issue16695

الثقافة CULTURE 18 Issue 16695 - العدد Tuesday - 2024/8/13 الثلاثاء شكل استثناءً في الكم والنوع غازي القصيبي... صيغة مركبة حــــــن ســــمــــعــــت بــــــه وتـــــعـــــرفـــــت إلــــيــــه، كــانــت المـنـطـقـة الـعـربـيـة تصطخب بغبار الصراعات السياسية، واختلاف التجارب الإبــــداعــــيــــة فــــي كـــتـــابـــة الـــشـــعـــر والـــقـــصـــة، 1967 وقــــد انـعـكـسـت عـلـيـهـا آثــــار هــزيــمــة المــــدويــــة... هـــذه الــتــي عــبّــر عـنـهـا الـشـاعـر غـــازي القصيبي فــي ديـــوانــه المــــدوي -هـو الآخـــــــر- «مـــعـــركـــة بــــ رايـــــــة» الــــــذي شــكــل، بمعركته المبكرة ضد المحافظة التعبيرية والــــســــائــــد الاجــــتــــمــــاعــــي، بــــدايــــة احـــتـــكـــاك مــواهــبــه الأدبـــيـــة والأكـــاديـــمـــيـــة والإداريــــــة بــالمــجــتــمــع الــــســــعــــودي، وهـــــو يـــخـــرج مـن عـزلـتـه الـتـاريـخـيـة بـقـيـام الـــدولـــة الـثـالـثـة، وســــــط مــــــبــــــادرات اجـــتـــمـــاعـــيـــة وثـــقـــافـــيـــة، حــــاولــــت الــتــعــبــيــر عــــن قـــســـمـــات المـجـتـمـع الجديد، المتشكل بي الحربي العالميتي. غـــيـــر أن مـــــبـــــادرة غـــــــازي الــقــصــيــبــي امــــتــــازت بــــن تـــلـــك المـــــبـــــادرات عــــن غـيـرهـا بما أسميه «الإبـــداع المـركـب»، فهل بسبب كـونـه شــاعـــراً، اصـطـبـغـت مـحـاضـراتـه في الـتـدريـس الجامعي أسـتـاذاً فـي العلاقات الدولية والعلوم السياسية بجامعة الملك سعود بحيوية الدرس وانبهار الطلاب... وتــــجــــربــــتــــه الإداريــــــــــــــة وزيــــــــــراً لــلــصــنــاعــة والـكـهـربـاء، عبر إنـشـائـه شـركـة «سـابـك»، ومــــأســــســــة شــــركــــة الــــكــــهــــربــــاء، وكـــهـــربـــة الريف... فوزيراً للصحة ثائراً على تخلف الخدمات وفـسـاد الـذمـم، ثـم وزيـــراً للمياه وأخيراً وزيراً للعمل مصراً على السعودة، ومحارباً بطالة العمالة الوطنية، وتجارة الـــــفـــــيـــــز... بـــشـــجـــاعـــة غــــيــــر مـــســـبـــوقـــة فــي الانتصار لحق المواطن. نعم، هل بسبب كونه شاعراً صافي المـــشـــاعـــر، نـبـيـل المـــعـــانـــي، عـمـيـق الــتــديــن، وطــنــي المـنـبـت، قــومــي الانــتــمــاء، إنـسـانـي الـــــــرؤيـــــــة اصــــطــــبــــغــــت تــــجــــربــــتــــه بـــالـــبـــعـــد المــــــضــــــاف؟ فــــلــــم يــــكــــن أســـــيـــــر تـــنـــظـــيـــراتـــه الأكـاديـمـيـة المــجــردة فــي قـضـايـا التنمية، وقــضــايــا الـــحـــراك الاجـتـمـاعـي والـثـقـافـي، وإنـــمـــا كــســر بــمــواهــبــه الـــعـــديـــدة وجـــرأتـــه الأدبية، وقبل ذلك بوطنيته الفذة، جمود النمطية وبلادة البيروقراطية، فإذا بغازي القصيبي الـشـاعـر الــرومــانــســي الـقـومـي، يـــبـــدو وزيــــــراً نـــاجـــحـــ ، ومـــفـــكـــراً تـفـاعـلـيـ ، وروائياً طليعياً. فـــــروايـــــتـــــه «شــــقــــة الـــــحـــــريـــــة» وكــــذلــــك «العصفورية» شكلتا منعطفاً مفصلياً في تاريخ الأدب الـروائـي السعودي، وهـو ما شجع قوافل كتاب القصة وكاتباتها نحو الانطلاق، بعد ملامسته المسكوت عنه في نفسية جيله المنفتح في عقد الستينات، عــــلــــى الـــــتـــــجـــــارب الــــســــيــــاســــيــــة والأفــــــكــــــار الآيــــديــــولــــوجــــيــــة، قـــبـــل أن يـــعـــود ورفـــاقـــه مــن الـقـاهـرة وبــيــروت والـــولايـــات المتحدة الأمــيــركــيــة؛ لمــواصــلــة مــســار الـتـنـظـيـم في مـؤسـسـات الــدولــة والمـجـتـمـع، والتحديث في حركة الثقافة والتعليم الجامعي في المملكة. هنا أتوقفعند تجربة غازي الروائية التي ابتدأها برواية «شقة الحرية»، وقد أخضع مجمل قضايا المجتمع المتغيرة في المملكة والخليج للنقد التحليلي، بأسلوب روائـــــــــي، زاوج فـــيـــه كـــاتـــبـــهـــا بــــن أشـــكـــال التعبير المختلفة، مـزاوجـتـه للتناقضات الــــتــــي عـــاشـــهـــا جـــيـــلـــه فـــــي الــخــمــســيــنــات والـــســـتـــيـــنـــات، بـــاحـــثـــ عــــن قــيــمــة الــحــريــة على مفترق طــرق آيديولوجية متباينة، بــــل قــــل مـــتـــصـــارعـــة، هــــي مــــا جــعــلــت ذلـــك الجيل يعيش الحرية تـارة في الانغماس الــــوجــــودي بــلــذائــذ الــشــهــوة الأبــيــقــوريــة، وتــارة مقتحماً الثالوث المـحـرّم، بحثاً عن الـــحـــريـــة فـــي مـــظـــاهـــرة قـــومـــيـــة، أو مـوقـف آيــديــولــوجــي، تــأكــيــداً لـتـحـرر ذات مثقلة بتركات الماضي. «شقة الحرية» و«العصفورية» لقد شكلت «شقة الحرية» بانفتاحها غير المسبوق على المسكوت عنه فيحياتنا نـقـطـة انـــطـــ ق لمـــحـــاولات روائـــيـــة أخــــرى، تـــجـــرأت عــلــى مــ مــســة تـــجـــارب المـجـتـمـع، وتــــفــــاعــــل الأجـــــيـــــال بـــمـــا يــــجــــري حـــولـــنـــا. صـحـيـح أن الــدكــتــور تــركــي الــحــمــد، وهـو تـلـمـيـذ للقصيبي بـالمـصـطـلـح التعليمي والمعنى الأدبـــي، افتقر إلـى المـهـارة الفنية في صياغة قصصه، إلا أنه وضع يده على جروح عدة، ما كان له أن يقوم بذلك، لو لم يجد أمامه معلماً ملهماً ونموذجاً طازجاً بالقضايا، ومفعماً بالتعبير الحر المؤثر. لــم يكتف غـــازي بـهـذه الـتـجـربـة، فقد كــثــفــهــا فــــي روايـــــــة «الـــعـــصـــفـــوريـــة» بـــــأداء نـــوعـــي فــــائــــق، مـــفـــجـــراً طـــاقـــتـــه الـــســـرديـــة، عبر «وحـش النوع الأدبــي» حسب وصف الناقد الأميركي روبرت همفري، بسخرية مرّة عبرت عن اغتراب المثقف العربي، وقد أصيب بصدمة الاحتكاك مع الآخـر، وبي الجنون والعقل. هـذه المـرة الثنائية تأتي مــن الـــداخـــل، يستخدم غـــازي عـبـر روايـتـه حــيــً فـنـيـة بــارعــة فــي بــنــاء شخصياته، مستفيداً مــن نـظـريـة فــرويــد فــي التحليل النفسي، مازجاً بي معاناة أخيه الراحل المتفلسف نبيل، ومعاناة الأديبة اللبنانية مي زيادة، التي انتهت بها ظروف الحجر الــنــفــســي والاجـــتـــمـــاعـــي والـــســـيـــاســـي إلــى مــســتـشــفــى «الـــعـــصـــفـــوريـــة» فــــي مــحــاولــة يـــــائـــــســـــة لـــــلـــــعـــــ ج مـــــــن هـــــــــذه الأمـــــــــــــراض، المستحكمة بالنفسية العربية. هـــذا، وقـــد اسـتـفـاد غـــازي مــن تجربة جـويـس الآيــرلــنــدي فــي تـيـار الــوعــي، عبر روايته الشهيرة «يولسيس» في التداعي الحر الـذي اكتشفه عالم النفس الأميركي ولــــيــــم جــــيــــمــــس، بــــوصــــف أن الــــذكــــريــــات والأفـــكـــار والمــشــاعــر تــوجــد خــــارج الـوعـي الــظــاهــر، إذ تظهر الإنـــســـان، لا عـلـى أنها سـلـسـلـة مـنـتـظـمـة، بـــل عــلــى أنــهــا تـــيـــار... فيضان يتدفق على الوعي الداخلي.. غير أن غازي في رائعته «العصفوية» التيارية المــتــدفــقــة لـــم يـتـخـلـص مـــن شــاعــريــتــه، بل سيطرت عليه فـي قصه هـــذا، حتى إنني وجــــــدت شــبــابـــ يـــافــعـــ يـسـتـظـهـر مـقـاطـع طويلة مـن «الـعـصـفـوريـة»، أتـذكـر حينما أنهيت قراءتها، هاتفت مؤلفها في لندن، وقـــــد بـــلـــغ بــــي الافـــتـــتـــان حـــــداً طـــالـــبـــ مـنـه استكمال الجزء الثالث، وبذكائه المعهود قــال لــي: أراك تشبهني بنجيب محفوظ، وكــأن كـل روائـــي عيال عليه؟ هـل تريد أن تسحب البساط من تحتي؟ أجــــبــــتــــه: «إن ثـــ ثـــيـــة مـــحـــفـــوظ هـي روايـــــــة أجـــــيـــــال... بــيــنــمــا (شـــقـــة الـــحـــريـــة) و(العصفورية) هما روايـتـا قضايا، فـإذا كــانــت الأولـــــى تــــدور أحــداثــهــا حـــول بحث جيلك عــن الـحـريـة، فـــإن الـثـانـيـة تتمحور حـول قيمة الـــذات العربية المهشمة، وهي تعيش مصادمة حضارة القرن العشرين، وحــــروب أمـمـه وصــراعــاتــه الآيـدولـوجـيـة، والمـطـلـوب الآن أن تكتب شيئاً عــن عــودة الطيور المهاجرة إلى أوطانها. لِمَ لا تكتب يــا غـــازي عــن قضية الـتـحـول الاجتماعي بعد عودتك وزمـ ئـك في السبعينات، إذ قدتم التغيير من مدرجات الجامعة، إلى أعـــمـــدة الــصــحــف، وبــــن أروقـــــة الـــــــوزارة». فوجئت وهو يجيبني: «إن المشروع جاهز فــي رأســــي، لـكـنـه لـيـس عـلـى شـكـل روايــــة، وإنما سرد لتجربتي الإدارية». بـــعـــد ذلــــــك بــقــلــيــل قــــــرأ الـــســـعـــوديـــون والــعــرب أجمعي نــادرتــه العجيبة «حياة في الإدارة». لم تكن قصة بالمعنى الفني، لــكــنــهــا لــــم تـــخـــل مــــن هــيــكــلــهــا الأســــاســــي (الـسـرد)، وإلا ما الـذي يجعلك ويجعلني، نــــقــــدم عـــلـــى الــــتــــهــــام أوراق هــــــذا الـــكـــتـــاب البيروقراطي في موضوعه بلذة جمالية، لـــو لـــم يـكـن الـــســـرد مـسـتـغـرقـ فـــي أسـلـوبـه ومـــســـيـــطـــراً عـــلـــى مــــبــــنــــاه. إذ «حـــــيـــــاة فـي الإدارة» نص واحد متدفق كتيار، من ألف الكتاب إلـى يائه، من بدايته إلـى منتهاه، بلا توقف ولا فواصل. أخلص من هـذه الإلمامة العجلى على تجربة غـازي الواسعة، المتعددة والمثيرة، إلــى أنــه شكل بـــ«إبــداعــه المــركــب» استثناءً في الكم والنوع كما وصفته بحق صحيفة «الـــجـــزيـــرة» فـــي كـتـابـهـا الــتــكــريــمــي، حتى اخترق مقاسه حدود المحلية الوطنية إلى آفـــاق أخـــرى، فـــإذا هـو وزيـــر مصلح ومفكر إصــــــ حــــــي، شــــاعــــر مـــتـــمـــرد عـــلـــى