issue16711

Issue 16711 - العدد Thursday - 2024/8/29 اخلميس كتب BOOKS 17 كتب ناقشت العالقة الشرطية بينه وبين المكان ما إن أهَّل عقد الستينات حتى انحلت عقدته وتوالت روايات تلك المرحلة الزمان بين العلم والفلسفة «الطريق» لنجيب محفوظ... في عيد ميالدها الستين لم أزل أذكر الضجة الكبرى التي رافقت نشر كتاب «موجز تاريخ الزمان» للفيزيائي . مثّل هذا 1987 الـراحـل ستيفن هوكنغ عـام الكتاب حينها انعطافة محسوسة وعملية في تاريخ النشر العلمي على النطاق الشعبي الـــواســـع؛ إذ فــضــا عــن شخصية كـاتـبـه ذي الـعـقـل الــحــر والــجــســد املــقــيّــد بـعـجـات أربــع فـإن طبيعة املـادة املعروضة فيه كانت مثاال مـــتـــوازنـــا لـــلـــمـــقـــدرة عـــلـــى املـــــواءمـــــة الـعـمـلـيـة بـن متطلبات الكتابة الفيزيائية الصارمة وشـــــــروط املـــقـــروئـــيـــة الــــواســــعــــة. كـــانـــت «دار املــأمــون» الـعـراقـيـة املختصة بالترجمة أوّل دار نشر عربية سارعت في ترجمة هذا العمل بعد قرابة السنتي من نشره؛ فقد صدر أوائل ، ولم يكن 1989 أو ربما أواخر عام 1990 عام مترجمه (باسل محمد الحديثي) فيزيائيا بل كان مختصا بالهندسة الكهربائية وهندسة الــحــاســوب والــســيــطــرة والــنــظــم الـهـنـدسـيـة. الدهشة الفلسفية واملساءلة الفكرية لألسئلة الـكـبـرى فـي الـكـون ليست حصرية على فئة دون أخرى من املهنيي أو العامة. قرأت الكتاب حينها بشغف، وكان كتابا رائعا بكل االعتبارات، لكن ما يلفت النظر أن هوكنغ بدا وكأنّه آلة احتسابية ال تستطيب أي مــيــل فـلـسـفـي، هــــذا إذا لـــم نَـــقُـــل إنّــــه يــرى الفلسفة اشــتــغــاال غـيـر مـنـتـج. قــد يستطيع فيزيائي أن يتملّص أو يناور على املداخلت الـفـلـسـفـيـة الـــضـــروريـــة عـنـدمـا يــتــنــاول مـــادة تقنية خالصة، لكن كيف له ذلك وهو يتناول مــفــهــومــا غـــارقـــا فـــي لــجــج الــتــفــكّــر الـفـلـسـفـي الذي يحسبه فيزيائيو Time العميق: الزمن عاملنا املعاصر أسبقية على كل ما سواه من مـكـان أو مـــادة أو حـركـة. كــل مفهوم أو فكرة أو مـــوجـــود مـــــادي إنــمـــا هـــو مــقــتــرن اقــتــرانــا شرطيا بـالـزمـان ودالـــة لــه. نحن فـي النهاية مخلوقات الزمان وغـارقـون فيه. لم أستطِب هذه النكهة العدائية لهوكنغ تجاه الفلسفة، ثـــم أفـــصـــح الـــرجـــل الحـــقـــا عـــن مــوقــفــه الـــكـــاره لـلـفـلـسـفـة بــاعــتــبــارهــا غــيــر كــفــؤة فـــي تــنــاول املـــوضـــوعـــات مـثـلـمـا يـفـعـل الــعــلــم. هــــذا رأي هوكنغ بالتأكيد، وثـمـة كـثـيـرون مـن أعاظم الفيزيائيي يخالفونه الرأي، مثلما أن هناك قلّة يعاضدونه، ومنهم ريتشارد فاينمان، الـــذي كـتـب، فــي كـتـابـه الـسـيـري املـتـرجـم إلـى العربية «أنت تمزح بالتأكيد سيد فاينمان»، أن أســوأ يـوم في حياته هو ذلـك اليوم الذي صارحه فيه ابنه برغبته في دراسة الفلسفة. لـــم يـكـن كــتــاب «مـــوجـــز تـــاريـــخ الـــزمـــان» أوّل عــهــد لـــي بـالـفـلـسـفـة الـعـلـمـيـة أو فلسفة الفيزياء (وفلسفة الـزمـان واملـكـان على وجه التخصيص). سبق لي في سبعينات القرن الــعــشــريــن أن قــــــرأت كـــتـــاب «نـــشـــأة الـفـلـسـفـة الــعــلــمــيــة» لــفــيــلــســوف الــعــلــم األملــــانــــي هـانـز رايشنباخ، الــذي ترجمه الفيلسوف الراحل فــؤاد زكـريـا. لطاملا أعجبت كثيرًا بترجمات وأعــمــال الـدكـتـور زكــريــا وجــهــوده الفلسفية التنويرية وانتخابه ألعمال معروفة بثرائها الفكري والفلسفي. أمضيت أياما رائعة مع كتاب رايشنباخ الــذي نقرأ فيه موضوعات عــلــى شــاكـــلـــة: قـــوانـــن الــطــبــيــعــة، هـــل تـوجـد ذرات؟، الــتــطــوّر، املـعـرفـة الـتـنـبـؤيـة، هاملت يناجي نفسه، طبيعة علم األخـــاق، مقارنة بــــن الــفــلــســفــة الـــقـــديـــمـــة والــــجــــديــــدة. كــتــاب رايـشـنـبـاخ - كـمـا أرى - أكــثــر إمـتـاعـا بكثير مـن كتاب هوكنغ، فضل عـن النكهة األدبية والفلسفية الـرائـقـة الـسـائـدة فـيـه. ثمة فصل في الكتاب عنوانه: ما الزمان؟ ومن هنا كانت نقطة الشروع لي في التدقيق بمفهوم الزمان على املـسـتـوى الفلسفي. علمت فـي سنوات الحقة أن رايشنباخ ألّف كتابا كامل عنوانه »، لكنّه The Philosophy of Space and Time« لـــم يــتــرجــم إلــــى الــعــربــيــة لـــ ســـف، ولــــم نكن فــي الــقــرن املــاضــي بــقــادريــن عـلـى اقـتـنـاء كـل مــا نـرغـب بــقــراءتــه مــن كـتـب ألســبــاب عملية معروفة. لـو سلّمنا بمقولة الفيلسوف كانْت، عـــــن اســــتــــحــــالــــة تــــعــــريــــف أبـــــعـــــاد الـــــزمـــــان الـــثـــاثـــة: املـــاضـــي والـــحـــاضـــر واملـسـتـقـبـل، فإننا سنغرق في بحار املقوالت الفلسفية ونـــتـــبـــدد ونـــبـــدد الــــزمــــان فـــي تــســاؤالتــنــا. وضَـــــــع كــــانْــــت أمـــامـــنـــا شـــــرط املــســتــحــيــل؛ فاملاضي هو الذي تبدّد وما عاد موجودًا، واملستقبل هـو مـا لـم يَــحِــن أوانـــه بـعـدُ؛ فل يتبقى مــن ممكن خـاطـف كـالـبـرق الـخُــلَّــب إال الـحـاضـرُ، وهــو ليس الـوقـت كـلـه، لكنه الزمان الـذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتـعـبـره أجــســادنــا الـحـيـة فــي حـركـتـهـا أو سباتها. يكتب الـقـديـس أوغــســطــن: الـــزمـــان هو أكثر مـن شـيء واحـــد، فهو بُــعْــد الـوعـي الـذي يتوجه انطلقا مـن الحاضر نحو املستقبل فـــي االنـــتـــظـــار، ونـــحـــو املـــاضـــي فـــي الــتــذكــر، ونـــحـــو الـــحـــاضـــر فــــي االنــــتــــبــــاه؛ وعـــلـــى هـــذا فالحاضر هـو برهة انتباهنا لـوجـودنـا في املـكـان والـــزمـــان، أو كما يـقـول بـرغـسـون: «ال وجـود للماضي وال للمستقبل. ليس الوقت إال هـــذا الــشــعــور بـالـتـعـاقـب لــهــذه اللحظات اآلنـــيـــة، وإن ذكـــاءنـــا هـــو الــــذي يـفـهـم الـوقـت انـطـاقـا مــن الـلـحـظـة اآلنـــيـــة، يـربـطـه باملكان ألن اآلنـيـة ليست مـن طبيعة الــزمــان، وإنما مـــن طـبـيـعـة املــــكــــان. فـــي مــقــابــل هــــذا الـــزمـــان الفيزيائي هناك الزمن النفسي (الديمومة). الـــديـــمـــومـــة لـــيـــســـت آنــــيــــة، هــــي مــتــصــلــة ألن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه وهــو مقبل فـي الـوقـت نفسه على املستقبل، كما أنـهـا (الـديـمـومـة) ليست قابلة للقياس ومتجانسة. هذا هو الزمان قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا ويفككه إلى لحظات متمايزة». الــزمــن عـنـد هـايـدغـر هــو مــا يـحـقـق لنا الوجود؛ فهو يرى أن الزمان يقذف اإلنسان بـــاســـتـــمـــرار، وهـــــو مــــا جــعــلــه الـــوحـــيـــد الــــذي يـــوصـــف بـــأنـــه مــــوجــــود. الــــوجــــود ال يـعـنـي الـخـضـوع لــلــزمــان، وإنــمــا أن يـقـذفـك الــزمــان دومــا نحو املستقبل، ونحو املمكن، ويكون عـلـيـك االخــتــيــار وتــبــريــر االخــتــيــار. هـــذا هو القلق الوجودي امللزم للكائن البشري. لكن ثمة اقتران يبدو حتميا في حدود خبرتنا البشرية بي الزمان واملكان. استطاع آيــنــشــتــايــن فــــي نــظــريــتــه الــنــســبــيــة الـــعـــامـــة، وبضربة تنم عن أستاذية المعة، ربط الزمان Space- واملكان في مفهوم واحد هو الزمكان ، لكن يبدو أن الزمان يتقدّم على املكان. time هـــذه الــعــاقــة الـشـرطـيـة بـــن الـــزمـــان واملــكــان هـي األســـاس الفلسفي الـــذي تنبثق منه كل تساؤالتنا العميقة بشأن وجودنا البشري. نحن في النهاية كينونات مادية توجد في مــحــيــط مــتــصــل مـــن الـــزمـــكـــان، ومــحــكــومــون بشروطه، وليست كل مفاهيمنا عن الكينونة والهوية والعلقات البشرية سوى تجسيدات لوجودنا في هذا الزمكان. لـــم تــعــد فـلـسـفـة الــــزمــــان مـبـحـثـا فـرعـيـا فـــي ســـيـــاق دراســــــة فـلـسـفـة الـــعـــلـــم. تـأسـسـت مراكز بحثية مستقلة لدراسة فلسفة الزمان فــي كــبــريــات الـجـامـعـات الـعـاملـيـة الـرصـيـنـة، وصارت كتب كثيرة تنشَر بحثا واستقصاء للتطورات الحثيثة في مفهوم فلسفة الزمان وتأثيراتها املؤكدة في إعادة تشكيل رؤيتنا العلمية للعالم، وربما فلسفة الزمان تتماثل في أهميتها مع فلسفة العقل ونظرية املعرفة في علقة كل منهما مع التطورات الحاصلة في علم الحاسوب والذكاء االصطناعي. مـــــن الــــكــــتــــب الــــحــــديــــثــــة املـــــنـــــشـــــورة فــي فــلــســفــة الـــــزمـــــان كــــتــــاب ألّــــفــــه الـــبـــروفـــيـــســـور ونشرته Graeme A. Forbes غريمي فوربس حديثا دار نشر «راوتـلـيـدج» العاملية، ضمن .The Basics سلسلتها املعروفة األساسيات األســـتـــاذ فــوربــس مـخـتـص بفلسفة الــزمــان، عمل ألكثر من عقد في قسم الفلسفة بجامعة كنت البريطانية قبل أن يتقاعد عن التدريس . الــــكــــتــــاب طــــبــــق فــلــســفــي 2022 فـــيـــهـــا عـــــــام بـتـوابـل لـذيـذة ستثير شهية كــل مـن تمرّس بـالـقـراءات الفلسفية الخاصة باملوضوعات التأصيلية األساسية: أصـل الزمان واملكان، أصل الوعي، أصل الكون، أصل الحياة. وملا كــــان الــــزمــــان ســابــقــا لـــكـــل هــــذه املـــوضـــوعـــات وشـــرطـــا لــوجــودهــا فـسـيـكـون مـــن الـــضـــرورة الـازمـة إيـــاؤه قــدرًا غير يسير مـن االهتمام واملساء لة. بـــعـــد مـــقـــدمـــة تـــمـــهـــيـــديـــة يــــبــــدأ الـــكـــتـــاب بموضوعة جوهرية لكل كتاب يتناول فلسفة .Change الزمان، أقصد بذلك مفهوم التغيّر التغيّر هو حجر األساس في بناء كل فلسفة منتجة للزمان، ومنها يمكن االنطلق إلثراء املوضوع، وهذا هو ما فعله املؤلف تماما في فـصـول الحـقـة تـنـاول فيها: اخـتـبـار التغيّر، واخـــتـــبـــار الــــــــذات، ثـــــم يـــتـــنـــاول مـــوضـــوعـــات الـنـسـبـيـة واآلنــــيــــة، وســهــم الــــزمــــان، والـسـفـر عبر الزمان، االنحياز الزماني، إعـادة كتابة التاريخ، العيش في الحاضر. عقب مقتبس من مقطع شعري إلليوت، يكتب املؤلف في مقدمته: «لـــم أحـــــاول أبــــدًا إخــفــاء شخصيتي أو آرائــي عن الـقـارئ. تتبدى آرائــي في عـدد من الكيفيات، منها: اختيار املوضوعات. العديد من املقدمات املكتوبة عن فلسفة الزمان تركّز بؤرتها البحثية على امليتافيزيقا أو فلسفة الـفـيـزيـاء فـحـسـب. فـعـلـت هـــذا مثلما فعلوا، لـكـنـنـي لــم أكـــتـــف بـــه، بـــل اجــتــهــدت لتضمي موضوعات أخرى مثل فلسفة التاريخ؛ ألنني أرى أن مـوضـوعـات الـتـاريـخ يجب أن تكون مبعث إثـــارة وتفكّر لــدى كــل مـن يشتغل في نطاق فلسفة الزمان...». يــــــبــــــدو الــــــكــــــتــــــاب مُــــــــعــــــــدًّا عـــــــن مـــنـــهـــاج دراســــي جـامـعـي ألن الصبغة البيداغوجية (الــتــعــلــيــمــيــة) واضــــحــــة فـــيـــه. أرى فــــي هـــذه الخصيصة مصدر قــوة للكتاب ألنّــه سيفي بمتطلبات التعلّم الـذاتـي التي صــارت سمة شـائـعـة فــي معظم الـكـتـب املــنــشــورة حديثا. يبدو أن املؤلفي املعاصرين باتوا يتلمّسون روح الـعـصـر الــحــديــث حـيـث الـتـعـلّــم الــذاتــي سـيـكـون الـنـمـط الـشـائـع للتعلّم Self-Study فيه عمّا قريب، وبخاصة مع انفتاح الفضاء الــــرقــــمــــي عــــلــــى فــــــضــــــاءات ال مــــــحــــــدودة مــن البيانات الكبيرة ومصادر املعلومات. كــــان عــقــد الــسـتـيــنــات مـــن الـــقـــرن املــاضــي فـــاتـــحـــة عـــهـــد جـــديـــد فــــي الـــتـــطـــور الـــفـــنـــي لـــدى نـــجـــيـــب مــــحــــفــــوظ. كــــــان قـــــد كـــلـــل جـــــهـــــوده فـي )57 - 1956( » الرواية الواقعية بنشر «الثلثية ، ثـــم انـقـطـع 1952 الــتــي كــــان أتــــم كـتـابـتـهـا فـــي عـن الكتابة لسنوات عـدة قضاها فـي محاولة الستيعاب التغييرات السياسية واالجتماعية واالقـتـصـاديـة الـهـائـلـة الـتـي جـــاءت بـهـا حركة بي ليلة وضحاها، 1952 الضباط األحـرار في قــبــل أن يـــعـــود لـلـكـتـابـة مــســلــسِــا فـــي جــريــدة رواية «أوالد حارتنا»، تلك 1959 «األهرام» سنة الـروايـة الكنائية التي أقامت الدنيا وأقعدتها بناء على تهمة زائفة أنها تتعدى على األديان، وهــو مـا حــاد بـاألنـظـار عـن حقيقة كونها أول عمل روائــي في مصر ينتقد النظام الناصري نقدًا مبكرًا بينما كان النظام ما زال في مرحلة الـــنـــشـــوة بـــاالنـــتـــصـــارات واإلنـــــجـــــازات تفصله سنوات عن عصر الهزائم واالنكسارات. كانت الــروايــة مـن وراء قناع األمـثـولـة الشفاف تندد بالحكم الظالم القائم على البطش واالستعانة بالفتوات لقمع املطالبي بالحقوق والباحثي عـــن الــحــريــة والــــعــــدل. كـــانــت صــرخـــة فـــي وجــه الــــدولــــة الــبــولــيــســيــة الـــتـــي كـــانـــت مــعــاملــهــا قـد تشكّلت بوضوح في ذلك الوقت. وهــكــذا، مـا إن أهَّـــل عقد الستينات حتى كانت عقدة لسان محفوظ، أو على األصح قلمه، كانت قد انحلّت، وتوالت روايــات تلك املرحلة الــواحــدة تلو األخـــرى بـــدءًا «باللص والـكـاب» ، «فــالــســمــان والـــخـــريـــف» ثـــم «الــطــريــق» 1961 وبـــعـــدهـــا «الــــشــــحّــــاذ» و«ثـــــرثـــــرة فـــــوق الــنــيــل» . جــــاءت هـذه 1967 وانـــتـــهـــاء «بـــمـــيـــرامـــار» فـــي األعمال لتمثل نقلة فنية كبرى لـدى محفوظ. فنراه قد تخلى عن السرد الواقعي التفصيلي واإلســـهـــاب الــوصــفــي، وتـخـلـى عـــن الـــســـرد من وجهة نظر الروائي العليم، مستعيضا عن ذلك بوجهة النظر املُقيَّدة التي نرى فيها كل شيء من خلل واعية الشخصية الرئيسية، حيث ال يسمح الـروائـي لنفسه بالتنقل بي وجدانات سائر الشخصيات، ونرى فيها استخدام تيار الوعي أو تداعي األفكار إلطلعنا على ذهنية الشخصية وعاملها الـداخـلـي فـي الـوقـت نفسه الـذي نراقب فيه أفعالها وأقوالها وتفاعلتها مــع غـيـرهـا مــن الـشـخـصـيـات. ونــــرى الـلـغـة قد تكثفت ومالت إلى الغنائية في بعض األحيان كما كثرت فيها الصور واألخيلة وزاد استخدام الرمزية واإلحاالت. إذا كــــان مــحــفــوظ قـــد لــجــأ إلــــى الـحـكـايـة األمــثــولــيــة فـــي «أوالد حـــارتـــنـــا» لـنـقـد الـنـظـام الــنــاصــري مــن خـلـف حــجــاب، فـهـو فــي روايــــات الـسـتـيـنـات قــد أســقــط كــل ســاتــر وكـــل قــنــاع في نقده. فرأينا «اللص والكلب» تدور حول خيانة املـبـادئ الثورية والتحول مـن املثالية الثورية إلــى التنعُّم الــبــورجــوازي. ونـــرى فـي «الـسـمّــان والـــخـــريـــف» كـيـف أن الــنــظــام الــجــديــد يـــرث مع الـسـلـطـة الـــتـــي اســتــولــى عـلـيـهـا مـــزايـــا الـطـبـقـة الحاكمة الـبـائـدة. أمــا «الــشــحّــاّذ» فـتـدور أيضا حول التحول البورجوازي في منتصف العمر والـــركـــون إلـــى الــدعــة والـــرخـــاء بـعـد فــــورة املثل العليا واألفكار الثورية في مقتبل العمر. فإذا ما انتقلنا إلى «ثرثرة فوق النيل»، رأينا االنحدار الـبـورجـوازي في أســوأ صــوره من انغماس في املــــخــــدرات والــجــنــس واالنـــفـــصـــال عـــن املجتمع وقـضـايـاه فـي ظـل تهميش املــواطــن والـحـرمـان من املشاركة في الحياة السياسية تحت النظام املنفرد بالرأي، وصوال إلى آخر روايات املرحلة ) التي تبدو فيها مصر (في 1967( » «مـيـرامـار شخص خادمة البنسيون «زهــرة») حائرة بي األنظمة والـعـهـود، بائدها ومعاصرها، حيث الــجــمــيــع يــســعــى الســتــغــالــهــا وال أحـــــد تـهـمـه مصلحتها وإن كانت هي ترتفع فوق الجميع. تميزت روايـــات هـذه املرحلة إلـى جانب نقدها الــســيــاســي واالجـــتـــمـــاعـــي، بـمـعـالـجـتـهـا أمــــورًا فـلـسـفـيـة وبــــاملــــزج بــــن الــــفــــردي واالجـــتـــمـــاعـــي والـفـلـسـفـي فــي بـوتـقـة واحـــــدة. فــنــرى محفوظ مـــشـــغـــوال بــقــضــايــا وجــــوديــــة ومـيـتـافـيـزيـقـيـة، متأمل فـي الـديـن واإليــمــان واملـــوت والصوفية والـعـاقـة بـن الـفـرد واملجتمع ومعنى االلـتـزام وقيمة العمل وسـبـل الـخـاص وتحقيق الــذات فـي ظـل مجتمع قــاس وحكم قاهر وكـــون هائل األبعاد ال تعنيه كثيرًا مصائر األفراد. إلـى هـذا الزخم الـروائـي والفكري تنتمي روايــــة «الـطـريـق» الـتـي أتـمـت هــذا الــعـام ستي . وإن كان 1964 عـامـا منذ صــدورهــا األول فـي الـعـام الستون لــدى البشر يرتبط فـي األذهــان بسن التقاعد من الخدمة العامة أو اإلحالة إلى املعاش، فليس كذلك األمـر مع «الطريق» التي تبقى اليوم رواية معاصرة مُشغِفَة في سردها وقـــضـــايـــاهـــا، وذلــــــك خــــــاف أغـــلـــب زمــيــاتــهــا مـــن الــســتــيــنــات الـــتـــي كـــــادت أن تـصـبـح الــيــوم روايــــات تـاريـخـيـة شــديــدة االرتـــبـــاط بعصرها ومناخه السياسي. الذي يعطي «الطريق» هذه املكانة الخاصة هـو تحررها مـن وطــأة البيئة السياسية املـعـاصـرة لزمنها وانـصـرافـهـا إلى قضية فلسفية كبرى مما يشغل اإلنسان في كل عصر وكل بيئة. قضية البحث عن املُطْلَق. عن املـاورائـي. عن امليتافيزيقي. هل خـاص الفرد يكمن في هـذا العالم أم في قـوة خارجة عليه؟ هـل نقضي وقتنا على األرض فـي البحث عن هــذا الـشـيء املــاورائــي الغامض أم نقضيه في العمل الدائب من أجل الذات واآلخرين والتقدّم البشري العام؟ أين تكون «طريق» الخلص؟ لــإجــابــة عــن هـــذه األســئــلــة الــكــبــرى كتب مـحـفـوظ روايـــــة تـشـويـقـيـة مــثــيــرة. روايـــــة حب وجـــــنـــــس وعـــــنـــــف وجــــريــــمــــة وقــــــصــــــاص. لــكــن مــحــفــوظ يــعــرف كــيــف يـكـتـب عــلــى مـسـتـويـن. أحــدهــمــا سـطـحـي خــارجــي مـثـيـر فــا تــريــد أن تــضــع الــــروايــــة مـــن يــــدك مـــن شــــدة الــتــشــويــق، واآلخـــــر عـمـيـق بـاطـنـي يــرمــز إلـــى مـــعـــان أبـعـد مناال مما نرى على السطح. صابر سيد سيد الـرحـيـمـي بـطـل الـــروايـــة هــو شـــاب يـسـعـى إلـى «الحرية والكرامة والـسـام»، وهـو في مسعاه هذا الذي يفشل فيه فشل ذريعا، ال يختلف عن معاصريه من شباب مصر، ومن هنا فإن فشله هو رؤية متشائمة للوضع املجتمعي واألحلم الـوطـنـيـة املـجـهـضـة. لـكـن الـــقـــراءة الـسـيـاسـيـة ينبغي أن تتوقف عند هـذا الحد، فهذه روايـة اختار محفوظ فيها أن يرتاح مع عناء القضايا السياسية واالجتماعية امللحة ليتأمل فيما هو أبعد. ومن هنا، فإن بحث صابر عن أبيه الثري املـجـهـول بـعـد وفــــاة أمـــه ألجـــل أن يـخـلّــصـه من العوز يتحول في املستوى الرمزي للقراءة إلى بحث اإلنسان عن اإلله، عن الحقيقة املاورائية املطلقة. وعلى النسق نفسه، فإن انقسام صابر بـن انـجـذابـه الشهواني إلــى «كـريـمـة» الزوجة الــشــابــة لـلـعـجـوز صـــاحـــب الــفــنــدق وبــــن حبه العذري إللهام الفتاة العاملة املجاهدة للعلو على مشاكل حياتها يصبح تجسيدًا للفصام الــبــشــري األبـــــدي بـــن دواعـــــي الـــــروح ودواعــــي الجسد، بي نـداء األرض ونـداء السماء. وعلى امـــتـــداد الـــروايـــة يـتـعـايـش مـسـتـويـا املـعـنـى في وئام كامل؛ ما يشهد ملحفوظ ببراعة في السرد لم تكن جديدة على قارئيه حتى في ذلك الوقت املـبـكـر نـسـبـيـا. فــأنــت تـسـتـطـيـع أن تــقــرأ قصة اإلثـارة والتشويق من األول إلى اآلخر وتخرج قانعا راضيا. إال أنك تخسر الكثير إن اكتفيت بذلك وغابت عنك الرموز واإلشــارات واألحلم leitmotifs واألخــــيــــلــــة والــــخــــواطــــر املُــــــعــــــاودة واملـــواقـــف املــنــثــورة بـسـخـاء فــي ثـنـايـا الـنـص، والتي تقودك إلى املستوى األعلى للمعنى. على أن محفوظ يعيد علينا في «الطريق» درســــا فـهـمـنـاه مـنـه مـــــرارًا فـيـمـا قـبـلـهـا وكـذلـك فـيـمـا بــعــدهــا. لـيـس ثـمـة حــلــول ميتافيزيقية ملشاكل اإلنسان على األرض. «الحرية والكرامة والـــســـام» ال تـتـنـزل هــديــة مــن الــســمــاء، وإنـمـا تُـــكــتـــســب عـــلـــى األرض. وهـــــي ال تُـــكــتــسـب إال بـالـعـمـل، بـالـجـهـد الــبــشــري. الـقـلـق الـــوجـــودي ال عـاج لـه إال باالنغماس فـي الجهد البشري وليس بالهروب إلى التصورات الصوفية كما اكــتــشــف عــمــر الـــحـــمـــزاوي فـــي «الــــشــــحّــــاذ» وال بالسعي وراء أب وهمي كما يفعل صابر في «الــطــريــق». قيمة اإلنــســان ال تنبع مـن التعلق بما وراء الطبيعة ولكن من «العمل». العمل في مفهومه الواسع، مفهوم «االلتزام» أو االشتباك اإليــــجــــابــــي مــــع مــحــيــطــنــا املـــــعـــــاش، كـــمـــا عـنـد ســارتــر. بـهـذا وحـــده يتحقق الـثـالـوث املـقـدس الــذي يسعى إليه صابر وكــل البشر: «الحرية والكرامة والسلم». غريمي فوربس نجيب محفوظ لطفية الدليمي رشيد العناني غالف «فلسفة الزمان» استطاع آينشتاين في نظريته النسبية العامة، وبضربة تنم عن أستاذية المعة، ربط الزمان والمكان في مفهوم واحد هو الزمكان

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==