issue16742

الثقافة CULTURE 17 Issue 16742 - العدد Sunday - 2024/9/29 األحد رواية «المنسيون بين ماءين» لليلى المطوع جوهر التاريخ وروح األسطورة في منعطفات النص منذ رواية «زينب» ملحمد حسني هيكل، وحـتـى أعـمـال إلـيـاس خــوري، وقـــبـــلـــهـــمـــا الــــتــــوحــــيــــدي والــــجــــاحــــظ، هــنــاك أنـــــواع مـــتـــعـــدّدة مـــن الـــســـرد. ال تفضيل لنمط على آخر. الساحة تسَع كـــل األشـــكـــال، ومـــن يـتـمـيّــز ويـتـكـرّس ويفرض نفسه هو املـوهـوب، الـذي ال تنقصه الـــجـــرأة فــي خـــوض التجربة الفنية الجديدة. فأن تدخل رواية عربية معاصرة، وتـــــخـــــرج مـــنـــهـــا مـــــأســـــورًا بـــصـــورهـــا وأحـــــداثـــــهـــــا وشــــخــــوصــــهــــا، مــرتــهــنــا بعواملها، هذا هو االنطباع األول بعد رواية «املنسيون بني ماءين». ثـــمـــة أقــــالــــيــــم عـــــــــذراء لـــــم تــطــأهــا قــــدم مـــن قــبــل، فـثـمـة الـــتـــداخـــل املـتـقـن بــــ األزمــــنــــة واألمــــكــــنــــة الـــتـــي يـتـكـئ النص عليها في تـزاوج بني الواقعي والــــغــــرائــــبــــي، الـــيـــومـــي والـــتـــاريـــخـــي، الـعـادي والسحري، في حني يتداخل املألوف وغيره والفنتازي على نحو محكم. هـــــذا هــــو االنــــطــــبــــاع بـــعـــد قـــــراءة روايـــــة لـيـلـى املـــطـــوع «املــنــســيــون بني ،2024 مـــاءيْـــن» الـــصـــادرة هـــذا الـعـام وهــــي روايـــتـــهـــا الــثــانــيــة بــعــد «قـلـبـي لـــــيـــــس لــــلــــبــــيــــع» ). إنـــهـــا 2012( روايــــــــة حـــديـــثـــة، مغايرة، مختلفة عــــــــــن الــــتــــقــــلــــيــــد واملـــــــــــــحـــــــــــــاكـــــــــــــاة والبنى السردية املــألــوفــة والـلـغـة اإلنـــــــــشـــــــــائـــــــــيـــــــــة والتقريرية. إذن، نــحــن فــــــــــــــــي حــــــــضــــــــرة كـــاتـــبـــة جـــديـــدة، شــــابــــة، وروايـــــــة «املـــــــنـــــــســـــــيـــــــون» تشف عن تجربة غــنــيــة وعــمــيــقــة، ومـعـرفـة واسعة بــتــاريــخ بـادهـا (البحرين) وجغرافيتها، وخصوصا مـا يتعلّق بالبحر واملـيـاه والينابيع والنخيل والـــزرع، إضافة إلـى إملامها بمختلف الطقوس والشعائر الغابرة، املتصلة باألضاحي والقرابني. علوة عـلـى مـــا تـتـمـتّــع بـــه مـــن مـخـيّــلـة حـيّــة وفعّالة، تنشط في رسم الشخصيات وبـنـاء األحــــداث بـحـريّــة ال سبيل إلى تقييدها. وأنت تقرأ الرواية، تَعبر جسورًا ال مــرئــيــة مـــن الــحــاضــر إلــــى املــاضــي ذهــــابــــا وإيـــــابـــــا، مــــن طــبــيــعــة بــدائــيــة متوحشة إلى طبيعة متحضّرة آمنة، مــن بيئة فـقـيـرة وخـشـنـة ومـوسـومـة بــاملــأســاة إلـــى بـيـئـة مـعـاصـرة لكنها أيضا موسومة باملأساة. وكما توقعت قبل قراءة الرواية، ومن العنوان الجميل واملعبّر، الكاتبة تــصــدر عـــن اســــم الــبــحــريــن، كـمـاءيـن فــي بـحـريـن، نـسـي الـعـالـم نـــاس هـذه البلد، وأهلها، في ماء البحر املالح، واملاء