الــنــســق وتقاليد العائلة... وروائي أشد تمرداً على الأوضــــاع والأشـــكـــال. هـكـذا يـشـار إلــى اسم غـــازي القصيبي الـيـوم فـي الـعـالـم العربي وخارجه. وهـــكـــذا تـــقـــرأ تــجــربــتــه الـــفـــريـــدة الـتـي اخـتـزلـت تـجـارب أجـيـال بـلـده الاجتماعية والــثــقــافــيــة، مـثـلـمـا اخـــتـــزل تـــجـــارب الـعـرب مــــاضــــيــــ وحــــــاضــــــراً فــــــي الــــشــــعــــر والأدب والثقافة، وكذلك الرؤى العالمية في قضايا التحليل السياسي وأدبــيــات التنمية. كل هــذه الـعـوامـل تقف وراء جملة النجاحات -أدبية وإدارية- التي تحققت لغازي، يدفعه نحوها حبه العميق لوطنه وأمـتـه، المنزه مـن نـــوازع الإقليمية والقبلية والمذهبية. يا ترى، هل كان لمولده في الأحساء من أب نجدي وأم حجازية، وتربيته في مجتمع الـبـحـريـن المـخـتـلـط المـــكـــونـــات، دور رئـيـس وراء هذا التميز والنجاح في تجربة غازي؟ هـذا ما ينبغي أن يكون مثار اهتمام الـــدارســـن لـظـاهـرة غــــازي الـقـصـيـبـي، وقـد أصـبـح مــلء السمع والـبـصـر. مـالـئ الدنيا وشـاغـل الـنـاس، كعمه أو أبيه أبــي الطيب المتنبي صيغة مركبة من الطموح والزهد، الــســلــطــة والــــحــــريــــة، الـــحـــنـــن والاغـــــتـــــراب، الإبـــداع والـتـجـاوز ويــا لها مـن صيغة، يا أبا يارا. غازي القصيبي محمدرضا نصرالله اخترق مقاسه حدود المحلية الوطنية إلى آفاق أخرى، فإذا هو وزير مصلح ومفكر إصلاحي وشاعر متمرد على النسق وتقاليد العائلة استراتيجيات سردية متعدّدة لتحويل الحاكم إلى «ضحية» ميسلون هادي تحاكم التاريخ «العراقي» من منطق «القاتل» المنسي ثــــ ث اســتــراتــيــجــيــات ســـرديـــة أســاســيــة نفترض، ابـتـداءً، أن الكاتبة العراقية ميسلون هــــادي قــد اعـتـمـدتـهـا فــي روايــتــهــا «ســاعــة في »، وهي تسعى 2023 ، جيب الملك: وتر/ البصرة لتفريغ قصة الملك من مظاهر القصة الظافرة المـشـبـعـة بـالـقـوة والــجــبــروت، وتـحـويـلـهـا، من ثــــمّ، إلـــى قـصـة مـلـك يــجــري نــحــره والتضحية بـــــه فـــــي ســــيــــاق تــــراجــــيــــديــــا عــــراقــــيــــة، تـــذكـــرنـــا مصائر أبطالها بالنهايات المأساوية لأبطال الــتــراجــيــديــات الــكــبــرى فـــي الـــتـــاريـــخ، كــمــا في المــســرحــيــات والــــروايــــات المـــؤسّـــســـة، وقـــد غُـلـب المـلـوك فيها على أمــرهــم؛ فــصــاروا «أمــثــولات» راسـخـة يصعب تـكـرارهـا شــأن الملك أوديـــب أو هــامــلــت. نــتــحــدث عـــن ســــرد الــضــحــيــة، وقـصـة الــعــائــد المـخـتـلـفـة، ونــظـــام المـخـطـوطـة بصيغة التسجيل الصوتي المدمج بقصة قاتل. لكن سردية «الملك» في الأدبيات العربية «الإسلامية» مشبعة بثيمات الظلم والتعسف، يقابلها الــولــع بشخصية «الـــثـــائـــر»، أو حتى «المـــتـــمـــرد» عـلـى المـــلـــك. هـــذه الـثـنـائـيـة الـضـديـة ســعــت «روايـــــــــات» عـــراقـــيـــة مـــتـــعـــدّدة لــ نــقـ ب عـلـيـهـا، بــل وإدانــتــهــا غــالــبــ ، روايــــة «المــلــك في بجامته» لخضير فليح الزيدي نموذج سابق على القراءة المفارقة للتاريخ السردي القريب. ومثلها بالضبط روايــة «هـــادي» التي تحتفي بحياة القصر الملكي وملكه الشاب؛ فتصف ما حــدث بـأنـه «قـصـة طويلة تستحق أن تُـــروى». ولتسويغ ذلك «الانقلاب» الحكائي فإن الرواية تـــخـــتـــرع حـــكـــايـــة مــــوازيــــة تـــخـــصّ الـشـخـصـيـة الـــرئـــيـــســـة، نــــــور مــــاضــــي خــــطــــاب، وســـيـــجـــري وصــفــهــا بـــ«حــكــايــتــي مــعــه هـــي الأخـــــرى قصة طويلة تستحق أن تُروى» أيضاً. لنترك حكاية «نـــور» مـع صاحبها «إسماعيل بـاشـا»؛ فهذه مــجــرد «ذريــــعــــة» لــلــســرد، إنــمــا حــكــايــة «نــــور» بــــالــــدلالات المـــفـــارقـــة لـــ ســـم هـــي الأصـــــل، وهــي الاســتــراتــيــجــيــة الأولــــــى لـتــحــويــل «المــــلــــك» إلــى «ضــحــيــة»؛ لـتـكـون لـنـا قـصـة جــديــرة بـالـسـرد، أو كما قالت «نور» نفسها «تستحق أن تُرى»؛ وكأن الحكايات الأساسية هي حكاية الضحية فحسب؛ إذ لا بـد أن يكون هناك ضحية؛ فـإذا لــم يـوجـد فيجب إيـــجـــاده، أو اخــتــراعــه، سـوى أن اخـــتـــراع الـــحـــكـــايـــات، شــــأن ســـرديـــة المـظـالـم والضحايا، ليس بالأمر الهي، وإن تحقق فإن المجاهرة بـه تستلزم سياقاً تاريخياً وثقافياً مناسباً، ولـيـس هـنـاك أصـلـح مـن عــراق محتل وديــكــتــاتــور لا يــتــرك وراءه ســـوى قـصـة بـ د محطّمة. سردية العودة تـعـود «نــــور» لـبـ دهـا بـعـد أربــعــن عاماً من الحياة في لندن، لكنها لا تعود لتحكي لنا قصتها الضائعة، أو تركتها المفقودة، أو حتى الــصــيــاغــات الأولـــــى لـلـيـوتـوبـيـا الــعــراقــيــة كما نجد ذلك في قصة العائد الأول كريم داود في مخاض فرمان؛ أو كما اتخذته قصص العائد مـن ثيمات وصياغات 2003 المنفي بُعيد عــام حكائية مـتـقـاربـة مـثـل أن يـعـود المـنـفـي ليدفن ماضيه كما في عـودة حسي الموزاني المبكرة، أو لكتابة القصة المؤجلة كما في رواية «ملائكة الجنوب» لنجم والـــي، أو للبحث عـن الوديعة الـــضـــائـــعـــة كـــمـــا فــــي روايـــــــة «عـــــــودة إلـــــى وادي الخيول» لكريم كطافة، أو لكتابة قصة الدمار المــكــررة على أصـعـدة الـحـيـاة المختلفة لبغداد كـمـا فــي روايــــة «فــهــرس» لـسـنـان أنــطــون، إنما نحن هنا إزاء منطق مختلف تمثّله قصة عائدة مختلفة أيـــضـــ . فـمـا الــجــديــد المـخـتـلـف المـمـيّـز لـروايـة «سـاعـة فـي جيب المـلـك» عـن سـواهـا من روايات العائد العراقية؟ ابتداءً؛ ليست الكاتبة، ولا بطلتها نور خطاب ماضي، ولا حتى عالم الرواية ومجازها السردي مما اختلف، جذرياً، مع نظام صـدام والـروايـة، من ثـمّ، مما لا يمكن أن تصنف مـن قصص المنفي العائد؛ فــ«نـور» ذات الاسم الدال على الضوء الهادي أو الكاشف ، ســافــرت عـام 2003 فــي ظلمة الــبــ د بـعـد عـــام لـلـنـدن ضـمـن بـعـثـة المــتــفــوقــن، وارتــــأت 1967 البقاء هناك لـدراسـة الطب والتخصص، وفي الأربـعـن سنة التي أقامتها هـنـاك، عــادت مرة واحــدة «فـي الأقــل هـذا ما تقوله الــروايــة»، وقد يعني لـنـا هــذا الأمـــر أن الـتـعـويـل عـلـى سـرديـة العودة في فهم الرواية وعوالمها السردية أمر لا يحقق الكثير للقارئ، سوى أنها استراتيجية مـحـددة ومـقـيـدة، فـي الـوقـت ذاتـــه، بإشكاليات تحويل «الملك» إلى «ضحية». أفــــكــــر، هــــنــــا، أن تــقــيــيــد الــــــروايــــــة بــســرد الــضــحــيــة قـــد «حـــــــرم»، «ســــرديــــة الــــعــــودة» من فــضــاءات مـتـعـدّدة كـانـت قـد رسّختها روايـــات عراقية وعربية سابقة، ولا بـأس؛ لكن «تيمة» الــــعــــودة فــــي الـــــروايـــــة قــــد اقـــتـــرحـــت مــوضــوعــ حكائياً جديداً يخالف، وقد نقول يتصادم مع موضوعات العائد المنفي المستقرّة. إن العودة، فـــي هـــذه الــــروايــــة، تـتـعـلّـق بـــإعـــادة ســـرد قصة المــلــك، وهـــي مــن الـقـصـص المـنـسـيّـة أو المهملة. ولنا أن نقول، حسب الاطــ ع، إن نص «ساعة فــي جـيـب المــلــك» هــو الـنـص الـعـراقـي الأول في تــاريــخ الـــروايـــة الـعـراقـيـة الـــذي يستعيد قصة الملك الضحية وسيرته، ويربط هذه الاستعادة بـــمـــوضـــوعـــات الــــعــــودة الـــســـرديـــة لـلـشـخـصـيـة العراقية المنفية لبلادها. القصة المنسية لا تذكر الرواية أن «نور» قد عادت لبلادها سـوى مـرة واحـــدة؛ كـان ذلـك بعد أن انتهت من دراســتــهــا الأولـــيـــة، وســـرعـــان مـــا تــعــود لتكمل دراسـتـهـا فـي الـطـب. لا ذكـــر، إذاً، لـعـودة أخـرى بـعـد مـصـرع «الـشـقـيـق» فــي حـــرب الثمانينات مــثــ ً، ولا عـــودة لــــ«نـــور» بعد مـــوت الأم والأب فـي أوقـــات متباعدة. لكن «نــــور»؛ وهـــذا بعض المـفـارقـة الكبرى فـي الــروايــة، لـم تملك بيتاً، أو تستقل به بمفردها، في مغتربها الإنجليزي؛ إذ ظلت، أربعي عاماً، تستأجر غرفة في منزل «المـسـز وايـــت» ببرستول؛ فلِم الـعـودة إذاً لبيع البيت إذا كـانـت الـعـقـود الأربــعــة هـنـاك لـم تغرِ «نور» بالاستقرار في بيت خاص؟ وفي المقابل ثمة تقشف حكائي، والأفـضـل أن نسميه فقراً حكائياً رافـــق عـــودة «نــــور» لـلـبـ د؛ إذ ستجد نفسها مجبرة على الاعـتـكـاف فـي الـبـيـت، فلا تتمكّن من الخروج والتجوال في بغداد؛ وكيف لها ذلـــك وبـــغـــداد، آنــــذاك، كـانـت مطحنة كبرى للحكايات والبشر «الأرجـــح أن نـور عــادت عام فـــي ذروة اشــتــعــال الـــحـــرب الأهــلــيــة في 2007 البلاد»! ولا تنتهي مفارقات هذه العودة؛ فنحن «نـعـود» مع الـراويـة المتكلمة، غالباً، لنستعيد حــيــاتــهــا الـــلـــنـــدنـــيـــة، أمـــــا حــيــاتــهــا الـــبـــغـــداديـــة القصيرة فتكتفي الصور وسرودها المقتضبة بــإضــاءة جـوانـب مختلفة مـن مـاضـي الــراويــة؛ وكـــأن الشخصية «تــعــود» لـتـروي لنا حياتها السابقة في لندن فحسب؛ فأي مفارقة أن تكون المساحة النصية لحياة الـراويـة في لندن أكبر بكثير من حياتها ببغداد! لِم عادت «نور» إذاً؛ ما دامتسردية العودة لم توفّر لها المـــادة الحكائية الساندة؟ الإجابة حـاضـرة؛ عـــادت لأجــل «بـيـع» بيت العائلة بعد موت الوالدين وهجرة الأخت الشقيقة الوحيدة. وهذه، كما ألمحنا قبلها، مجرد حجة، أو مسوّغ لــلــعــودة لأجــــل ســــرد الـقـصـة وهــــي، هــنــا، قصة تحويل «الملك» إلى «ضحية». حمزة عليوي

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky