issue16708

الثقافة CULTURE 18 Issue 16708 - العدد Monday - 2024/8/26 االثنني أصبحت كتاباته معيارا للواقعيّة األدبيّة ومادة لفهم خليط األلم والتكاذب كتابة استرجاعية عن قيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش في مئويته... بالدوين ال يزال الضحيّة والشاهد «طباطيب العِبَر»... تحوالت المجتمع المصري من منظور قرية يـــضـــع كـــبـــار نــــقّــــاد الـــثـــقـــافـــة األمــيــركــيــة فــــي الــــقــــرن الـــعـــشـــريـــن تـــأثـــيـــر مــجــمــل أعـــمـــال الـصـحـافـي والـــروائـــي واملــســرحــي والـنـاشـط الـسـيـاسـي األفــروأمــيــركــي جـيـمـس بـالـدويـن على الـحـيـاة الثقافيّة فـي الــواليــات املتحدة فـــي مـــقـــام «املـــــذهـــــل». وعـــنـــدمـــا نــشــر روايـــتـــه )، اخــــتــــارت «الـــصـــنـــداي 1962( » «بـــلـــد آخــــــر تايمز» األسبوعية اللندنية املرموقة وصفه بـ «الزوبعة». والـيـوم، وبينما يحتفل العالم بمئوية )، تــبــدو تلك 1924 أغـسـطـس 2 والدتـــــه (فـــي األوصـــــــاف عـــاجـــزة عـــن إيـــفـــائـــه حــقــه لــــدوره الالمع في توظيف أدوات الخيال األدبي لنقل النقاش حول املسألة العرقيّة في مجتمعات الـــواليـــات املـتـحـدة إلـــى املـسـتـوى الشخصي لكل األميركيني؛ ذوي البشرة البيضاء منهم، قبل السود. لقد تجرأ ابن حي هارلم الشعبي في نيويورك على نكء جروح مرحلة الفصل الـعــنــصـري بــكـل آثـــارهـــا الـنـفـسـيّــة الـعـمـيـقـة، وكشف، بلغة وثيرة، عن مــرارات تعتمل في قلوب املجموعتني على جانبي خط التفريق بني بني آدم وفق ألوان بشرتهم. وقــبــل وقـــت طــويــل مــن وفــاتــه بـسـرطـان ، أصـبـحـت كـتـابـاتـه مـعـيـارًا 1987 غــــــادِر فـــي لـلـواقـعـيّــة األدبـــيّـــة ومـــــادة ال بـــد مـنـهـا لفهم خـلـيـط األلـــــم والـــتـــكـــاذب والــــنّــــدم الـــــذي يمأل تاريخ الحياة األميركيّة في القرن العشرين. جـاء بالدوين إلـى األدب من الصحافة، لكنّه كــان قـد حسم مبكرًا اخـتـيـاره لقضيته بــانــحــيــازه إلـــى اإلنـــســـان ملـحـض إنـسـانـيـتـه، فكانت مقاالته مثاال متقدمًا على استحضار روح الــــجــــرأة والـــشـــجـــاعـــة واملـــنـــطـــق الـــهـــادئ للتأثير عـلـى أهـــم األسـئـلـة الـتـي طـاملـا راوغ املــجــتــمــع األمـــيـــركـــي لــتــجــنــبــهــا، فــيــمــا ألــقــت قـصـصـه الــقــصــيــرة وروايــــاتــــه ومـسـرحـيـاتـه بـــالـــضـــوء عـــلـــى مـــعـــانـــاة األفــــــــراد جـــــــرّاء تـلـك املــــــراوغــــــة املـــكـــلـــفـــة، مـــدقـــقـــ فــــي كــــل الــــزوايــــا املظلمة التي حفرتها في الحياة االجتماعية لألميركي الــعــادي. على أن االسـتـمـاع اليوم لبعض من خطبه ومقابالته املصورة تظهر كـــم وجـــــدت روحـــــه املــحــلــقــة صــوتــهــا األعــلــى فـي الخطابة. لقد وقـف ذات يـوم أمــام نخبة األكاديميا البريطانية (بجامعة كامبريدج) كما شامان ينظر إلى ما وراء األفق، وأنذرهم بأنه «لن يكون ثمة مستقبل للحلم األميركي مـــا لـــم يـكـن األفــروأمــيــركــيــ طــرفــ فــيــه. هـذا الحلم، إن كان على حسابهم، سيتحطم». لم يكن قلقه املزمن الذي لوّن خطابه نتاج يقينه بالفشل الكارثي للحلم األميركي فحسب، بل وأيضًا جزعه من ذلك العجز الجمعي للشعب األميركي عـن التعامل مـع تلك الـكـارثـة. فأي بــصــيــرة تـــلـــك، وأي جـــســـارة عــلــى تـوصـيـف الظالم. جــمــع بـــالـــدويـــن إلــــى مــوهــبــتــه األدبـــيّـــة الـظـاهـرة، ولغته املضيئة كما بــلّــور صــافٍ، قـــــدرة بــــتّــــارة عــلــى اســتــكــشــاف أوجــــــاع نــاس املـــجـــتــمـــعـــات املــــعــــاصــــرة، واســـتـــقـــامـــة تــفــوق مجرد الصراحة في استدعاء مواضع الخلل املتوارية، وطرحها بكل عريها املخجل على العلن. لقد كان شخصية قلقة بامتياز، ولكن أيـضـ مُــقْــلِــقـة ومـخـلّــة بـالـسـ م الــخــادع الـذي يــتــظــاهــر الــبــعــض بـــه حــفــاظــ عــلــى أوضــــاع قائمة ملجتمع غارق حتى أذينه في لجة وهم الرضا عن الذات. إن فــلــســفــة بـــالـــدويـــن األثــــيــــرة الـــعـــابـــرة ملجمل تراثه األدبي كانت دائمًا وحدة املصير الـبـشـري بحكم اإلنـسـانـيـة املـشـتـركـة، ولـذلـك كـــان يـــرى أن مـهـمـة املـثـقـف املـــبـــدع ال تبتعد عـــن نــطــاق اكــتــشــاف حـــر ملــســاحــات الـقـواسـم املشتركة - على الرغم من وجود االختالفات الــتــي ينبغي عــنــده أن تــكــون مــصــدرًا إلثـــراء االتــــصــــال بــــ الـــبـــشـــر، ال أســــاســــ لــخــنــقــه - ليخلص إلــى أن الـعـائـق األســاســي أمـــام تلك املـــهـــمـــة فــــي حـــالـــة املــجــتــمــع األمـــيـــركـــي جـن أخـ قـي ترسّخ في القطاع األبيض منه ولم يَــعُــد يَــسـهُــل اقــتــ عــه. عـلـى أن هـــذا التخلي، وفــق بـالـدويـن دائــمــ ، ال يُــلـحـق فـقـط أضـــرارًا مدمرة بنفسيات األفروأميركيني الذين تنكر عليهم إنسانيتهم، وإنـمـا تسقط األميركي األبـــيـــض أيـــضـــ فـــي هـــاويـــة مـــن االسـتـحـقـاق الظالم، وفـقـدان الحس اإلنساني األساسي، والتناقض القاتل. انخرط بالدوين شابًا بالقراءة، ويبدو أنه لجأ إلى األدب واألفـ م واملسرح لتجاوز بيئته الفقيرة القاسية وهـربـ مـن إغـــراءات الجريمة واملخدرات التي تفشت بني الشبان األفـــروأمـــيـــركـــيـــ بـحـكـم الـــواقـــع املــوضــوعــي لظروف عيشهم حينئذ فئة منبوذة. وكانت له في بداياته اهتمامات دينية تأثرًا بزوج والــدتــه الــواعــظ اإلنـجـيـلـيّ، لكنه ســرعــان ما بدأ، مع تفتح وعيه السياسيّ، بالتشكيك في منطق قبول السود للمبادئ املسيحية، التي استخدمت - في توظيف فج - الستعبادهم. لكن تجربته في أجـواء الكنيسة كانت مهمة كـــي يــــدرك أن لــديــه سـلـطـة كـمـتـحـدث ومَــلَــكـة كــخــطــيــب، ويــمــكـنــه الــتــأثــيــر عــلــى حــشــد من املستمعني. بـــعـــد فــــتــــرة وجــــيــــزة عـــلـــى تـــخـــرجـــه مـن املــــدرســــة الــثــانــويــة بـــدايـــة أربــعــيــنــات الــقــرن املـــاضـــي، اضــطــر بــالــدويــن إلـــى الــعــثــور على عمل للمساعدة فـي إعـالـة إخـوتـه وأخــواتــه، بعدما أعجز املـرض زوج والدته، لكن قناعة تـــكـــونـــت لــــديــــه بـــــأن مــســتــقــبــلــه ســـيـــكـــون فـي الـكـتـابـة، فانطلق يـدبّــج روايـــة بينما يجمع قــلــيــ مــــن الــــــــــدوالرات بــالــعــمــل فــــي وظـــائـــف بسيطة ومؤقتة إلى أن التقى ملهمه األديب ، الذي تدبّر له أمر 1944 ريتشارد رايت في عام الحصول على زمالة يوجني إف ساكستون كـــي يــتــفــرّغ لـلـكـتـابـة. ومــــع أن بـــالـــدويـــن بــدأ يــتــلــقــى نـــوعـــ مــــن االعـــــتـــــراف بــمــوهــبــتــه مـن خـ ل قبول نصوص منه للنشر في مجالت مهمة، فإنه وبشكل متزايد شعَر باالختناق والـغـربـة عـن املـنـاخ االجتماعي املسموم في الـواليـات املتحدة حينئذٍ، لينتهي به الحال إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث تكفلت 1948 أمـــوال زمـالـة أخـــرى حصل عليها عــام بتكاليف سـفـره، وفيها نشر روايـتـه األولــى )1953( » «أعـــلِـــنـــوا مـــولـــده مـــن فــــوق الـــجـــبـــل ومـعـظـم أعـمـالـه الـتـالـيـة. ويـشـعـر معظم من عرفوا بالدوين أن هذا االنتقال عبر األطلسي كان جذريًا في مسار تطوره الفكري واألدبيّ، وفهم ذاته كأفروأميركي ينحدر من أسرة من املستعبدين تصادف أنه امتلك ناصية أدوات التعبير. أمضى بالدوين األربـعـ عامًا التالية مـــتـــنـــقـــ فــــي أرجــــــــاء أوروبــــــــــا؛ حـــيـــث تـــعـــرّف عــلــى أشـــهـــر مـثـقـفـيـهـا، مـــع زيـــــــارات قـصـيـرة لـلـواليـات املـتـحـدة لـقـضـاء بـعـض الــوقــت مع عـائـلـتـه الــكــبــيــرة، واملـــشـــاركـــة فـــي املــؤتــمــرات األدبـيـة املهمة كما نشاطات حـركـة الحقوق املـدنـيـة، فـكـان شـاهـدًا على مسيرات الحركة ) ومونتغمري 1963( الشهيرة في واشنطن ) وغيرهما. لكن االغتياالت التي طالت 1965( أصـدقـاءه مـن الـقـادة األفروأميركيني السود خـــ ل سـتـيـنـات الـــقـــرن الـعـشـريـن املـضـطـربـة (مــــدغــــار إيــــفــــرز، ومـــالـــكـــولـــم إكـــــس، ومـــارتـــن لوثر كينغ االبــن) أنهكته عاطفيًّا، وتسببت بمرضه؛ ليقصد، بداية السبعينات، جنوب فرنسا سعيًا للتعافي. اشـــتـــرى بـــالـــدويـــن مـــنـــزال لـــه فـــي سـانـت بـــول دي فينس الـخـ بـة عـلـى أطــــراف جبال نوفمبر (تشرين 30 األلـــب، وتـوفـي فيه يــوم ، بعد معركة قصيرة خاسرة 1987 ) الـثـانـي مع سرطان املعدة. وقد دفن تاليًا في مقبرة فيرنكليف بـنـيـويـورك، وأقــيــم لــراحــة روحــه قـــــداس مــهــيـب شـــاركـــت فــيــه عــائــلــتــه ورمــــوز الثقافة األفروأميركيّة، وكتب أحدهم - أوردي كـــومـــبـــس - فــــي رثــــائــــه: «ألن بـــالـــدويـــن كـــان موجودًا معنا، شعرنا أن املستنقع العنصري الـذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حني أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على األقل، أعطانا الذخيرة الالزمة ملواجهة ما كنا نعرف أنه سيظل عاملًا عدائيًا ومتعاليًا». «طـــبـــاطـــيـــب الــــعِــــبَــــر» (أو «حـــكـــايـــات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب املصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُــنــســى، بـــل يـعـيـش فـــي الـــذاكـــرة طــويــ ً، كما عاشت شخوصه وأحــداثــه فـي ذاكــرة الكاتب طويال تُلح عليه أن يخرجها إلى الــنــور. هــو كـتـاب فــي حــب الـبـشـر، خاصة أولـــئـــك املـسـتـثـنـ مـــن حـــب بـقـيـة الـبـشـر. يـبـحـث الـرحـيـمـي عـــن قـــاع املـجـتـمـع، فـــإذا مــا وجـــده راح ينبش فـيـه عــن قـــاع الـقـاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنـى منها. عن الطبقة التي أقصاها املجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فال يراها بشرًا وال يعدّها من جنسه، حتى نسيت هي أيضًا بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفرادًا منها، ويكشف لنا أنــهــم مثلنا تـمـامـ وإنــمــا طحنتهم قـوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الــكــاتــب مـــن قـــاع الـــقـــاع ويـغـدق عليهم من فيض روح مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم املجتمع والتاريخ. يكتب الرحيمي عن الريف املصري في شـيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يـكـتـب عـــن الـــريـــف الــــذي نــشــأ فــيــه قــبــل أن يــنــزح إلـــى املـديـنـة ويـكـتـب عــن الـتـحـوالت الهائلة التي أملت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضًا عما سمعه صــغــيــرًا مـــن األجـــيـــال األســـبـــق. يـكـتـب عن بؤس الفالح املصري في العصر اإلقطاعي وخــــاصــــة عــــمّــــال «الـــتـــمـــلـــيـــة»، املـــعـــروفـــ أيـــضـــ بـــعـــمـــال الـــتـــراحـــيـــل، والـــــذيـــــن كـتـب عنهم يـوسـف إدريــــس فــي قصته األشـهـر 1952 )، وعن مجيء ثورة 1959( » «الحرام واإلصــــ ح الــزراعــي الـــذي طــال الكثيرين، لـكـنـه أغـــفـــل «الــتــمــلــيــة» أو هـــم غــفــلــوا عن االنتفاع منه ألنهم كـانـوا مسحوقني إلى حـد ال يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في املجتمع وأنـه يمكن لهم االنـــتـــفـــاع مــنــهــا. يــكــتــب أيـــضـــ عـــن سـائـر الـتـحـوالت الـتـي جــرت فـي الـريـف املصري 1952 بعد انتهاء الـدور اإلصالحي لثورة والـنـكـوص عـن إنـجـازاتـهـا املجتمعية في عــصــري الـــســـادات ومـــبـــارك، حـتـى لــم يعد الـــريـــف ريــفــ وتـقـلـصـت الـــزراعـــة واخـتـفـت املـحـاصـيـل ومــواســمــهــا الــتــي مـــن حولها نــشــأت تـقـالـيـد الـــريـــف املـــصـــري الحياتية وقيمه األخالقية التي دامت قرونًا طويلة حتى اندثرت تدريجيًا في العقود القليلة املاضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا». يتجول الكتاب بني األماكن واألجيال واألزمــنــة واملــوضــوعــات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائمًا قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة ملصر كلها. تصبح رمـــزًا للثابت واملـتـحـول، أو بـــاألحـــرى لـلـثـابـت الـــــذي تـــحـــوَّل إلــــى غير عـــودة بـعـد قـــرون وقــــرون مــن الـثـبـات، وال يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّل إلى األفضل أو األسوأ. فاألمران ممتزجان، ولــــيــــس الــــنــــص إال مــــحــــاولــــة الســـتـــرجـــاع األنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية الــتــي ضــاعــت إلـــى األبــــد ضـمـن الـتـحـوالت االجــتــمــاعــيــة والــســيــاســيــة واالقــتــصــاديــة القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب. مـــا نــــراه فـــي هـــذا الــكــتــاب هـــو نـمـاذج عديدة آلالم التحول ولكن أيضًا ألفراحه. نـــمـــاذج لــلــعــام حـــ يـقـتـحـم حــيــاة األفــــراد فـــيـــرفـــع مــــن يـــرفـــع ويـــخـــفـــض مــــن يـخـفـض ويـــعـــيـــد تــشــكــيــل مــــا يُـــســـمـــى بــاملــجــتــمــع. يـخـبـرنـا الــتــاريــخ املــعــاصــر بــحــرب اليمن الفاشلة ضمن مـشـروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات الـــقـــرن املـــاضـــي، لـكـن هـــذا الــنــص يشعرنا بــمــأســاة مـجـنـدي الــقــريــة مـثـل «املـسـكـ » وآالف أمـثـالـه الــذيــن ذهــبــوا ولـــم يرجعوا ليحاربوا حربًا ال يفهمون لها سببًا في بلد لم يسمعوا به قبالً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضًا عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف اإلسرائيلي .1967 عــبــر قــنــاة الــســويــس عــقــب هــزيــمــة لـكـن الـكـتـاب الـــذي بــ أيـديـنـا فــي الفصل املعنون «املهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك املهاجرين (أو املُهجَّرين كما عُرفوا وقـــتـــهـــا فــــي تــســمــيــة أصـــــــحّ) لـــــدى وصــــول بـعـضـهـم لـلـعـيـش فـــي قـــريـــة «الـــدراكـــســـة» بـعـيـدًا عـــن الــخــطــر. لـكـنـه أيــضــ هـــو الـــذي يـريـنـا قــــدرة املــهــاجــريــن عـلـى الـتـأقـلـم مع الــظــرف الــجــديــد، ويـريـنـا الــــروح املـصـريـة األصيلة وقت األزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي املـكـث خير إكــــرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن األثر الــتــمــديــنــي الــعــمــيــق الـــــذي مـــارســـه هـــؤالء الـــضـــيـــوف اآلتــــــون مـــن مــديــنــة بـورسـعـيـد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية املعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إال وقد تغيرت عــــاداتــــهــــا الـــعـــريـــقـــة فــــي املــــأكــــل واملـــلـــبـــس واملــــشــــرب والـــســـلـــوك االجـــتـــمـــاعـــي. هــكــذا تختلط املآسي واملنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب. يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هــل هــو تسجيل لـتـاريـخ شـفـهـي؟ هــل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسـة أنثروبولوجية عفوية تخففت مــن املـنـاهـج والتقعر األكــاديــمــي؟ هــل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئًا يصهرها معًا في كلٍّ؟ األرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نــتــاجــ لـلـعـاطـفـة االســتــرجــاعــيــة الـكـامـنـة وراءه والــتــي كـــان مــن الـصـعـب أن تُــصـب فــي قـالـب جـامـد أو تسلسل زمــنــي، وكــان ال بــد أن تكتب فـي هيئة زخـــات شعورية مـتـبـاعـدة. مـرونـة الـسـرد هــذه هـي نفسها الــتــي تـجـعـل الــكــتــاب فـــي بــعــض املــواضــع يلتحق برومانسية محمد حسني هيكل فــي روايـــتـــه الـشـهـيـرة عــن الــريــف املـصـري ؟)، بـــيـــنـــمـــا فـي 1914 ؟1912( » «زيــــــنــــــب مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب ) لــتــوفــيــق الـحـكـيـم 1937( » فــــي األريـــــــــاف وبــالــتــصــويــرات الــواقــعــيــة لــكــتّــاب الــريــف اآلخـــريـــن، أمــثــال عـبـد الـرحـمـن الـشـرقـاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى األخص يوسف إدريس الذي ال أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبيًا وفكريًا على الرحيمي. على أنني ال أظن أني قرأت عن الريف املصري كتابة تغرق مثل هذا اإلغراق في فـنـون املــدرســة الطبيعية «الـنـاتـورالـيـة» الـتـي تــجــاوز تقنياتها تقنيات املـدرسـة الواقعية، فال تترك تفصيال من تفاصيل الــبــيــئــة إال ذكــــرتــــه ووصـــفـــتـــه مــهــمــا بـلـغ مـن قـــذارة ومهما كــان مـقـززًا ومهما كان خــــادشــــ لـــلـــحـــيـــاء ومـــهـــمـــا كــــــان فــاضــحــ لـــلـــنـــفـــس الــــبــــشــــريــــة ولـــلـــجـــســـد الـــبـــشـــري ومـخـرجـاتـه. كــل شـــيء هـنـا بـاسـمـه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل املثال ال الحصر الفصل املعنون «روائــح القيظ الـقـديـمـة»). هــذه كتابة غير مُــراقَــبـة، غير مـهـذبـة وال مـنـمـقـة، ال تــحــاول أن تحمي القارئ وال تراعي نعومته وترفه املديني أو الطبقي وال يعنيها أن تـمـزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس املُرفَّه وتحريك الضمير املٌـــــــخـــــــدَّر وتــــولــــيــــد اإلحــــــســــــاس بـــالـــذنـــب لـــــدى املــجــتــمــع الـــغـــافـــل عــــن أبـــنـــائـــه وعــن الثمن الــفــادح الـــذي يدفعه جـنـود الريف املجهولون من أجـل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه ووالئه للريف. غير أنني أيضًا ال أظنني قــرأت منذ يوسف إدريـــس كتابة عـن الـريـف املصري تـــتـــســـم بــــهــــذا الــــفــــهــــم املُـــــــشـــــــرَّب بــالــعــطــف اإلنـسـانـي. إال أن ثمة فــارقــ . كــان إدريــس يـــكـــتـــب عـــــن ريــــــف مـــــوجـــــود فـــلـــم يـــكـــن فـي كتابته حـنـ ، أمــا هنا فنحن أمـــام كتابة اســــتــــرجــــاعــــيــــة، كـــتـــابـــة عـــــن ريــــــف ونـــــاس وعــــادات وقـيـم مـا زالـــت فـي الــذاكــرة لكنها لم تعد في الواقع املعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضًا بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الـذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائـحـه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصـــــــوات بـــشـــره وحـــيـــوانـــه ونــــــرى جـمـالـه وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثال وفي سائر الكتاب. يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، ال يعنيها التأنق املصطنع ألن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بني الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة املدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج املتأمل لطفولة املاضي، ويـحـلّــق بــك عـنـد الـطـلـب مــن سـهـول النثر إلى مرتفعات الشعر. فـــي هـــذا الــكــتــاب الـسـهـل املـمـتـنـع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، املـــتـــأمـــل فــــي الــــريــــف وتــــحــــوالتــــه، واملـــــآن بالعطف على اإلنـسـان وسـائـر الكائنات، عـلـى الــتــرع والـحـقــول واألشـــجـــار، تنضح الـصـفـحـات بــالــحــزن عـلـى الــحــيــوات الـتـي ذهبت بـددًا، واألجيال التي لم تجرؤ على األمل. إن كانت أتراحها وآالمها - وأحيانًا أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها. جيمس بالدوين ... وغالف روايته «بلد آخر» ندى حطيط رشيد العناني يتجول الكاتب بين األماكن واألجيال واألزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائما قريته «الدراكسة» إن فلسفة بالدوين األثيرة العابرة لمجمل تراثه األدبي كانت دائما وحدة المصير البشري بحكم اإلنسانية المشتركة

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==