issue16736

عــلــى مـــــدار ثـــاثـــة أيـــــام اســتــضــافــت مـؤسـسـة «الـدسـتـور» الصحافية وقـائـع الــــدورة الثامنة من «مـــؤتـــمـــر قــصــيــدة الــنــثــر المـــصـــريـــة»، الـــتـــي شـهـدت مشاركة واسعة لأسماء عديدة من مختلف المشارب والأجـيـال الشعرية والأدبـيـة؛ وسـط تنوع لافـت في الـفـعـالـيـات مــا بــن الـجـلـسـات الـنـقـديـة والمـــداخـــات الــنــقــاشــيــة، والاحـــتـــفـــاء بـــرمـــوز مـــؤثـــرة فـــي سـيـاق مغامرة قصيدة النثر وترسيخ وجـودهـا ودورهــا الإبـــداعـــي الـــذي يتعمق يـومـا بـعـد يـــوم، فـضـاً عن قـراءات شعرية متنوعة لكوكبة كبيرة من الشعراء والـشـاعـرات فـي تظاهرة فنية لافتة حــررت المشهد الــشــعــري المــصــري مــن الــرتــابــة والــتــكــرار وأكسبته حيوية مفتقدة، كما أتـاحـت الفرصة أمــام أصـوات مختلفة للتعبير عن نفسها. ألــقــى الـنـاقـد والأكـــاديـــمـــي د. مـحـمـود الضبع كلمة لافتة في الجلسة البحثية الأولى بعنوان «ما بعد العولمة وتبعاتها في الشعر المعاصر»، مشيراً إلى أن ما بعد العولمة ليست مجرد تطور اقتصادي أو حتى فكري، بل هى في الأساس سلطة سياسية جـــديـــدة تــتــخــذ تــجــلــيــات عـــــدة، مــمــا يــجــعــل الأدب عموما، والشعر فـي القلب مـنـه، منوطا بـه معرفة دوره الخطير إزاءهــــا بـاعـتـبـاره الــوعــاء الرئيسي للتعبير عن العادات والتقاليد والثقافة العامة في عصر ما. وأشار إلى أن الشعر ليس نغما أو جمالاً مـعـزولاً أو حالة جمالية منبتة الصلة عن الواقع، فقد أثبتت الثورات التي شهدتها المنطقة العربية في حقبة ما بعد الألفية الثالثة أن الشعر استعاد أدواره القديمة فعلً تحريضيا وأداة حماسية. وتـــحـــت عـــنـــوان «قــلــيــل مـــن المـــحـــبـــة»، خصص المؤتمر جلستي للحتفاء باثني من رموز قصيدة النثر هما الشاعران محمد فريد أبو سعدة وجمال القصاص. تحدث القصاص عن أبـو سعدة، رفيق الــــــدرب، مـتـمـنـيـا لـــه الــشــفــاء، مـــؤكـــداً أن أبـــو سـعـدة يـنـظـر إلـــى الـشـعـر فـــي كـلـيـتـه، وبـــراءتـــه الحميمة، ليتباهى كصوفي عاشق يدرك أن الوجود هو حلقة متصلة لـلـروح، تسبق الـصـورة والـفـكـرة، والنغمة والمــوســيــقــى والإيــــقــــاع، وأن هـــزة الـسـطـر والــحــرف والكلمة ليست شرخا ناتئا في المرآة، وإنما ضرورة للإمساك بأزمنة ومـامـح، وحــدس إنساني هـارب فــي ظـالـهـا وبــيــاض عتمتها ونـصـوعـهـا الـشـائـك المراوغ. ولفت إلى أن أبو سعدة في دواوينه المتنوعة مثل «معلقة بـشـص»، «جليس لمحتضر»، «سماء على الطاولة»، «أنا صرت غيري»، يصل إلى سؤاله الشعري، ويخلص له عبر تدفقات الذهن والحس معا، وبراح فضاء قصيدة النثر، كأنه يوقظ أعماقا مـــغـــايـــرةً فـــي داخـــلـــنـــا، فـعـلـى الــســطــح وفــــي الـعـمـق تبني الصورة عالمها بشفافية لافتة، بينما يتخلى المــاضــي عــن فـكـرة الـتـرجـيـع، أو أنـــه صـــدى لأشـيـاء بائدة، هو صدى للنص نفسه، وما يرشح عنه، ما يعلق في وعينا ولا وعينا معا، من انكشاف النص نفسه لذاته أولاً، قبل أي شيء آخر. يلحظ القصاص في شعرية أبـو سعدة كيف يــتــســع المــشــهــد عــلــى نــحــو خــــاص لـيـشـمـل حـضـور الأنثى وعناصر الطبيعة ونثريات الواقع والأشياء الــعــابــرة المـهـمّـشـة المـنـسـيـة، وتـصـبـح الـحـسـيـة أداة للمعرفة والـسـؤال، وفي الوقت نفسه، يخلع النص قناع الآخر، ويتوحد بقناع الشاعر الذي يعرف كيف ومتى يخلعه ويلقيه خلفه، وكيف يلجأ إليه، كنوع من التمويه والتخفي والانعتاق من فوضى العالم، كما في ديوانه «سماء على الطاولة»: «ذهبوا/ وظل وحـــــده/ عــلــى صــــدره جــبــل/ وتــحــت جــلــده مناقير تنهش فــي الـقـلـب/ قـضـى عـمـراً ليصل إلـــى الـبـاب/ عيناه جوهرتان/ ويداه تمسكان بالفراغ». وقـــــدم الـــشـــاعـــر والـــنـــاقـــد عــمــر شـــهـــريـــار ورقـــة بحثية بــعــنــوان «قــصــيــدة الـنـثـر والاغــــتــــراب: جـدل الـــقـــطـــيـــعـــة والــــــتــــــواصــــــل»، رفــــــض فـــيـــهـــا عــــــــدداً مـن «الاتهامات الجاهزة» الموجهة لقصيدة النثر، من أشهرها أنها في قطيعة دائمة وأبدية مع التراث، كما أنها تمثل خطراً على الهوية العربية وتجسد حـالـة مــن الانــســاخ مــن المــاضــي. وعـــدّ شـهـريـار أن قصيدة النثر مثلها مثل الأشكال الشعرية الأخرى كقصيدة التفعيلة وقصيدة العمود، هي في حالة جدل دائم مع التراث، فتارة تتمرد عليه وتارة أخرى تستلهمه وتــارة ثالثة تنطلق منه أو ترفضه و... هكذا. وشـدد شهريار على أن شاعر قصيدة النثر مثله مثل بقية نظرائه على خريطة الإبداع الأدبي لا يستطيع الهروب من اللغة كأداة أساسية بما تمثله مـــن حــامــل أو وعــــاء لــلــعــادات والـتـقـالـيـد والـثـقـافـة بمفهومها الـــواســـع، بـالـتـالـي تـجـد قـصـيـدة النثر نفسها فـي حــوار جدلي مـع الــتــراث، على الأقــل من خلل الاشتغال الذي لا بد منه على اللغة. وفي الجلسة النقدية باليوم الثالث للمؤتمر، التي أدارتـهـا بحيوية الكاتبة الروائية والإعلمية دكـــتـــورة صـفـاء الـنـجـار قـدمـت الـبـاحـثـة هـبـة رجـب شـــرف الــديــن بحثا بـعـنـوان «ســـرديـــات المـاهـيـة في قـصـيـدة الـنـثـر المـعـاصـرة بــن المـرجـعـيـة والتخييل الذهني»، ارتكزت فيه على نماذج لكوكبة الشعراء والــــشــــاعــــرات، وتـــوقـــفـــت بــالــتــحــلــيــل أمــــــام قـصـيـدة للشاعر إبراهيم المصري بعنوان «مـا هو الشعر»؛ حيث يـعـرّف الشاعر ماهية الشيء/الشعر بقوله: الـشـعـرُ/ حــضــورٌ كــونــىّ لـلـبـذخِ/ وجــســورٌ معلقةٌ/ نـعـبـرُ عـلـيـهـا مــن غـيـمـةٍ إلـــى غــيــمــة». وتـنـبـع أفـكـار الشاعر في تصوير حقيقة الشعر من البيئة، لافتة إلـى أن الأفـكـار الشعرية لديه تماثل الغيمة؛ وهذا النعت لها من الطبيعي أن يبرز موقع الشاعر موقعا علويا حتى يحدث الإشـراق الذهني منفرطا، وهذا المعنى هو ما استهل به الشاعر الوحدة الشعرية. وتـنـتـقـل الـبـاحـثـة إلـــى تـجـربـة شـعـريـة أخـــرى للشاعر أحمد إمــام، حيث يتأثر في قصيدة النثر بالتقنيات القصصية من الحوار والوصف ومنظور الرؤية؛ وهو يقدم مفهوما أو تعريفا لماهية صورة الـشـاعـر فـي «قـصـائـد بحجم راحـــة الــيــد»؛ إذ يقول في قصيدة بعنوان «الشاعر»: نظّفَ حَنجرتَه من بقايا غناءٍ قديم/ وذاكرتَه من غبارِ القوافلِ/ ومشى وحيداً إلى الليلِ/ وحيداً كذئب/ لا كطريدة/ حدّقَ في المــرآة طـويـاً/ كأنه يشربُ صـورتَـه على ظمأ»، مشيرة إلى أنه يصف الذات الشاعرة بمجموعة من السمات القابعة في تصوره؛ فتتضح هذه السمات عبر الإخبار بشكل قصصي عن الحالة التي تسبق الكتابة، وهـي حالة جوهرية تخص الـشـعـراء؛ من هذه السمات أن الشاعر لديه فنان في المقام الأول، مسافر رحّال في المقام الثاني ترحالاً معنويا أكثر منه مـاديـا؛ لـذا فهو منفرد دائما بذاته التي دائما ما تتشكل في صور كثيرة بعدد صوره الشعرية. ويــتــخــذ الــبــاحــث إبـــراهـــيـــم أحـــمـــد أردش من ديوان «ما أنا فيه» للشاعر أحمد الشهاوي نموذجا لـــدراســـة بـعـنـوان «الـبـحـث عــن راحــــة الــــذات المتعبة مـن الأفـكـار فـي قصيدة النثر»، حيث يرصد حيرة الشاعر مع الأفكار وتداعياتها عليه، عن اقترابها وابتعادها؛ ليصبح ما فيه الشاعر هو البحث عن الأفكار أحيانا والهروب منها أحيانا أخـرى، حتى يــزهــد الــشــاعــر فـــي الاســتــيــقــاظ، بــاعــتــبــاره مــعــادلاً لـلـتـفـكـيـر: «مُــســتــغــنٍ عـــن الـــصَـــحـــوِ/ أخــــبَــــئُ جــــرَسَ البابِ/ في الجَيْبِ/ أخفي جرَسَ الهاتف/ في سُترةِ الصّمتِ/ أقايضُ إغفاءةً/ بقيراطي من ماس». وفـــي جـلـسـة احــتــفــاء بـتـجـربـة الــشــاعــر جـمـال القصاص تحدث الشاعر أسـامـة حــداد عـن علقته بالقصاص والمـرتـكـزات الجمالية والفلسفية التي تــشــكــل رؤيــــتــــه لــلــشــعــر والــــحــــيــــاة، وتــنــعــكــس عـلـى تشكيله الجمالي للقصيدة ومغامرته فـي البحث عن الجديد دائما. وتناول الشاعر والباحث د. خالد حسان جماليات قصيدة الشاعر جمال القصاص، لا سيما في دواوين «السحابة التي في المرأة» و«ما من غيمة تشعل البئر» و«جدار أزرق»، مشيراً إلى أن القصيدة تبدو لديه مفعمة بعذابات شخصشديد الحزن، بالغ الرقة والرهافة، شخص بسيط ليست لدية أي قناعات أو آيديولوجيات، أو أفكار جاهزة، شخصشديد الالتصاق بذاته، بهواجسه، بأحلمه الصغيرة، وطموحاته التافهة والمـريـضـة، هـا هو يــقــول: «لـيـس لـــدي اعــتــرافــات/ ولا سلطة مطلقة/ لكنني حي أجهش في الليل/ أحس أن هذا الخراب مجرد شيء سقط مني». ويـــعـــدّ حــســان أن أهــــم مـــا يـمـيـز إنـــتـــاج جـمـال الـقـصـاص قـدرتـه على تفجير الشعر طـــوال الوقت في كل جملة وكـل تركيب وكـل كلمة، بحيث تتابع الانفجارات الشعرية على طـول القصيدة، ومـن ثم الــديــوان، فقصيدته لا تعتمد المـبـاشـرة أو المفارقة أو غيرها من جماليات قصيدة النثر في نسختها الأخــيــرة، وهــي أيـضـا لا تـقـوم على إثـــارة القضايا الكبرى من خلل السعي وراء عوالم ميتافيزيقية، كـمـا اقــتــرحــت الـنـسـخـة الأولـــــى مـــن الـقـصـيـدة على أيـــدي روادهــــا، فالتركيبة السحرية الـتـي جــاء بها القصاص يمكن أن نصفها بالقدرة على الالتصاق بـــالـــذات الـشـعـريـة الـصـغـيـرة والــهــشــة فـــي مـحـاولـة لسبر أغـــوارهـــا، وإظــهــار عـذابـاتـهـا، لـكـن مــن خـال آليات جديدة، أو فلنقل آليات خاصة تحمل بصمة الشاعر التي يصعب تكرارها في قصائد غيره. وتعليقا على حصاد تلك الــدورة من المؤتمر، يشير رئيس المؤتمر ومنسقه الشاعر عــادل جلل إلــى أن الأهــــداف لـم تختلف عـن الــــدورات السابقة، حيث لا يزال كسر مركزية وهيمنة مجموعة محددة عــلــى المــشــهــد الـــشـــعـــري عـــمـــومـــا، وقـــصـــيـــدة الـشـعـر الحر فـي مصر، هدفا رئيسيا لـم يتغير. ويضيف جلل في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن من أهداف المـؤتـمـر كـذلـك إتـاحـة الـفـرصـة لأصـــوات جـديـدة من الشعراء للتعبير عن نفسها دون وصاية، وتسليط ضوء قوي على مواهب جديدة. ويشير عادل جلل إلـــى أن الــخــروج مــن الـقـاهـرة والانــفــتــاح عـلـى بقية المدن والأقاليم لا يزال هدفا مشروعا، لكنه يحتاج إلـــى دعـــم كبير وتـمـويـل سـخـي، وهـــو مــا لا يتوفر حتى الآن. عندما يتمّ نشر أعمال أدبـيّـة بعد وفـاة أصحابها، تــثــار أسـئـلـة عــديــدة عـنـهـا، مــن قـبـيـل: كـيـف يــؤثّــر غياب الـــكـــاتـــب عــلــى عـمـلـيـة تــحــريــر الــــنــــصّ؟ هـــل يـعـتـبـر نشر الرواية بعد وفـاة الكاتب محاولة لاستثمار إرثـه الأدبـيّ أم رغبة في تقديم رؤيته الأخـيـرة؟ كيف يتفاعل القارئ مع نصوص قد لا تعكس الصوت الحقيقيّ للكاتب؟ إلى أيّ حدّ يعتبر النصّ الذي لم يشرف عليه الكاتب بنفسه نصّا أصيلً؟ لا يخفى أنّ الروايات التي تُنشر بعد وفاة أصحابها تكون قد تعرّضت لتعديلت - كثيرة أو قليلة - من قبل المحرّرين أو الناشرين. هذه التعديلت قد تشمل تغييرات في الأسلوب، أو إضافة عناصر جديدة، أو حتّى تغيير فــي بــنــاء الـعـمـل أو فـكـرتـه الـرئـيـسـة - مَـــن يــــدري! -. مثل هذه التعديلت يمكن أن تؤثّر بشكل كبير على الأصالة الفنّيّة للنصّ، وتجعل القارئ يتساءل عما إذا كان النصّ النهائيّ يعكس الـرؤيـة التي كان الكاتب ينوي تقديمها. وهـــــــــذا بـــــــــــدوره مــــتــــروك لأمـانـة المـحـرّر والـنـاشـر، وقد يـــكـــون هــــذا المـــفـــهـــوم نـسـبـيّـا، وتــــتــــداخــــل عــــوامــــل مـــتـــعـــدّدة فــــــــيــــــــه. ولا يـــــمـــــكـــــن إغــــــفــــــال الـــجـــوانـــب الـــتـــجـــاريّـــة كـــذلـــك. فــــفــــي عــــالــــم الــــنــــشــــر، تُــعــتــبــر أمانة المـحـرّر والناشر إحدى الـقـيـم الـجـوهـريّـة الـتـي تـعـزّز مصداقية الــدار وتوجّهاتها، غـــيـــر أنّ هــــــذا المــــفــــهــــوم، رغـــم أهــمّــيّــتــه، لا يـمـكـن فـصـلـه عن جوانب تجاريّة قد تؤثّر عليه بطرق متعددة. إنّ مــــــفــــــهــــــوم الأمـــــــانـــــــة الـــــتـــــحـــــريـــــريّـــــة لــــيــــس ثــــابــــتــــا؛ إذ تــخــتــلــف الـــقـــيـــم والمــــبــــادئ التحريرية من ناشر إلى آخر، ومن محرّر إلى آخر. قد يجد الــبــعــض أنّ الـــحـــرّيـــة الأدبـــيّـــة والــتــعــبــيــريّــة تــتــطــلّــب بعض المرونة، بينما يرى آخرون أنّ القواعد الصارمة هي السبيل الوحيد لضمان الجودة والأمانة. في هذا السياق، يصبح من الضروريّ التذكير بأنّ الأمانة، بالإضافة إلى كونها مــســألــة أخـــاقـــيـــة، هـــي عـمـلـيـة تــتــأثّــر بـــتـــوازن دقــيــق بي المبادئ والقيم والمصالح التجارية. ومـــن الـطـبـيـعـيّ أن تلعب الـجـوانـب الـتـجـاريّـة دوراً فـــي عــالــم الــنــشــر، ولــكــن عـلـيـنـا أن نــــدرك كــيــف يـمـكـن أن تؤثّر على جودة العمل الأدبيّ. قد تكون هناك محاولات لتعديل النصوص بما يتماشى مع التوجّهات الرائجة أو المبيعات المتوقّعة، ما يطرح تساؤلات حول مدى تعارض هذه التعديلت مع رؤية الكاتب والرسالة التي يحملها نصّه. وهذه المعادلة تتطلّب إدراكا مسؤولاً لطبيعة الأدب وتـقـديـراً لمـبـادئـه الأســاســيّــة، جنبا إلــى جنب مـع الـقـدرة على الاستجابة للعوامل الأخـــرى دون المـسـاس بسلمة النصوص وقيمتها الأدبيّة. ومن البديهيّ أنّ الكاتب، أثناء حياته، يراجع نصّه ويـقـدّم موافقته النهائية على الشكل الــذي سيصدر به، ولكن عندما يُنشر عمل له بعد وفاته، فإنّ غياب توقيعه وغــيــاب مـوافـقـتـه الـنـهـائـيّـة يـثـيـران تــســاؤلات حـــول مـدى تطابق النصّ المنشور مع ما كـان سيقدّمه لو كـان حيّا. هذا النقصفي التحقّق النهائيّ يمكن أن يؤثّر على كيفية تلقّيه من قبل القرّاء والنقّاد ودارسي الأدب. مــن المـمـكـن أنّ غـيـاب الـكـاتـب قــد يسمح للمحرّرين بإجراء تغييرات على النصّ، ممّا قد يؤدّي إلى تباين بي النصّ النهائيّ وما كان الكاتب ينوي تقديمه. ومن الممكن أن يكون نشر المسوّدات والنصوص غير المكتملة محاولة للستثمار التجاريّ أكثر من كونه تقديراً حقيقيّا لإرث الــكــاتــب. وقـــد يـشـعـر الـــقـــارئ بخيبة أمـــل إذا اكـتـشـف أنّ الــنــصّ الــــذي يــقــرأه لا يـعـكـس الـــرؤيـــة الأدبـــيّـــة الحقيقيّة للكاتب بسبب التعديلت التي أجريت عليه. يمكن أن نستشهد على نشر أعمال لمؤلّفي راحلي، مثلً، رواية «نلتقي في أغسطس» التي صدرت بعد عشر سـنـوات مـن وفـــاة الكولومبيّ غابرييل غـارسـيـا ماركيز ) تثير تــســاؤلات حـــول مـــدى تـوافـقـهـا مع 2014 - 1927( رؤيــــة الــكــاتــب لمــشــروعــه الــــروائــــيّ. مــاركــيــز، الــــذي يُـعـرف بإبداعه الساحر وصوته الأدبــيّ المميّز، لم يكن موجوداً لـيـشـرف عـلـى عـمـلـيـة تـحـريـر الـــروايـــة أو يـضـع توقيعه النهائيّ عليها، وقد تكون الرواية قد خضعت لتعديلت أو تصحيحات من قبل المحرّرين أو الناشرين، ما يثير الـسـؤال: هل كانت الـروايـة ستبدو كما هي عليه الآن لو كان ماركيز حيّا؟ الـــروايـــة الـتـي جـــاءت مخيّبة لآمـــال وتــوقّــعــات قـــرّاء مـاركـيـز يمكن أن تـكـون قــد شـهـدت تـغـيـيـرات لا يمكننا الجزم بأنها تتماشى مع رؤية ماركيز كما يعهدها قرّاؤه ودارســوه في أعماله السابقة، ما قد يكون تسبّب بخلق تباين بي النصّ المنشور وما كان يطمح الكاتب لتقديمه. وكذلك الحال مع روايــة «سمك ميّت يتنفّس قشور )، التي 2023 - 1964( الـلـيـمـون» لــلــســوريّ خـالـد خليفة صدرت بعد وفاته بعام عن دار نوفل، ومثل حالة ماركيز، لــم يتمكّن خليفة مــن مـراجـعـة نـصّـه الـنـهـائـيّ أو تقديم موافقته الشخصيّة على الشكل الذي نُشر به، والتعديلت التي قد تكون أجريت على الرواية قبل نشرها يمكن أن تـؤثّـر على التجربة الـروائـيّـة الـتـي كــان يـنـوي تقديمها، ولا سيما أنّـه لم يعلن عنها قبل رحيله، وهـو الـذي كان معروفا بـأنّـه يعرض مـسـوّداتـه على عــدّة أشـخـاص قبل دفعها للنشر. فــــي حـــــــالات الـــنـــشـــر بـــعـــد رحــــيــــل المــــؤلّــــفــــن تـحـضـر إشكالية أخرى تتمثّل في أنّه إذا كان هناك اختلف بي النصّ المنشور وتجارب الكاتب السابقة، فقد يشعر القرّاء بخيبة أمـل إذا اكتشفوا أن العمل قد لا يعكس تماما ما كــــان الــكــاتــب يــنــوي تـقـديـمـه. وهنا من الـضـروريّ أن يُشار إلى أنّ العمل المنشور لم يكن مـكـتـمـاً ولــيــس عـلـيـه توقيع الـــكـــاتـــب بـــصـــورتـــه الــنــهــائــيّــة المـــــــــحـــــــــرّرة؛ لأنّ هــــــــذا يــــعــــزّز مـــن نـــزاهـــة الــعــمــلــيّــة الأدبـــيّـــة ويضمن الحفاظ على سمعة الـكـاتـب وتـقـديـر إرثـــه الأدبـــيّ بشكل صحيح، ويوفّر للقرّاء فهما واضــحــا للطبيعة غير المكتملة للعمل. وعـلـى الــرغــم مــن الـجـدل حـــــــــول الــــــتــــــعــــــديــــــات، تـــبـــقـــى أهـمّـيّـة نـشـر الـنـصـوص التي كـتـبـهـا الأدبــــــاء بــعــد وفـاتـهـم فـــي كــونــهــا تــعــبــيــراً عـــن جــزء من إبداعهم. ولا شكّ أنّ هناك أهـمـيـة أدبـــيّـــة وتــاريــخــيّــة في نـــشـــر المـــخـــطـــوطـــات الأصــلــيــة بـجـانـب الـنـصـوص المـــحـــرّرة، وذلـــك فــي سـيـاق نـشـر أعـمـال الـراحـلـن بعد وفـاتـهـم، وذلـك لــتــوفــيــر نـــظـــرة شــامــلــة حــول تطوّر العمل الأدبــيّ، وتوفير موادّ قيّمة للدارسي والباحثي لمقارنة النسخ المختلفة. ولعلّ نشر المخطوطات/المسوّدات يمكن أن يساهم في تمكي القراء والباحثي من الاطــاع على النصوص كــمــا اقــتــرحــهــا صـاحـبـهـا قــبــل أن يــتــدخّــل المــــحــــرّرون أو الـنـاشـرون. وهــذا يمكن أن يكشف عـن العناصر الأدبـيّـة الـتـي قـد تـكـون قـد أزيـلـت أو عـدّلـت، مـمّـا يساعد فـي فهم أعمق للعمل الأدبيّ، ولعملية التحرير والتعديل نفسها، وقد يمنح فرصة لفتح مجال لدراسات أدبيّة جديدة في مــيــدان لا يـــزال مغلّفا بالتكتّم والـتـعـتـيـم، كـمـا قــد يمنح فـــرصـــة تـحـلـيـل وتـقـيـيـم تـــطـــوّر الــنــصــوص الأدبـــيـــة عبر مراحل زمنية مختلفة، بحيث يمكن تتبع التغييرات التي أجـريـت على الـنـصـوص وكيفية تأثيرها على التجربة الأدبية والقيم الفنّيّة للعمل. ويــمــكــن أن يــســاهــم نــشــر المـــخـــطـــوطـــات بصيغتها المــــســــوّدة المــكــتــوبــة مـــن قــبــل الــكــاتــب بــجــانــب الـنـصـوص المـحـرّرة من قبل دار النشر في الحفاظ على سجلّ أدبـيّ دقيق. هـذا يضمن الحفاظ على إرث الكاتب كما هو من جهة، ويتيح أيضا للدارسي وللأجيال القادمة الاطّلع على النصوص غير المكتملة والنسخ المبكّرة التي تعكس تطوّر البناء الهندسيّ والفكريّ للعمل. وهـــنـــا ســيــكــون مـــن الــــضــــروريّ أن يـتـضـمّـن الـنـشـر إشــــارة واضــحــة إلـــى أن الـنـصـوص المــقــدّمــة هــي مـسـوّدة أو غـــيـــر مــكــتــمــلــة ولـــــم تــخــضــع لـــتـــعـــديـــات مــــن الــكــاتــب نفسه. هــذا يـعـزز مـن الشفافية ويــوفّــر لـلـقـراء فهما أدقّ عــن طبيعة الـنـصـوص الـتـي يـدرسـونـهـا، ويـحـافـظ على النزاهة الأدبية ويوفّر قيمة علمية وتاريخية. وبتوضيح حـالـة النصوص كـمـسـوّدة، يتمكّن الباحثون مـن تقييم النصوص في سياق تاريخيّ وأدبيّ صحيح. يمكن اعتبار النصوص المنشورة بعد وفاة مؤلّفيها انعكاسا غير مكتمل لصوت الكاتب ورؤيته، لكنّها تفتح كذلك نافذة للتأمّل في العلقة بي النصّ وخلوده، لأنّها تــحــثّ الــــقــــرّاء عــلــى طــــرح تـــســـاؤلات تــتــجــاوز الاعـــتـــبـــارات الفنّيّة والتجارية، ويتجدّد الـسـؤال عن قـدرة الأدب على الاستمرار والتحوّل في غياب صاحبه. كما يمكن النظر إليها كنوع من الحوار الصامت بي ما كتبه الكاتب وما قــدّمــه المـــحـــرّرون أو الــنــاشــرون. ورغـــم أنّ هـــذا الــحــوار قد يفتقد لصوت المؤلّف بالصيغة التي ألفها قرّاؤه، فإنّه يظلّ مجالاً مفتوحا للتأويلت والتفسيرات المتجدّدة؛ لأنّ أيّ نصّ، بقدر ما هو عمل فنيّ، فهو كائن حيّ يتأثّر بتغيّرات الزمن وأعـن الـقـرّاء المختلفة، ويعيد إنتاج نفسه بصور وأشكال قد تتجاوز ما كان يسعى إليه المؤلّف أصلً. ناقد وروائيّ سوري مقيم في لندن الروايات التي تُنشر بعد وفاة أصحابها قد تتعرّض لتعديلات من قبل المحرّرين أو الناشرين قد تشمل تغييرات في الأسلوب، أو إضافة عناصر جديدة، أو حتّى تغيير في بناء العمل أو فكرته الرئيسة دورة ناجحة للمؤتمر تنوعت فيها الرؤى والدراسات النقدية، والقراءات الشعرية لكوكبة من الشاعرات والشعراء الثقافة CULTURE 28 Issue 16736 - العدد Monday - 2024/9/23 الاثنين أسئلة شائكة تثار حولها إشكاليّة النصوصالأدبيّة المنشورة بعد وفاة مؤلّفيها * هيثم حسين أيام في دورته الثامنة 3 مداخلات نقدية متنوعة وقراءات شعرية على مدار «مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار إحدى ندوات مؤتمر «مؤتمر قصيدة النثر المصرية» (الشرق الأوسط) القاهرة:رشا أحمد

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky