issue16701

«المثقفونلا يكرهون بعضهم بعضاً فحسب، بللا يقبلون بهدنة فيحروبهم» الثقافة CULTURE 18 Issue 16701 - العدد Monday - 2024/8/19 الاثنين أحدث كتبه «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» جمال حسين علي:لم أكتب رواياتي لهذا الجيل ولا للجيل الذي بعده «لمــــــاذا يـــكـــره المــثــقــفــون بــعــضــهــم؟» هو > أحدث كتبك الصادرة، لكنك لا تتحدث فيه بشكل خـاص عـن الكراهية الـسـائـدة بـ المثقفين، كما يُفهم لأول وهلة من عنوانه، بل جاء ذلك تفصيلة مــــن مــــوضــــوع كــبــيــر يـــخـــص مــجــتــمــع الــثــقــافــة والمثقف، من مثل مستقبل الثّقافة، وفردانيتها، وصُعود الثّقافة وانْـحِـدارهـا، والثّقافة المشكوك فيها دائـــمـــا... مــا الـــذي أردت أن تـقـولـه فــي هـذا الكتاب؟ - لكي أعطي صورة كاملة عن الكتاب، لا بد من الإشـارة إلى أن هناك جزءاً ثانياً ســيــلــحــقــه، وهـــــو عــــبــــارة عــــن كـــتـــابـــن فـي كتاب واحــد، الأول يتم تقليبه من اليمي إلــى الـيـسـار وعـنـوانـه «بلطجة المثقفي»، والـــثـــانـــي يـــتـــم تــصــفــحــه مــــن الـــيـــســـار إلـــى اليمي وهو الجزء التطبيقي من الموضوع برمته، وعـنـوانـه «بـــازار الثقافة الكبير»، وســـيـــصـــدر أيـــضـــ عـــن دار «صـــوفـــيـــا» في الكويت في مطلع سبتمبر(أيلول). كـتـب عما 3 بـالـتـالـي سـيـكـون لـديـنـا أطلقت عليه «مجتمع الثقافة والمثقفي»، لــم أطـــرح أفــكــاري فــي هـــذه الـكـتـب كمفكّر، بـل كناقل لـتـجـارب بصفتي أحــد السكان الـــــســـــابـــــقـــــن فــــيــــمــــا يــــســــمــــونــــه «الــــــوســــــط الثقافي»، فقد بقيت فيه، أو حُسِبت عليه، إلا أني عرفت كيف أخرج منه، منذ سنوات طويلة، ومــن ذلــك الـوقـت بــدأت أكتب هذه الحكاية، ولكني لم أنشرها إلا الآن. أعــــــــــرف الــــنــــوعــــيــــة الـــــتـــــي اســـتـــفـــزهـــا كــتــابــي «لمـــــاذا يــكــره المــثــقــفــون بـعـضـهـم؟» وسيزدادون كرهاً بقراءة الجزأين الثاني والـــــثـــــالـــــث مــــنــــه، وســــأســــتــــمــــر فـــــي إزاحـــــــة الـغـطـاء، فــهــؤلاء اعـتـاشـوا كـثـيـراً وطـويـاً على الـثـقـافـة، وقــدمــوا أنفسهم كمثقفي. وسنجد فـي كتابنا المقبل الـوصـف الـذي يستحقونه حقاً. في المقابل، ثمة من اعتاد على التعامل مع المثقفي كتماثيل الشمع فــــي المـــتـــاحـــف، وفــــجــــأة رأى كـــتــابـــ يـضـخ الــروح في هـذه الهياكل التي كـان يتعامل معها بقدسية وخشية ورهبة. فـــــي فــــصــــل «لمــــــــــاذا يـــــكـــــره المـــثـــقـــفـــون > بــعــضــهــم؟» نــتــســاءل هـــل حــقــا المــثــقــفــون يـكـره بـعـضـهـم بـعـضـا؟ وهـــل هـــذا مـــا خـبـرتـه بشكل شخصي ممكن أن يكون عاما؟ - الــكــاتــب لــيــس مـهـمـتـه الإجـــابـــة عن الأسئلة، في الغالب هو يطرحها للنقاش العام. وقـد يأتي مؤلفون آخــرون يكملون المـــهـــمـــة، لأن هـــنـــاك أســـئـــلـــة مــــا إن تـجـيـب عـلـيـهـا، حــتــى تـخـتـلـف ظــروفــهــا وتـتـغـيـر إجــابــاتــهــا. فـهـل أجــــاب ســـارتــر عــن ســـؤال الوجود العدم؟ هل أجاب كانط عن أسئلة جون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم؟ وهـــل صـحـح كــــارل غــوســتــاف يــونــغ طـرق الـتـحـلـيـل الـــفـــرويـــديـــة؟ هـــل أكـــمـــل ســقــراط وأفــــاطــــون أســئــلــة الأخــــــاق؟ وهــــل وضــع هيغل المـنـهـج الـجـدلـي حـيـز التطبيق في حـيـاتـنـا؟ بـالمـنـاسـبـة، حـتـى آينشتي تـرك أســئــلــتــه مــعــلّــقــة لـكـيـا يـنـسـف الــفــيــزيــاء، وادّعى جهله متعمّداً. والإجــابــة المـبـاشـرة على ســؤالــك: هل يكره المثقفون بعضهم؟ أقــول إن المثقفي لا يـــكـــره بــعــضــهــم بــعــضــ فـــحـــســـب، بــــل لا يقبلون بهدنة في حروبهم، وبعضهم لا يجنحون للسلم، ففي الـحـروب يظهرون أكثر. والمثقفون لا يسامحون بعضهم، ولا يمكن أن يـكـرهـوا أحـــداً آخــر كما يكرهون المـثـقـف الأفــضــل مـنـهـم؛ لأنـهـم لا يكرهون الأقــل منهم بالمستوى. المثقفون يكرهون من ينافسهم، ولكنهم لا يكرهون الطبيب الـــذي يعالجهم والـسـائـق الـــذي يوصلهم وبـــائـــع المـكـتـبـة الـــــذي يـعـطـيـهـم تخفيضاً ودار الـــنـــشـــر الــــتــــي تــطـــبـــع لـــهـــم والــــنــــادل الـــــذي يـسـقـيـهـم والــصــحــافــي الـــــذي ينشر أخـــبـــار كــتــبــهــم... لا يــكــرهــون هـــــؤلاء، هُــم متخصصون في كره بعضهم. ما نسميه الملحمة 2003 كتبت بعد عام > الــعــراقــيــة، الــتــي بــــدأت عــنــدك فـــي روايـــــة «أمــــوات بـغـداد»، وأعقبتها روايـــة «رسـائـل أمــارجــي»، ثم اختتمتها برواية «حبة بغداد»، التي تناولت فيها حجم الـكـارثـة الـتـي اجتاحت البلد، ومــا وراءهـــا مـن أحـــداث، مـن استباحة لـلـذاكـرة التاريخية... هل ترى أن المشهد العراقي وما رافقه من دمار يستحق التعبير عنه بملحمة؟ - كــــشــــاهــــد عـــــيـــــان عــــلــــى مـــــا حـــصـــل، كـــعـــراقـــي وروائــــــــــي، طـــرحـــت عـــلـــى نـفـسـي ســـؤالاً مـن شـطـريـن: إذا أنــا لـم أكـتـب ذلـك، فـمَـن سيكتبه؟ وإذا لـم أكتبه الآن، فمتى سأكتبه. ومن تلك اللحظات بدأ مشروعي الـــروائـــي الـكـبـيـر الــــذي ذكــرتــه فــي ثـاثـيـة، تتجاوز ألفَي صفحة، امتدت فترة كتابته ســنــة، واصـــلـــت فـيـهـا الـلـيـل مع 20 لـنـحـو الـنـهـار وبـــا تــوقــف، ولــعــلّ أكـثـر مــا أفخر بـــه فـــي مــســيــرتــي الـــروائـــيـــة والأدبــــيــــة هو تــمــكــنــي مــــن إنــــجــــاز «ثـــاثـــيـــة بــــغــــداد» أو «الملحمة الـعـراقـيـة»، الـتـي كتبتها بـالـدم، بــكــلّ مــا تعنيه الـكـلـمـة مــن مـعـنـى. مُـعـيـداً تـرتـيـب كــومــة ذكـــريـــات ولّـــــدت فـــي داخـلـي عوالم بأكملها، وأعتقد أن تشكيلي من كلّ العراقيي المنصهرين بالنظام الكوني عبر آلاف السني. عـن الفتى الــذي احتشد في زوايا المكتبات وكتابة رواية تليق بالعراق وأعــــدهــــا أهـــــم عـــمـــل فــــي حـــيـــاتـــي، حـيـنـمـا يشعر أيّ عراقي بأنه القصة نفسها. يقول القاص والـروائـي العراقي محمد > خــضـــيــر: «أحـــــــسّ جـــمـــال حـــســـ بــــوجــــوب هـــذا التنافذ النصي فاختار استراتيجا بناء يطوف حول مئات المدونات ويأخذ من نصوص الأولين والآخــــريــــن مـــا يـــدعـــم مــوضــوعــتــه عـــن (حـقـيـقـة الإنسان)...» هل دفعتك الرواية فعلاً لهذا الجهد؟ - عـنـدمـا بـــدأت كـتـابـة روايــــة «أمـــوات بـــغـــداد» مـنـذ مــا يــقــارب الـعـقـديـن (نـشـرت فـي بـيـروت، دار 2008 الطبعة الأولـــى عـام الــفــارابــي، ثــم أعــيــدت طباعتها فــي مصر )، أدركـــت وقتها 2021 ، وفــي الـعـراق 2015 أن موضوعها أقوى مني، من كل النواحي (المعرفية والبنيوية والتاريخية والعلمية والــطــبــيــة والــفــلــســفــيــة) وكـتـكـنـيـك روائــــي أيـضـ ، وهــذا دفعني لأتعلّم وأتــطــوّر لكي أُجــاريــهــا وأفــعــل بـهـا مــا أُريـــــد. ذلـــك لأننا لا نـكـتـب الأشـــيـــاء الــتــي نـعـرفـهـا فــقــط، بل نكتب ما لا نعرفه، لكي نتعلّمه في غضون الكتابة. وهذه إحدى المُتع الأزلية للكتابة. ففي كلّ مرة أكتب فيها رواية جديدة، أدخل فـي تـدريـب جـديـد للمهنة، وقــد يستغرق ذلــك وقـتـ لـذيـذاً أشـعـر فيه بــالأمــان، وفي غـضـون ذلــك أسـمـح لنفسي بـأخـذ عيّنات مــن مصائر الـنـاس الـذيــن سأكتب عنهم. ســــوف يـــأتـــي جــيــل يـــقـــرأ «أمـــــــوات بـــغـــداد» وسيشعر بالقرب منهم أكثر مما شعرت بـه مـن قـبـل، تـجـاه الأشــخــاص الـذيـن كنت أعرفهم قبل أن أنسحب من العالم. وأخبر النقد المستقبلي بأني وضعت الكثير من الأسئلة فـي ملحمتي العراقية، وستبقى هذه الأسئلة وستستمر مع تاريخ العراق. فـــي روايــــتــــك ســعــيــت لـتـخـلـيـق «آدم» > الجديد، من جينات معدلة يستخلصها من جثث ضـحـايـا الاحـــتـــ ل والمـيـلـيـشـيـات والــعــصــابــات، وهــي مـن مخلفات الـغـزو الأمـيـركـي، هـل فقدت الأمل بالخلاص إلى الحد الذي لا يكون إلا بخلق إنسان جديد يعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي؟ - لـم أكتب «أمـــوات بـغـداد» و«رسـائـل أمارجي» و«حبّة بغداد» لهذا الجيل، ولا حـتـى لـلـجـيـل الــــذي بـــعـــده. لا أقــــول فـقـدت الأمـــــل بـــهـــم، لــكــن أمـــلـــي أكـــبـــر فـــي الأجـــيـــال المـقـبـلـة، فـنـحـن لا نـكـتـب مـــا حــــدث، بـــل ما نريده أن يحدث. وهـذه هي الطريقة التي نــعــتــقــد أن الأشــــيــــاء تـــحـــدث بـــهـــا. غــالــبــ ، لا أكــتــب إلـــى الأحـــيـــاء، فــالــذي يـبـقـى وفـيّـ لـــأمـــوات، يــعــرف كـيـف يـخـلـص لـأحـيـاء؛ لأن الأدب هـو الطريق الــذي يُلغي الزمن، ويتيح لنا أن نتحدث وحـدنـا مـع الموتى وكذلك مع الذين لم يولدوا بعد. وبالنسبة لـــ«آدم» الجديد، هو تجسيد للمنتظر في الميثولوجيا الشرقية تـحـديـداً، ونـــراه في أدب مـــا بــعــد الــحــربــن الـعـالمـيـتـن بشكل واضح. عملت في الصحافة مراسلاً حربيا في > مناطق ملتهبة وعـديـدة من العالم، حتى تتويج عملك بفوزك بجائزة الصحافة العربية في مجال الـريـبـورتـاج الـصـحـافـي، وثـقـت أغلبها فـي كتب عـديـدة... ما الـذي أضافته لك هـذه التجربة على صعيد السرد؟ - ذهــــبــــت لــــلــــحــــروب روائــــــيــــــ بـهـيـئـة صـحـافـي. وحـتـى كتابتي لـم تكن تقارير صحافية تقليدية، بـل كـانـت قصصاً عن الـنـاس والأمــاكــن والمــشــاهــدات والأحــــداث. لـــــقـــــد أحـــــبـــــبـــــت الــــــــنــــــــاس، وســـــمـــــحـــــوا لـــي بتصويرهم، لكنهم أرادوا مني أيـضـ أن أستمع إليهم، وأن يخبروني بما يعرفونه، حـــتـــى نـــــــروي قــصــتــهــم مــــعــــ ، مـــثـــل ســــؤال بيكيت: «هل نمت بينما عانى الآخرون؟». كــانــت مهمتي كـمـراسـل حــربــي تـكـمـن في محاولة معرفة ما الـذي يفعله الناس في المدن التي تحترق، وكيف يعيشون ولماذا يــحــصــل كـــل مـــا يــحــصــل. لـــذلـــك كــتــبــت ما رأيــتــه، ومــا كـنـت عـلـى اسـتـعـداد لتحمّله. وقــد أتـذكّـر أولـئـك الساكتي الـذيـن لديهم الـكـثـيـر لــيــقــولــوه، فــقــد جـــرّبـــت حــمــل ثقل الحكاية غير المــرويّــة... وعـرفـت أن أعيش ولديّ دائماً قصة أرويها. رغـــم تخصصك العلمي الـدقـيـق، لكن > الملاحظ أن حرفة الأدب والكتابة أخذتك منه... ما الذي تقوله في ذلك؟ - أكثر حبّ أخفيته وكأنه غير موجود هــو حــبّــي لـلـفـيـزيـاء. فـقـد قـضـيـت حياتي بــــن الـــكـــتـــب والــــجــــامــــعــــات، وفـــــي مــكــاتــب الصحف والمــجــات، وبـــدأت الأدب والعلم بالبحث، كطريقة أساسية للتعلّم؛ لذلك كوّنت فكرتي عن الناس والكون والفضاء والــــتــــاريــــخ بـــشـــقّ الـــنـــفـــس وبـــشـــكـــل ذاتـــــي. اسـتـمـتـعـت بـالـكـتـب والــــقــــراءة والـــدراســـة. درســـت الـعـلـوم المــجــردة وكـنـت أدرك أنها تقدّم القليل للتطوّر من دون الأدب والفنّ. كـــــانـــــت هـــــــذه فـــلـــســـفـــتـــي الــــعــــامــــة فــي التعامل مـع اهتماماتي العلمية والفنية والأدبــيــة والإعـامـيـة وحتى داخــل المجال نفسه؛ لذلك لا أحبذ أن يتم تعريفي - نقدياً - بطريقة إجـرائـيـة... أفـضّـل أن أعــوم مثل مادة هلمية غير قابلة للإمساك، مثل كائن مُتغيّر الأنـمـاط والألــــوان، وليس شخصاً ممتهناً حرفة بعينها. لم تكن هذه فلسفة، بل مجموعة أحاسيس، فحبي للمجالات المتنوعة مثل حبي للطبيعة، لا يشترط أن أعـرف لمـاذا وما هـي... المهم وجـدت نفسي أحبّ هذا المكان دون سواه. بغداد: علاء المفرجي قـــبـــل أن يــــغــــادر الــــعــــراق إلـــــى مـــوســـكــو لـــلـــدراســـة، والحصول على درجـة الدكتوراه في الفيزياء النووية روايـــات 3 مــن هــنــاك، كـانـت قــد صـــدرت لــه فــي بــغــداد مجاميع قصصية. ثم عمل مراسلاً حربيا لعدد 3 و من المنابر الإعلامية؛ حيث قام بتغطية حروب كثيرة نشبت مــا بــ جـمـهـوريـات الاتــحــاد الـسـوفـيـاتـي بعد تفكيكه، خصوصا في كاراباخ وأذربيجان وأرمينيا والـــحـــرب الـشـيـشـانـيـة الأولـــــى والــثــانــيــة وأفـغـانـسـتـان والبلقان وكردستان ودارفور والعراق ولبنان وغيرها. أصـــدر عـــدداً مـن الــروايــات والـكـتـب، منها ثلاثيته عن بغداد، و«مقاصب الحياة»... وغيرها. ويقيم الآن في الكويت؛ حيث يعمل محرراً ثقافيا لجريدة «القبس». آخر كتاب له هو «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» الذي أثار جدلاً بين أوساط المثقفين. هنا حوار معه: أحدث مؤلفات الكاتب جمالحسين علي صدور كتاب للفلسطيني فاروق وادي بعد سنتين منرحيله صـــــــــدر حـــــديـــــثـــــ عـــن «المــــــــؤســــــــســــــــة الـــــعـــــربـــــيـــــة للدراسات والنشر» كتاب «مـــــــنـــــــازل الـــــقـــــلـــــب: كـــتـــاب الإســـــكـــــنـــــدريـــــة»، لــلــكــاتــب الــــفــــلــــســــطــــيــــنــــي الــــــراحــــــل فــــــاروق وادي، وجـــــاء في صـــفـــحـــة مــــن الــقــطــع 232 المتوسط. يـــــــــقـــــــــول الـــــــــــروائـــــــــــي والــــشــــاعــــر إبــــراهــــيــــم نـــصـــر الــــلــــه فــــي تــذيــيــلــه للكتاب: «بصدور هذا الكتاب، يكون قد مرّ عامان على رحيل فاروق وادي، ولعل أجمل ما يتركه لنا الكاتب إبداع جديد لم يسبق لنا أن قرأناه، نحن الذين نفتقده يوماً بعد يوم، أكثر فأكثر، هــو الــــذي أمـتـعـنـا بــعــدد مــن أجــمــل الـــروايـــات الـــعـــربـــيـــة، مـــتـــوّجـــة بــعــمــلــه الـــسّـــاحـــر الأخـــيـــر (سوداد: هاوية الغزالة). ثمة هوة عميقة أحدثها غياب فاروق في حياة القريبي منه، بحيث يمكنني القول إنها المـــرة الأولـــى الـتـي أحــس فيها بـفـداحـة فقدان صديق. ويــأتــي هـــذا الــجــديــد، كـمـا يشير فـــاروق فــــي مــقــدمــتــه الـــتـــي كــتــبــهــا لــلــكــتــاب بـنـفـسـه، اســـتـــكـــمـــالاً لـــثـــاثـــيـــة عـــشـــق المــــــــدن: رام الـــلـــه، بـيـروت، الإسـكـنـدريـة، هـو الــذي بـدا لـي دائماً أن أحـــاســـيـــســـه تــــجــــاه مــديــنــة لــشــبــونــة، الــتــي بــــدأ يستطيب الإقــــامــــة فـــيـــهـــا، كـــانـــت تـتـطـور بـــتـــســـارع كــبــيــر بــحــيــث تــكــون المـــديـــنـــة الــــرابــــعــــة، ولـــيـــس أدلّ عـلـى ذلـــك مــن روايــــة (ســــوداد)، وكـــأن قـلـب فــــاروق لا يستطيع أن يكون خالياً من حبّ مدينة جديدة. هو الـذي كـان مضطرّاً دائــمــ إلـــى أن يـكـون بـعـيـداً عن المــــدن الــتــي أحــــبّ، مــع اخـتـاف الأســــبــــاب. هــــذا الـــكـــتـــاب، بـقـدر مـا هـو سـيـرة الإسـكـنـدريـة، هـو سـيـرة فــاروق نفسه، وينسحب ذلك على رام الله التي كتب سيرتها وسيرته، وبـيـروت في (ديــك بيروت يــؤذن فـي الظهيرة)، وإن أتقن التخفّي هنا، وفـــي (ســريــر المــشــتــاق)، الـــروايـــة الـتـي تكشف أكثر مما تحجب. وفي كل هذه الكتب، وغيرها، بقي فاروق واحـــداً مـن الـنـاس، بعيداً عـن بـطـولات الـــرّواة وزهْـــوِهِـــم بـهـذه الــبــطــولات، فـفـي كــل مــا كتب بقي ذلك الإنسان الذي يعشق ويحبّ ويتأمّل، ويسخر من كـلّ شـيء، ومـن نفسه. لكنّه حي يـكـتـب، يكتب بـكـل الــحــبّ، فــا يـحـبّ أنـصـاف المـــــدن، ولا أنـــصـــاف الـــصـــداقـــات، ولا أنـصـاف الحقائق. لا يـرحـل الــرائــعــون، بـقـدر مــا تتضاعف قـــوة حــضــورهــم، ونــحــن نكتشف كـــلّ يـــوم كم نحن نحبّهم». عمان: «الشرق الأوسط» «سيدة القرفة»... رواية ترصد تشابكات العالم عبر المطبخ فــــــي روايــــــتــــــهــــــا «ســــــيــــــدة الــــقــــرفــــة» الــــــصــــــادرة أخـــــيـــــراً عـــــن دار «الـــــشـــــروق» بالقاهرة، تـحـاول الكاتبة رحمة ضياء فــهــم الــعــالــم ورصـــــد تـشـابـكـاتـه الـخـفـيـة وعلقاته الملتبسة عبر المطبخ والمذاقات والنكهات. ويعد الطهي في هـذا النص وسيلة للتغلب على صـعـوبـات الحياة اليومية ومفاجآتها حيث تؤدي التوابل دور المـرشـد والـدلـيـل ليس فقط لساردة الأحـــــداث «مــيــمــي» الــتــي وجــــدت نفسها فـــجـــأة فـــي مـــــأزق لا قـــــدرة لــهــا عــلــى فهم أبعاده وسبر غموضه، بل أيضاً لأبيها ومعلمها الــذي علّمها لغة الخضراوات والأعشاب وأساطيرها. ورغـــــم أن الــــروايــــة واقـــعـــيـــة تــمــامــ ، فـــإن المــؤلــفــة تــحــاول أن تـحـيـل تفاصيل الــــواقــــع إلـــــى مــــا يــشــبــه الأســـــطـــــورة عـبـر التوابل عموماً و«القرفة» بشكل خاص. لكن هذه الأجواء التي كان من الممكن أن تصنع نصاً مختلفاً، سرعان ما تنازلت عنها المؤلفة لصالح التشويق والأجواء الــبــولــيــســيــة مـــن خــــال بــنــيــة الــغــمــوض والألــــغــــاز بـشـكـلـهـا الـتـقـلـيـدي مـــن خــال العثور على جثة والد الراوية طافية على النيل ومن ثم اكتشاف مفاجآت متوالية عن حياته وعلقاته النسائية. كـمـا أن الشخصية الرئيسية بـدت مـغـرقـة فــي مثاليتها ونـقـائـهـا الملئكي دون مــبــرر درامـــــي أو إنــســانــي واضــــح، وهو ما يتجلى في النهاية المفاجئة حي تقرر أن تعفو عن الجميع بمن فيهم قاتل أبيها. كما يبدو العمل ككل شديد التأثر بـــالـــروايـــة المـكـسـيـكـيـة الــشــهــيــرة «كـــالمـــاء للشوكولاته» ويسير على نهج مؤلفتها لاورا إســـكـــيـــبـــيـــل فـــــي وصـــفـــهـــا الــبــشــر والمـــشـــاعـــر مـــن خــــال الــطــعــام ومـــفـــردات الطهي المختلفة. يتضح هـذا التأثر في بـعـض الـتـشـبـيـهـات والـتـوصـيـفـات على نـــحـــو خـــــاص كـــمـــا فــــي تــشــبــيــه والــــدهــــا بـــ«الــفــلــفــل الأســــــود» لأنــــه «مــحــبــوب من الجميع» ولديه قدرة على «التناغم» مع مختلف الأشـــخـــاص، فـضـاً عــن تشبيه رأســــهــــا حــــن تــســتــبــد بـــهـــا الانـــفـــعـــالات العاصفة بأنه «بيضة في ماء مغلي». من أجواء الرواية نقرأ: «تخيلتك تجلس أمامي حول طاولة المــطــبــخ تـــرتـــدي واحــــــدة مـــن بـيـجـامـاتـك المـــخـــطـــطـــة وفــــوقــــهــــا المـــــريـــــول والـــقـــبـــعـــة الـبـيـضـاء الـطـويـلـة فـضـحـكـت ومسحت الــــدمــــوع المــنــســابــة عــلــى وجـــهـــي. وقـفـت وتـجـولـت فــي المـطـبـخ وأنـــا أتـبـعـك وأنــت تتناول قضمة من كل صنف وتتصاعد منك آهات اللذة، تُبدي ثناء أو ملحظة ثم تلف ذراعك حول ظهري وتمسك يدي وتضمني إليك ونرقصمعاً وتمازحني. تعلو ضحكتي وأحتضنك بـشـدة حتى أتأكد أنك لن تفارق مجدداً. حــــن فــتــحــت عـــيـــنـــيّ وجــــــدت أنــنــي كنت أقبض على الهواء، هاجمتني دفقة شديدة من الحني أفسدت كل محاولاتي للتماسك في الساعات الماضية وأحالت مـــــراســـــم الــــــــــوداع إلــــــى مــــنــــاحــــة. شـــعـــرت باشتياق مجنون لملمس وجهك وسماع صـــوتـــك وتــــــذوق طــعــم ورائــــحــــة حضنك وقبلتك. غادرت المطبخ قبل أن أغرق في بحر دموعي مثل أليس في رحلتها إلى بلد العجائب. ذهبت إلى الشرفة، نظرت مــجــدداً إلـــى نبتة الـقـرفـة، كـيـف أخبرها أنها لن تستطيع النظر في عينيك مرة ثــانــيــة، لـــن تـسـمـع صــــوت ضـحـكـتـك، لن تشعر بملمس يدك على أوراقها، أنّ أوان الحكايات انتهى. مـــــا زلــــــت أتـــــذكـــــر صــــوتــــك الـــحـــنـــون ونـظـراتـك الـدافـئـة وذراعـــك الرحبة وهي تحتضن جسدي الصغير، بينما تحكي لي الحكاية لأول مرة وعيناي اللمعتان تـــزدادان اتساعاً وترقياً كلما كشفت لي فصلً جديداً. قبل قــرون عديدة على جزيرة قرب البحر، نمت شجرة قرفة برّية قيل إنها شـجـرة مـن الجنة وقـيـل كاشفة الأســـرار وشــــجــــرة الأمــــنــــيــــات. طــــــارت الــحــكــايــات إلـــى مـخـتـلـف الـــبـــاد، أتـــى إلـــى الـجـزيـرة المــجــرحــون والــطــامــعــون والمـتـلـصـصـون والحالمون بالمعجزات، غير أن للشجرة حــراســ شـــــداداً؛ أفــاعــي سـامـة وظيفتها أن تـــــردع كـــل مـــن يــقــتــرب مـــن سـيـدتـهـا. تـــحـــط عـــلـــى الـــجـــزيـــرة كــــل صـــبـــاح سـفـن مـن كـل الـدنـيـا وتـرحـل فـي آخـــره محمّلة بــالــخــيــبــات، حــتــى لاحــــظ أحــــد الـحـالمـن بـــالـــلـــحـــاء الـــثـــمـــن كـــيـــف تـــحـــط الـــطـــيـــور الـذهـبــيــة الـضـخـمـة عـلــى أفــــرع الـشـجـرة وتنعم بأريجها الخشبي الحلو دون أن تقربها الأفـــاعـــي، وعـنـدهـا جــاءتــه فكرة ماكرة. وســـــــــوس لــــلــــطــــيــــور الـــــســـــاذجـــــة أن تحمل معها الأفـــرع اليافعة لتبني بها أعشاشها العالية وتنعم بالأريج في كل الأوقات. حلمت الطيور بأعشاش تحمل نـكـهـة الـجـنـة وتـحـقـق حـلـمـهـا لـكـنـهـا لم تهنأ طويلً، اخترقتها سهام غادرة من كل الجهات وتساقطت أفرع القرفة تحت أقدام الماكر الوسواس». القاهرة: «الشرق الأوسط»

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky