issue16715

الثقافة CULTURE 18 Issue 16715 - العدد Monday - 2024/9/2 االثنني سلطة الموروث والخرافة في رواية المصري محمد عبد الجواد «سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة لـطـاملـا اقــتــرن الــرقــم «سـبـعـة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي ال تنقطع حبائل غرابتها عــلــى مـــــدار الــحــكــايــة «األلـــــف لـيـلـيـة» لـلـسـنـدبـاد البغدادي، وفي زمن روائـي جديد تقطع «أميرة الـــبـــحـــار الــســبــعــة» لــلــكــاتــب والـــــروائـــــي املــصــري محمد عبد الجواد، فضاءات أخـرى من الغرابة الــتــي يـفـيـض بـهـا الـبـحـر بــأســاطــيــره وعـطـايـاه وروائحه، حيث الحكايات تنفرج من سرائره في دورة سردية محكومة بسلطته األبدية. فـي هـذه الـروايـة الـصـادرة عـن دار «املـرايـا» للنشر فـي الـقـاهـرة، يتوسل أهــل قـريـة «سيدي الـــعـــوام» بــاألســطــورة بـوصـفـهـا طـريـقـة لتفسير مُــجـريـات الــقــدر، فـــالـــراوي الـعـلـيـم، الـــذي يُمكنّه الـكـاتـب مـن ناصية الــســرد، يُمهد لنا أن سكان القرية يؤمنون بـأن «أمـيـرة» هي «ابنة البحر»، ويـتـعـايـشـون مــع تـلـك الـــروايـــة بـوصـفـهـا واقـعـا، يـمـيـلـون أحــيــانــا إلــــى تـفـسـيـره عــلــى أنــــه مِــنـحـة ربــانــيــة، وأحــيــانــا عـلـى أنـــه لـعـنـة حــلّــت عليهم، فــالــبــطــلــة «أمــــيــــرة» تـــولـــد ألم غـــجـــريـــة، دون أن يعرفوا لها أبــا، فيتداول أهـل القرية أنها ثمرة حُــــب «حــــــــرام»، خــصــوصــا أنـــهـــا وُلــــــدت بــرائــحــة «زفــارة» لصيقة بها تنبع من مسامها، فتصنع تلك الرائحة من حولها هالة غامضة من النفور والـشـفـقـة مـمـزوجـة بــشــيء مــن «الـــقـــداســـة» التي منحها لها البحر برائحته املهيبة. ال تــســتـمــد األســــطــــورة هــنــا ســطــوتــهــا من قـصـة خـلـق «أمـــيـــرة» الـغـرائـبـيـة بــقــدر مـــا تتكئ على «الواقع الراكد» للقرية الـذي انفرج بميالد «أميرة الزفرة»، كما يُطلقون عليها، فيربط أهل القرية بني ميالدها وبني رضـــــا الـــبـــحـــر الــــــذي أفــــرج عــــن طــــوفــــان مــــن أســمــاكــه بــعــد ســـنـــوات مـــن الـقـحـط الـــتـــي كـــــان يُـــعـــانـــي مـنـهـا صــيــادو الــقــريــة، ليصبح مــيــ د الــفــتــاة «املــعــجــزة» فــــــاصــــــ بــــــ تــــاريــــخــــ: األول ســــــــنــــــــوات الــــفــــقــــر والـعـوز، والثاني سنوات العطايا واالنــفــراج، وهي تــــأويــــ ت يــكــشــف الـــســـرد عــــــن ديــــنــــامــــيــــة تــــداولــــهــــا العبثية بني سكان القرية، التي يهيمن عليها سلطة املــــــــــــــــــوروث، والــــــخــــــرافــــــة، فـــيـــبـــدون كــأنــهــم يُـــزجـــون الـــحـــيـــاة بـــنـــســـج األســــاطــــيــــر، الــــتــــي ســــرعــــان مـا ينسونها، أو يتناسونها، ليصنعوا أسـطـورة جديدة، يفسرون بها األطوار الجديدة ملد البحر وانسحابه، فـي زمـن روائـــي مفتوح على صـراع مكني بني املنح والسلب. الحب المستحيل يُــهـدي عبد الــجــواد روايــتــه إلــى غابريال مــاركــيــز أو «املُـــعـــلِّـــم الـــــذي لـــم يــمــت بــعــد» كما يصفه، ويـبـدو هــذا اإلهــــداء مــوصــوال فـي نهر روايته التي تتنفس برئة الواقعية السحرية، مدرسة ماركيز األثيرة، فَقَرية «سيدي العوام» تصنع أسطورتها الخاصة كما تنهض قرية «مـــاكـــونـــدو» املــاركــيــزيــة فـــي عــزلــتــهـا، ويـمـكـن االســــتــــدالل فـــي قــصــة الـــحـــب الـــتـــي تـجـمـع بني «يحيى العازف» و«أميرة الزفرة» على ظالل من «الحب في زمن الكوليرا» ال سيما بمراوغاته بني املستحيل واالنـتـظـار، فحُب البطل عـازِف «األكورديون» الحالِم ألميرة يُبطل لديه مفعول رائحتها املُــنـفـرة، فيستقبلها بـــ«أنــف مُحب» يزيل عنها الحرج الـذي لطاملا رأتـه في عيون أهـــل الـقــريــة، حـيـث تالحقها «وصــمــة الـغـرابـة والزفارة إلى األبد»، فيسد الناس أنوفهم عند االقتراب منها، ويُبدون شفقتهم لهذا املصير الذي التصق بها رغم جمال مالمحها، فتجذب القطط لتموء بغضب جـائـع، وتجعل الناس تشم أسماك البحر السابع، وتَــلُــوح هنا فكرة الـــحـــب املــســتــحــيــل كــمــا سـيـصـفـه أحــــد أبــطــال الرواية «حاتم األحرف»، مرجعا أبسط أسباب تلك االستحالة إلى رائحة زفر السمك املنبعثة مـن جسدها، ورغــم ذلــك لـم يتوقف البطل عن الـــغـــرق فـــي غِـــمـــار هــــذا الـــحـــب املـسـتـحـيـل ومــا يتبعه مـن «انـتـظـار» اللـتـفـات «أمــيــرة» لحُبه، فهو يعزف لها يوميا دون توقف حتى أحصى تـلـك األيـــــام فــوجــد أنـــه اسـتـمـر فـــي الـــعـــزف لها يوما»، ويُحيل إحصاء األيام 624 «على مـدار هنا النتظار بطل ماركيز «فلورنتينو» وهو يُــحـصـي انــتــظــاره لفيرمينا بـالـسـنـة والشهر واليوم حتى لحظة استسالمها لحُبه. يُفرد الراوي مساحة سردية مطوّلة لسيرة «أسماء» والدة «أميرة»، السيدة الغجرية التي ينتمي جمالها إلى «ممالك زانوبيا»، فتظهر كـــــ«مــــاركــــيــــزة وســـــط عـــبـــداتـــهـــا» كـــمـــا يـصـفـهـا الـراوي، فهي تعرف ما هي عليه من فتنة، وال تـكـتـرث بـنـمـائـم أهـــل الــصــيــد، وتـمـنـح نفسها لصانع دُمـى بائس «مصطفى أحمد شعبان» الـــذي تجذبها هشاشته ونـظـراتـه الطفولية، وهـــمـــا الــصــفــتــان الـــلـــتـــان سـتـلـعـنـهـمـا بــعــد أن يجرف عمره البحر الذي شهد على فعل الحُب بينهما، ليترك السارِد مولِد «أميرة» حائرًا بني عالقتها بصانع الــدمــى، وبــ أســطــورة أنها مارست الفحشاء مع البحر فولدت له فتاة فرح بـوالدتـهـا فـوهـب الـقـريـة طـوفـانـا مـن أسماكه، وهـي املـرويـة التي تظل تُــرددهـا عـرّافـة القرية وشـيـوخـهـا، مـمـا يــدفــع «أســـمـــاء» إلـــى نـوبـات جــنــون تجعلها تــلــوذ بصحبة دُمــيــة ســـوداء كــبــيــرة لـــرجـــل «بـــوجـــه مُــــعــــذب»، وهــــي الـدمـيـة الـــتـــي تــركــهــا حـبـيـبـهـا صـــانـــع الــــدُمــــى ورحــــل، فتستعيض بتلك الدمية عـن غيابه، وتصير تتحدث إليها كأنه رجـل إنسيّ، تُبادله الحب وتشاركه أسرار لعنتها وقدرها. مراوحات البحر يــتــقــاســم أهـــــل الـــقـــريـــة الـــفـــضـــاء املــكــانــي لــــــلــــــروايــــــة مـــــــع جـــــارهـــــم األزرق الـكـبـيـر «الـبـحـر» الــــــــــذي يُـــــقـــــسّـــــم قـــاطـــنـــي الــــقــــريــــة إلـــــــى طـــبـــقـــتـــ ؛ صيادين بؤساء، وكبار مـشـايـخ صـيـد منتفعني مـــن فـيـض أســمــاكــه مثل «رشـــــــــدان الـــــلـــــول» الــــذي يفتتح في القرية مطعم أسماك فخما على هيئة ســـفـــيـــنـــة يـــطـــلـــق عــلــيــهــا «سفينة نــوح الجديدة» يــقــدم خــدمــاتــه لــأغــراب املــــــقــــــتــــــدريــــــن، فـــيـــحـــيـــلـــه الــــبــــحــــر وعــــــطــــــايــــــاه مــن األســـــمـــــاك إلـــــى حـــــال مـن الـــبـــذخ الـــــذي لـــن يــتــذوق طعمه أهل القرية الفقراء، في ملمح رأسمالي يتسلل إلى أجواء الرواية رغم سطوة الفضاء األسـطـوري عليها، ففي أحـد مشاهد الـروايـة يُـــلـــقـــي املـــعـــلـــم «الـــــلـــــول» بــكــمــيــات ضــخــمــة مـن األسماك لـ«أميرة» التي باتت معروفة بني أهل الـقـريـة بـقـدرتـهـا الـفـائـقـة عـلـى سـرعـة تنظيف قـشـور األسـمـاك الـتـي ال تتأفف مـن رائحتها، فيُمهلها ثـ ثـ دقـيـقـة فـقـط لتنظيف جبال السمك التي أمامها الستيعاب توافد الزبائن عـلـى مـطـعـمـه: «خـمـسـ كـيـلـو مـــن الـديـنـيـس وعشرين كيلو من الناجل وأريدهم في نصف ساعة» كما يأمرها بلهجته القاطعة منزوعة الرحمة. وبنفس منطق الجشع واالستغالل ينسج صـــاحـــب «ســفــيــنــة نــــوح الـــجـــديـــدة» ومـشـايـخ الــقــريــة مــعــه الـــشِّـــبـــاك حــــول «أمــــيــــرة» لـتـتـودد إلى «أبيها» البحر بعدما بـدأت تلوح أمـارات غضبه وشُح رزقه، فتبدو «أميرة» محض روح معذَّبة تُستخدم السترضاء أهل البر والبحر، دون أن تمنحها األسـطـورة أي سلطان، بقدر ما جلبت لها اللعنات. وهكذا، يجترح الكاتب مراوحات جمالية وإنسانية في تشخيصه البحر على أنه بطل رئيسي وليس فضاء محايدًا، فتستمع لزفرات حــزن الـبـحـر، وصـــوت بـكـائـه، ودفــقــات فرحه، كما جعل للحظات الحب في الرواية تنهيدات بحرية، أما «أميرة» الوسيطة بني مملكتَي البر والبحر فتظل على مدار الرواية ال تُدرك ما هي عليه من رائحة تزكم األنوف، وعندما تتعرف على رائحتها ألول مرة في حياتها، تكون هي لحظة انتهائها، وهي لحظة مُكاشفة، تنهار فيها الحوائط بني الواقع والغرابة، أو بتعبير أحد أبطال الرواية: «للفقر رائحة». القاهرة: منى أبو النصر إعادة االعتبار إلى فكره تساعدنا على مواجهة الظالميين المتزمّتين ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟ أعــتــقــد أن مـحـمـد أركـــــون كــــان يـتـمـاهـى إلــــى حد مـــا مـــع ابـــن رشــــد، كـــان يـجـد نـفـسـه فــيــه، بـــأي معنى؟ بمعنى أنه كان يجد نفسه مستبعَدًا ومنبوذًا من قِبل الجمهور اإلسـ مـي العريض، مثل سلفه األكـبـر أيـام قرطبة واألندلس ومراكش، ولكن الفارق هو أن أركون أصبح مقبوال اآلن، ويحظى باإلعجاب والتقدير من قِبل الجمهور املثقَّف الذي يتزايد عدده أكثر فأكثر في العالم العربي واإلســ مــي كله. ومعلوم أن ابــن رشد رُفـض من قِبل التيار اإلسالمي املركزي، وماتت كتبه في أرضـهـا، هـذا في حني أن أوروبـــا تلقَّفَتها بتلهّف، وترجمَتها، وبنَت عليها نهضتها املقبلة، وهنا يكمن الــفــرق بــ األذكـــيـــاء واألغــبــيــاء، وال ننسى ابـــن سينا بطبيعة الحال الـذي كان تأثيره عظيما على أوروبـا، بل وسبق تأثير ابن رشد من حيث الزمن. ولكن قوم ابن رشد من عرب ومسلمني رفضوه، ورفضوا إعجابه بأرسطو، ورفضوا الفلسفة كلها، بل وكـفَّــروهـا باعتبار أن «مَــن تمنطق فقد تـزنـدق»، كما كانوا يقولون. كانوا يظنون (وربـمـا ال يـزالـون حتى اآلن) أن الفلسفة تُــبـعِــد عـن الـلـه والــديــن، وهـــذا سبب ازدرائها وتحريمها من قِبل الفقهاء على مدار التاريخ حـتـى وقـــت قــريــب. والـــســـؤال الـــذي يـطـرحـه أركــــون هو التالي: ملـاذا فشل فكر ابـن رشـد في العالم اإلسالمي، ونـجـح نـجـاحـا بــاهــرًا فــي الـعـالـم املسيحي األوروبــــي الالتيني؟ للجواب عن هذا السؤال يقول لنا ما معناه: لقد سقط فكر ابن رشد في مهاوي النسيان وسط جماعته العربية اإلسالمية منذ القرن الثالث عشر امليالدي، أي ، هذا في حني أن الفلسفة الرشدية 1198 بعد وفاته عام راحـــــت تـشـهـد إشــعــاعــا كــبــيــرًا فـــي كـــل أنـــحـــاء أوروبـــــا املـسـيـحـيـة، وكـــانـــت أطـــروحـــاتـــه تُــــــدرَّس فـــي جـامـعـات بادوا بإيطاليا، والسوربون في فرنسا، وأكسفورد في إنجلترا... إلخ. هـــكـــذا نـــ حـــظ الـــــوضـــــع؛ فـــشـــل كـــامـــل مــــن جــهــة، ونـــجـــاح دائـــــم مـــن جــهــة أخــــــرى. ولـــهـــذا الــســبــب يــرى أركـــون أن املسلمني لـم يساهموا فـي تشكيل الحداثة الفكرية والعلمية والفلسفية منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، فقد تجاهل شيوخ السلطنة الـعـثـمـانـيـة، وشـــيـــوخ اإلســـــ م عــمــومــا، كـــل فـتـوحـات غــالــيــلــيــو وديـــــكـــــارت وســـبـــيـــنـــوزا وفـــولـــتـــيـــر وكـــانـــط وهـيـغـل... إلــخ، بـل واحتقروها وازدرَوهــــا وكأنها لم تكن، في حني أنها شكَّلت فتح الفتوح بالنسبة للروح البشرية، هنا يكمن جوهر الحداثة. ولكن ملاذا نلومهم على ذلك إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابـن رشـد ذاتـه وهـو العربي املسلم؟ ملـاذا نلومهم إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن سينا وكفَّروه منذ أيام الغزالي؟ وقُل األمر ذاته عن الفارابي املعلِّم الثاني بعد أرســطــو، وقـــل األمـــر ذاتـــه عــن عـبـقـري الـعـبـاقـرة شعرًا ونـثـرًا أبــي الـعـ ء املــعــرّي، هـو اآلخـــر كـفَّــروه وزنـدقـوه ولعنوه، شيء مُخجِل ومُرعِب، ولكن هذه هي الحقيقة. هل نحن أمام شرق كسول وعقيم من جهة، وأمام غرب ديناميكي ناشط منفتح على الفلسفة والعلم من جهة أخـرى؟ يحق لنا أن نطرح هذا السؤال: ملاذا انقرضت الفلسفة في العالم العربي اإلسالمي منذ القرن الثالث عشر، وانتعشت في العالم األوروبي املسيحي؟ إننا دخلنا في عصور االنحطاط الطويلة بدءًا مـــن الـــقـــرن الــثــالــث عـشـر وحــتــى الـــقـــرن الــتــاســع عـشـر، أي حتى عصر محمد علي الكبير وانطالقة النهضة الـعـربـيـة عـلـى يــد رفــاعــة رافــــع الــطــهــطــاوي، وكـــل ذلـك الجيل النهضوي العظيم، بل ليس فقط الفلسفة هي التي انقرضت في العالم العربي، وإنما فكر املعتزلة أيضا، ومعلوم أنهم كانوا يُشكِّلون التيار العقالني في اإلسـ م في مواجهة الحنابلة، واألشـاعـرة، وتيار النقل والتقليد واالنغالق الديني الالهوتي. هل نعلم أن ابن رشد كان يشتكي في عصره من عدم قدرته على التوصل إلـى كتب املعتزلة وهـو األندلسي القرطبي؟ كان يبحث عنها في كل مكان دون أن يجدها، وذلك ألن التيار الظالمي كان يالحقها ويمزِّقها ويحرقها، بل ويحرق أصحابها! هـذه حقيقة. نحن شهدنا محاكم التفتيش قبل األوروبيني بزمن طويل، وهي تفسِّر لنا سبب انحطاط العالم العربي على مدار القرون. أركـــون يـطـرح هــذا الــســؤال: ملـــاذا دخلنا بـــدءًا من الــقــرن الـثـالـث عـشـر فــي عــصــور االنــحــطــاط الظالمية الطويلة التي لم نخرج منها حتى اآلن، بدليل ازدهار كل هذه املوجة األصولية العارمة؟ ما هي هذه القوى االجتماعية االنحطاطية التي جعلت حتى مفكرًا كبيرًا كابن خلدون يشتم الفلسفة ويغرق في التصوف، بل وحتى االنغالق الالهوتي والتعصب؟ نقول ذلك على الــرغــم مــن إبــداعــاتــه وكــشــوفــاتــه الـعـبـقـريـة فــي مـجـال دراسـة االجتماع والعمران، وسبب نشوء الحضارات وصعودها ثم انهيارها. ثم يقول لنا أركون ما يلي: ال ريب في أن الفقهاء مارسوا قمعا آيديولوجيا والهـــوتـــيـــا كــبــيــرًا عــلــى جـمـيـع الـــنـــاس فـــي كـــل الــغــرب اإلســــ مــــي، أي فـــي بــــ د األنــــدلــــس واملــــغــــرب الـكـبـيـر، وقــد عـانـى ابــن رشــد ذاتـــه مـن إرهـابـهـم الـ هـوتـي في أواخـر حياته كما هو معلوم، لقد عانى من تعصُّبهم وتزمُّتهم، ومحدودية أفُقهم، وعقلياتهم الضيقة، لقد هاجَموه دون حق؛ ألنه هو ذاته كان ينتمي إلى عائلة من كبار الفقهاء، لدرجة أن الناس يتحدَّثون عن ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد، فجده كان أيضا قاضي القضاة في قرطبة، وعاملا كبيرًا في الـديـن، ومـع ذلك لــم يـنـج مــن شــرِّهــم، واملـشـكـلـة هــي أن املثقفني الـعـرب التجديديِّني ال يزالون يعانون من التزمُّت ذاتـه حتى في عصرنا الحالي، بل ويتعرَّضون للضرب والقتل واالغتيال، كما حصل لفرج فودة في مصر، أو لنجيب محفوظ، وكما حصل للدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق، وكما حصل للمثقف األردني التنويري الـ مـع نـاهـض حــتــر... إلـــخ. القائمة طـويـلـة، وإرهـــاب الحركات اإلخوانية الظالمية يخيِّم على الجميع. ثــم يـتـحـدث أركــــون عــن فـضـل الـنـزعـة اإلنـسـانـيـة والحضارية العربية على الفكر األوروبي، وهو يقصد بــذلــك فـضـل الـعـصـر الــذهـبــي ومـفـكـريـه الــكــبــار، كابن رشـد وابـن سينا والفارابي وابـن باجه وابـن الطفيل، وعشرات آخرين على املثقفني الفرنسيني في العصور الوسطى، فبعد أن ترجموا النصوص العربية الكبرى إلـى اللغة الالتينية انطلقت فعال الحركة النهضوية الــعــقــ نــيــة األوروبـــــيـــــة. نـــقـــول ذلــــك فـــي حـــ أن هــذه النصوص كانت مجهولة من قِبل أصحابها خاصةً، أي الـــعـــرب واملــســلــمــ ، بـــل وكـــانـــت مــحــتــقَــرة ومُـــدانـــة الهوتيا مـن قِبل الفقهاء املزمجِرين أســ ف اإلخــوان املسلمني الحاليني، ما أشبه الليلة بالبارحة! لــقــد شــــرح لــنــا املــفــكــر الــفــرنــســي الــكــبــيـر إيـتـيـان جيلسون كيف استفاد أساتذة السوربون من التراث الــفــلــســفــي الـــعـــربـــي الـــخــصــب والـــغـــنـــي جــــــدًا، فــــي ذلــك الوقت ابـتـدأت أوروبـــا تخرج رويــدًا رويــدًا من ظلمات العصور الوسطى املسيحية، ولكي تخرج فإنها كانت بحاجة إلى دعم فالسفة العرب واملسلمني، كنا وقتها أسـاتـذة أوروبـــا، في حني أن مفكريها أصبحوا اليوم هــم أسـاتـذتـنـا، كـــان املـثـقـف الـفـرنـسـي أو اإليـطـالـي أو اإلنجليزي يفتخر آنــذاك بأنه يعرف ابـن رشـد أو ابن سـيـنـا أو الـــفـــارابـــي، مثلما نفتخر نـحـن الــيــوم بأننا نعرف ديكارت أو كانط أو هيغل، الحضارات دوَّارة، وكذلك العصور الذهبية، مَن سرَّه زمن ساءته أزمان. أخيرًا السؤال الجوهري الذي يطرحه أركون هو التالي: ماذا يفيدنا فكر ابن رشد اليوم؟ هل له راهنية حقا أم عفّى عليه الزمن؟ وجوابه عن ذلك هو باإليجاب طبعا، فــإعــادة االعـتـبـار إلــى فكر ابــن رشــد فـي العالم العربي تساعدنا على مواجهة الظالميني املتزمِّتني مـن إخـــوان مسلمني وخُمينيني وسـواهـم، فقد خاض فيلسوف قرطبة معركة متواصلة ضـد أسالفهم من فقهاء عصره املتزمِّتني، لقد خـاض هـذه املعركة على صعيد العلوم الدينية التي فسَّرها بشكل مختلف عن تفسيرهم الـضـيـق املـتـعـصـب، وقـــد اسـتـخـدم كـفـاءاتـه الفلسفية فــي هـــذا املــجــال أفــضــل اســتــخــدام، صحيح أنـــه لـــم يـصـل بـــه األمــــر إلـــى حـــد الـــخـــروج مـــن الـسـيـاج الدوغمائي الالهوتي العقائدي املغلق على ذاته، وهو السياج أو اإلطار العقائدي الذي ينحصر داخله جميع املؤمنني أو جميع املسلمني قاطبة دون استثناء. لكن هذا الشيء ما كان ممكنا في عصره؛ ألنه كان محكوما بسقف العصور الوسطى ومـا هو مستحيل التفكير فيه فـي تلك الـعـصـور، ولكنه عقلَن مفهوم الـديـن عن طـريـق دحـــض أطـــروحـــات الــغــزالــي الـــــواردة فــي كتابه الشهير «تهافت الفالسفة». لقد دحضها ليس فقط من خالل كتاب «تهافت التهافت»، وإنما أيضا من خالل كتاب «مناهج األدلة». أهم شيء قدَّمه لنا ابن رشد هو الـنـص على مشروعية الفلسفة والـفـكـر العقالني في العالم العربي اإلسالمي، ونفهم من كالمه أن الفلسفة ال تتعارض مع الدين، وإنما فقط مع املفهوم املتزمِّت والخاطئ للدين. لكن بعد كل هـذا التمجيد البـن رشـد فـإن أركـون يحذِّرنا قـائـ هـذا الـكـ م الخطير: مـن ناحية أخـرى، لقد أصبح فكر ابـن رشـد ذا قيمة تاريخية فقط، لقد أكل عليه الدهر وشرب، ينبغي أال ننسى أنه تفصلنا عنه ثمانية قـــرون. ولـكـن هــذا الـكـ م ال ينطبق عليه وحده فقط، وإنما ينطبق على كل فكر العصر الذهبي القديم، على الرغم من روعته وعظمته، ملــاذا؟ ألن كل فـكـر فالسفتنا الــقــدمــاء حـصـل تـحـت سـقـف العصور الــوســطــى، ونــحــن نـعـيـش اآلن تـحـت سـقـف الـعـصـور الحديثة، وشتان ما بينهما، ما كان مستحيال التفكير فيه في عصر ابن رشد أصبح ممكنا التفكير فيه بعد عصر ديكارت وسبينوزا وبقية فالسفة األنوار الذين تحرَّروا من هيمنة الالهوت الديني كليا. يضاف إلى ذلك أن مرجعياتنا الفلسفية أصبحت اليبنتز وكــانــط وهـيـغـل ومــاركــس ونيتشه وفــرويــد، وحــتــى بــرغــســون وهـــابـــرمـــاس... إلــــخ، وبــالــتــالــي فال يـنـبـغـي أن نـبـالـغ ونـــهـــوِّل فـــي قـيـمـة ابـــن رشــــد، إنـــه ال يستطيع إنـقـاذنـا، يُنقذنا فقط فكر الحداثة العلمية والـفـلـسـفـيـة الــــذي تــجــاوز ابـــن رشـــد وســــواه بـسـنـوات ضوئية. أخيرًا يمكن القول بـأن املـعـرِّي تجاوز ابـن رشد، وتحرَّر من النطاق الديني الالهوتي التكفيري املنغلق على ذاته أكثر منه بكثير، وذات الكالم يمكن أن يقال عن ابن سينا والفارابي. املعرّي طرح أسئلة تتجاوز سقف عصره، وترهص بالعصور الحداثية الحالية، ولـم يكن ذلـك فقط فـي «الـلـزومـيـات»، وإنـمـا أيضا في «رسـالـة الغفران» التي تُعد جوهرة الجواهر األدبية والـفـكـريـة الـعـربـيـة، بحياته كلها لـم يستطع الخيال اإلبداعي العربي التوصل إلى هذا املستوى املذهل من االبتكار الخ ّق الذي استعصى على الجميع. هاشم صالح ابن رشد محمد أركون الفلسفة ال تتعارض مع الدين... وإنما فقط مع المفهوم المتزمّت والخاطئ للدين

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==