنـه كـان يتحين فرصة عـدم وجــود الأب في البيت ليتسلل خلسة لزيارة أمه وإخوته وأصدقائه في القرية. يعيش عبلة الفن في كل تفاصيل الحياة، ويؤكد فــــي تــقــديــمــه لــلــكــتــاب أن مــــن الــــــــدروس الـــتـــي تـعـلـمـهـا، وأصبحت بمثابة اليقين هي أن الفن يجب أن يكون في خدمة الناس، لذلك يشكل الحلم بالفن وهاجسه ومحبته الباذخة مطاردة مغوية لعبلة على مدار صفحات الكتاب صفحة مزيلة بملزمة بالألوان تعكس 225 الممتدة عبر رسوماته في مراحل مختلفة. باسم هذه المحبة وتحت وطأة ضغوط الحياة وتدبير نفقات ومستلزمات العيش عمل عبلة في مهن عديدة، معظمها لا علقة مباشرة له بالفن: عمل نقاشاً وخطاطاً وبائع قطع غيار للسيارات، ورساماً في مصلحة الدمغة، وغيرها من المهن والحرف التي أكسبته معرفة أوسـع بموازين القوة والربح والخسارة في المجتمع. بعد تخرجه في الكلية بمرتبة الــــشــــرف وكـــــــان تـــرتـــيـــبـــه الأول عـلـى دفــعــتــه، انــتــقــل لـلـعـيـش فـــي الــقــاهــرة لأداء الــخــدمــة الـعـسـكـريـة بالجيش، وقــــــبــــــل نـــــحـــــو شـــــهـــــر مــــــــن خـــــروجـــــه وحصوله على شهادة إتمام الخدمة يـــطـــارده هــاجــس الــفــن بـشـكـل مـربـك، قــــلــــم يــــكــــد يـــصـــفـــو لـــنـــفـــســـه ويــــفــــرح بنجاح معرضه الأول بالمركز لثقافي الإســـبـــانـــي فـــي الـــقـــاهـــرة، ومــــن خــال خــبــر نُــشــر بـصـحـيـفـة «الأهــــــــرام» عن المـــعـــرض يـسـتـدعـيـه قـــائـــد المـعـسـكـر، وكـان شخصاً قاسياً، ويـهـدده بعدم الـــخـــروج مـــن الــجــيــش قــبــل أن ينجز تصميم جديد لبوابة المعسكر عبارة عـــن لـــوحـــة كــبــيــرة بــهــا «قـــــوس نصر وفوقه نسر، فـارداً جناحيه، ارتفاعه متراً من الحديد، وعلى الجانبين 12 شعار السلح وشعار الـوحـدة، وفي كل جنب تكتب: (مصر أولاً)». في تلك الفترة كان عبلة يسكن في غرفة بشقة في الجيزة مع شاب طــيــب مـــن الــصــعــيــد. الــطــريــف أنـهـمـا تقاسما معاً دورتَــــي الليل والـنـهـار؛ ففي الليل يذهب رفيقه إلـى عمله في ورديــة في المطار، تاركاً الحجرة لعبلة حتى ينام ويستريح، وحين يعود فـي الصباح يفعل عبلة الأمــر نفسه؛ يستيقظ ويخرج للتجوال فـي شـــوارع الـقـاهـرة، يُمعن النظر فـي بيوتها الـقـديـمـة، وطــرزهــا المـعـمـاريـة العتيقة، ويعيشها حالةً فنيةً متجددةً. خـمـس ســنــوات هــي مـــدة الـــدراســـة بالكلية، ورغــم مـشـاقّ الحياة حافظ عبلة على تفوقه، وقــام برحلتين تــركــا أثــــراً عميقاً فــي هـــذه الــســيــرة؛ الأولــــى إلـــى بـغـداد والأخــــرى إلـــى الأقــصــر بـجـنـوب مـصـر. فــي بــغــداد التي أحبها، ورأى فيها مزيجاً فـريـداً مـن دمشق والقاهرة، اشتغل في مهن كثيرة وكوّن صداقات قوية مع عراقيين وأكــــراد أحـــسّ معهم بـأنـه وســط أهـلـه ونــاســه، وحصل عـلـى كـتـابـ مـهـمـ مــتــرجَــمَــ عـــن الـتـصـويـر والـخـط العربي صـــدرا عـن وزارة الثقافة العراقية لـم يجدهما في القاهرة، وكان وزير الثقافة آنذاك سعدون حمادي، سخياً، حين استقبله بترحاب وسهّل مأموريته لتصبح الـحـصـيـلـة كــرتــونــة مـــن الــكــتــب المــهــمــة الــتــي أصــدرتــهــا الوزارة. كما أصبح له مرسم يطلّ على نهر دجلة، وأقام معرضاً لأعماله الـتـي رسمها هـنـاك بمدخل أكاديمية الفنون، وتجمعه المصادفة بصديق عمره عــادل مـراد، عاشق العزف على الـعـود. في الأقصر التي قضى بها شهراً راح يبحث عن فكرة لمشروع التخرج الـذي يتوّج بــه دراســتــه فــي الكلية مـتـأمـاً جــــدران المـعـابـد والمـقـابـر الفرعونية وما تحويه من رسوم وأشكال نحتية تزداد ألـقـ مــع حـركـة الـشـمـس ودوران الـطـبـيـعـة، أوقــعــه هـذه التراث العريق وجمالياته النابضة بالحيوية والحياة فـــي حــالــة مـــن الــحــيــرة والارتــــبــــاك، فـثـمـة أسـئـلـة كثيرة ملحّة لا يجد إجابة عنها: ماذا سيرسم، وكيف إذن في مشروع التخرج؟ يصف عبلة انطباعه فور زيارته لمقبرة «رخا رع»: «كـان كل ذلك بألوان، كأنها رُسمت بالأمس، كما كانت حـــركـــات الأجـــســـام وهـــي تـلـتـفّ وتـمـيـل كـأنـهـا رقـصـات مقدسة في ممر طويل... ثمة طيبة غريبة تجعلك كأنك تعرفهم وتشعر بأنفاسهم حولك». في العودة صادف صندلاً راسياً في النيل يتأهب لـإبـحـار، ينجح فـي إقـنـاع رئـيـس العمال بــأن يـأخـذوه معهم فـي رحلتهم النيلية مـن الأقـصـر إلـى قنا، تبهره حــركــاتــهــم، وهـــم يــصــعــدون عـلـى لـــوح خـشـبـي بـقـوالـب الطوب الأحمر من الشاطئ، ويرصّونها بعناية لافتة فوق سطح المركب، ويرددون بإيقاع دافئ: «هيل هيل... يا الله يا مهوّن»، فيحس بأنه أمام طقس حياة خاص، وأن رســـوم مقبرة «رخـــا رع» تتحرك أمـامـه فـي مشهد حـــي. مـــن هـــذا المـشـهـد اسـتـقـى فـكـرتـه لمـــشـــروع الـتـخـرج وأعطته لجنة التحكيم عليه أعلى درجة في تقريرها. يحتفي عبلة في الكتاب بكوكبة من الفنانين لعبوا دوراً مؤثراً في هـذه السيرة، على رأسهم سيف وانلي «الأسـتـاذ»، وكامل مصطفى عميد الكلية، وحامد ندا، وبيكار، ومر على من سمّاهم «أولياء الفن الصالحين»: النحات الفطري عبد البديع عبد الحي، والمخرج شادي عبد السلم، وفنان الخزف سعيد الصدر، ليودّعهم قبل سـفـره إلــى إسـبـانـيـا، كما احتفى بـنـاس بسطاء تركوا لمسه حانية في هذه السيرة الشيقة، وهذا الكتاب النادر من نوعه على الأقل في محيطنا الثقافي العربي. جمال القصاص أمضى حياته كلها في مكافحة التعصب الديني وتحليله وتفكيكه بيير بايل... مثقف بروتستانتي في فرنسا الكاثوليكية أكبر خطيئة نرتكبها نحن المثقفين العرب هـــي إقـــامـــة المـــقـــارنـــة بـــ مـجـتـمـعـاتـنـا الـعـربـيـة الإسلمية الحالية ومجتمعات الغرب المتطورة الـتـي تــجــاوزت كلياً مشكلة الأصـولـيـة الدينية الـطـائـفـيـة. هـــذا مــا يــدعــوه المـــؤرخـــون بالمغالطة التاريخية. ينبغي أن نقارن ما تمكن مقارنته، لا ما تستحيل مقارنته. بمعنى آخر، وبالعربي الـفـصـيـح، ينبغي أن نــقــارن أوضــاعــنــا الحالية سنة عندما 400 سنة حتى 300 بأوضاعهم قبل كــــانــــوا لا يـــــزالـــــون يــتــخــبــطــون فــــي صـــراعـــاتـــهـــم الـطـائـفـيـة والمــذهــبــيــة... عـنـدئـذ تصبح المـقـارنـة ممكنة ومشروعة. ففي القرن الـسـادس عشر أو السابع عشر، كانوا يعانون مما نعاني منه نحن حالياً؛ أي الحروب الطائفية والأحقاد المذهبية والذبح على الهوية. وأكبر دليل على ذلك سيرة حياة المفكر الفرنسي البروتستانتي بيير بايل الذي عاش في نهاية القرن السابع عشر وبداية ). فـــي ذلــــك الــوقــت 1706 - 1647( الــثــامــن عــشــر كانت فرنسا كاثوليكية فـي غالبيتها الكبرى. ولكنها كانت تحتوي على أقلية بروتستانتية بـالمـائـة. وقـــد شـاء 20 لا يستهان بـهـا وتــحــاذي لـه الـحـظ الـعـاثـر أن يـولـد فـي أحـضـان الأقـلـيـة لا الأكــثــريــة. ولــذلــك هـــرب مــن الاضـطـهـاد الطائفي من بلد إلى بلد حتى استقرت به الأمور في بلد بروتستانتية مثله، هي هولندا. لقد عانى هذا المـفـكـر الـكـبـيـر مـــن الـتـعـصـب الــديــنــي إلـــى درجـــة أنــه أمـضـى حياته كلها فـي مكافحته وتحليله وتفكيكه بغية الخلص منه. فمن هو بيير بايل يـــا تــــرى؟ إنــــه الـــرائـــد الأول الــــذي ســبـق فـاسـفـة الـتـنـويـر الـكـبـار وأرهــــص بـهـم. فـقـد جـــاء قبلهم في حين أن 1706 بقرن من الـزمـن. لقد مـات عـام سـنـوات من 10 ، أي قبل 1694 فولتير ولــد عــام وفاته أو أكثر قليلً. ومعلوم أنه كان يحبه كثيراً ويستشهد بـه كمرجعية فكرية كبرى بالنسبة لـــه. ولـكـن الـشـهـرة ذهـبـت لفولتير، لا إلـــى بيير بـــايـــل. فــمــن يـــعـــرف اســــم بـيـيـر بـــايـــل فـــي الـعـالـم العربي؟ لا أحـد تقريباً. لقد كـان بيير بايل مع الفيلسوف الإنجليزي جــون لــوك أحــد المفكرين الكبار الذين ساهموا في انبثاق فكرة التسامح الديني وتجاوز الطائفية والمذهبية في أوروبا. وكـان ذلـك إبـان احـتـدام الصراعات المذهبية بين البروتستانتيين والكاثوليكيين. وكان أول منظر يـدعـو إلــى التسامح مـع الجميع، بـل كــان يدعو إلـى التسامح مع غير المتدينين، أي الأشخاص الــــــذيــــــن لا يــــلــــتــــزمــــون بــــالــــطــــقــــوس والـــشـــعـــائـــر المـسـيـحـيـة. وبــالــتــالــي، فـقـد كـــان سـابـقـ عـصـره كثيراً. ومعلوم أن الرواد يجيئون قبل الأوان لكي يشقوا للآخرين الطريق. ولكنهم يعانون كثيراً بسبب ذلك ويدفعون الثمن غالياً. كــــــــان بــــيــــيــــر بـــــايـــــل يـــنـــتـــمـــي إلــــــــى الأقــــلــــيــــة الـبـروتـسـتـانـتـيـة الـفـرنـسـيـة. بــل كـــان أبــــوه رجـل ديــن، أي قساً بروتستانتياً. ولكن بايل الشاب عندما أصـبـح طالباً في 1669 غـيّـر مذهبه عــام المـعـهـد الـيـسـوعـي الـكـاثـولـيـكـي بـمـديـنـة تــولــوز. وذلك لكي يلتحم بالأغلبية الكاثوليكية وينجو من الاضطهاد والاحتقار الطائفي الذي تمارسه عـــادة الأغـلـبـيـة عـلـى الأقـلـيـة. ثــم اكـتـشـف بعدئذ أنـه أخـطـأ، لأن المـذهـب البروتستانتي كـان أكثر تقدمية واستنارة من المذهب الكاثوليكي آنذاك. شهراً فقط من 18 فعاد إلى مذهبه الأصلي بعد اعـتـنـاقـه للكاثوليكية الـبـابـويـة. وهــكــذا خاطر بنفسه، لأن الملك لويس الرابع عشر كان يرفض أي ارتــــداد عـن الكاثوليكية الـتـي تشكل المذهب الـرسـمـي لـلـبـاد. وبـالـتـالـي، فـقـد أصـبـح الـرجـل مرتداً لأنـه عـاد إلـى حضن «الهرطقة والزندقة» مــــن جــــديــــد. وويــــــــلٌ لمــــن يــفــعــل ذلـــــك فــــي فــرنــســا الكاثوليكية. سوف يباح دمه مباشرة. يـــــنـــــبـــــغـــــي الــــــعــــــلــــــم أن صـــــــاحـــــــب المــــــذهــــــب الـبـروتـسـتـانـتـي كــــان يــعــدّ زنــديــقــ مـهـرطـقـ في ذلــــك الــــزمــــان، عــلــى الـــرغـــم مـــن إيــمــانــه بـالمـسـيـح والإنجيل كالكاثوليك. ولكن كانت هناك بعض الـــخـــافـــات الـــاهـــوتـــيـــة الـتـفـصـيـلـيـة الـــهـــامـــة مع الـكـاثـولـيـك. عـــاوة عـلـى ذلـــك، فـقـد كـــان تفسيره لـلـديـن المسيحي أكـثـر عقلنية واســتــنــارة، كما ذكـرنـا. ولـذلـك كـانـوا يكفرونه ويـكـفـرون أتباعه ويــــحــــلّــــون دمــــهــــم. وقـــــد عــــانــــوا مــــن المـــــجـــــازر مـا عـــانـــوه، ثــم اضـــطـــروا إلـــى الـــفـــرار بـمـئـات الألـــوف إلـــى الــــدول البروتستانتية المـــجـــاورة كإنجلترا وألمانيا وهولندا... ينبغي العلم أن جميع ملوك فرنسا كـانـوا يعتلون الـعـرش، ويتم تنصيبهم الرسمي والشرعي في كاتدرائية مدينة «رانس» الـــشـــهـــيـــرة، الـــتـــي طـــالمـــا مـــــررت أمـــامـــهـــا وتــأمــلــت بـمـعـانـيـهـا وشـــمـــوخـــهـــا، عــنــدمــا كــنــت أقـــيـــم في تـــلـــك المـــديـــنـــة الـــصـــغـــيـــرة الــــوديــــعــــة الــــتــــي تـبـعـد دقـيـقـة بــالــقــطــار. كـانـوا 45 عـــن بـــاريـــس مـسـافـة جميعاً يـحـلـفـون الـقـسـم الـتـالـي أمــــام الجمهور الكبير المحتشد داخـل الكاتدرائية: «أقسم بالله العظيم سوف أستأصل الأقلية البروتستانتية المهرطقة الـكـافـرة عـن بكرة أبيها. ســوف أنظف أرض المملكة الفرنسية الكاثوليكية الطاهرة من رجسهم وضـالـهـم». بهذا المعنى. كــان آخــر من أقسم هذا اليمين هو لويس السادس عشر، الذي . وعندئذ 1789 أطاحت به الثورة الفرنسية عام أخذ البروتستانتيون حقوقهم كمواطنين لأول مـرة في التاريخ الفرنسي. عندئذ نـصّ الإعـان الشهير لحقوق الإنسان والمـواطـن على ما يلي: مــمــنــوع بــعــد الـــيـــوم مــنــعــ بـــاتـــ أي تـمـيـيـز بين إنسان وآخـر على أسـاس طائفي. ممنوع إقلق أي شخص أو إرعـابـه بسبب انتماءاته الدينية أو المـذهـبـيـة. ممنوع تعييره واحـتـقـاره لأنــه لم يــولــد كـاثـولـيـكـيـ . الـجـمـيـع أصــبــحــوا مـواطـنـ مـتـسـاويـن فــي الـحـقـوق والــواجــبــات، بـمـن فيهم الـــبـــروتـــســـتـــانـــتـــيـــون، حـــتـــى الـــيـــهـــود. هـــــذا ربــيــع حقيقي، هذا ربيع أنواري وتنويري. هذه ثورات حقيقية تــقــذف بــك إلـــى الأمـــــام، لا كــذلــك الـربـيـع الـعـربـي الــقــرضــاوي الـتـكـفـيـري، الـــذي أوشـــك أن يعيدنا قروناً إلى الوراء. لكن لنعد إلـى بيير بايل وقصته. بعد أن تراجع عن المذهب الكاثوليكي وعاد إلى مذهبه الأصلي البروتستانتي عرف أنه أصبح مهدداً بالقتل فهرب إلى هولندا البروتستانتية مثله، واستقر في مدينة روتردام. وهناك وجد وظيفة كمدرس لمادتي الفلسفة والتاريخ. وراح ينشر مـجـلـة أيــضــ تــحــت عـــنـــوان «أخـــبـــار جـمـهـوريـة الآداب». ومعلوم أن هولندا كانت في ذلك الزمان أكثر بلدان أوروبــا تسامحاً وحرية، بالإضافة إلــى إنجلترا. وإليها كــان يلجأ الفلسفة لكي يعبروا عن أفكارهم وينشروا كتبهم، كما فعل ديكارت مثلً. نقول ذلك على الرغم من أنه كان كـاثـولـيـكـيـ يـنـتـمـي إلــــى مـــذهـــب الأغــلــبــيــة، ولا يعاني في فرنسا من الاضطهاد الطائفي الذي أصــاب بيير بايل وبقية أبـنـاء الأقـلـيـات. ولكن مـــا كــــان يـسـتـطـيـع أن يـتـنـفـس بــحــريــة ويـبـلـور فلسفته الجديدة داخل جدران المملكة الفرنسية الــكــاثــولــيــكــيــة الـــبـــابـــويـــة، الـــتـــي كـــانـــت ظـامـيـة متزمتة جداً في ذلك الزمان. إن تجربة بيير بايل الشخصية في تغيير مــذهــبــه واعـــتـــنـــاق المـــذهـــب المـــعـــادي ثـــم الـــعـــودة إلـــى مـذهـبـه مــن جــديــد بـرهـنـت لــه عـلـى عبثية الإكـــراه فـي الـديـن. فالإنسان يعتقد أن دينه أو مذهبه هو وحــده الصحيح، ولكنه لو ولـد في الدين الآخر أو المذهب الآخر لاعتقد ذات الشيء أيـضـ . المسيحي لـو ولــد فـي الهند لكان بوذياً أو هـنـدوسـيـ بـراهـمـانـيـ ، ولـــو ولـــد فــي الصين لـكـان كـونـفـشـيـوسـ ... إلــــخ. ولــهــذا الـسـبـب عـدّ بيير بايل أن الأمــور نسبية وراح يتبنى مبدأ التعددية وحرية الضمير فيما يخص المعتقد الديني. لـــقـــد ألـــــف بــيــيــر بـــايـــل عـــــدة كـــتـــب، شـهـرتـه وجعلته مقروءاً بكثرة طيلة القرن الثامن عشر، أي عــصــر الــتــنــويــر الــكــبــيــر. فــقــد راح فـاسـفـة التنوير من أمثال فولتير وديـــدرو وجــان جاك روســـو والمــوســوعــيــ يـسـتـشـهـدون بـهـا لدعم مواقفهم المضادة للتعصب الديني والأصولية الكاثوليكية الـبـابـويـة. نـذكـر مـن بـ مؤلفاته كـتـابـ بـعـنـوان «مـــا معنى فـرنـسـا الكاثوليكية المتعصبة فـي عهد لـويـس الكبير؟» أي لويس الـــرابـــع عـشـر أعــظــم مــلــوك فـرنـسـا وبــانــي قصر فرساي الشهير. وفي هذا الكتاب يشنّ بيير بايل حملة شعواء على هذا الملك الجبار، الذي حاول استئصال البروتستانتيين عـن بكرة أبيهم... كما انتقد بعنف التعصب المـذهـبـي الـــذي كان سائداً في فرنسا آنذاك. وصبّ جام غضبه على الإخـــوان المسيحيين الكاثوليكيين الذين كانوا يكفرون الآخرين في كل أرجاء المملكة الفرنسية الـتـوتـالـيـتـاريـة الإرهـــابـــيـــة، الــتــي تـجـبـر الـنـاس كلهم على اعتناق مذهب واحد غصباً عنهم. ثم نشر كتاباً آخر بعنوان «مرافعة من أجل الدفاع عن حقوق الضمير التائه» أي الضمير الحرّ في الـــواقـــع... إلـــخ. ولا ننسى كتابه الأكـبـر والأهــم «القاموس التاريخي والنقدي» الــذي فكّك فيه كـل العصبيات الطائفية والـفـتـاوى التكفيرية بـشـكـل فلسفي دقــيــق ومـقـنـع. وقـــد مــــارس هـذا الكتاب الضخم تأثيراً كبيراً على جميع فلسفة الأنوار اللحقين. كـل هــذه الكتب أزعـجـت الملك الكاثوليكي والسلطات الكنسية أيما إزعاج. فانتقموا منه عن طريق قتل أخيه «يعقوب بايل» في السجن، لأنــهــم كـــانـــوا عــاجــزيــن عـــن الـــوصـــول إلــيــه هو شخصياً بسبب التجائه إلى المنفى الهولندي الـبـعـيـد الـــخـــارج عـــن إرادتــــهــــم. والــــواقــــع أنـهـم عرضوا على أخيه اعتناق المذهب الكاثوليكي في آخر لحظة قبل تصفيته لكي ينجو بجلده، ولكنه رفــض وعندئذ قتلوه. كـانـت الـحـزازات المذهبية على أشدّها آنذاك في فرنسا. ولكنها اخـتـفـت الآن نـهـائـيـ ، ولـــم يـعـد لـهـا أي وجـــود. وكـــل ذلـــك تــم بـفـضـل جــهــود الأنـــــوار وفـاسـفـة الأنوار، وعلى رأسهم بيير بايل الذي سيستلم فولتير الشعلة منه، ويشنّ حرباً ضارية على الأصــولــيــة الـكـاثـولـيـكـيـة والـتـعـصـب الطائفي الأعمى كما هو معلوم. هاشمصالح بيير بايل ًبايل الشابغيّر مذهبه عندما أصبحطالبا 1669 عام في المعهد اليسوعي الكاثوليكي بمدينة تولوز. وذلك لكي يلتحم بالأغلبية الكاثوليكية وينجو من الاضطهاد والاحتقار الطائفي الذي تمارسه عادة الأغلبية على الأقلية

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky