issue16702

الثقافة CULTURE 18 Issue 16702 - العدد Tuesday - 2024/8/20 ًالثلاثاء عندما يُستخدم سلاحاً سياسياً فإن الأمور تصبح أكثر تعقيدا الضحك يتدخل في الحملة الانتخابية الأميركية مــــا الـــعـــاقـــة بــــن كــــامــــالا هـــاريـــس، وتـــرمـــب، وبـــودلـــيـــر؟ لـلـوهـلـة الأولـــــى لا شــيء، فمرشحا الانتخابات الأميركية شـخـصـيـتـان ســيــاســيــتــان، أمــــا بـودلـيـر فقد كــرّس حياته للكتابة. لكنّ الشاعر الـــفـــرنـــســـي دخـــــل بــصــفــة غـــيـــر مــبــاشــرة الحملة الانتخابية الأميركية، واستطاع أن يـفـسـر لــنــا بـنـظـريـتـه حــــول الـضـحـك وباستنتاج منطقي حجم الخطأ الذي ارتـــكـــبـــه تـــرمـــب وفـــريـــقـــه حــــن اخــــتــــاروا اســـتـــراتـــيـــجـــيـــة الــــهــــجــــوم عـــلـــى كـــامـــالا هاريس مستخدمي سلح «الضحك». الباحثة وأســتــاذة الأدب الفرنسي في جامعة «أكزيتر» البريطانية ماريا ســكــوت، شـرحـت فــي مـقـال بـمـوقـع «ثـي كنفرسيشن» يحمل عنوان «الاستهزاء بضحكة كــامــالا هــاريــس استراتيجية غير مضمونة وفقاً لبودلير»، أنـه كان مـــن المــــفــــروض عــلــى المـــرشـــح الأمــيــركــي وفريقه أن يقرأوا أعمال الشاعر الفرنسي تشارلز بودلير، ولو فعلوا لما اختاروا «الـــضـــحـــك» لـــلـــهـــجـــوم. صـــاحـــب ديـــــوان «أزهار الشر» يشرح الفكرة في محاولة نثرية عنوانها «جوهر الضحك» نُشرت ، يــمــيــز فــيــهــا بــــن الــضــحــك 1855 عـــــام الذي يهدف إلى السخرية والازدراء من أشـخـاص نعتقد أننا متفوقون عليهم (ضحك ترمب) والضحك الهزلي البريء الـــــــذي يـــــــؤدي إلــــــى نـــشـــر روح الــبــهــجــة والتعاطف (ضحك هاريس)، وقد شرح le ذلـك عبر مفهومَي «المُضحك العادي » و«المُضحك الهزلي comique ordinaire »، إذ كـتـب كأنه le comique grotesque يصفشيئاً رآه: «رجل ممدّد في الشارع، يتعثر على مدرج الطريق ويتسبب في سـقـوط تــاجــه. وعـلـى مـــرأى هـــذا الـرجـل المـلـقـى فـــي الـــشـــارع، يــبــدأ الآخــــــرون في الضحك». يستنتج بودلير أن الضحك هنا شّر وأنه تصرّف شيطاني وعلمة على الخطيئة الأصـلـيـة حتى إنــه كتب «الـــــرجـــــل الـــحـــكـــيـــم لا يــضــحــك إلا وهـــو يرتجف». ويــــــواصــــــل الــــشــــاعــــر مــــوضــــحــــ أن الــحــكــمــاء يــخــافــون مـــن الــضــحــك لأنـهـم يشعرون بـوجـود «تناقض ســـرّي» بي الحكمة والضحك، وأن المجاني وحدهم هـــم مـــن يــضــحــكــون، لأنـــهـــم لا يـــدركـــون ضعفهم ويـظـنـون أنــهــم عـظـمـاء. وكــان الضحك الـــذي يسميه بـودلـيـر «عـاديـ » قد نظّر له أيضاً الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. وهو الضحك الذي يثيره مشهد تعثر شخص ما وسقوطه. وما يــجــعــلــنــا نـــضـــحـــك، وفــــقــــ لــــهــــوبــــز، هـو الاعــــتــــراف بـــ«تـــفـــوقـــنـــا» عــلــى الـشـخـص الذي نراه يسقط. وقد تبنّى الفيلسوف الــفــرنــســي هــنــري بــرغــســون أيــضــ هــذه النظرة إلى الضحك في كتابه «الضحك» ). فبالنسبة إلـى برغسون، نحن 1990( نضحك على الآخرين عندما يتصرفون مـــثـــل الـــكـــائـــنـــات المــيــكــانــيــكــيــة، ونــفــعــل ذلــــك كـــنـــوع مـــن الـتـنـشـئـة الاجـتـمـاعـيـة: لـــتــشـــجــيــعـــهــم عــــلــــى أن يــــكــــونــــوا أكـــثـــر إنسانية. نـــظـــريـــة الـــتـــفـــوق تـــفـــســـر إذن لمــــاذا نــضــحــك عـــلـــى غـــبـــاء الآخــــريــــن أو عـلـى المــهــرّجــن، ومـــع ذلـــك، عـنـدمـا يُستخدم الــضــحــك ســـاحـــ سـيـاسـيـ فــــإن الأمــــور تصبح أكـثـر تـعـقـيـداً، إذ يـوجـب علينا الأخذ بعي الاعتبار نقطتي أساسيتي: أولاهـــمـــا الــعــاقــة المــركــبــة بـــن الـفـكـاهـة والتعاطف. فالروائي والكاتب المسرحي ســتــنــدال الــــذي قــضــى جــــزءاً مـــن حـيـاتـه مــــحــــاولاً كــتــابــة الــكــومــيــديــا، كــــان يجد صعوبة فـي كتابة شخصيات فكاهية لأنــهــا، كـمـا كـــان يــقــول، تثير التعاطف وتـمـنـع عـمـومـ مـشـاعـر الازدراء. وهنا المــــــفــــــارقــــــة: فــــالــــفــــكــــاهــــة تـــخـــلـــق روابـــــــط مــــن الـــتـــعـــاطـــف بــــن الأشــــخــــاص الـــذيـــن يـتـشـاركـون النكتة ويـضـحـكـون بينهم لكنّ الأشخاص أنفسهم لا يشعرون بأي تعاطف مع موضوع النكتة. ولكن ماذا يحدث لو أن الشخص موضوع النكتة يضحك بنفسه أيضاً كما هو الحال مع السيدة كامالا هاريس؟ في هذه الحالة قد يحّل التعاطف مع الشخص الضاحك مـحـل الازدراء. وبــعــبــارة أخــــرى، ترمب يريدنا أن نضحك على كـامـالا هاريس بغرض الاستهزاء بها ولكن ما يحدث هو أننا نضحك معها بدلاً من الضحك عــلــيــهــا. وهــــو مـــا يــشــرحــه بـــودلـــيـــر في «جــوهــر الـضـحـك» حــن يـكـتـب: «الممثل الـــذي يـقـع عـلـى خشبة المــســرح هــو أول من يضحك، ضحكة بريئة متفوقة، فهو قادر على أن يكون نفسه وشخصاً آخر في أن واحـد، هو مـدرك لوضعه لكنه لا يخشى أن يصبح مثيراً للضحك: يسقط الــرجـل فــي الــشــارع، فيستقيم وينفجر ضاحكاً، إنه رجل حكيم ساخر...». تـكـتـب الــبــاحــثــة مـــاريـــا ســكــوت في موقع «ثي كنفرسيشن»: أليست كامالا هـــاريـــس هـــي هــــذا «المُـــضـــحـــك الــهــزلــي» الـذي يتحدث عنه بودلير؟ تضحك مع الآخـــريـــن، لا عـلـيـهـم، كـمـا يـفـعـل تـرمـب. صحيفة «سلت» أكدت الفكرة في مقال بعنوان «القصّة وراء نكتة شجرة جوز الــهــنــد لـــكـــامـــالا هــــاريــــس» جــــاء فــيــه ما يلي: «كيف أصبحت نكتة شجرة جوز you think you just fell out of الـهـنـد متداولة بكثرة في شبكات coconut tree الــــتــــواصــــل؟ لا أحــــــد يـــعـــلـــم فــــعــــاً، لــكــنّ الطريقة (شبه المُحرجة) التي تروي بها القصّة والضحكة المدوية التي تختمها بـهـا قــد جلبت لـهـا بالتأكيد التعاطف ومزيداً من الأنصار. خصومها حاولوا اســــتــــغــــال الــــقــــصّــــة لــــاســــتــــهــــزاء بـــهـــا، لــكــنّ الـسـخـريـة الــذاتــيــة الــتــي اعـتـمـدهـا أنصارها قلبت السحر على الساحر»... وإذا كنا نستطيع الضحك مع الآخرين ولـــيـــس الــضــحــك عـلـيـهـم فـــهـــذا يــقــودنــا إلـــــى الــنــقــطــة الـــثـــانـــيـــة الـــتـــي تــنــتــج عـن اســـتـــعـــمـــال الـــضـــحـــك ســـاحـــ سـيـاسـيـ وهــــــي قــــــوة «الـــــفـــــرحـــــة»، هــــــذه الـــعـــبـــارة المتداولة بقوة في التعليقات السياسية والـرسـائـل الـتـي تــرد بخصوص ضحك كـامـالا هـاريـس، حتى أصبحت بمثابة الـعـمـود الـفـقـري لحملتها خـــال الأيـــام المـــاضـــيـــة. وإن لـــم تــكــن نــظــريــة بـودلـيـر حـول الضحك كافية، فـإن مراقبي كثراً قــــد لاحــــظــــوا أيـــضـــ أن وضـــــع الـضـحـك فــي قـلـب الـحـمـلـة الانـتـخـابـيـة بــن رجـل وامرأة يحمل في طياته مشاعر الازدراء وكره النساء والغرض منه التمييز بي ضحك الـرجـال «الـجـيـد»، الــذي يفترض أنـه محترم، وضحك النساء «السيئ»، غير الـائـق وغـيـر المـحـتـرم. شخصيات أدبـيـة كثيرة تطرّقت إلـى هـذا التمييز، وهـو مـا شرحته الباحثة المختصة في تاريخ الأدب سابي ملشيور بوني في كـتـابـهـا «الــنــســاء والــضــحــك» (دار نشر بـــوف) حـن قـالـت إن «الـضـحـك والـقـدرة على الإضـحـاك ظـاّ لفترة طويلة حكراً على الرجال، بل إن ضحك المرأة قد يبدو خـطـيـراً وعــامــة مــن عــامــات الــوقــاحــة، ونـــاقـــاً لـلـجـنـون والــهــســتــيــريــا». المــــرأة الــــتــــي تـــضـــحـــك كـــثـــيـــراً هـــــي إذن امــــــرأة «مــجــنــونــة»، وقـــد يــكــون هـــذا مـــا حـــاول ترمب إقناعنا به حي صـرّح في تجمع ميشيغان في العشرين من شهر يوليو (تــمــوز)، حـن قــال: «أنــا أسميها كامالا الــــضــــاحــــكــــة، هـــــل شـــاهـــدتـــمـــوهـــا وهـــي تـضـحـك؟ إنـهـا مـجـنـونـة. تـعـلـمـون أننا نستطيع معرفة الكثير من الضحكة. لا، إنها مجنونة. بالتأكيد إنها مجنونة». هـذا المنطق الـكـاره للنساء حاربه كثير مـــن الـشــخـصــيــات الأدبــــيــــة. فـمـارغـريـت دوراس، مثلً، تحدّت السلطة الذكورية في كثير من أعمالها مستعملةً الضحك والسخرية. ورأت فرجينيا وولـف، رغم المـــآســـي الــتــي مــــرّت بــهــا، فــعــل الـضـحـك خـاصّـيـة «تــحــريــريــة» وقـــد تـحـدثـت عن ذلـك فـي مقال رائــع نشرته فـي صحيفة بـعـنـوان «قيمة 1905 «الــغــارديــان» عــام الــضــحــك» تــقــول فـيـه إن الـضـحـك يفتح أعيننا لأنــه «يرينا الكائنات كما هي، مــــجــــردة مــــن زخـــــــارف الــــثــــروة والمـــرتـــبـــة الاجتماعية والتعليم». كامالا هاريس مارغريت دوراس فرجينيا وولف بودلير باريس: أنيسة مخالدي الضحكوالقدرة على الإضحاكظلّ لفترة طويلة حكراً على الرجال... بل إن ضحك المرأة قد يبدو خطيراً وعلمة من علمات الوقاحة عائلة خلاط تلخّص العلاقة بين المدينتين العربيتين حكاية مائة عام بينطرابلسوالإسكندرية عـــادةً مـا تتحول كتب نالت حظاً مـن الشهرة إلى أفـام، وهذا شائع. لكن نـادراً ما يكون المخرج أو كـــاتـــب الــســيــنــاريــو، فـــي طــــور جــمــع المـعـلـومـات والتصوير لفيلمه، فإذا به ينتهي إلى كتاب يسبق الشريط السينمائي، ويمهد له. لأسـبـاب لوجيستية، أبـصـر كـتـاب «طرابلس – الإســـكـــنـــدريـــة: مـــائـــة عــــام فـــي هـــجـــرتـــن» الـــنـــور، مستفيداً من مادة توثيقية لفيلم في طور الإعداد. وهـــو يـعـود بـنـا إلـــى مـرحـلـة تـمـسّ عــائــات كثيرة في بلد الشام، ترك أفـراد منها أوطانهم، وذهبوا إلــــى مــصــر بــاحــثــن عـــن فــــرص أفـــضـــل، ومــداخــيــل أوفـــر. الكتاب يُخبرنا بــأن هـــؤلاء «الــشــوام» كانوا فـــي غـالـبـيـتـهـم تـــجّـــاراً، أســـســـوا شـــركـــات، وحـقـقـوا نجاحاتٍ جعلت بعضهم يبقى في مهجره المصري، ولا يـتـذكّـر أولادهــــم مــن موطنهم الأصــلــي غـيـر ما رواه لهم الأهــل، والبعض الآخـر كـان يعود ليُنهي حياته ويُدفَن في أرض الأجداد. صـــاحـــب الـــكـــتـــاب إلـــيـــاس جــــاك خـــــاط، هو مـــؤســـس ومـــديـــر «مـــهـــرجـــان طـــرابـــلـــس لـــأفـــام» مخرج ومنتج، ولـه بـاع مـع القصص والحكايا والـسـيـنـمـا، لـذلـك لـيـس مـسـتـغـربـ ، أن يخطر له توثيق حكاية عائلته التي عاشت لأربعة أجيال، وطوال أكثر من مائة وخمسيسنة بي مدينتي. تشاء الصدف، أن يتلقى الكاتب اتصالاً تليفونياً من الإسكندرية، موضوعه عقار يعود لعائلته، لا يـــزال أمـــره معلقاً، منذ سـنـن، ولـحـلّ المشكلة تُكلّفه عائلته بالسفر، لإنهاء قضية الإرث هذه، خصوصاً أن الظروف باتت مهيأة. ومن اللفت أن الكاتب لم يكن قد زار المدينة التي عـاش بها أجــــــداده قــبــاً ســــوى مـــرتـــن، خــاطــفــتــن، للعمل وللمشاركة في أحد المهرجانات السينمائية، ولم تسنح له الفرصة، خللهما بالتعمق في ماضي العائلة، أو البحث عمّا خلّفه أجداده. لهذا نرى الكاتب يقوم بسفرات مكوكية طوال ثــاث ســنــوات، وقــد تـحـول خـالـهـا، مـن بـاحـث عن حـلّ قضية إرث قديم، إلـى نابش في الـجـذور، كأن الفرصة أتته من حيث لم يكن ينتظر، ليقتفي أثر أجداده في تلك البقعة التي كل ما فيها يبعث على الـــفـــضـــول. ثـــم يــتــحــول الــبــحــث عـــن جــــذور الـعـائـلـة وتتبع خطى الأجداد إلى رغبة أكبر تشمل محاولة فـهـم دور الـــشـــوام فـــي تـلـك المــديــنــة، ومَــــن بـقـي من العائلة هناك وانقطعت علقتهم بوطنهم الأم. ومـــن الــافــت أن أول مــا ســـأل عـنـه الـكـاتـب هو وجــــود مــدفــن مـــعـــروف لـعـائـلـتـه فـــي الإســكــنــدريــة، ليكتشف أن لها أربعة. وهكذا تتحول زيارة المدافن في حد ذاتها إلى رحلة استكشافية من نوع آخر، خــصــوصـ لــتــاريــخ طــائــفــة الـــــروم الأرثــــوذكــــس في الإسـكـنـدريـة. فغالبية الـشـوام دُفـنـوا فـي الـبـدء في مـدافـن يونانية (تأسست فـي نهاية الـقـرن الثامن عــشــر، قـبـل أن يـصـبـح الــيــونــانــيــون نـصـف سـكـان الإسـكـنـدريـة تقريباً منتصف الـتـاسـع عـشـر)، كما حـــال عـائـلـتـه، لــعــدم وجــــود مـــدافـــن لــهــا. وهــنــا في هــــذا المـــكـــان الـــــذي ســكــن إلـــيـــه أفـــــراد عــائــلــتــه، لمعت فــي رأســـه فـكـرة الفيلم الـوثـائـقـي الـــذي يحكي عن الهجرة، والنزعة الوطنية في زمن نهاية السلطنة العثمانية. «فيلم يبدأ بمدافن الإسكندرية، وينتهي فــي مــدافــن طــرابــلــس»، خـصـوصـ وهـــو يـاحـظ أن أسماء العائلت الموجودة على شواهد القبور في المدينتي، تكون أحياناً هي نفسها، بسبب هجرة البعض وبقاء باقي الأسرة في لبنان. الـكـتـاب صـــادر عــن «مـؤسـسـة شـاعـر الفيحاء ســـابـــا زريـــــق الــثــقــافــيــة»، ويـعـتـمـد عــلــى المـــصـــادر، والتوثيق، وإجـــراء المقابلت، للتأكد من الوقائع، وهــو بذلك أشبه ببحث جديد يضاف إلــى جهود كل أولئك الذين اهتموا بتاريخ الشوام في مصر. إضافةً إلى ذلك، يعقد الكاتب المقارنات، بي ظواهر ثقافية وحـضـاريـة، عاشتها طرابلس ومثيلتها فــي الإســكــنــدريــة، ويُــعــنــى بـشـكـل خـــاص بمتابعة التحديث العمراني، والـتـحـولات التي طــرأت على المـديـنـتـن مـنـذ نـهـايـة الــقــرن الـتـاسـع عـشـر. يلحظ الكاتب مـثـاً أن وســط مدينة الإسـكـنـدريـة حافظ، رغـــم كــل التقلبات السياسية والاقــتــصــاديــة، على تراثه المعماري القديم، عكس طرابلس التي تناولت عماراتها المعاول وهدم كثير من مبانيها القديمة، التي لو تُركت لكانت اليوم شبيهة بالإسكندرية. المــــقــــارنــــات لا تــنــتــهــي، فـــحـــن يـــصـــل إلـــــى الـــعـــقـــار، مــــوضــــوع الإرث، ويـــســـمـــع صـــــوت الأبــــــــواق ويــــرى الـبـسـطـات المـنـتـشـرة وســـط الـبـلـد، ويـسـمـع الباعة يدللون على بضاعتهم، يشعر أكثر بوجه الشبه بي المدينتي. المثير في الكتاب فعلً هو إصـرار هذا الحفيد على تتبع شـجـرة العائلة، صـعـوداً لثلثة أجـيـال، والـلـحـاق بتفرعاتها، يـقـوده البحث إلــى كنائس، ومكتبات بينها مكتبة الإسكندرية، ومراكز أبحاث، وأرشيف صحف ومجلت. يــجــد إلـــيـــاس خــــاط أن أربـــعـــة فـــــروع للعائلة هــاجــرت إلـــى الإســكــنــدريــة، ثــاثــة مـنـهـا ابـــتـــداءً من مـــنـــتـــصـــف الـــــقـــــرن الــــتــــاســــع عـــشـــر حـــتـــى مـنـتـصـف الـنـصـف الـثـانـي مـنـه، وفـــرع رابـــع هـاجـر فــي بـدايـة الـقـرن العشرين، وهـــؤلاء مـن الجيل الثاني. يرسم الـــكـــاتـــب بـــالأســـمـــاء وتــــواريــــخ المــــيــــاد، أســـمـــاء من هـاجـروا مـن عائلته وأبنائهم وأحـفـادهـم، ملحقاً سللاتهم. ويقوده البحث مستعيناً بكتاب «تراجم علماء طرابلس» لعبد الله نوفل، ليخرج عن إطار المـديـنـتـن وصــــولاً إلـــى تـركـيـا. وفـــي إسـطـنـبـول تم تـكـلـيـف بـــاحـــث مـتـخـصـص بــالــبــحــث فـــي أرشــيــف الدولة العثمانية عن العائلة، وبالتحديد عن أحد أفرادها ويُدعى نسيم، بسبب حيازته رتباً وألقاباً وأوسمة عثمانية. استُعملت كلمة «شـــوام» فـي مصر ابــتــداءً من الــقــرن الــتــاســع عـشـر لـــإشـــارة بـشـكـل أســاســي إلـى المسيحيي الـعـرب الـذيـن هــاجــروا مـن بــاد الـشـام، وكـــانـــوا فـــي غـالـبـيـتـهـم مـــن طـبـقـة ثــريــة ومـتـعـلـمـة، وأسهموا في انفتاح مصر على أوروبا. وجاء هؤلاء مـــن المــــدن الـسـاحـلـيـة لـلـبـنـان وســـوريـــا وفـلـسـطـن، وأقاموا في القاهرة والإسكندرية، المدينتي اللتي كانتا الأكـثـر انفتاحاً فـي عهد الـخـديـو إسماعيل. ثمة من هاجر من أجل الرزق، وهناك من رحل يبحث عن فسحة أكبر من حرية التعبير. وهناك من أقاموا طويلً وعادوا ليقضوا بقية أعمارهم في مدينتهم الأم، ومنهم من وُلــدوا مصريي وقضوا في مصر، ولم يحملوا يوماً الجنسية اللبنانية. وأسهم في اقتفاء أثـر آل خـاط بشكل خاص، أن بعضهم كانوا كتّاباً، ولهم مقالات في صحف، وتـركـوا خلفهم نصوصاً وقصائد، مما سهل فهم الكثير عنهم. ) مـــثـــاً (جـــــد الـــكـــاتـــب) 1910 - 1833( نــســيــم حـسـبـمـا كُـــتـــب، فـــي رثـــائـــه فـــي «المــقــتــطــف»: «عـــاش عضواً عاملً في جسم المجتمع وخدم دولته ووطنه بــمــا يُــخــلّــد ذكــــره الـــحـــســـن». ويــقــصــد بــدولــتــه هنا الدولة العثمانية، أمـا وطنه فطرابلس الشام. فقد كــان يسافر بـجـواز سفر عثماني. وقــد عـبّـر نسيم خـاط، نفسه في كتابه «سياحة في غـرب أوروبــا» عــن احـتـرامـه الكبير لـلـدولـة العثمانية. ويـــوم زار بـــاريـــس شـعـر بـــضـــرورة أن يــــزور «ســـفـــارة دولـتـنـا العليّة. فلما بلغتها قابلني سعادة غالب بك سر كاتب السفارة العارف العربية، وأدخلني على دولة السفير منير بك». وكتب نسيم قصيدة في مدينته وحنينه إليها يقول: سيري إلى الوطن المحبوب تاركة في قلبنا لهباً أزكى به الحسد سيري لأرض لها أرواحنا أبداً مرهونة الشوق حتى يرجع الجسد ويلقي الكتاب الضوء على الصلة التي بقيت تربط هؤلاء الشوام المهاجرين بأوطانهم من خلل رسالة مفتوحة وجّهها ديمتري خـاط، أحد أفراد الـعـائـلـة إلــى الـبـطـريـرك إلــيــاس الـحـويـك الـــذي لعب دوراً في تأسيس دولة لبنان الكبير، وهو في مصر. فقد كتب للبطريرك هذه الرسالة ونشرها في إحـــدى الـصـحـف المــصــريــة، عـبّـر فيها عــن قلقه من تفرق الكلمة والـنـزاعـات القائمة، وتمنى لـو يكون اتحاد تندغم فيه الطوائف المسيحية والإسلمية، وطـالـب بــضــرورة الــوحــدة بـن الـطـوائـف جميعها. وانتقد ديمتري حكومة لبنان، كونها أسندت أعلى المناصب فيها إلى ثلثة من الموارنة، مردداً شكوى الـقـائـلـن: «إن تـركـيـا كـانـت تميز المـسـلـمـن، فغدت فرنسا تميز الموارنة». بيروت: سوسن الأبطح

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky