issue6731

الثقافة CULTURE 17 Issue 16731 - العدد Wednesday - 2024/9/18 الأربعاء ميرزا الخويلدي جائزة «القلم الذهبي»... لماذا هي مهمة؟ لماذا تُعد جائزة «القلم الذهبي» للأدب الأكثر تأثيراً، الـتـي أطلقتها هيئة الـتـرفـيـه الـسـعـوديـة، مهمة وشـديـدة الـتـأثـيـر؟ بـبـسـاطـة لأنـهـا تجعل الأدب مـدمـاكـا للصناعة الفنية. بعد سـنـوات مـن طغيان الأعــمــال الفنية الهابطة والمدمرة للذائقة. تـركـز جــائــزة «الـقـلـم الـذهـبـي» عـلـى الأعــمــال الـروائـيـة الأكــثــر قـابـلـيـة لـلـتّـحـويـل إلـــى أعــمــال سـيـنـمـائـيـة، وتمنح جـــوائـــز ســخــيــة، بـــهـــدف جــــذب كـــبـــار الأدبـــــــاء والمـــوهـــوبـــن لساحة الكتابة الروائية التي يمكن أن تندمج مع الصناعة السينمائية، وبالتالي فهي تـخـدم حقلي الأدب الـروائـي والـــفـــن الـسـيـنـمـائـي، وتـشـمـل مـــســـارات الـــجـــائـــزة: الـــروايـــة الكوميدية، وروايـة التشويق والإثـارة، وروايـة الفانتازيا، والرواية التاريخية، وروايـة الغموض والجريمة، وروايـة الرعب، والرواية الواقعية، والرواية الرومانسية. فـــي عـصـرهـا الــذهــبــي، كــانــت الـــروايـــة الأدبـــيـــة مـحـرك السينما المصرية، بـدأت السينما الروائية بفيلم «زينب» عـن روايـــة محمد حسي هيكل، الـــذي يعد أول 1930 عــام ،1959 فيلم روائي مصري، جاء بعده «دعاء الكروان» عام المـقـتـبـس مـــن روايـــــة طـــه حــســن، وهـــو الـفـيـلـم الــــذي احـتـلّ المــركــز الــســادس فــي قـائـمـة أفـضـل عـشـرة أفـــام فــي تـاريـخ السينما المـصـريـة. تاليا اسـتـفـادت السينما المـصـريـة من الأعـــمـــال الـــروائـــيـــة الـعـظـيـمـة الـــتـــي قــدمــهــا عـمـالـقـة الأدب الــعــربــي، أمــثــال نـجـيـب مـحـفـوظ، الــــذي أصـبـحـت روايــاتــه في ستينات القرن الماضي أهـم الأعـمـال السينمائية منذ كـتـب روايــــة «بــدايــة ونــهــايــة»، ثـــمّ ثلثيته الــروائــيــة: «بـن الـقـصـريـن»، و«قــصــر الـــشـــوق»، و«الــســكــريــة» وصــــولاً إلـى «اللص والكلب»، و«ميرامار»، و«الحرافيش»، و«السمان والخريف»، و«الشيطان يعظ»، و«الكرنك»، و«الحب فوق هـضـبـة الـــهـــرم»، و« ثــرثــرة فـــوق الــنــيــل»، و«زقـــــاق المــــدق». كما اسـتـفـادت مـن أعـمـال الـكـاتـب والـــروائـــي يحيى حقي، صاحب «قنديل أم هـاشـم»، و«البوسطجي»، ومـن أعمال يــوســف الــســبــاعــي فـــي «أرض الـــنـــفـــاق»، و«نـــحـــن لا نـــزرع الشوك»، و«الـحـرام»، و«السقا مـات»، و«ردّ قلبي» ورائعة عبد الـرحـمـن الـشـرقـاوي: «الأرض»، وتـوفـيـق الحكيم في «الخروج من الجنة». ولا يمكن إغفال الأعمال الأدبية الرائعة لإحسان عبد الـــقـــدوس وهـــو مــن أكــثــر الــروائــيــن الــعــرب إنــتــاجــا، حيث روايـــــة وقـــصـــة، ووصـــــل عــــدد روايـــاتـــه 600 ألّـــــف أكـــثـــر مـــن فيلما 70 التي تحولت إلـى أفـام ومسلسلت إلـى قرابة الـــ ومــســلــســاً سـيـنـمـائـيـا وتــلــفــزيــونــيــا، وشــــــارك فـــي كـتـابـة السيناريو، بالإضافة إلى خمس روايات من أعماله حُوّلت إلى نصوص مسرحية، وتسع روايات أصبحت مسلسلت إذاعــيــة، وتُـرجـم كثير مـن روايــاتــه إلــى لـغـات عالمية، ومن أعماله السينمائية: «في بيتنا رجل»، و«النظارة السوداء»، و«بئر الحرمان»، و«يا عزيزي كلنا لصوص»، و«الراقصة والسياسي»، و«لا تطفئ الشمس»، و«الوسادة الخالية»، و«الرصاصة لا تزال في جيبي». الـسـيـنـمـا الـعـالمـيـة هـــي الأخـــــرى اعــتــمــدت عـلـى الأدب الروائي واستعانت بكتاب بارزين ليكتبوا لها، نستذكر هنا الــراحــل ستانلي كـوبـريـك الـــذي يعد واحـــداً مـن أعظم صـــنـــاع الأفــــــــام فــــي الــــتــــاريــــخ، ونــــالــــت أعـــمـــالـــه شـهـرتـهـا لأســـبـــاب مـــن أبـــرزهـــا رصـــانـــة الـــنـــصّ، وجـــــودة المــحــتــوى، حيث كانت أفلمه مستوحاة غالبا من روايـات أو قصص قصيرة لأدبـاء بارزين. بالمناسبة حتى السينما المصرية استفادت من الأدب العالمي، حي حوّلت الرواية الروسية الشهيرة «الإخـــوة كـــارامـــازوف» للكاتب الـروسـي فيودور .1974 دوستويفسكي، إلى فيلم «الإخوة الأعداء» عام الــــنــــصّ أولاً، ثــــــمّ تــــأتــــي بـــقـــيـــة مــــحــــركــــات الــصــنــاعــة الـسـيـنـمـائـيـة، وأزمــــة الــنــصّ كـانـت الـسـبـب الأبــــرز (ولـيـس الوحيد) في انهيار الفنّ السابع وبقية الفنون، وبانهيار الفنّ انهارت الذائقة الفنية، وانـهـارت معها منظومة قيم المجتمع، مـع اكـتـسـاح السينما الـتـجـاريـة، الـتـي أصبحت تـتـوسـل بالبلطجية والــراقــصــات، لتسويق أعـمـال تتسم بالانحطاط في الذوق، وتسطيح الوعي، وتسخيف معاناة الناس. كــانــت ألمــانــيــا الــنــازيــة أيــــام هـتـلـر تـسـعـى لـجـعـل الـفـنّ الـبـصـري والـسـيـنـمـائـي وسـيـلـة لنشر قيمها فــي ترسيخ التفوق العرقي، ولذلك حاربت الفنّ الحديث، وأي فنّ يرمز للحداثة، وابتكرت مصطلح «الفن المنحط»، أو «الهابط» وذلــــك لـتـسـويـغ مـحـاربـتـه. لــكــنّ الــفــنّ المـنـحـط –بــعــيــداً عن التوصيف النازي– أصبح حقيقة، لا يكفي الشكوى منها، وإبـــداء الـتـذمّـر، كــان لا بــدّ أن تنطلق المــبــادرات لتصحيح هذا الوضع، والبداية طبعا لا بدّ أن تكون في توفير النصّ الزاخر بالمعنى واللغة والخيال الذي يحتوي على الحكاية التي تُشبع نهم وتطلع الجمهور وتـــداوي عطشهم نحو الإبــــداع والـجـمـال. القصة الـتـي لا تنتهي بنهاية الفيلم، وتبقى عالقة فـي الــذاكــرة، قـد تعالج قضية، وقــد تحاكي واقــعــا، وقــد تسبح فـي فـضـاء الـخـيـال... المـهـم أن تستثير الفكر وتمنح المشاهد المتعة والجمال. لذلك جــاءت جائزة «القلم الذهبي» في وقتها... فأن تُشعل شمعة خيرٌ من أن تلعن الظلم! جرّة ونديمان وقرصعلى شكل دوّار الشمس مشهد مجلسالشراب فيزمن دلمون تــتــعــدّد الــشــواهــد الأثـــريـــة الــخــاصــة بـحـضـارة دلمون، وتتنوّع، وأبرزها مجموعات الأختام الدائرية التي عُثر عليها خلل مواسم التنقيب المتواصلة في جزيرة فيلكا الكويتية وجزيرة البحرين. تكمن قيمة هذه الأختام بشكل أساسي في نقوشها التصويرية التي تختزل عوالم مختلفة، تتمثّل في مجموعة من المـشـاهـد تـتـكـرّر فـي تآليف تتشابه حينا وتتماثل حينا آخـــر. فـي هــذا المــيــدان، تحضر صــور مجالس الـــشـــراب فـــي سـلـسـلـة جــامــعــة مـــن المـــشـــاهـــد، تتبنّى مجموعة مــحــدّدة مـن العناصر التصويرية تؤلف معا قاموسا تشكيليا خاصا بها. تحضر هذه المجالس في نماذج تأليفية عدة، أبــــرزهــــا نـــمـــوذج يـجـمـع بـــن شـخـصـن مـتـواجـهـن يمسك كـل منهما مـا يشبه أنبوبا طـويـاً ونحيلً، يــخــرج مـــن إنــــاء يـحـتـل وســـط الــتــألــيــف. يـظـهـر هـذا الــنــمــوذج فــي خـتـم مــن فـيـلـكـا، يـعـود إلـــى مجموعة الأختام الهائلة التي عثرت عليها البعثة الدنماركية فــــي مــطــلــع الـــســـتـــيـــنـــات، خـــــال أعــــمــــال المـــســـح الــتــي قامت بها في التل الشمالي لما بـات يُعرف بالقلعة اليونانية. على وجــه هــذا الـخـتـم، يظهر شخصان في وضعية جانبية، يجلس كل منهما على مقعد صغير بــا ظـهـر، قـابـضـا بـيـد عـلـى قصبة ينغرس طـــرفـــهـــا الأســــفــــل فــــي جــــــرة مــســتــطــيــلــة تـــقـــع وســـط المــقــعــديــن. فـــي الــقــســم الأعـــلـــى مـــن الــتــألــيــف، يظهر نقش مستطيل بـن رأســي الشخصي المتواجهي، ويمثل هذا النقش عنصراً تصويريا غامضا يصعب تحديد هويته. يـتـكـرّر هـــذا الـتـألـيـف عـلـى خـتـم آخـــر خـــرج من الموقع نفسه أثناء أعمال المسح التي أجرتها بعثة فــرنــســيــة فـــي مـنـتـصـف ثــمــانــيــنــات الـــقـــرن المـــاضـــي. يــرتــدي الـشـخـصـان الـجـالـسـان زيـــا واحــــداً مشتركا يتمثّل فـي مـئـزر طـويـل تعلوه شبكة مـن الخطوط المتوازية تحاكي وبـر الـصـوف، وهـذا الـزي معروف فــــي الـــقـــامـــوس الـــفـــنـــي، وهـــــو خـــــاص بـــبـــاد مــــا بـن النهرين. في القسم الأعلى يظهر قوس يرتفع فوق عـــمـــود صـغـيـر يـشـكـل قـــاعـــدة لــــه، وبــــن طـــرفـــي هــذا الـقـوس تظهر دائـــرة شمسية يحيط بها ســـوار من الـشـعـاعـات المــتــوازيــة. يحضن هــذا الـقـوس الهللي هذا القرص الشمسي، ويشكّلن معا عنصراً نجميا مـــعـــروفـــا يـــتـــكـــرّر فـــي أنـــحـــاء مــتــفــرّقــة مـــن الــجــزيــرة الـــعـــربـــيـــة، مـــتـــجـــاورة ومـــتـــبـــاعـــدة. إلـــــى جـــانـــب هــذا العنصر التشكيلي المعهود، يظهر استثنائيا طائر صغير يحلّق فوق قمة طرف الهلل اليمنى. يـــحـــضـــر هـــــذا الـــتـــألـــيـــف بـــشـــكـــل شـــبـــه مــطــابــق عـلـى خـتـم مــن أشـهـر أخــتــام الـبـحـريـن، اكـتُـشـف عـام فــي مـقـبـرة قـريـة كــرانــة الأثـــريـــة الـتـي تـقـع في 1987 المحافظة الشمالية، وهـو الـيـوم مـعـروض فـي قاعة بــاســم دلمــــون بـمـتـحـف الـبـحـريـن الــوطــنــي. كـمـا في الـصـورة المنقوشة على ختم فيلكا، يـرتـدي كـل من الشخصي المتواجهي مئزراً يغطي الجزء الأسفل من الجسد، ويتقاسمان معا الشراب من جرة تخرج منها قصبتان طويلتان. يمسك كـلّ من الشخصي أنبوبا مـن هذين الأنبوبي بيد، ويرتشف الشراب مـن طــرف الأنـبـوب الأعـلـى. يشكل عـمـودا الأنبوبي المـنـغـرسـن فــي الــجــرة مثلثا يحتضن شـمـعـدانـا ذا أربعة أغصان متوازية، يعلوها هـال. ووسـط هذا الهلل، يحلّ القرص الشمسي التقليدي على شكل زهـــرة دوار الـشـمـس. يمثّل هــذا الـنـمـوذج الصيغة التقليدية المتكاملة لمشهد مجلس الشراب، ويحضر إلـــى جـانـب نــمــاذج أخـــرى مـتـعـددة تظهر عـلـى عـدد كبير مـن الأخـتـام، منها على سبيل المثل تلك التي خرجت من مقبرة سار في المحافظة الشمالية، غرب العاصمة المنامة، خـال أعـمـال المسح التي أجرتها بـعـثـة بـريـطـانـيـة فـــي الـنـصـف الأول مـــن تسعينات ،1990 القرن الماضي. على ختم مميز اكتُشف في عام يظهر شخص يرتشف هنا الشراب بمفرده، يظهر من خلفه شخص يلعب كما يبدو دور الـنـادل، كما يوحي قياس قامته الأصغر حجما. يجلس السيّد عــلــى المــقــعــد الــصــغــيــر، مــرتــديــا زي بــــاد الــرافــديــن التقليدي، ومعتمراً قبعة مقوسة عالية تنتمي كذلك إلـــى هـــذا الــــزي، ويــمــتــصّ الـــشـــراب بــواســطــة أنـبـوب طويل يخرج من الجرة المثبتة أمام قدميه. من خلف ظهره، يقف النادل عاريا في وضعية جانبية، كما ســـيّـــده، حــامــاً بــيــده أداة مـقـوّسـة غـامـضـة. تحيط بـالـشـخـصـن مـجـمـوعـة مـــن الــعــنــاصــر، تـتـمـثـل في عقرب وغـزال من جهة، ومذبح صغير يعلوه قوس هللي يحتضن قرصا شمسيا. تكشف أختام أخرى من مقبرة سار عن نماذج أخـــرى تشكل تنويعات لـهـذا المجلس الــواحــد. على ختم من هذه الأختام، يجلس رجل يمتص الشراب فـــي الـوضـعـيـة الـتـقـلـيـديـة، ويـظـهـر مـــن أمـــامـــه رجـل يقف في مواجهته، حاملً بيده تلك الأداة المقوسة الــغــامــضــة. عـلـى خـتـم آخــــر، يـظـهـر رجـــل يـقـف على قدميه، ممسكا بيده اليمنى أنبوبا يخرج من جرة ثُـبّـتـت مــن أمـــام قـدمـيـه، قـابـضـا بـيـده الـيـسـرى على قائمة ثــور ينتصب عموديا مـن خلفه. ويظهر في الطرف المقابل عقرب يمتدّ عموديا بشكل متجانس. فــي تــقــصّ ســريــع لــهــذه الـتـقـاسـيـم المـخـتـلـفـة، يظهر رجـــل يــشــرب وقــوفــا إلـــى جــانــب رجـــل آخـــر يـقـف من ورائه، وتحلّ جرتان منفصلتان بدل الجرة الواحدة، ويظهر مُحتسو هـذا الشراب تـارة بالزي التقليدي وتارة عراة. مجلسالشراب كما يظهر علىختمين من فيلكا وختمين من البحرين وختمسومري من مدينة أور محمود الزيباوي توم لوتز في كتابه الشيق «تاريخ البكاء» الدموع هيسيرتنا الذاتية التي أغفلتها الكلمات إذا كـــان المـكـتـوب يُــقــرأ فــي معظم الأحــيــان من عـنـوانـه، كما تقول الـعـرب، فــإن أكثر مـا شـدّنـي إلى قـــراءة كـتـاب تــوم لـوتـز «تــاريــخ الـبـكـاء» هـو عنوانه بــالــذات، خصوصا وأن المـؤلـف أضـــاف إلـيـه عنوانا فــرعــيــا أكــثــر إثـــــارة لــلــفــضــول، هـــو «تـــاريـــخ الــدمــوع الـطـبـيـعـي والـــثـــقـــافـــي». ورغــــم أن مـــوضـــوع الــبــكــاء، بــتــعــبــيــراتــه المـــرئـــيـــة وغـــيـــر المـــرئـــيـــة، لـــم يــكــن بـعـيـداً عــن مـتـنـاول الـبـاحـثـن فــي عـلـوم الـطـب والاجـتـمـاع والنفس، فإن ما أكسب الموضوع جاذبيته الخاصة هـو تعقب الـكـاتـب الــــدؤوب لمـا يظنه الــقــارئ، لشدة بــديــهــيــتــه واتــــســــاع رقـــعـــتـــه الـــزمـــنـــيـــة، عــصــيــا عـلـى التدوين. وفي تقديمه للكتاب، الصادر عن دار «صفحة »، الـــذي نقله إلـــى الـعـربـيـة عـبـد المـنـعـم محجوب، 7 يشير لوتز إلى أن دافعه للكتابة كان سؤال أستاذه رولان بارت في إحدى المحاضرات عمن من تلمذته سيكتب تاريخ الـدمـوع. وبعد أن انبرى العديد من تلمذته للقول بشكل تلقائي «كلنا سيفعل ذلـك»، أحس لوتز برغبته العميقة في عدم خذلان أستاذه، وبأن واجبه الأخلقي أن يتصدى لهذه المهمة، مهما كـان حجم الصعاب التي تعترض طريقه. لكن هذا الدافع المباشر كان مقرونا بدافعي آخرين، يتعلق أولـهـمـا بتبرم لـوتـز مـن التنظير الفلسفي المحض الذي يسميه «تواتر اللمعنى»، وبنزوعه الملح إلى المـــواءمـــة الـتـامـة بــن الـفـلـسـفـة التطبيقية والـعـلـوم الحديثة. أمـا ثانيهما فيرتبط بتكوين المؤلف النفسي والـــعـــاطـــفـــي. فـــهـــو إذ يــصــنــف الـــبـــشـــر بــــن بـكـائـن و«جفافي»، أي الذين جفت مدامعهم، يعلن انحيازه بصورة واضحة إلى الصنف الأول، مستعينا على مـهـمـتـه بـالـفـلـسـفـة والأدب والــنــقــد والـــتـــاريـــخ وعـلـم الاجــتــمــاع وعــلــم الـنــفــس، وبـعـلـم وظــائــف الأعــضــاء والفيزيولوجيا العصبية والكيمياء والحيوية. لكن كل تلك العلوم لم تكن لتكسب الكتاب أهميته، لولا الخلطة السحرية التي وفرها لوتز لكتابه، جامعا على طريقة أسـتـاذه بـــارت، بـن المعرفة الموسوعية الجامعة، ودقة التصويب إلى التفاصيل، والأسلوب الشاعري المتوهج. وإذ يــســتــهــل المــــؤلــــف كـــتـــابـــه بــمــجــمــوعــة مـن التساؤلات المتتالية عن أسباب البكاء، وعن الطبيعة المــلــتــبــســة لـــلـــدمـــوع الـــتـــي اعـــتـــدنـــا عـــلـــى ذرفــــهــــا فـي مناسبات متناقضة، كتعبير عن الفرح أو الحزن، الربح أو الخسارة، عن متعة الحب وآلام الفراق، وعن الاحتفال بقريبٍ عائد أو الحداد على عزيزٍ راحل، لا يتوانى عن العودة بعيداً إلى الوراء، ليتقصى جذور الدموع الأم في الميثولوجيا والدين والشعر والسحر والطقوس الجمعية المختلفة. وقد بدت الدموع في حضارات الشرق القديمة، كما لو أنها الخمرة المسكرة، أو الماء الذي يحتاجه المكلومون لإرواء غليلهم. فالآلهة الـعـذراء «عناة»، ظــلــت تـــــذرف الـــدمـــوع إثــــر وفـــــاة أخــيــهــا «بـــعـــل» إلــى أن «أتـخـمـت نفسها بــكــاءً وصــــارت تــشــرب الــدمــوع كــمــا الـــخـــمـــر»، وفــــق الـــنـــصـــوص الـــتـــي اكــتــشــفــت في أوغاريت في مطالع القرن الفائت. لا بل إن للدموع في الأساطير، بخاصة دمـوع النساء، أثرها البالغ عــلــى عـــتـــاة «الـــصـــفـــوف الأولـــــــى» مـــن الآلــــهــــة، الــذيــن عمدوا بتأثير من بكاء «عناة» إلى إعادة «بعل» إلى الحياة لشهور عدة. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع بكاء عشتروت على أدونيس، وإنانا على ديموزي، وإيزيس على أوزيريس. وفــــي «الــعــهــد الـــقـــديـــم» تــبــدو الـــدمـــوع بمثابة التماس للغفران وتطهر من الإثـم، حيث يقول الرب لحزقيال «لقد رأيــت دمـوعـك وهـا أنـا أشفيك». كما أن داود فـــي المـــزامـــيـــر يـسـتـخـدم دمـــوعـــه لاســـتـــدرار عطف الخالق، مفترضا أن دمــوع الـصـاة غالبا ما يُستجاب لها، ومردداً بحرقة بالغة «اسمع صلتي يا رب، واصـغِ إلى بكائي، ولا تسكت عن دموعي». ويـــعـــدّ المـــؤلـــف أن الــعــبــريــن الـــذيـــن أقــــامــــوا حـائـطـا للدموع سـمـوه «حـائـط المـبـكـى»، لـم يتركوا وسيلة من وسائل العويل وشـق الثياب والتلطخ بالرماد إلا واستخدموها للتأثير على إلههم «يهوه»، الذي كـان يعاقبهم على جحودهم وإيغالهم في العقوق وارتكاب الفواحش، قبل أن يشفق عليهم في نهاية الأمر. وبعد أن حل بهم وباء الجراد، وشرعوا بشق الثياب كالعادة، ينقل نبيهم يوئيل عن «يهوه» قوله لهم «اذهــبــوا الآن وارجــعــوا إلـــيّ بـالـصـوم والـصـاة والبكاء والنواح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم». وفي الأناجيل الأربعة لم تبتعد دلالـة الدموع عن دلالاتها في التوراة. لا بل إن دموع مريم المجدلية التي ركعت باكية عند قدمي المسيح، وفـق ما رواه لـوقـا، وأخـــذت تمسحهما بشعر رأسـهـا وتدهنهما بالطيب، كانت واحدة من علمات توبتها وتطهرها مـــن الــخــطــايــا، الأمــــر الــــذي أكـــدتـــه مـخـاطـبـة المسيح لها بالقول «إن إيمانكِ قد خلّصك يا امــرأة، اذهبي بـــســـام». وإذ تــبــدو الـــدمـــوع فــي المسيحية جــــزءاً لا يــتــجــزأ مـــن طــقــوس الــبــكــاء عــلــى المــســيــح، يـتـسـاءل الـقـديـس أوغـسـطـن عـمـا إذا كـانـت الــدمــوع تستمد حلوتها من الاعتقاد بأنها مرئية من قبل الله، فيما يقر توما الأكويني بأن ذرفها بكثرة هو ما يخفف المعاناة ويتيح الحصول على النعمة. ولم تكن الدموع بما تحمله من دلالات متداخلة لــتــغــيــب عــــن بـــــال المـــبـــدعـــن فــــي الـــعـــصـــور الــقــديــمــة والحديثة. وقد أثارت العلقة بي الدموع والجمال اهتمام الكثير من الشعراء والفناني، وفي طليعتهم فيرجيل الذي أشار في «الإنياذة» إلى الدموع التي تشبه الزخارف، كما يرد في أحد الأمثال القديمة بأن «المرأة ترتدي دموعها مثل المجوهرات». وحيث يعدّ أوفيد أن الدموع تجرف الحزن بعيداً، وتضفي على المرأة قدراً غير قليل من الجاذبية والجمال، يتحدث يـوروبـيـديـس عــن الــدمــوع الـتـي تــرافــق الــلــذة، فيما يعدها آخرون بمثابة العقوبة الطبيعية للمتعة. إلا أن ذلـــك لــم يـمـنـع الـكـثـيـريـن مــن الـنـظـر إلـى دموع المـرأة بعي الريبة والتوجس، وفي طليعتهم ولــــيــــم شــكــســبــيــر الـــــــذي حـــــذر فــــي غـــيـــر واحــــــــدة مـن مسرحياته، مما تخفيه الدموع وراءهـا من مكائد. فهو يـقـول بلسان عطيل، وقــد استبدت بـه مشاعر الغيرة على ديسدمونا: «أيها الشيطان، إذا سالت دموع امرأة على الأرض، فكل قطرة تذرفها ستثبت أنها تمساح». وفــــي إطـــــار مـــا يـسـمـيـه المـــؤلـــف «عـــلـــم اجـتـمـاع الـدمـوع»، يشير لوتز إلى العديد من ظواهر البكاء الـــــحـــــدادي فــــي الـــعـــالـــم. فـــهـــو إذ يـــبـــدو عـــنـــد بـعـض الجماعات نوعا من قطع الروابط الأخيرة مع الموتى، يتحول عند بعضها الآخر إلى مهنة للرتزاق، كما تفعل قبائل الولف السنغالية، حيث يتم استئجار النساء للندب على الموتى. وإذ تناط بالنساء مهمة البكاء بالأجرة في بعض مناطق الفيليبي، ما يلبث الـطـرف المـسـتـأجِـر أن يـقـدّم لهن حبوبا باعثة على الضحك، كنوع من التسرية عنهن بعد إنجاز المهمة. على أن فـــرادة كتاب تــوم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان الـقـارئ مـن إبـــداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي، ســـواء تعلق الأمـــر بـالـبـكـاء عـلـى الأطــــال، أو دمــوع الـــصـــوفـــيـــن كـــرابـــعـــة الــــعــــدويــــة، أو دمــــــوع الــعــشــاق العذريي، أو بطقوس النواح الكربلئي، وصولاً إلى الدموع السخية التي ذرفها الأحياء على الموتى، في مسلسل الحروب الدموية التي لا تكف عن التوالد. وإذا لــم يـكـن لـبـاحـثٍ أمـيـركـي أن يتنبه لـهـذا الأمـــر، فـقـد تكفل الــشــعــراء الــعــرب بـهـذه المـهـمـة عـلـى أكمل وجـــه، بحيث بــدا الشعر العربي فـي جانبه الأكـبـر، مـدونـة للرثاء والـفـقـدان، بــدءاً بمعلقة امــرئ القيس الاسـتـهـالـيـة «قـفـا نـبـكِ مــن ذكـــرى حـبـيـبٍ ومــنــزلِ»، وليس انتهاء بصرخة محمود درويش ذات مواجهة مماثلة مع الاحتلل: تعب الرثاءُ من الضحايا والضحايا جمّدت أحزانها أوّاه مَن يرثي المراثي؟ في غزة اختلف المكانُ مع الزمان، وكانت الصحراء جالسةً على جلدي، وأول دمعةٍ في الأرض كانت دمعةً عربيةً، هل تذكرون دموع هاجرَ، أوّل امرأةٍ بكتْ في هجرةٍ لا تنتهي؟ شوقي بزيع فرادة كتاب توم لوتز وجمالية لغته العالية لا تمنعان القارئ من إبداء استغرابه إزاء إغفال المؤلف لكل ما يمت بصلة إلى البكاء العربي

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky