issue16707

الثقافة CULTURE 17 Issue 16707 - العدد Sunday - 2024/8/25 األحد الكاتب الليبي يقتفي أثر الماضي عبر «شهر في سيينّا» هشام مطر يروي بسيرة الفن والفقد والمواساة قـبـل أن يعبر هـشـام مـطـر بـقـارئـه إلـــى ضفة مدينة سيينّا اإليطالية، يستهل السطور األولى من كتابه «شهر في سيينّا» بإيماءة تحية لوطنه الليبي بما يحيلنا إلـى الكتابة السيّرية التي ال تُغادر مشروع األديب الليبي البريطاني، فترافقه أينما حل «ليبيا» التي عرفها طفالً، قبل أن يقطع طريقه في الغربة وينتهي به املطاف للعيش في لــنــدن، وبـعـد ثـ ثـة عـقـود مــن الـغـيـاب يـعـود إلـى مــوطــنــه بـحـثـا عـــن والـــــده املــفــقــود بــهــا، فــالــعــودة لـم تكن فقط عـنـوان سيرته الـذاتـيـة، لكنها ثيمة مركزية في أعماله، وليبيا هي «نقطة االنطالق التي منها سافر أبعد وأبعد»، كما يقول في مطلع كتابه الجديد. صـــــدر الـــكـــتـــاب أخــــيــــرًا عــــن «دار الــــشــــروق» بـــالـــقـــاهـــرة، بـتـوقـيـع املــتــرجــمــة الــعــمــانــيــة زويــنــة آل تــــــويّــــــة الـــــتـــــي تــــرجــــمــــتــــه عــن اإلنـجـلـيـزيـة، وفـيـه يقطع هشام مـــطـــر مــــع قــــارئــــه أمــــيــــاال طــويــلــة مـن املـسـافـات الجغرافية صوب مدينة سيينا اإليطالية، ويُحلّق خــــ ل رحــلــتــه بــهــا فـــي مـتـاهـات يـــبـــحـــث فـــــي غــــبــــارهــــا عـــــن الـــفـــن والحب واملـواسـاة والفقد، وهي تأمالت ال تخلو من طيف الوطن الــلــيــبــي الـــــذي تــنــثــال ذكــــــراه في محطات الرحلة التي يقتنصها مــــن الــــزمــــن، ويــــقــــرر الـــقـــيـــام بـهـا بـعـد ســنــوات مــن افـتـتـانـه بالفن الـسـيـيـنـي، الــــذي يـشـيـر مـؤرخـو الـــفـــن إلـــــى انـــتـــمـــائـــه لــلــفــتــرة مـن القرن الثالث عشر حتى الخامس عشر ويمثل مرحلة فنية خاصة تفصل بني الفن البيزنطي وفنون عصر النهضة، أو كـمـا سـيُــقـاربـهـا هــشــام مـطـر بـــصـــورة بالغية فيقول إن الفن السييني: «مثل األوركسترا التي تُدوزن أوتارها في وقت االستراحة». انفعاالت فنية مبكرة قـبـل أن يـصـل هــشــام مـطـر إلـــى قـلـب مدينة سـيـيـنـا، تـحـديـدًا سـاحـتـهـا األشــهــر «إل كـامـبـو»، يـكـون قـد شـــارك مـع قـارئـه رحـلـة افتتانه املُبكرة بمطالعة الـفـن، الـــذي تسلل الشغف بـه إلــى قلبه منذ كان طالبا في لندن لم يتجاوز العشرين من العمر، فيتذكر كيف كان يزور «املعرض الوطني» بلندن يوميا خالل فترة استراحته للغذاء ليتوقف كل يوم أمـام لوحة واحـدة، وأن التفاته املبكر في هذا الوقت ألعمال املدرسة السيينية لم يكن مجرد إعــجــاب بـلـون فـنـي بـقـدر مــا كـانـت تتكثف حيال لـوحـاتـهـا مـشـاعـر ظــلّــت تعتمل بــداخــلــه، ويعبر عنها فـي كتابه وكأنما يصف بها توتر عالقته بحبيبة قديمة، فيقول: «في البدء لم أعرف كيف أقـاربـهـا»، يتحدث كيف أن التحديق املباشر في لوحات املدرسة السيينية كان يمثل بالنسبة له تحديا في ذاته، ربما لغموضها، أو لغرابتها عن أعـمـال كــان يهتم بها فـي تلك املرحلة مـن حياته كـلـوحـات ســيــزان ومـانـيـه عـلـى سبيل املــثــال، أمـا اللوحات السيينية بما كانت تحمله من شفرات ورمـــوز مسيحية فكانت تجعله يشعر أنــه «غير مستعد» ملقاربتها بعد، وهي مشاعر ربما كانت تحمل وعدًا منه بالعودة لها من جديد، ولكن هذه املـرة بزيارة ملوطنها وبيتها األصلي في سيينا اإليطالية. لـــم يـكـن تـطـويـر الــذائــقــة الـفـنـيـة هـــو السبب الــوحــيــد الـــــذي كــــان يــدفــع مــطــر لــبــنــاء عـــ قـــة مع األعــمــال الفنية منذ كــان طالبا فـي لـنـدن، وإنما كـــانـــت تــجــمــعــه آصــــــرة شــــديــــدة الـــذاتـــيـــة فــــي تـلـك الـعـ قـة، الـتـي بــدت عـ قـة سـلـوان ومــواســاة بعد صـــدمـــة اخــتــفــاء والــــــده، الـــــذي اخــتُــطــف فـــي عهد القذافي وزُج به في طائرة من القاهرة إلى ليبيا حتى اختفى أثــره، فـذاب بها كما يـذوب امللح في املــــاء، وهـــي مـشـاعـر يـسـتـدرجـهـا هــشــام مـطـر من ذاكــــرتــــه، لــيــرســم بــهــا نــصــا مـــوازيـــا لـــزيـــارتـــه إلــى ســيــيــنــا، ويـــتـــرك مـــن خــ لــهــا شـــهـــادتـــه عـــن الـفـن كمالذ. ظل الفن السييني الـذي يطالعه هشام مطر عـبـر الـنـمـاذج املـعـروضـة لـه فــي املـتـحـف الوطني بلندن، كلوحة دوتشو دي بوننسينيا الشهيرة «شـفـاء الـولـد املـولـود ضـريـرًا» يثير لـديـه الرغبة عاما، 25 والحلم بـزيـارة سيينا على مــدار نحو حـتـى بـاتـت تـلـك املـديـنـة اإليـطـالـيـة تحتل داخـلـه «تـبـجـيـ مـرتـبـكـا كــالــذي يـشـعـر بــه املــؤمــن وهـو يتجه نحو مكة أو رومـــا أو الــقــدس»، كما يقول في كتابه، وبهذا االرتباك، وبكثير من االشتياق، يـقـطـع الـطـريـق لـتـلـك املـديـنـة الــتــي تحتضن تلك الحقبة العتيقة من تاريخ الفن. قلب المدينة المُتقّد يـــــجـــــوب الـــــكـــــاتـــــب دروب مــــديــــنــــة ســـيـــيـــنّـــا بـدهـالـيـزهـا ومـمـراتـهـا الـقـديـمـة، سـاعـيـا لتلمس نـبـضـهـا الـــخـــاص، فــهــي تــوحـــي لـــه بــوجـــه هـــادئ يُــخـفـي قـلـبـا مُــتــقــدًا، يــرســم مـعـاملـهـا عـلـى امــتــداد صفحات كتابه، فـ يمكن قـــراءة انطباعاته عن لــوحــات املــدرســة السيينية بـمـعـزل عــن هوامشه عــن املــديــنــة، الــتــي يــبــدو كــل مــا فـيـهـا مــن مـعـالـم، وبشر متفانني فـي العناية بــاألغــراب، والتدقيق فـي تفاصيل الـحـيـاة، ينبع مـن «عـــادة سيينية» أصيلة، على حد وصفه. إلــــى جـــانـــب اعــتــمــاد هـشـام مــطــر عــلــى الــكــتــابــة الـــذاتـــيـــة في مقاربة رحلته إلـى سيينّا، فهو يضفر سرده بالحوارات العفوية الـتـي جمعت بينه وبــ زوجته ورفـــيـــقـــة رحـــلـــتـــه «ديـــــانـــــا» الــتــي يُـــهـــدي إلــيــهــا الـــكـــتـــاب، وأضــفــت أحاديثهما في الفن والتقاطهما تـــفـــاصـــيـــل مــــن داخـــــــل الـــلـــوحـــات طابعا حـواريـا يزيد مـن تعميق قـــــراءة الـــلـــوحـــات، ومـــنـــح الـنـص كــثــيــرًا مـــن الـحـمـيـمـيـة، ال سيما الــــتــــقــــاطــــعــــات مــــــع ذكـــريـــاتـــهـــمـــا الـــخـــاصـــة الـــتـــي كـــانـــت تــجــددهــا مـــشـــاهـــدتـــهـــمـــا لـــكـــل لــــوحــــة عـبـر ملـحـة خــاطــفـة، والــنــظــرة للحياة مـــن خــــ ل تــلــك املــســافــة بـــ مـــا كـــانـــت عـلـيـه ومــا كـــــان يــمــكــن أن تــــكــــون، فــــي رابــــــط زمـــنـــي ال يـفـقـد تـراوحـاتـه وشجنه على مـــدار الـكـتـاب، ففي أحد املشاهد يسرح هشام مطر في املسافة بني املكان الـذي وقـف فيه في سيينا مع زوجته أمـام لوحة لـــورنـــزيـــتـــي «رمــــــز الـــحـــكـــومـــة الـــصـــالـــحـــة»، وبـــ لحظة تسبقها بــأعــوام، عندما هبط هـو وديانا فـي رومــا قـادمـ مـن طرابلس فـي أعـقـاب عودته إليها بعد أكثر من ثالثة عقود في املنفى، فيقول إنــهــا «مــــدة مـــن الـــزمـــن غــــدوت فـــي أثــنــائــهـا رجـــ وربما رجال مختلفا عن ذلك الرجل الذي كان من املمكن أن أكـونـه لـو بقيت فـي ليبيا (..) هنا كنا في سيينا، وروما، وطرابلس دفعة واحدة، وهنا كنا نرنو إلى وجهي العدالة وضحيتها في لوحة لــورنــويــتــي، وكــذلــك وجــهــي داوود وجـــالـــوت في لوحة كارافاجيو». يـــبـــدو هـــشـــام مــطــر فـــي جــولــتــه بـــ لــوحــات سيينا وكأنه يؤسس آصرة سردية مع اللوحات الـتـاريـخـيـة، فهو يتقاطع معها بخياله األدبـــي، فينظر مثال للوحة «مادونا دي فرانشيسكاني»، بــعــد أن يـضـعـهـا فـــي ســيــاقــهــا الـــتـــاريـــخـــي الـــذي قـــبـــل أن 1290 رســـمـــهـــا فـــيـــه دوتــــشــــو قــــرابــــة عـــــام يصبح فنان سيينا األعـظـم، فيتأمل هشام مطر تلك اللوحة وينظر إلى ثوب األم العذراء األسود الـــذي يُميط الـلـثـام عـن فـضـاء خـــاص، بهشاشته البائسة التي تُقارن بقوة ابنها العظيم، فيلتقط تلك اإلشـــارات من عمق حكايا اللوحات القديمة مــثــيــرة داخـــلـــه صــيــحــات مـــن اإللــــهــــام واملُــخــيــلــة، ومــقــاربــات لـكـيـانـه الـــوجـــودي كــذلــك، فعلى مــدار سـيـره فـي ثنايا سيينا وهــو يُــلـح عليه ســـؤاالن: «مـــاذا لـو وُلـــدت هـنـا، ومـــاذا لـو قُـــدر لـي أن أمـوت هـنـا؟»، ويـقـول إن هذين السؤالني هما التوأمان اللذان يتعقبانه في كل مدينة. صــدرت ترجمة «شهر فـي سيينا» للعربية بالتزامن مـع وصــول هشام مطر للمنافسة على جائزة «البوكر» البريطانية لهذا العام عن روايته الـــجـــديـــدة «أصـــدقـــائـــي» ضــمــن الــقــائــمــة الـطـويـلـة روايـــة باللغة اإلنجليزية، 156 للجائزة مـن بـ ومــــن املـــقـــرر إعـــــ ن الــقــائــمــة الــقــصــيــرة لــأعــمــال سبتمبر (أيلول) املقبل، 16 املرشحة للجائزة في ويأتي هذا الترشيح بعد أيام من فوز رواية مطر بجائزة «جورج أورويل» للكتابة السياسية لعام .2024 كـمـا سـبـق وفــــازت مــذكــراتــه «الـــعـــودة» التي تحدث فيها عن بحثه عن والده بأكثر من تتويج، أبرزها جائزة «بوليتزر» عن فئة السيرة الذاتية ، وأُدرجــــت روايــتــه األولـــى «فــي بلد 2017 فـي عــام الرجال» في القائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر» .2006 األدبية في عام القاهرة: منى أبو النصر من األجانب القالئل الذين أنصفوا العرب وقدّروا اإلسالم هل مات جاك بيرك مسلماً؟ حـيـنـمـا قـــــرأت نــعــي املــســتــشــرق أو قـــل املـسـتـعـرب الفرنسي جـاك بيرك في الصحف... وأنـه مـات على إثر نـوبـة قلبية داهـمـتـه وهــو فـي قـريـة ســان جـولـيـان «ون يـــورن» حيث كــان عاكفا على ترجمة أجـــزاء مـن السنة الـنـبـويـة الـشـريـفـة – شـخـصـت أمـــامـــي عـلـى الـــفـــور تلك اللحظات الـتـي قضيتها معه قبل سـنـوات قليلة حني زار الـريـاض في نهاية السبعينات امليالدية مستشارًا مـــن قــبــل بــضــع الـــجـــهـــات فـــي دراســــــة مــظــاهــر الـتـغـيـيـر االجتماعي التي حدثت فـي بـ دنـا بعد حــدود الطفرة النفطية في منتصف السبعينات. كـــنـــت قــــــرأت لــــه بـــعـــض الـــــدراســـــات حـــــول الـــتـــاريـــخ االجـتـمـاعـي والـسـيـاسـي فــي املــغــرب الــحــديــث، وحـركـة الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي ضد االستعمار، وكذلك فقد كان كتابه الذائع الصيت «العرب من األمس إلى الغد» طاغي الحضور في األوساط العربية املحتفية بجاك بيرك فرنسيّا درس حضارة اإلسالم وحياة العرب املعاصرين في املغرب العربي ومصر... بحب موضوعي األسلوب، وله في ذلك كتابان شهيران. وكــــان حــضــوره طـاغـيـا ألنـــه مــن األجـــانـــب الـقـ ئـل الـذيـن أنصفوا الـعـرب وقــــدّروا اإلســــ م... وألنـــه كــان ذا نــزعــة آيـديـولـوجـيـة مـنـاهـضـة لـ سـتـعـمـار والـتـغـريـب، فقد جـاء إصـــراره فـي معظم مـا يكتب على أن الصيغة املناسبة لفك اشتباك الهوية بني األنا واآلخر في العالم العربي واإلسالمي هي إحياء إسالم عصري. ولم يكن قول بيرك هذا خطابا استهالكيّا يصرِّح بـه لـهـذه الصحيفة العربية أو تلك ليكسب مـزيـدًا من املكانة املزيَّفة في املجتمع العربي... ك َّ. إنما كان يقول ذلك عن فهم دقيق لخصائص املجتمع العربي الذي وُلِد م في قرية تابعة لوالية 1910 فيه. فجاك بيرك ولد سنة وهران الجزائرية حيث كان والده موظفا مدنيّا معروفا في اإلدارة الفرنسية املهيمنة على مـقـدرات الجزائر... ولكن هـذا لـم يمنع األب واالبـــن على الـسـواء مـن التأثُّر بخصال املجتمع العربي هناك... وبعد تخرجه األولي في مدارس الجزائر الفرنسية، ذهب وهو فوق العشرين موظفا ذا سلطة في املـغـرب... إ أن هـذا لم يمنعه من االحتكاك باملجتمع وهمومه وقضاياه، ولتعرفه على عقلية املجتمع املـغـربـي طفق يُثني ركبتيه فـي جامع القرويني أمام مشايخ املغرب ليدرس الفقه اإلسالمي... كـمـا يـؤكـد ذلـــك ألــبــرت حـــورانـــي فــي كـتـابـه األخــيــر قبل رحيله، وهو «اإلسالم في الفكر األوروبي». وقد أدهشني حقا وأنـا أسجل معه حـوارًا تلفازيا فـــي بـرنـامـجـي األول «الـكـلـمـة تـــدق ســـاعـــة» كـيـف أبـكـى جمهور قريته الفرنسية، وهـو يقرأ أمامهم - فـي لقاء أدبـــي - قـصـيـدة «أنـــشـــودة املــطــر» لـبـدر شـاكـر الـسـيـاب، فوجدهم متفاعلني مع صور القصيدة، التي استوحاها الـشـاعـر الـعـراقـي مــن طبيعة قـريـتـه جـيـكـور، ونهيرها الصغير (كما وجدته). ولـــنـــا هــنــا أن نــقــف بـــانـــدهـــاش وتــــســــاؤل وتـفـكـيـر مــن كـتـابـه عن 164 أمـــام مــا يـقـول حــورانــي فــي صفحة جـــاك بــيــرك: «إن كــتــابــات بــيــرك مـلـيـئـة فــعــ بـاملـشـاهـد واألصــوات، بالروائح واملـذاقـات، لقد تشرَّب هذا الرجل العالم العربي بكل جوارحه، إنه ال يُصادق ببساطة في كتبه، إنه شخص يُرى سائرًا في شوارع فاس الضيقة... عــيــنــاه مـنـخـفـضـتـان، ســـجـــادة الـــصـــ ة تــحــت إبـــطـــه... خـطـواتـه تنم عـن احـتـقـاره ملشاهد الـعـالـم مـن حـولـه... كــيــاســتــه الـــزلـــقـــة، أعـــصـــابـــه أعـــصـــاب أحــــد ســـكـــان املـــدن الـقـدامـى، حيلته كحيلة أحـد رجــال الحاشية القدامى، تعلقه باملخمل املستعمل للزينة والـحـصـى املنحوت في املنازل الرائعة، يجعله البطل املثقف لحضارة تعبر عنها جـيـدًا مـوسـوعـيـة رجـــل الـفـكـر، ومـــهــارة الـحـرفـي، ومتعة مآكلها». ويـــواصـــل ألــبــرت حـــورانـــي حـديـثـه عــن جـــاك بيرك مسترشدًا هنا بكتابه «عربيات» الذي هو كتاب سيرة م على الباحثة اللبنانية دنيز 1978 ذاتـيـة أمـــ ه سنة عكر، يقول حوراني: «هكذا يستحضر الجزائر التي عاش فيها طفولته بـاملـشـاهـد والــــروائــــح... ضـــوء مــا بـعـد الـظـهـر املـتـألـئ، رائــحــة (الـــبـــرانـــس) املــلــوثــة بـالـشـحـم، رائــحــة األفـــاويـــة، واملــــغــــرب بــطــبــقــهــا املـــلـــوكـــي، فـــطـــيـــرة الـــحـــمـــام والـــلـــوز (الـــبـــســـتـــيـــ )، مــثــل هــــذه االنـــطـــبـــاعـــات املــحــســوســة في كتاباته تصبح رموزًا لطبيعة الغرب املحددة، ولقبوله الخاص لها، ليس عنده شيء من فقدان السهولة، التي رسـمـت اتـصـال الـعـديـد مـن العلماء مـن الجيل السابق لجيله بالحقيقة اإلنسانية التي درسـوهـا، ببساطة - يقول جاك بيرك - إنني أذهب إلى البلدان العربية ألنني سعيد هناك». فـــي بـحـث لـلـمـسـتـشـرق الـفـرنـسـي روبـــيـــر مـنـتـران، كتبه بمناسبة زيارته لبعض الجامعات العراقية قبل سـنـوات حـول «االسـتـشـراق الفرنسي، أصـولـه، تطوره، آفـاقـه» طفق منتران يقدم عرضا بانوراميّا عـن تاريخ االســتــشــراق الـفـرنـسـي وظــــروف نــشــأة االســتــشــراق في الغرب عامة بعد الحروب الصليبية، وكذلك ذكر رموز االستشراق الفرنسي وأعمدته... ودور مدرسة اللغات الـشـرقـيـة واملـكـتـبـة الـوطـنـيـة الـتـي أنـشـئـت بـبـاريـس في بداية األمـر لـدراسـة واقـع الشرق املستعمر هنا وهناك في العالم اإلسالمي. حـ مــر روبـيـر مـنـتـران على هــذا كـلـه، لـم يتمالك مــن رمـــي بـعـض حــصــوات الـنـقـد فــي بــركــة االســتــشــراق الفرنسي التي اكتشف أنها تقف فـي مستوى تقليدي ساكن، رغم ما قدمته من خدمات إجرائية لدراسة التراث الــعــربــي واإلســـــ مـــــي... ولـــذلـــك فــهــو يــطــالــب فـــي بحثه الذي نشر في دوريـة «االستشراق» البغدادية الصادرة م بالخروج مـن مفاهيم 1987 فـي فبراير (شـبـاط) سنة االستشراق التقليدية، وذلك «بربط املوضوع (املدروس) بوشائج املجتمع العربي واإلسالمي، أي في البيئة التي عرف فيها هذا األدب والدته وانتشاره». وهـــــذا مـــا حــــدث فـــعـــ لـجـيـل املــســتــشــرقــ الــجــدد في فرنسا، الذين واكـبـوا حركة املتغيرات االجتماعية والسياسية في العالم العربي مؤخرًا، ومنهم جيل كيبيل وريــــان يـشـار وأولـيـفـيـه روا فــي دراســاتــهــم عــن تجربة اإلســـ م السياسي... غير أن اإلنـصـاف العلمي ينبغي أن يــرجــح شــيــخ املـسـتـشـرقـ الـفـرنـسـيـ املـعـاصـريـن جميعا «جاك بيرك»، فهو الذي خرج باملفهوم التقليدي للدراسات االستشراقية أو االستعرابية إلى آفاق جديدة حـــ تـــم ربــــط الـــظـــاهـــرة الــفــكــريــة واألدبــــيــــة بــجــذورهــا االجتماعية مـن خــ ل تخصصه كعالم اجـتـمـاع درس «التاريخ االجتماعية لقرية مصرية في القرن العشرين» حيث تطور هذا البحث إلى كتابه ذائع الصيت «مصر االستعمار والثورة». ويـذكـر الكاتب اللبناني حسن الشامي فـي مقالة بجريدة الحياة ملمحا مهمّا في هذا الجانب من حياة بـــيـــرك الــعــلــمــيــة، وهــــو املــتــعــلــق بـــــأول بــحــث نـــشـــره في م، فقد كان بعنوان «الوثائق الرعوية 1936 الجزائر سنة لبني مسكني». لهذا، فلم يكن مستغربا أن يتصاعد تفاعل بيرك باملجتمع الـعـربـي ودراســــة هـمـومـه وقــضــايــاه وفـكـره، فــــإذا بـــه يـعـكـف فـــي الـــســـنـــوات الــعــشــريــن األخـــيـــرة على إعداد ترجمة واسعة ومميزة للقرآن الكريم، أكملها في أخريات حياته، كشفت بعمق عن تعلق عاطفي وعقلي بكل مـا لـدى الـعـرب مـن فكر وحـضـارة وديـــن، شغل لب املستعرب الفرنسي الذي كان كما يقول ألبرت حوراني: «يتأبط سجادة الصالة في أزقة فاس». هل كان جاك بيرك مسلما؟ إنه سؤال يستحق اهتمام الدراسني، خصوصا أن الـرجـل أنهى حياته بـدراسـة مـصـدري الـديـن اإلسالمي الحنيف؛ القرآن الكريم والسنة النبوية. بل السؤال املحير الذي تم تجاهله... ملـــاذا أوصـــى جــاك بـيـرك بـدفـن نسخة مـن ترجمته للقرآن الكريم معه في قبره، رغم الحملة الشرسة التي طالت هذه الترجمة، من قبل بعض املسلمني، في الوقت الذي كان عاكفا على دراسة السنة النبوية في أخريات م؟! 1995 أيامه سنة كـمـا أنـــه أوصــــى بـــأن تـنـقـل مكتبته الـضـخـمـة من بيته فــي بـــاريـــس، إلـــى مسقط رأســـه فــي مـديـنـة فـرنـدة م. 1910 الجزائرية، حيث ولد هناك سنة محمد رضا نصر هللا جاك بيرك خرج بيرك بالمفهوم التقليدي للدراسات االستشراقية أو االستعرابية إلى آفاق جديدة بريشت في المسرح الخليجي صدر للباحث املسرحي ظافر جلود كـتـاب جـديـد عـن دائـــرة الثقافة بالشارقة بعنوان «بريشت في املسرح الخليجي... الــتــغــريــب وكـــســـر الــــجــــدار الـــــرابـــــع»، وهــو قـــراءة فـي الـعـروض املسرحية ملسرحيني خـلـيـجـيـ فـــي ضـــوء املـفـاهـيـم والــقــواعــد الـــتـــي أســســهــا بــريــشــت فــــي نــظــريــتــه عـن املسرح امللحمي. صفحة، 279 الـكـتـاب، الــذي يقع فـي يـــركـــز عــلــى الــتــعــريــف بـمـنـهـجـيـة املــســرح املـلـحـمـي كـمـصـطـلـح يـجـمـع بـــ نـوعـ أدبـيـ هما الـدرامـا وامللحمة، أي شكلي األدب املسرحي والسردي في عشرينيات الــــقــــرن املــــاضــــي، حـــيـــث يــنــفــصــل املـــســـرح امللحمي عن مفاهيم املسرح النوعية التي تـقـلـل مـــن قـيـمـة الـعـنـاصـر الــســرديــة على املسرح عبر تجسيدها في تمثيل حي. كـــمـــا يـــتـــطـــرق املــــؤلــــف إلــــــى تـــجـــارب املــــســــرحــــيــــ الـــخـــلـــيـــجـــيـــ خــــصــــوصــــا، والـــــعـــــرب عــــمــــومــــا، فـــــي مــــحــــاولــــة تـــنـــاول ومــــعــــالــــجــــة الــــقــــضــــايــــا الـــــراهـــــنـــــة شـــكـــ ومضمونا، في ضوء النموذج الذي يمكن التعلّم مـن تجربته واالقــتــداء بـه. وتعود أسباب اللقاء مع مسرح بريشت إلى أمور عـدة، منها أنه مسرح سياسي اجتماعي بامتياز، وأنه شكل فني جديد له حضور أوروبــــي كـبـيـر، ثــم تـوفـر تـرجـمـات أعـمـال بريشت املسرحية والنظرية إلى الفرنسية واإلنجليزية. ويشير املؤلف إلى أن نظرية املسرح امللحمي لبريشت قـد مـزجـت بـ تقاليد املـسـرح الغربي وجماليات الـشـرق، وهو املـــزج الـــذي جــدد املـسـرح الـغـربـي ومنحه أفقا جديدًا للتجريب، وأن هـدف بريشت هـو الـتـوصـل إلــى مـسـرح يـدفـع الجمهور إلى تغيير العالم بدال من تفسيره، وهذا أدى إلى تغيير املسرح نفسه. لقد تأثر املسرح العربي، كما يشير جلود، باملسرح امللحمي، كما في تجارب مخرجني مثل إبراهيم جالل وسعد أردش وعـــونـــي كـــرومـــي وفــــــؤاد الــشــطــي وصـقـر الرشود ومحمد العامري وحمد الرميحي وخـــلـــيـــفـــة الـــعـــريـــفـــي وعـــــمـــــاد الـــشـــنـــفـــري، ومــؤلــفــ مــثــل الــشــيــخ الـــدكـــتـــور سـلـطـان الـقـاسـمـي وعــبــد الــعــزيــز الــســريــع وسـعـد الله ونـوس وإسماعيل عبد الله وسامح مهران الذين أسهموا في تعزيز النظرية البرشتية بـمـحـاوالت راهـنـت على قــراءة واعية للمسرح امللحمي. الشارقة: «الشرق األوسط»

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==