العذب الذي يتفجّر من ينابيع داخل البحر. والكاتبة تبدي معرفة واطلعا واســــعــــ فـــيـــمـــا يـــتـــعـــلّـــق بــتــفــاصــيــل الـــغـــوص والــــزراعــــة، عـــارفـــة األســمــاء والــــــخــــــواص والـــــوظـــــائـــــف، ومُـــــدركـــــة للمسارات التاريخية واالجتماعية، املـتـصـلـة بـمـثـل هـــذه الــحــقــول. تبدي الكاتبة معرفتها الـواسـعـة عـن عمل اآلبــــاء، فــي مهنة الــغــوص، فـهـي بما تملكه مــن مـعـرفـة عميقة بتفاصيل الغوص، وأسماء ووظائف ما يتصل بـــهـــذه املــــهــــنــــة... مـــثـــل هـــــذه املـــعـــرفـــة، كـمـا غـيـرهـا مــن املـعـرفـة فــي الـتـاريـخ واألســـــطـــــورة والـــجـــيـــولـــوجـــيـــا وعــلــم األحياء، أغنت بل شك تجربة الكتابة عندها، ومنحتها عمقا وتنوعا. لـــيـــلـــى املـــــطـــــوع كـــتـــبـــت روايـــتـــهـــا «املـنـسـيـون بــ مـــاءيْـــن» بــا اكــتــراث بـغـيـر املــكــتــرثــ بــصــوتــهــا الــجــديــد. كـتـبـت وفــــق رؤيــتــهــا الـــخـــاصـــة، وفــق تـجـربـتـهـا وذائـــقـــتـــهـــا وحـسـاسـيـتـهـا وحدْسها، وبعون من املخيلة والذاكرة والثقافة العامة التي تمتلكها، إضافة إلـــــى املـــــراجـــــع والــــبــــحــــوث والـــوثـــائـــق واملقابلت الشفوية. كــــان مـهـمـا لــهــا أن تــحــقّــق قــفــزة نـوعـيـة فــي تـجـريـة الـكـتـابـة الخاصة بها، ولكي تفرض نفسها في الساحة األدبــــــيــــــة. اخـــــتـــــارت أن تـــنـــحـــاز إلـــى الــحــســاســيــة الـــجـــديـــدة فـــي الــكــتــابــة. تـــنـــحـــاز إلــــــى الــــحــــداثــــة ال الــــقــــدامــــة. اخـتـارت أن تنأى عن البناء السردي الـتـقـلـيـدي، والـــســـرد املــتــعــارف عليه، كـــمـــا تـــمـــيّـــزت بــــالــــجــــرأة فــــي اخــتــيــار املضامني ومعالجتها بلغة جميلة، جــــــذابــــــة، وبـــطـــريـــقـــة مــــشــــوِّقــــة تـــدفـــع بـــالـــقـــارئ إلــــى الـــتـــأمـــل والــتــفــكــيــر، ال التلقي السلبي. الـكـاتـبـة، وفــق مـا أرى، تكتب ما تـحـب دون االرتـــهـــان لــشــروط الـقـارئ الكسول والناشر التاجر، وما تعارف عليه الـوسـط الــروائــي مـن استسهال واستهانة وابتذال. تكتب بمعزل عن شــــــــروط الـــســـرد املــــــــعــــــــروف. هــل ثــــــــمــــــــة طـــــريـــــقـــــة واحــــــدة لـلـسـرد. فـــــــــي روايــــــتــــــهــــــا تــــعــــتــــمــــد لـــيـــلـــى املـــــــــطـــــــــوع عـــلـــى الـــــــــــــجـــــــــــــمـــــــــــــلـــــــــــــة الـــــــــقـــــــــصـــــــــيـــــــــرة؛ تــــــــــــــــــفــــــــــــــــــاديــــــــــــــــــا لـــــــــــــإســـــــــــــهـــــــــــــاب املــــــــــــألــــــــــــوف فــــي اإلنـشـاء العربي املــــــتــــــوارث. مـنـذ املــــدرســــة كـــانـــوا يـــــــســـــــمـــــــون لــــنــــا الــــســــرد إنــــشــــاءً، فــــــــــــــنــــــــــــــواصــــــــــــــل الكتابة ظنا أننا ننشئ الشيء. مع رواية ليلى، ذهننا يـــكـــون حـــاضـــرًا عــلــى الــــــــدوام، وربــمــا جميع حواسنا أيضا. إننا نتلقى هذا العمل الـبـديـع بكل وعينا وإدراكــنــا، لكي نـدَعَــه طواعية يحرّك مشاعرنا، ويـثـيـر مـخـيـلـتـنـا، ويـحـرضـنـا عـلـى التفاعل والتفكير والتأمل. فــي مـنـعـطـفـات الــنــص، نـصـادف جــوهــر الــتــاريــخ وروح األســـطـــورة... عــــنــــصــــران يـــمـــنـــحـــان الــــــروايــــــة عــطــرًا نـوعـيـا خـاصـا يـتـوجـب االهـتـمـام بـه. يـــقـــولـــون: الــكــتــابــة الـــحـــقّـــة هـــي خَــلـق ألســـــطـــــورة خــــاصــــة، أو إعــــــــادة خـلـق لألسطورة. ورواية «املنسيون» تعيد خلق األساطير والحكايات الشعبية والـــــخـــــرافـــــيـــــة، لـــتـــخـــلـــق أســـطـــورتـــهـــا الخاصة، القائمة على دمج التجارب الــــعــــامــــة، عــــبْــــر قـــــــرون مــــن الـــــتـــــوارث، والــتــجــربــة الـــذاتـــيـــة، وعـــلـــى جــمــع ما حـــــدث فــــي املــــاضــــي ومـــــا يــــحــــدث فـي الحاضر. ربـــمـــا رأى الـــذيـــن يــهــتــمــون بفن الــــســــرد، أكـــثـــر مـــنـــي، فـــي هــــذا الـعـمـل مــنــعــطــفــا ســـــرديـــــا يــــصــــوغ مـــــا يـحـب بـــحـــريّـــة املــــبــــدع، وال يـــقـــع فــــي تـقـلـيـد أحـد. وال يذهب إلـى ذلـك. في الرواية تأكيد لقيمة املاء وحضوره الطاغي، إذ تكاد جميع الصفحات ال تخلو من ذكـــر املـــاء أو الـبـحـر بـكـل تحوالتهما وتـصـريـفـاتـهـمـا وتـجـلـيـاتـهـمـا، مما يؤكد الدور املحوري للماءين؛ العذب واملالح. وإذا كـــان عـــدد صـفـحـات الكتاب ) فظني أن مفردتَي املاء والبحر 343( مـــرّة فــي عموم 600 تـكـررتـا أكـثـر مــن الــــكــــتــــاب، وفــــــي هــــــذا حــــضــــور عـمـيـق للشكل واملوضوع في العمل. ًقاسم حداد مع ازدهار العلوم االجتماعية وبروز المستعرب شريكا ثقافيا ما الذي تبقى من االستشراق؟ أثـــار املفكر املــرمــوق أنـــور عبد املـلـك في ) موضوعا مهما، وهـو يعرض 1962( حينه ألزمـــــة االســــتــــشــــراق. لـــم يــتــحــدث أنــــو ر عبد امللك عن استشراقني، معرفي وسياسي، كما فعلت في كتاب «االستشراق في الفكر العربي »، كــــان مـعـنـيـا بـــاألزمـــة الـــتـــي رافــقــت 1993 - ظهور الحركة بصفتها املعرفية التي سرعان مــــا اخــتــلــطــت بــمــصــالــح االســـتـــعـــمـــار. ونـــبّـــه الــــدارس والـعـالـم االجـتـمـاعـي املـصـري املقيم في باريس في حينه إلى العوائل الفلولوجية الـــتـــي ســـاهـــمـــت املــــــــدارس االســـتـــشـــراقـــيـــة فـي تـرسـيـخـهـا عـلـى أســــاس انــقــســام الــعــالــم إلـى آري، وآخــر سامي يشتمل الـعـرب، واليهود، واملـــلـــونـــ ، وغــيـــرهــم. كــــان الـتــوزيــع بمثابة تبرير استيطاني يشتغل بوجهني: فإذا أراد نـابـلـيـون مــثــا االســـتـــحـــواذ عـلـى مـصـر قبل إنجلترا فعليه ادعاء أمرين: أنه مسلم، وأسلم بحضور علماء مسلمني فـي الـقـاهـرة؛ ولكن أيضا على أساس أن مصر شرق متوسطية، وبالتالي فهي تعود لفرنسا، ال إلى إنجلترا فــي الــتــوزيــع االسـتـعـمـاري لـلـمـعـمـورة. ولــذا كــــان فــريــقــه مـــن الــعــلــمــاء والـــبـــاحـــثـــ يكتب «وصف مصر»، املجلد الواسع الذي تصدرته مـــقـــدمـــة تــــقــــول إن عـــلـــى مـــصـــر أن تـــتـــجـــاوز قرونا من «إسلميتها» لتعود إلـى الحضن املـتـوسـطـي - الـفـرنـسـي. هــكــذا تــأتــي املـقـدمـة الـــتـــي اســـتـــدرجـــت مـثـقـفـ عـــربـــا، مـــن بينهم طــــه حـــســـ . لــــم يـــذهـــب عـــبـــد املـــلـــك إلـــــى هـــذه املـسـاحـة، ولـــم يـذهـب إلـيـهـا الــراحــل املـرمـوق املفكر إدوارد سعيد. كان إدوارد سعيد معنيا باملكونات املعرفية لحركة تمايزية تمييزية تدعي املعرفة بالشرق، أي بالشرق األوسط، والــعــرب واملـسـلـمـ تـحـديـدًا، قـبـل أن ينتقل مـفـهـوم «الـــشـــرق» إلـــى جــنــوب شــرقــي آسـيـا. الشرق األوسط الذي التقليدي يصر «الدارس التقليدي» ورحالة اإلمبراطوريات الناهضة هـــو الــــذي يـعـنـيـه ســعــيــد؛ أي أنـــه مجموعة االنطباعات السطحية العائمة التي تعرض لسكان كتل بشرية عظيمة على أنهم كسالى مــخــدرون ثـابـتـون عـلـى فـكـرة واحــــدة، ال أمـل فــي تغييرهم إال بـنـابـض وحــاضــر أوروبـــي يديره الرجل األبيض. من املفارقات التي لم يذكرها الراحل العظيم أن الدارس اإلنجليزي املـــعـــروف صـامـوئـيـل جـونـسـن، صــاحــب أول قـامـوس إنجليزي متكامل، كتب على لسان شـخـصـيـتـه املـــركـــزيـــة «عــــمــــاق» الـــشـــاعـــر أن «إيثوبيا» الشرقية شأنها شـأن مجاوريها تـــحـــتـــاج إلـــــى رعــــايــــة «اســــتــــعــــمــــار» أوروبـــــــي «شــمــالــي» يـتـيـح لـهـا الـــخـــروج مـــن وحـدتـهـا وجنوبيتها. إذ العالم منذ القرون الوسطى ينقسم إلى شمال وجنوب، ويسقط التوزيع الجغرافي سطوته على الـديـانـات واألقـــوام، وكان أن عرض لهم بعض «تنويريّي» القرن الثامن عشر على أنهم يعانون سباتا ال أمل مـنـه مــن غـيـر ســطــوة رجـــل أوروبـــــا األبــيــض. هكذا كان الذهن «التنويري» األوروبي. علينا أال ننسى أن «صـامـوئـيـل جـونـسـن» هــو من املبرزين في الحركة «اإلنسانوية» لتمييزها عـن غيرها لخصومتها مـع دعـــاة العبودية واالســتــعــبــاد. وإذا كـــان جـونـسـن يـمـيـل إلـى هــــذا املــعــتــقــد، فـكـيـف لــنــا بــغــيــره؟ عـلـيـنـا أال ننسى ثانية أن جونسن قرأ ترجمات دارس االســـتـــشـــراقـــ املــــبــــرز فــــي املـــشـــرقـــيـــات سـيـر وليم جونز وكتاباته، وهو الذي أطلق عليه ،Oriental Jones » تسمية «جــونــز الــشــرقــي بحكم انـهـمـاك األخـيـر فـي قـــراءة أدب العرب والفرس. وترجماته وكتاباته ذائعة ومؤثرة. وهــــو نــفــســه - أي جـــونـــز - الـــــذي فـــي نـهـايـة حياته وعند مراجعته ورصده لهذا االنهماك يستنتج أن ثـقـافـتـه األم أهـــم مـــن ذلـــك الـــذي قضى عمره في دراسته. لــــم يـــتـــطـــرق الـــــراحـــــل ســـعـــيـــد إلــــــى هـــذا األمـــر ألنــه كــان معنيا بمجموعة التهيؤات والتصورات لعدد كبير من الرحّالة والكتّاب ملــــــا كـــــــان يــــتــــصــــورونــــه شـــــرقـــــا رثـــــــا ســـاكـــنـــا شــهــوانــيــا ال فــكــر لـــه وال مـسـتـقـبـل مـــن دون اللمسة اإلمـبـراطـوريـة. دعـنـي أضـيـف: إنهم يـسـتـكـمـلـون مـــا بــــدأه بـــارتـــيـــاح، بــالــغ دانـيـل 1703 دفو في روايته الذائعة منذ صدورها «روبنسون كروسو» التي تعرض إلى الشرق وأفـــريـــقـــيـــا أرضـــــا بـــــورًا يـسـكـنـهـا ويـعـمـرهـا كــــروســــو لــيــلــقــن فـــــرايـــــدى األســــــــود الـــطـــريـــد لغته الـتـي تـبـتـدئ بــالــرضــوخ، أي بـمـفـردة: نـعـم. والـخـاصـة: أن أرنـسـت ريـنـان سيقفز على حصيلة هـذا التراكم. وسيستعمر هو اآلخــــر نــتــاج «دي ســـاســـي» لـيـعـيـد توظيفه فــــي الـــتـــوزيـــع الـــفـــلـــولـــوجـــي الــفــقــهــي لـلـعـالـم عـلـى أســـاس آري - ســامــي، ولـــم يـعـن ريـنـان بـالـتـوزيـع مــا بــ شـمـال وجــنــوب مستعْمِر ومستعْمَر. كـان معنيا بالتوزيع املتناقض فــــي رأيـــــــه مــــا بــــ آري مـــتـــمـــاســـك تــركــيــبــي عقلني حضاري، وآخـر سامي راكـد ساكن. ولكن نظرية أرنست رينان التي ســادت في حينه واجهت مشكلت نهاية القرن التاسع عـشـر، وحصيلتها الـنـهـائـيـة للديمقراطية االنـتـخـابـيـة الــتــي فـسـحـت املــجــال للهجرات واألقــــلــــيــــات، وال ســيــمــا األقـــلـــيـــة الــيــهــوديــة الناشطة القادمة من أملانيا، التي استفزتها منذ زمن نظرية العرق الجرماني الذي يسعى للم الشمل والتكامل على أساس نقاوة العرق الجرماني. هذه النظرية التي سيسخر منها بصراحة املثقف العراقي املظلوم، ذو النون أيــــوب، فــي روايـــتـــه «الــدكــتــور إبــراهــيــم» هي الــتــي تـشـكـل الــبــذر الـــنـــازي. وإذا كـــان يهود أوروبـــــــا مـــن الـــكـــتّـــاب ورجــــــال املـــــال يـــؤثـــرون إنجلترا وفرنسا هربا من أملانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن األمر الذي تمخض جراء ذلك هو أنه ليس باإلمكان الركون إلى نــظــريــة أرنـــســـت ريـــنـــان وتــوزيــعــهــا الـعـرقـي الـديـنـي مــا بـــ : آري وســامــي. فـكـان أن ولـد التوزيع: األوروبي أو الغربي والشرقي!! ومن السخرية أن اللغة النازية العرقية تحولت إلــى جــزء أســـاس مـن لغة املستعمر الجديد الــذي يستخدم تعبير حـيـوانـات بشرية في اإلشــــــارة إلـــى الـــعـــرب والـفـلـسـطـيـنـيـ منهم بشكل خاص كما يتأكد في خطب املستعمر االستيطاني اليوم! وعـــنـــدمـــا ألـــقـــى الــــراحــــل الــعــالــم ياروسلف ستيتكيفتش محاضرته املبكرة فـي كلية سينث أنـتـونـي بجامعة أكسفورد كـــــان يــنــبــه إلـــــى أمـــــر آخـــــر قــــد ال 1967 ســـنـــة يبدو متصل بما نحن فيه؛ كان يلوم «نحن املستشرقني» على دراســـة الـشـرق كموضوع مـــن دون االنــتــمــاء إلــيــه حـبـا وتــعــاطــفــا. كـان ينحو باللئمة عليهم ألنهم يكتبون ويقرأون بـالـلـغـات قـيـد الـــــدرس، لـكـنـهـم يــعــجــزون عن استعمالها فـي التخاطب والـعـاقـة بالعرب مـــوضـــوع درســـهـــم. كــــان يــدعــو بـــإصـــرار إلــى محبة حقيقية، وليس دراسية فحسب، لكي يشعروا باالنتماء إلى ما يخصونه بالدرس. ولـهـذا عـجـزوا عـن الـعـاقـة بموضوعهم، أي العرب. ومن هؤالء كان املستشرق مرغليوث مثل الــذي جمع أحـاديـث التنوخي ورسائل أبــي الـعـاء املـعـري. لكنه أيـضـا رافـــق البعثة الــبــريــطــانــيــة الـــتـــي احــتــلــت الــــعــــراق. ويــذكــر الـشـاعـر الــــدارس محمد مـهـدي البصير أحد مــعــاصــريــه آنــــــذاك أنــــه أي «مـــرغـــلـــيـــوث» قــال عـنـد الـتـفـاوض مــع الــوفــد الـوطـنـي الـعـراقـي: «إنـــــه لـــم يـــعـــرف عـــن الــعــراقــيــ الــــقــــدرة على إدارة أنفسهم» بما يعني أنـهـم بحاجة إلى املستعمر البريطاني أو غيره!! هــــــذه هـــــي نـــهـــايـــة املـــســـتـــشـــرق؛ فهي ليست نهاية معرفية فحسب، ولكنها سياسية أيــضــا، ألنـهـا اقـتـرنـت بـالـتـمـايـزات الـعـرقـيـة الــتــي رافــقــتــهــا، والـــتـــي قــادتــهــا إلـى الــنــهــايــة. هــــذا ال يـعـنـي الـتـقـلـيـل مـــن املـنـجـز املعرفي عند السير وليم جونز ودي ساسي وســـيـــر شـــارلـــز اليـــــل، وغـــيـــرهـــم. لــكــن إشــــارة الــــراحــــل يــــاروســــاف إلــــى أهــمــيــة الـتـخـاطـب ودوره فــــي تـــوطـــيـــد حــــب حــقــيــقــي ملـــوضـــوع الــدرس تعني ضمنا لـزوم التباعد عن عقدة املـسـتـعـمـر، أي ادعـــــاء الــســيــادة عـلـى األقــــوام األخرى. لهذا انقاد االستشراق إلى حتفه، مع ازدهار العلوم االجتماعية، وبروز املستعرب شريكا ثقافيا. لكنها بداية املستعرب الذي درس العرب من زوايــا مختلفة، وجــاء بعدة أخرى، قوامها الحب واملودة ملوضوع الدرس. املـسـتـعـرب لـيـس دارســـــا لــــ دب وحـــــده، وقـد يـكـون مــؤرخــا وسـوسـيـولـوجـيـا، وفيلسوفا وغير ذلــك، إنـه ابـن الثقافة التي يعنى بها، إذ ال تـمـيـيـز بـيـنـه وبــــ أهــلــهــا، وألنــهــمــا ال يقلن جهدًا وتمعنا. ولنعد إلى السؤال: ما الذي تبقى من االستشراق؟ ال يغمط السؤال اإلرث الترجمي الفلولوجي الواسع الذي قام بـه املـسـتـشـرق، لكن التقليديني منهم الذين مضوا على جـادة مرغليوث لم يحققوا غير مـنـجـز ضـئـيـل، مــقــارنــة بـالـجـهـد الــــذي يقوم بــه املـسـتـعـرب واملـسـتـعـربـة، وهــمــا يمتلكان آلــيــات بـحـث وتنقيب وتحليل مـسـتـجـدة، ال تغمط األقــوام درايتها وال تعددية ثقافاتها وتـــلـــويـــنـــاتـــهـــا املـــخـــتـــلـــفـــة الــــتــــي تـــفـــتـــرق عـن «النمطية» األوروبـيـة والنظرة االستنكارية لــــــآخــــــر ملــــــجــــــرد تــــبــــايــــنــــه عـــــمـــــا يــــتــــصــــوره «التقليدي» نمطا وحيدًا عقلنيا قـادرًا على إدارة اآلخرين. جامعة كوملبيا، نيويورك. د. محسن جاسم الموسوي أرنست رينان إدوارد سعيد اللغة النازية العرقية تحوّلت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية «المسرح األلماني المضاد»... رد االعتبار لتجربة راينر فاسبندر رغــــــــــم وفـــــــاتـــــــه فـــــــي ســـــــن الـــــســـــادســـــة والـثـاثـ ، فـإن الكاتب املسرحي واملخرج السينمائي واملـمـثـل األملــانــي رايـنـر فيرنر ) تــرك وراءه كنزًا 1982 - 1945( فاسبندر فيلما سينمائيا 40 من اإلبـداع يتكون من نصا مسرحيا، عـــاوة على 16 وأكـثـر مـن الـــعـــديـــد مــــن األعــــمــــال الــــدرامــــيــــة اإلذاعــــيــــة والـتـلـفـزيـونـيـة. الـــافـــت أن شــهــرة منجزه السينمائي، طغت على منجزه املسرحي فـــجـــاء كـــتـــاب «املــــســــرح األملــــانــــي املـــضـــاد» الــــصــــادر عــــن «الـــهـــيـــئـــة املـــصـــريـــة لـقـصـور الثقافة»، سلسلة «آفاق عاملية»، للباحث د. أسامة أبو طالب ليرد االعتبار إلى تجربة الرجل مع فن املسرح. يـبـرر املـؤلـف أهمية مـسـرح فاسبندر بأنه وضع فيه عصارة فنه ورحيق تمرده ومـــــــــرارة إحـــســـاســـه املــــرهــــف بــتــنــاقــضــات األشـيـاء والبشر ووعـيـه الـحـاد بمفارقات الــــوجــــود والــــكــــون ومـــعـــانـــاتـــه مــــن خــــذالن الرؤى وخسارة التوقعات وجنون الصدمة وعمى املفاجأة حتى أصبح عقله مكتظا، وناء وجدانه بحمل املعرفة الحارقة املبكرة فاستسلم بــإرادتــه مـقـررًا أنــه لـم تعد لديه طاقة للحتمال، وليستسلم الجسد املرهق ويتوقف القلب الذي أنهكته شدة الخفقان حتى أنه لم يكن ينام إال أقل القليل وسُئل ذات يــــوم «ملــــــاذا ال تـــأخـــذ قــســطــا طبيعيا مــن الـــنـــوم»، فــأجــاب: «ســأنــام فـقـط عندما أموت». بزخمه السياسي وما 1968 كان عام أطلق عليه «ثــورة الطلبة» في أوروبـــا هو بـــدايـــة مـــيـــاد «املــــســــرح األملــــانــــي املـــضـــاد» على يـد فاسبندر كفن مهموم بالسياسة ومقاومة مفاهيم القهر والقمع والطغيان الــتــي تـمـارسـهـا الـسـلـطـة عـلـى نـحـو صبغ مجريات األحداث ووقائع الحياة في القرن الــعــشــريــن، مـــع نــزعــة إنــســانــيــة فــيــاضــة ال يصعب اكتشافها في أعمال هذا النوع من املسرح، رغم الكثير من االتهامات املوجهة له بسبب املنافسة أو بسبب عدم الفهم أو كــراهــيــة الـتـجـديـد املــعــتــادة، الــتــي وصفت فاسبندر وأصحابه ومنهجهم بالعدمية تارة وتارة أخرى بالدعوة إلى االنحراف. استفاد «املـسـرح املـضـاد» فـي تحققه مــــن الــســيــنــمــا وحـــرفـــيـــاتـــهـــا، إضــــافــــة إلـــى استخدام «التمسرح» و«التغريب»، بمعنى الخروج عن املألوف، فضل عن تبني فكرة «اللحظة املسرحية الساخنة» ذات الطابع االندماجي بني العرض واملشاهد تمهيدًا لـلـخـروج بـهـا إلـــى فـعـل جـمـاعـي ذي صفة تحريضية. وانفتح املـسـرح املـضـاد كذلك على تجارب املسرح السياسي دون التقيد بتقاليده الـصـارمـة، وتجلى كـل ذلــك عبر العديد من املسرحيات التي ألفها فاسبندر منفردًا، أو كانت تأليفا مشتركا مع آخرين. ومـــن أشـهـر مـسـرحـيـات فـاسـبـنـدر فــي هـذا الـسـيـاق «املـديـنـة والـقـمـامـة واملــــوت» و«دم على حلق القطة» و«حرية بريمر» و«ال أحد شرير وال أحد طيب». القاهرة: «الشرق األوسط»

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==