issue16723

الثقافة CULTURE 18 Issue 16723 - العدد Tuesday - 2024/9/10 الثلاثاء «سفينة الجزيري»... أحلام التمرد على واقع مأزوم فـــــــي روايــــــــتــــــــه الــــــجــــــديــــــدة «ســـفـــيـــنـــة الجزيري» الصادرة عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعيد الكاتب المصري محمد جبريل مساحته المفضلة التي تدور غالبا فـــي أجــــــواء مــديــنــة الإســـكـــنـــدريـــة، شــديــدة الخصوصية، لا سيما السواحل التي تطل على البحر المتوسط ومــا يرتبط بها من بشر ومهن وأساطير. يضعنا المـؤلـف الـذي يـعـد مـــن أبــــرز صـنـاع الــــــــــســــــــــرد فــــــــــي جــــيــــل الــســبــعــيــنــات بـمـصـر أمـــام مفهوم «البحث عـــن الــــخــــاص» بغية الــوصــول إلـــى الـسـام الـــــنـــــفـــــســـــي. ويـــــطـــــرح الــــــــنــــــــص تــــــــســــــــاؤلات مــــلــــحــــة مــــــن نــــوعــــيــــة: كـيـف يـمـكـن أن نصل إلـــــــى بــــــدايــــــة جــــديــــدة رغـم أن الـواقـع مـأزوم يـمـتـلـئ بـالـتـشـوهـات الــــتــــي تـــعـــتـــمـــل داخـــــل نفوس أبطاله؟ ثم كيف نحقق التوق إلى الانعتاق والبشر غير متغيرين؟ هل يمكن الــــرهــــان عـــلـــى خـــــاص حــقــيــقــي بــيــنــمــا لـم نتخلص مـن القيود التي بداخلنا والتي شغلتنا طـــوال الـوقـت وجعلتنا عاجزين عن التأقلم ويائسين في الهرب حتى ولو على سفينة تبدو أقرب إلى الخيال يقودها ربان حالم يبدو كأنه خارج لتوّه من كتب الأساطير القديمة ويحرّكه الشغف لكنه تنقصه الواقعية؟ الـــشـــخـــصـــيـــة الـــرئـــيـــســـيـــة هـــنـــا تـــبـــدو لـلـوهـلـة كـمـا لــو كـــان مـجـرد إنــســان عــادي تــــعــــبــــره الــــعــــ ســــريــــعــــا، مــــوظــــف إداري بــالمــســتــشــفــى الأمـــــيـــــري بـــالمـــديـــنـــة يـمـتـلـك ورشـــة لتصنيع أدوات الـبـحـر والـكـراسـي مـن خشب السفن القديمة. هــذا الشخص يــمــتــلــك فــــي داخــــلــــه تـــوقـــا عــــارمــــا لـتـغـيـيـر الـعـالـم، لصنع عـالـم جـديـد يــســوده الحق والــــخــــيــــر والـــــجـــــمـــــال. يـــــــــدرك أن أمــنــيــتــه مستحيلة التحقيق فـي هــذا الـواقـع الـذي تسوده القيم الفاسدة وتملأه الصراعات العاتية من أجل لقمة العيش. يقرر «محيي عامر» أن عليه الانتقال إلى جزيرة بعيدة ظلت تراود خياله كثيراً بحثا عن الخلص المــــــنــــــشــــــود، فـــيـــطـــلـــق أصـــحـــابـــه عــلــيــه لقب «الـــــــــــجـــــــــــزيـــــــــــري» مــــن فــــــرط هــــوســــه بــفــكــرة الـــــــــجـــــــــزيـــــــــرة. يـــبـــنـــي ســـفـــيـــنـــة مــســتــلــهــمــا قـــــصـــــة نـــــــــــوح، عـــلـــيـــه الــــــســــــام، ويـــــقـــــرر أن يــــنــــقــــل عــــلــــى مــتــنــهــا عـــدداً مــن «الأخـــيـــار»، لــــكــــنّ مــــفــــاجــــآت عـــدة تعترض الفكرة. ومن أجواء الرواية، نقرأ: «يجيد التعزيم على الماء، يحقق به ما تحتاج إليه نفسه. أوراق يـــكـــتـــب فـــيـــهـــا تــــعــــاويــــذ وطــــاســــم، يضعها فـي كــوب مـن المـــاء المــالــح، يجرعه المـــريـــض فـيـشـفـى بــــإذن الـــلـــه. تـمـسـيـد يـده عــــــاج يـــشـــفـــي جـــمـــيـــع الأمـــــــــــراض، لـيـسـت الأمــــــراض الــجــلــديــة وحـــدهـــا، إنــمــا كـــل ما يــعــانــيــه جــســد الإنــــســــان. كــبــد الـــقـــرش له فــــائــــدة فــــي صـــنـــاعـــة الأدويـــــــــة، يـــدخـــل فـي علج كثير من الأمـراض. دم الترسة ينقّي الــــدم، ويــقــوي المـنـاعـة. قــد يعطي المـريـض تحويجة أعـشـاب، إذا لـم يتماثل للشفاء، فــــإن عــلــيــه أن يــقــصــر تــفــكــيــره فـــي المــــوت. أعـدّ دواءً مَن يستعمله لا يرى المـوت أبداً، فـإن رأى المــوت فـالـدواء سبيله إلـى جنات النعيم». القاهرة: «الشرق الأوسط» «أبو التكتك»... مسرحية عراقية سياسية ساخرة صـــــــدرت عــــن «دار الـــــســـــرد» بـــبـــغـــداد مـسـرحـيـة «أبـــو الـتـكـتـك» لمـاجـد الخطيب، صـــفـــحـــة مـــــن الـــقـــطـــع 77 وهـــــــي تــــقــــع فـــــي المتوسط. يــــقــــول الــــنــــاشــــر: «يـــعـــيـــدنـــا الـــكـــاتـــب المسرحي ماجد الخطيب، المقيم في ألمانيا، إلى أجواء المسرح الاجتماعي - السياسي الـتـحـريـضـي المـبـاشـر فـي خمسينات القرن المـــــــاضـــــــي. وتــــذكــــرنــــا مـسـرحـيـتـه الــجــديــدة «أبـو التكتك» بأعمال رواد المـسـرح الأوائـــل، مـــــثـــــل «آنــــــــــــه أمــــــــــك يـــا شـــاكـــر»، و«الـــخـــرابـــة» الـــــتـــــي كــــــــان عـــرضـــهـــا يـــنـــتـــهـــي بـــتـــظـــاهـــرات صغيرة تندد بالقمع الــــســــيــــاســــي فـــــي تــلــك الحقبة. يـــــــــســـــــــتـــــــــوحـــــــــي الخطيب من المسرحي الإيـــــــطـــــــالـــــــي الـــكـــبـــيـــر داريو فو (الحائز على «نوبل للآداب» سنة ) مقارناته الاجتماعية الساخرة، بين 1997 شخصياته المسحوقة والأخرى «المتأنقة»، فـــي مـسـرحـيـة «واحـــــد عـــريـــان وواحـــــد في بدلة السهرة»، ليقدم لنا مسرحية عراقية سياسية تسخر من المحاصصة والفساد والطغيان. ويكشف لنا ما يمكن أن يحدث لــلــفــاســديــن وبـــاعـــة الــضــمــيــر والــــوطــــن لو انقلبت الأمور يوما وحانت ساعة الهروب بحقائبهم المنتفخة بالدولارات. يـــعـــرّي الـــكـــاتـــب مـــاجـــد الــخــطــيــب في مـسـرحـيـة «أبــــو الـتـكـتـك» أبـــاطـــرة الـفـسـاد الجاثمين على أنفاس المواطنين، ويكشف لنا موقعهم الـقـادم فـي الـتـاريـخ بمشاهد مــــســــرحــــيــــة رمــــــزيــــــة مـــــعـــــبـــــرة. لا ســــيــــارة مصفحة، ولا هليكوبتر، بل ولا حتى تكتك يقلهم إلى منافذ الهروب عبر الحدود. ربما يختارون «الزبالة» طوعا، لكن لـ«أبو التكتك» رأي آخر. اخـــتـــار الــكــاتــب شـخـصـيـاتـه بـعـنـايـة مـــن شـــرائـــح المــجــتــمــع الـــعـــراقـــي المـخـتـلـفـة الـــــتـــــي ســــاهــــمــــت فــي الانـــتـــفـــاضـــة وقـــدمـــت الـتـحـيـات والــشــهــداء والجرحى والمعاقين. فهناك «أبــو التكتك» المــــــصــــــاب فــــــي قـــدمـــه خـــــــــــــــــــــــال أحـــــــــــــــــــــــداث الانتفاضة الباسلة، وهــنــاك بــائــع الـشـاي الأنــــــــــــيــــــــــــق، وهـــــــنـــــــاك الأم الـــــــتـــــــي تـــخـــفـــي المــــــــنــــــــاشــــــــيــــــــر تــــحــــت كـــمـــامـــات «كــــورونــــا» الــــتــــي تـــوزعـــهـــا عـلـى المـتـظـاهـريـن. وهـنـاك فـــــي المــــقــــابــــل الــــرجــــل الــــعــــاري الأول والــــرجــــل الــــعــــاري الــثــانــي وحقيبتيهما المنتفخة بــالــدولارات وهما يختفيان فــي «تـكـتـك الــزبــالــة» ويــحــاولان رشوة أو التكتك وبائع الشاي لمساعدتهما على الهروب مما يدعيانه «يـوم الصلوخ الــــعــــالمــــي» أو «يــــــــوم الـــخـــيـــانـــة الـــزوجـــيـــة العالمي». ويبّرز الخطيب، من خـال شخصية «أم عـــبـــد» فـــي المــســرحــيــة، دور المــــــرأة في الانـــتـــفـــاضـــة ودور الانـــتـــفـــاضـــة كـــكـــل فـي رفـــع وعـــي الـعـراقـيـات والـعـراقـيـ وزيـــادة ولحمتهم تحت شعار «لا للفساد». بغداد: «الشرق الأوسط» بين قطبي الفلسفةِ العربيةِ الإسلامية القديمة والفلسفة الأوروبية المعاصرة بندول بنعبدالعالي! يـــقـــول الـــنـــاقـــدُ المـــغـــربـــيّ عــبــد الــفــتّــاح كيليطو في أحد استجواباتهِ الصحافية إنه لم يرَ نفسَهُ جديراً بالخوضِ في الأدبِ الــفــرنــســي. وهـــكـــذا حـــ نـــاقـــشَ، فـــي إطـــارِ شـــهـــادةِ الـــــدراســـــاتِ الــعــلــيــا، رســـالـــتَـــهُ عن رواياتِ فرنسوا مورياك، سنحتْ لهُ فرصةٌ ثمينةٌ لنشرِها، لكنه رفـضَ لأنها بـدتْ لهُ ضعيفةً جدّاً مقارنةً بكتبِ النقدِ التي كان قد اطّلعَ عليها في ذلك الوقت (رولان بارت، شارل مــورون...). بعد مدةٍ من الترددِ قامَ بتسجيلِ «المقامات» موضوعا للدكتوراه. ومـــن المــعــلــومِ أن مــقــامــاتِ الـهـمـذانـيّ والــحــريــريّ تُـعـدّ مـن نــمــاذجِ الـنـثـرِ الفنّي، الذي اشتغلَ عليهِ «الدكاترة» زكي مبارك في منتصفِ الثلثينات من القرن المنصرم، في أطروحتهِ «النثرِ الفني في القرنِ الرابع الـــهـــجـــري» فـــي جــامــعــةِ الـــســـوربـــون تـحـتَ إشــــــــرافِ المـــســـيـــو مـــيـــرســـيـــه. وقـــــد اخــتــلــفَ تلميذُهُ الـحـادّ الطبعِ والنبرةِ مع أستاذهِ المـتـمـركـزِ أوروبـــيـــا حـــولَ نــشــأةِ الـنـثـرِ عند الـعـربِ، دونَ أن ينصاعَ لأمـــرهِ الأكـاديـمـيّ بحذفِ ما كتبَهُ مبارك حـولَ هذه النشأةِ، رغـمَ نصيحةِ بعضِ الأسـاتـذةِ الفرنسيين المستشرقين، وفـي طليعتهم ماسينيون. ومع ذلك فقد رضخَ الأستاذُ لرغبةِ الطالبِ الـــــحـــــادة!.. لــقــد أخــــبــــرَهُ مــاســيــنــيــون بـعـدَ الانتهاءِ من حصولهِ على الـدكـتـوراه بأن «ميرسيه لا يحبّك لكنه لا ينساك». وقـد ترجمَ الدكتور مبارك أطروحتهُ بنفسهِ إلـى اللغةِ العربية. مبارك لم يكن بعيداً عـن قضيةِ الفلسفةِ فـي أطروحتَيه الأخــــــــريــــــــ «الأخـــــــــــــــاق عـــــنـــــد الـــــغـــــزالـــــي» و«التصوف الإسلمي». يــبــدو أن كـيـلـيـطـو عـــاشـــقٌ لـلـسـانـ ِ، كـــمـــا يـــكـــتـــبُ عــــنــــهُ صــــديــــقــــهُ عـــبـــد الـــســـام بنعبدالعالي في كتابهِ الأخير بعدَ كتابهِ الأولِ «الأدب والمـيـتـافـيـزيـقـيـا» باللغتين الـعـربـيـةِ والــفــرنــســيــةِ، وكــأنــه بمخاطبتهِ الـعـربَ والفرنسيينَ أســـواريّ جـديـد! نعم، يبدو كيليطو هو الآخـرُ يحاولُ التخلّصَ من تأثيرِ المركزيةِ الأوروبيةِ، وقد اشتغلَ - خصوصا في أحدِ مؤلفاتِه الأولى (الكتابةُ والتناسخ) الذي ترجمَهُ بنعبدالعالي من الفرنسيةِ إلى العربيةِ - على إعـادةِ قـراءةٍ نقديةٍ مبدعةٍ لنصوصٍ تراثيةٍ، مستلهما رولان بـــــــارت فــــي أطــــروحــــتِــــه عــــن «مــــوت المــــؤلــــف»، حــيــثُ ركّـــــزَ فـيـهـا كـيـلـيـطـو على الــجــاحــظِ، الـــذي قــــدّمَ فــي أدبِــــهِ المـوسـوعـيّ شــــارل بـيـا كـتـابـا رائـــعـــا، بـــــدّدَ ســـأمَـــهُ من دراســــةِ الأدبِ الـعـربـي. وهـــذا مـا فـتـحَ عينَ كيليطو على بــراعــةِ الـجـاحـظِ، ومنها ما ذكره الجاحظُ في كتابِهِ «البيانِ والتبيين» عن موسى سيار الأسواري الذي «كان من أعاجيبِ الدنيا، كانت فصاحتُهُ بالفارسيةِ في وزنِ فصاحتِهِ بالعربية، وكان يجلسُ في مجلسِهِ المشهورِ به، فتقعدُ العربُ عن يمينِهِ، والفرسُ عن يسارِهِ، فيقرأُ الآيةَ من كــتــابِ الــلــه، ويـفـسّـرُهـا لـلـعـربِ بـالـعـربـيـةِ، ثـم (يـحـوّل) وجـهـهُ إلـى الـفـرسِ، فيفسّرُها لهم بالفارسية. فـا يــدري بـأي لـسـانٍ هو أفصح». لــكــن هـــل هــــذا هـــو شـــــأنُ عــبــد الــفــتّــاح كـيـلـيـطـو وهــــو يُـــطـــلّ عــلــى الــــقــــراء الــعــرب - بـــعـــدمـــا تَـــــكَـــــوّن فــــي تــعــلــيــمــه المــــــــزدوج - متعوداً ألا يقرأَ إلا النصوصَ التي كُتِبَت بالفرنسية أو بالفصحى - قارئا ومدوّنا - مـسـتـمـتـعـا بــــلــــذةٍ «بــــارتــــيــــةٍ» فــــي قــــــراءةِ الـنـصـوص الأدبـــيـــة؟ هـــذا الـلـسـانُ المـفـلـوقُ - كما يُعبر كيليطو - هـو بـصـورةٍ أخـرى مــا أصـبــح عـلـيـه دارسُ الـفـلـسـفـةِ الـعـربـيـةِ الإسلميةِ القديمةِ والفرنسيةِ المعاصرة. صديقُهُ د. عبدُ السلمِ بنعبدالعالي أستاذُ الفلسفةِ بـجـامـعـةِ المــلــكِ محمد الـخـامـس، متتلمذاً على يــدي محمد عزيز الحبابي ومــحــمــد عـــابــد الـــجـــابـــري. مـــا زلـــــتُ أتــذكــر لـقـائـي ببنعبدالعالي فــي صـيـفِ الــربــاطِ - بعد يومينِ من وفاةِ الحبابي 1993 سنة - حيث عرفني على زميليهِ الراحلينِ سالم يفوت ومحمد وقـيـدي، وكذلك من أصبحَ يـكـتـبُ مـعـه «بــيــديــنِ» محمد سـبـيـا، وقـد أصــبـــحَ بـنـعـبـدالـعـالـي الـــيـــومَ مــــلءَ الـسـمـعِ والــبــصــر، اســمــا لامــعــا وألمـعـيـا فــي فـضـاءِ الـــتـــألـــيـــفِ الــفــلــســفــيّ وتـــرجـــمـــتِـــه. مـــحـــاولاً الــــنــــزولَ بــالــفــلــســفــةِ مـــن عـلـيـائـهــا المــطــلــقِ وتـجـريـداتِـهـا الـذهـنـيـةِ، إلـــى أرضِ الــواقــعِ المـغـربـيّ والــعــربــيّ الملتبس - لا أريــــدُ هنا مشابهتَهُ بأستاذِ الفلسفةِ المـصـريّ مـراد وهبة، في أطروحتهِ ومؤتمرِه عن الفلسفةِ ...1983 َ ورجـــلِ الــشــارعِ فـي الـقـاهـرةِ سـنـة خـــشـــيـــةَ إعــــــــادةِ ســــجــــالِ المــــشــــرقِ والمــــغــــربِ جــذعــة! بـعـد أطـــروحـــةِ أســـتـــاذهِ الـجـابـري، فــي بـرهـانـيـةِ المــغــربِ الــرشــديــةِ وعـرفـانـيـةِ المـــشـــرقِ الـسـيـنـيـة، الــتــي جــــاءت إلــيــهِ عبرَ ابـــنِ عـربـي الأنـدلـسـيّ مـن المــغــرب! حيث لا يـــزالُ مـن تــامــذةِ الـجـابـري مـن يـذهـبُ إلى أن حفريةَ المعنى مخصوصةٌ بمتفلسفي المغربِ، والتاريخُ للأفكارِ في شكلِ العلقةِ بين العربيّ والفلسفةِ محدودٌ بمتفلسفي المشرق! عــلــى أيّ حــــالٍ فــــإن د. بـنـعـبـدالـعـالـي يـقـومُ بتفكيكِ المفاهيمِ الفلسفيةِ والنفاذِ إلـــى لُــبّــهــا، دون أن يـــدّعـــيَ أنّــــه فـيـلـسـوفٌ، فهو ليس لديه ثقافةٌ كلسيكيةٌ - حسب قوله - فلم يسبق له - غالبا - أن تبنّى أيّ أطروحةٍ، ما دامَ لا يشعرُ بامتلكِه القدرةَ على صياغةِ عملٍ مرتبٍ (أكاديميا)، وإنما هو يستلهمُ المفاهيمَ ســواءً من دولــوز أو غيرِه من فلسفةِ فرنسا وألمانيا. فالمفهومُ الفلسفيّ بالنسبةِ إليهِ آليةٌ لإعمالِ الفكرِ فــي الـامـفـكّـر فـيـه، مـتـفـاعـاً مــع متغيراتِ الـحـيـاةِ وفــوائــضِ المـعـرفـة - فـي جملةٍ من كـتـبِـه (المـقـالـيـة) الــعــديــدة ذات الـصـفـحـاتِ القليلةِ المكثفةِ الرشيقة - تأليفا وترجمةً - نــائــيــا بــكــتــابــاتــهِ المـــثـــيـــرةِ لــ ســئــلــةِ عن مـــــطـــــولاتِ بـــاحـــثـــي الـــفـــلـــســـفـــةِ ومــنــظــريــهــا المـــشـــارقـــةِ والمـــغـــاربـــة. بـــل إنّــــــهُ يـــثـــورُ على نَسَقهِ الجينيالوجيّ مـن آبـائـهِ (الحبابي والـــــعـــــروي والـــــجـــــابـــــري)، وإن كـــــان يــبــدو أقـربَ إلى مؤلفِ «النقد المـزدوج» و«الاسم العربي الجريح» تلميذِ رولان بــارت عبدِ الـكـبـيـرِ الخطيبي بـــ«ذاكــرتــهِ المـوشـومـة»، مــســتــخــلــصــا - بـــنـــعـــبـــدالـــعـــالـــي بـــجـــرحـــهِ وتعديلِه - من تجربةِ الخطيبي في النقدِ الأدبـــــيّ المـتـفـلـسـفِ والــكــتــابــةِ الاجـتـمـاعـيـةِ والــــتــــاريــــخــــيــــةِ، مــــا جـــعـــلـــهُ يـــتـــمـــاهـــى مـعـه ويختلفُ معهُ في آن. وإذ يــشــتــغــلُ بــنــعــبــدالــعــالــي بــعــالــمِ الـــفـــلـــســـفـــةِ وكـــــونـــــيـــــةِ الأدبِ والــــتــــرجــــمــــةِ بـــتـــاريـــخِـــهـــا المـــثـــقـــلِ بـــتـــرجـــمـــةِ الـــنـــصـــوصِ مـــــتـــــعـــــدّدةِ الـــــلـــــغـــــاتِ، يـــــقـــــوم بـــمـــحـــو فــعــل الترجمة، نصّا لا تشتم فيه رائـحـة اللغة الأخــــرى، بـوصـف الترجمة عـمـاً تراكميا منعشا... أو كما يُعبرُ كيليطو في مقدمتهِ المنبهرةِ بكتابِ صديقهِ «انتعاشةِ اللغة»، فلأنّ تاريخَ الفلسفةِ هو في العمقِ تاريخُ الـتـرجـمـة، كما هـو ابـــنُ رشـــدٍ فـي ترجمتِه أرسـطـو، معتمداً على ما قــامَ بـهِ السريانُ الـــعـــربُ المـسـيـحـيـونَ مــن قــبــل، فــي تـرجـمـةِ كتبِ أرسطو، خاصةً كتابيهِ «فن الشعر» و«فـــن الـخـطـابـة»، بـوصـفِـهِـمـا كـتـابـِ في المـــنـــطـــق. إذ عــكــف الــــســــريــــانُ عــلــى نـقـلِـهـا لاستخدامها في مجادلاتِهم الدينية، التي «انتعشت» على أفكارهما، فقامَ تراجمتُهم وفــي طليعتهم متى بـن يـونـس، بترجمةِ كــــتــــاب «فــــــن الــــشــــعــــر» لأرســـطـــوطـــالـــيـــس، الـــــــذي شــــكّــــكَ أبـــــو ســـعـــيـــد الـــســـيـــرافـــي فـي مناظرتهما أمام الخليفةِ المقتدر، بأنّ متى لا يُــحــســنُ الــتــرجــمــةَ مـــن الــيــونــانــيــةِ، رغـم وجــــودِ روايـــــاتٍ عــن تــرنّــمِ مـتـى (منتعشا) بـأشـعـارِ هـومـيـروس بأصلها الـيـونـانـي. وبسببِ تسلّلِ المنطقِ الأرسطيّ إلى بغدادَ الـعـبـاسـيـةِ فـــي ذروةِ انـفـتـاحِـهـا الـفـكـري، وجدنا أبا نصر الفارابي - لبنعبدالعالي أطــــروحــــةٌ لافـــتـــةٌ فـــي فـلـسـفـتـهِ الـسـيـاسـيـةِ المـدنـيـة - يهتمّ بالفكرِ الـيـونـانـيّ ويـؤلـفُ عن «فلسفةِ أرسطوطاليس» و«الجمعِ بين الحكيمين» أي أفــاطــونَ وأرســطــو، وهما كتابانِ عُني بهما أستاذُ كرسي الدراساتِ الــعـــربـــيـــةِ بــجــامــعــةِ هــــارفــــارد الـــعـــراقـــي د. مــحــســن مــــهــــدي، الــــــذي ألّــــــف كـــتـــابـــا عــنــه: «الــفــارابــي وتـأسـيـس الفلسفة الإسـامـيـة السياسية». هــــذا... وقـــد نـفـخـتِ الـتـرجـمـةُ الـحـيـاةَ في نصوصِ الأغـارقـةِ، لتسري إلى الغربِ الأوروبـــــــــي الـــقـــروســـطـــي، مـــمـــزقـــةً الـــظـــامَ الـكـنـسـيّ بـنـورِهـا المـتـثـاقـفِ المـنـعـش، عبر الـرشـديـةِ اللتينيةِ حسبَ وصــفِ إرنست ريـــــنـــــان فـــــي كـــتـــابـــه الـــشـــهـــيـــر «ابــــــــن رشـــد والرشدية». يقول بنعبدالعالي في كتابه «انـتـعـاش الـلـغـة» (لا تعني كـونـيـةُ الآدابِ تـطـابـقـا يــذيــبُ الآدابَ المـحـلـيـةَ فــي وحـــدةٍ ميتافيزيقية، وإنما وعي الذاتِ بأن الآخر مــــكــــوّنٌ مـــن مــكــوّنــاتــهــا، فــعــنــدمــا «تـــذبـــل» الآدابُ الـقـومـيـةُ «تنتعش» وتـــرى الحياةَ من جديدٍ عن طريق الآخر). نـعـم.. وهـــاك شـعـراء التفعيلة - مثلً ساطعا - فمنذ تـرجـمَ علي أحـمـد باكثير مــن 1936 «رومــــــيــــــو وجــــولــــيــــيــــت» ســــنــــة الإنجليزية إلــى العربيةِ على وزنِ وحـدة التفعيلة، خارقا بمغامرتِه الجريئةِ جدارَ الوزنِ الخليليّ التاريخي الصلب. ووجدنا الشعرَ العربيّ المعاصرَ ينتعشُ على آثارِ تداعياتِ الحربِ العالمية الثانية، مع بدر شـاكـر الــســيّــاب ونــــازك المـائـكـة متثاقفين - مـــبـــاشـــرةً أو مــتــرجــمــ - مـــع نــصــوصِ شكسبير وت. س. إليوت وأديــث ستويل وغـــيـــرهـــم، مــشــكــلــ بـــإبـــداعـــهـــم الــشــعــري نـقـيـضـا مــوضــوعــيــا لــجــثــوم الاســتــعــمــارِ الأوروبيّ المثلثِ بلغاتِه وآدابه، على مشرقِ الــعــالــمِ الـعـربـي ومــغــربِــه. وكـــان اللبنانيّ أمــُ الريحاني قد ألقى إلينا قبلهما من مهجرهِ الأمريكي - مبدعا ومترجما - بقعةَ ضوءٍ غيرَ معهودةٍ بقصيدة النثر، متأثراً بخطى الشاعرِ الأميركي والت ويتمان. أما السيّاب فقد ألهبَ ذائقةَ المستعربِ الفرنسي جــاك بـيـرك، وهــو يُلقي قصيدة «أنـــشـــودة المـــطـــر» بـلـسـانـهِ الـفـرنـسـي على أبـــــنـــــاءِ قـــريـــتـــه، فـــوجـــدهـــم يـــبـــكـــون - كـمـا أخــبــرنــي فـــي لـــقـــاءٍ مـتـلـفـز - وكـــأنّـــه «جـعـلَ الـــغـــريـــبَ ضـيـفـا عــلــى دارهـــــــم»، كــمــا يعبر بــنــعــبــدالــعــالــي فـــي كـــتـــابـــهِ، حــيــث تــفــاعــلَ فلحو القرية الفرنسية بعدما «أنعشتهم» تـــرجـــمـــةُ الـــقـــصـــيـــدة، وكـــأنـــهـــم وجــــــدوا في أجـــــــواءِ قـــصـــيـــدةِ الـــســـيّـــابِ قـــريـــتـــهِ جـيـكـور ونخيلها وأشجارها ونهيرها الصغير... وجـــــدوا فـيـهـا قـريـتـهـم مـؤتـلـفـ إنـسـانـيـا مع فلحي جيكور، رغـم بُعد المسافةِ بين ضفتي لغتهم. إذن فالترجمةُ كما يقول بنعبدالعالي عـــبـــورٌ وحــــركــــةُ انـــتـــقـــالٍ عــبــر جـــســـرٍ يـأتـي بـــالـــضـــفـــتـــِ إلـــيـــهـــمـــا، مـــتـــوســـاً بـتـعـبـيـر هـــايـــدغـــر الألمــــانــــي «أن الـــتـــعـــدديـــة لـيـسـت تـسـاكـنـا بــ عــــدةِ أشـــكـــال، حـيـث لا ترمي الـــتـــرجـــمـــةُ إلـــــى تـــوحـــيـــدِ الــــلــــغــــاتِ وإلـــغـــاء الاختلفِ بينها، وإنما إلى بعثِ الغرابة»، وهــو مـا يُمثّله بنعبدالعالي عـن ترجمةِ الــــشــــاعــــرِ والمــــتــــرجــــم الـــبـــريـــطـــانـــي إدوارد فيتزجيرالد لرباعيات الخيام، حيث أعطى عــمــر الــخــيــام مــكــانــا خـــالـــداً بـــ الــشــعــراء الــعــظــام فـــي فـــضـــاءِ الإنـجـلـيـزيـة الـثـقـافـي. وكذلك فإن الشاعر الغنائي المصري أحمد رامي - هو الآخر - أعطى رباعيات الخيام عبر صوتِ أم كلثوم، بإعادةِ كتابتها مكانا مؤثراً في الذوق العربي العام، بترجمتها مــن الـفـارسـيـةِ مــبــاشــرةً، وقـــد تعلّمها في ،1924 معهد اللغات الشرقية بباريسسنة سابقا بها ترجمةَ أحمد الصافي النجفي الـــعـــراقـــي، وإبـــراهـــيـــم الــعــريــض الـبـحـرانـي الأدق من الفارسيةِ مباشرةً، لتصبحَ هذه الترجمات لغةً ثالثةً، ذات طـاقـةٍ تأويليةٍ هائلةٍ في النص الخيامي المترجم. غير أن السؤالَ المنتصب - هنا - يدورُ حول ترجمةِ النصوص عبر لغةٍ وسيطة، حيث قامَ سامي الدروبي - مثلً - بترجمةِ روايـــــــــــــاتِ تــــولــــســــتــــوي وديـــســـتـــويـــفـــســـكـــي الـــروســـيـــة مــــن الـــفـــرنـــســـيـــةِ إلـــــى الــعــربــيــة، ليكتشفَ المترجمُ المغربي إدريس الملياني الضليع في اللغةِ الروسية أخطاءً جسيمةً وقعت فيها ترجمات الدروبي. أمـــا حينما يستشهدُ بنعبدالعالي ببروست القائل «إن المؤلفات الرائعة تبدو وكأنها كُتبت بلغةٍ أجنبية»، فإنّه يجعلني أتــــذكــــرُ عـــلـــى الــــفــــور مـــقـــولـــةَ عـــبـــد الـــفـــتّـــاح كـيـلـيـطـو (الــكــافــكــويــة) فـــي كــتــابــه «أتـكـلـم جـمـيـع الـلـغـات لـكـن بـالـعـربـيـة»، مخاطبا القارئ العربي «أن تمرّ عبر البعيد لتعرفَ القريب وتعترفَ به»، مستشهداً بما كتبه د. عـبـد الــلــه الـــعـــروي فـــي كـتـابـه «خــواطــر الــصــبــاح» حـــول كـتـابـةِ أطــروحــتــهِ المـبـكـرةِ عـــن «الآيــديــولــوجــيــة الـعـربـيـة المــعــاصــرة» التي لقيت اهتماما عربيا، بسبب كتابتها بالفرنسية قبل ترجمتها إلى العربية. لــكــن ألـــيـــسَ ذلــــك يُــشــكــل عــقــدة نـقـصٍ ثقافية؟ يُجيب كيليطو في نفس مورد كلمهِ أنها «لعنةٌ تثقل كاهلَ العربِ منذ أكثر من قرن». بنعبدالعالي عبد الفتاح كيليطو طه حسين محمد عابد الجابري بنعبدالعالي يقومُ بتفكيكِ المفاهيمِ الفلسفيةِ والنفاذِ إلى لُبّها، من دون أن يدّعيَ أنّه فيلسوفٌ، فهو ليسلديه ثقافةٌ كلاسيكيةٌ حسب قوله النصالكامل على الموقع محمدرضا نصرالله

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky