issue16693

الثقافة CULTURE 17 Issue 16693 - العدد Sunday - 2024/8/11 األحد 19 مهنة «المحرر األدبي» برزت منذ النصف الثاني من القرن الـ المؤلف الوسيط... من دور النشر إلى أروقة العرض لـــم تـكـن وظـيـفـة الــوســاطــة بـــن الــكــاتــب والـنـاشـر تمثل سلطة في عالم صناعة الكتب، سـواء كانت ذات طبيعة إبداعية أو معرفية، إال في حدود منتصف القرن املاضي، رغم بروز مهنة «املحرر األدبي» منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث خصص فولتير تعريفًا لعمله فـي «املـعـجـم املـوسـوعـي للقرن التاسع عشر»، بوصفه الساهر على «توظيف معرفته ومهاراته وطاقته اإلبداعية في ترجمة أفكار الغير، وإن لم يؤمن بـهـا»، بينما لـم يتجاوز عمر القيم الفني ستة عقود في الغرب، وبـرز بوصفه صانع صيغة العرض، الذي يختار الـلـوحـات، ويـبـرز بنهجه التنظيمي محتواها الـفـنـي. فـالـشـيء األكــيــد أن الـــروائـــي أو الـفـيـلـسـوف أو الناقد أو املــؤرخ، أو املسرحي، ال يحتاج إلى دار نشر فـقـط لـيـرى عمله الــنــور، مثلما ال يـحـتـاج الـفـنـان إلـى مـجــرد غـالـيـري لـيـقـدم أعـمـالـه الـفـنـيـة لـلـجـمـهـور، ثمة مؤلفان وسيطان في عملية االنتقال من الـورشـة إلى املــنــتــج املــــعــــروض لــلــبــيــع، «مــــحــــرر» يـــراجـــع مـخـطـوط الكاتب وينقحه ويقترح تعديالت قد تمتد من العنوان إلى املبنى العام مرورًا بالفصول واملباحث، واملشاهد والـفـضـاءات والشخصيات، وقيّم معارض (كيراتور) يـحـول األعــمــال املـتـراكـمـة، املتقاطعة واملـتـنـائـيـة، إلـى مـتـوالـيـة لــوحــات ومـنـحـوتـات وتـنـصـيـبـات ينتظمها نـسـق بــصــري، يـضـمـر رؤيــــة، تــغــوي جـامـعـي األعــمــال الفنية. الوسيطان معًا منتسبان إلى تقاليد مهنية، لها مهاراتها وحدوسها الفارقة، ليس من شأنها الزيادة في املنت، وإنما اإلعالء من الكيف املتقن، كالهما متصل بالصيغة، التي تلتبس بالجوهر، تلك التي تقتضي صرامة مع الــذات، وكالهما أيضًا وافـد من عالم برزخ بي املعرفة الجمالية ومـهـارات التسويق، األمــر الذي يفترض أن يمتلكا معًا حساسية خاصة تجاه منطق العرض، بما يصون الكاتب والفنان والناشر وصاحب الرواق من أقدار الخيبة والسقوط. فـــي مــقــال المــــع لـلـنـاقـد الــفــرنــســي لـــــوران بــوديــي بعنوان: «الكيراتور: املهنة الجديدة بعالم الفن» تحدث عــمــا أســـمـــاه بــ«مـفـهـمـة املــــعــــارض»، وإكــســابــهــا عمقًا فكريًا، في اآلن ذاتـه الـذي لم يستبعد هاجس القيمة، فـي عالم استفحلت فيه األساليب االختراقية، أمـر له عالقة باملزاج العام، وبالذوق غير املستقر، الذي يطول املـشـهـد الـبـصـري، وبـالـقـدر ذاتـــه الــســرديــات اللفظية، حيث املحرر، بمعنى ما، يعيد تركيب صيغة العرض، بناء على مفاهيم غير مستقرة، وذائقة متحولة. في هذا السياق تحديدًا ال يمكن تمثل القيّم الفني (الكيراتور) الــذي يعود عمره االفتراضي إلـى أقـل من عــمــر املـــحـــرر األدبـــــي بــقــرن ونــصــف مـــن الـــزمـــان (عـلـى األقل)، إال بما هو تنويع على صيغة التحرير املرتبطة بالصحافة، وبأساليب تكييف املعلومات واألخـبـار، ضمن خط تحريري، ففي النهاية ال يتحقق عمل قيم املعارض من دون تكييف وترتيب وسعي إلى اإلقناع، مــنــذ أن ابـــتـــدع الــســويــســري هـــارالـــد ســزيــمــان صيغة «النيابة عـن الفناني» فـي تنظيم الـعـروض ومنحها عناوين، وصيغًا ورقية مرافقة، تقول ما يتوق املشاهد لفهمه. ولعل ما يلفت االنتباه ألول وهلة هو أن التداول املــهــنــي لــلــمــحــرر والـــكـــيـــراتـــور لـــم يــكــن تـــجـــاوز معنى املــســاعــدة فـــي الـتـعـبـيـر عـــن رؤى أشـــخـــاص قـاصـريـن، في حـدود معينة، لقد كـان الكيراتور منتدبًا قضائيًا ملساعدة العاجزين، مثلما أن املحرر لم يكن سوى كاتب عمومي، يصوغ رسائل وشكايات لغير املتعلمي، إنها مهارات تتوخى، في املحصلة، تمثيل من ال قـدرة لهم «على الدفاع عن مصالحهم»؛ وكأنما ثمة عماء أصيل في اإلبداع، مهما ارتفعت قيمته، يستلزم «هداية»، قد تمتد من خطأ في العبارة الروائية إلى تلف في سند اللوحة. والـــحـــق أنـــه قـــد يستطيع روائـــيـــون راســـخـــون أن يكتبوا أعمالهم ويـراجـعـوهـا ويـعـرضـوهـا على قـراء من مقامات شتى، وقـد يأخذون برأيهم، أحيانًا، وقد يخالفونهم الــــرأي، أحـيـانـ عــديــدة، وقــد يمضون إلى أقــرب نـاشـر، مقتنع بعدم التدخل فـي املـعـروض عليه لنشره، وقد تنجح الرواية، وتحقق األثر املرغوب، كما قد ال يكون لها أي صدى، شيء شبيه بآالف املعارض التي هي مجرد محالت لبيع األعمال الفنية، يرتجلها فنانون برغبة فـي التخلص مـن مجهود استمر زمنًا طويالً، تتداخل فيها األعمال وتبدو متنابذة ودونما حاجة ملجاورة ملفقة، لهذا ال تتطلب نصوصًا هادية. إن عــ قــة الــكــاتــب والـــرســـام بـأعـمـالـهـمـا تـنـطـوي على عواطف وانحيازات وأوهام، تجعل املكتوب والبصري عرضة ألي قـدر بعد خـروجـه، وتـطـوع كليهما للقيام بــــدور الـــوســـاطـــة، تـــجـــاوز مـخـل إلـــى مـــا ال يـفـتـرض أن يقوما به، فهما معًا ليسا متلقيي محايدين، وغالبًا مـا تـكـون لديهما حساسية شـديـدة تـجـاه الـحـذف، أو اإلضافة. فــــي أمـــثـــلـــة عــــديــــدة عـــلـــى امــــتــــداد مـــســـار الــــروايــــة العربية، يمكن أن نقف عند اسـم شخصية يتغير في نص، أو حوار خاطئ، أو انقالب في وقائع ال منطق لها، أو تحول في صيغة السرد من وجهة نظر إلـى أخرى ال يتحمله املـبـنـى الـــســـردي... يـحـضـرنـي هـنـا مـثـاالن شــهـيـران لــم يـتــجــاوز فيهما الــنــص عـتـبـة الـثـ ثـمـائـة صفحة، أولهما فـي روايـــة «حـيـوات مـتـجـاورة» ملحمد برادة حي تبدّل اسم شخصية رئيسية في أحد مقاطع الفصل األخـيـر مـن «عبد املـوجـود الــوارثــي» إلـى «عبد الواحد الـوارثـي»، والثاني في روايــة «هـرة سيكيردا» لرشيد الضعيف، حيث تحولت شخصية «سـوسـا»، فــي إحـــدى الـفـقـرات الــعــابــرة، مــن خــادمــة فلبينية إلـى خـــادمـــة حــبــشــيــة؛ هـــــذان مـــثـــاالن لــكــاتــبــن مـتـحـقـقـن، لــم يـتـدخـل فيهما املــحــرر، ويـمـكـن الـعـثـور فــي نـمـاذج أخــــرى عـلـى عـــشـــرات املــشــاهــد الـــزائـــدة والـشـخـصـيـات الـتـي ال وظـائـف لـهـا. وآالف األخــطــاء املتعلقة باللغة والتاريخ والحقائق الجغرافية واإلثنية واالجتماعية. هـي تفاصيل قـد تتوه فـي ثنايا املـ املمتد، وأحيانًا يلتقطها النقاد، بينما هي من صميم عمل املحرر الذي يقدم الصيغة املشذبة واملراجعة للنشر. للمحرر سلطة على الروائي يستمدها من دار النشر، يمكن أن يقترح عـنـوانـ أدق، ومـسـاحـة أجـــدى وحـبـكـة أكـثـر تماسكًا، وهو موضع ثقة الروائي والناشر على حد سواء، ألن هدفه هو تحويل العمل التخييلي إلى منتج رابح. لهذا يمكن أن نستعرض عددًا كبيرًا من قصص األخذ والرد بي روائيي ومحررين في قائمة طويلة تشمل نجومًا مـن فيليب روث إلــى لوكليزيو، مـن تـومـاس مــان إلى دوريس ليسينغ. لــكــن إذا كــــان املـــحـــرر وســيــطــ أســاســيــ فـــي عـالـم النشر، فإنه مـع ذلـك لـم يتحول يومًا إلـى اسـم علم له شهرة وصيت يضاهي اسم الكاتب، بينما تحول القيم الـفـنـي، فـي أروقـــة الـفـن عبر الـعـالـم إلــى سلطة عاتية، تصنع األســمــاء وتــبــرز األهــــواء واألســالــيــب، وتقترح على املشهد الفني وعلى أسواق الفن عالمات جديدة، دون أن يعني ذلك أنه قد ال يتحول بحكم وظيفته إلى مجرد مساعد للفنان، ففي تصريح ال يخلو من تذمر، أورده الـبـاحـث الـفـرنـسـي إيـمـانـويـل أوكــــو عــن «مهنة الـكـيـراتـور األكــثــر حــداثــة فــي عـالـم الـــيـــوم»، تـــرى قيّمة املعارض غاييل شاغبو أن : «حوارنا مع الفنان ينتقل غالبًا من الجمالي إلـى األسئلة األكثر جوهرية. لكي تكون قيمًا للمعارض، من األفضل معرفة كيفية الرد على رسـائـل البريد اإللكتروني الخاصة بالفنان في منتصف الليل ووضع جدول بيانات ممتازًا، بدال من التشدق فقط بمعرفتك بتاريخ الفن». شرف الدين ماجدولين رشيد الضعيف الحقته المخابرات األميركية في كل مكان حتى في مستشفى األمراض العقلية لماذا انتحر إرنست همنغواي؟ كان الكاتب األميركي إرنست همنغواي قــــد نـــشـــر ثــــــ ث أو أربـــــــع روايــــــــــات مــتــتــالــيــة أمّــنـت لـه املجد األدبـــي مـن كـل أبـوابـه. وكانت .)1926( » أوالهــــــــا: «الـــشـــمـــس تـــشـــرق أيــــضــــ وقــــد نــالــت شــهــرة واســـعـــة وحــظــيــت بـأفـضـل املبيعات. وهي تعد إحدى أعظم روايات اللغة اإلنجليزية في القرن العشرين. وفيها يصور لنا الكاتب أجواء باريس بكل دقة في فترة ما بـن الحربي العامليتي. إنـه يتحدث لنا عن ذلك الجيل الضائع، جيل االحتراق والعبور، الـذي عاش أهـوال الحرب العاملية األولـى ولم يستطع نسيانها. نشر همنغواي رائعته 1929 ثم في عام الـــثـــانـــيـــة «وداعــــــــ أيـــهـــا الـــــســـــ ح». وقـــــد بـيـع منها خـــ ل أربــعــة أشـهـر فـقـط مــا ال يـقـل عن ثماني ألــف نسخة. ثـم تحولت بسرعة إلى مسرحية تمثيلية، ثـم إلــى فيلم سينمائي، وانهالت عليه الشهرة العريضة من كل حدب وصوب. وكذلك األموال والفلوس. وراح يدلي بــاملــقــابــ ت الـصـحـافـيـة لــلــجــرائــد األمـيـركـيـة والعاملية وتحول إلى نجم النجوم. وقد صرح ألحد الصحافيي بأنه كتب الصفحة األخيرة مرة. وفي كل مرة كان يشطبها 39 من روايته قــبــل أن تـعـجـبـه أخـــيـــرًا فـــي املــــرة األربــــعــــن... وهــي تشبه الـسـيـرة الـذاتـيـة. وفيها يتحدث عن الحب والحرب واملمرضة اإليطالية التي عــالــجــتــه وشـــفـــتـــه مــــن جـــــرح خــطــيــر كـــــان قـد أصيب به على الجبهة في نواحي ميالن أثناء الحرب العاملية األولى. ولكن املشكلة هي أنها جرحته جرحًا خطيرًا من نوع آخر: لقد لوعته حبًا وغـرامـ . وهــذا الجرح الثاني ال عـ ج له وال شفاء منه. نــشــر رائـــعـــتـــه الــكــبــرى 1940 وفــــي عــــام الـــثـــالـــثـــة «ملـــــن تـــقـــرع األجـــــــــــراس؟»، وهـــــي عـن الحرب األهلية اإلسبانية. وقـد نالت نجاحًا فوريًا مدويًا. وبيعت منها مليون نسخة بعد عـام واحــد فقط مـن ظهورها. مليون نسخة! ثـــم قــبــض مــبــلــغ مـــائـــة وخــمــســن ألــــف دوالر عــلــى تـحـويـلـهـا إلــــى فـيـلـم سـيـنـمـائـي. وهـــذا رقـــم قـيـاسـي فــي ذلـــك الـــزمـــان. ولـــم يـسـبـق أن نـالـه أي كـاتـب آخــر أمـيـركـي أو غير أميركي. وهو الـذي اختار املمثل غـاري كوبر واملمثلة أنغريد بيرغمان لكي يلعبا دور بطل الرواية تـــصـــدر رائــعــتــه 1952 وبــطــلــتــهــا. وفـــــي عـــــام الكبرى الرابعة «الشيخ والبحر». وقـد نالت نجاحًا هائال وفوريًا. وربما كانت هذه آخر ضربة عبقرية وأكبر ضربة حققها همنغواي في ساحة العمل الروائي. وقد توج همنغواي بـجـائـزة «نــوبــل لـــــآداب». لكنه لم 1954 عـــام يـكـلـف نـفـسـه عــنــاء الــســفــر إلــــى اسـتـوكـهـولـم لـتـسـلـمـهـا. فـــأرســـل لــهــم كــلــمــة قــصــيــرة جــدًا قُرئت بالنيابة عنه. وكان مما قاله فيها: «إن حياة الكاتب هي حياة متوحدة أو وحيدة. إنـه يشتغل ضمن أجـــواء مطبقة مـن الوحدة والعزلة والصمت. وإذا كـان كاتبًا جيدًا بما فيه الكفاية فإن عليه أن يواجه كل يوم مسألة وجــــــود األبــــديــــة أو عـــــدم وجـــــودهـــــا. بـمـعـنـى آخــر فــإن ســـؤال املـــوت ومــا بعد املـــوت، سـؤال الخلود أو الفناء الكامل سـوف يظل يالحقه باستمرار». هــكــذا نــكــون قــد عــدنــا إلـــى مـسـألـة السر األعـظـم أو اللغز األكـبـر الــذي ال يعطي نفسه ملخلوق على وجه األرض. سؤال بال جواب؟ ولــــكــــن يـــبـــقـــى الـــــســـــؤال مــــطــــروحــــ : ملــــاذا يـنـتـحـر كــاتــب حـقـق كـــل هـــذا الــنــجــاح األدبـــي غير املسبوق؟ ملاذا ينتحر بعد أن نال «جائزة نــــوبــــل» ووصـــــــل إلـــــى قـــمـــة األدب األمـــيـــركـــي والعاملي؟ ملاذا ينتحر بعد أن حققت رواياته مـبـيـعـات خـيـالـيـة ودرت عليه املـــ يـــن؟ ملــاذا ينتحر وهو في عز الشباب: ستون سنة! كان يمكن أن يعيش منعمًا مرفهًا عشرين سنة أخــرى أو حتى خمسًا وعشرين. وهـي أجمل ســنــوات الـعـمـر، ســنــوات الـتـقـاعـد، خصوصًا إذا كنت تمتلك كل هذه املاليي من الدوالرات املتراكمة على حسابك البنكي. إنه تقاعد من ذهب... ولكن إذا عرف السبب بطل العجب. يوليو (تموز)، 2 وفي يوم 2011 في عام أي بعد خمسي سنة بالضبط مـن انتحاره نشرت جريدة «النيويورك تايمز» خبرًا مثيرًا سـرعـان مـا انفجر كالقنبلة املـوقـوتـة. مفاده أن الرجل لم ينتحر اختيارًا وإنما اضطرارًا. فـقـد كـــان مـ حـقـ مـــن قـبـل عــمــ ء املــخــابــرات األميركية (إف بي آي)، وذلك بتهمة التعامل مع النظام الكوبي. وللتدليل على هذا نشرت الجريدة األميركية الشهيرة رسالة لصديقه هــارون إدوارد هوتشنير. وهـي رسـالـة ألقت أضـــــــواء جــــديــــدة عـــلـــى املــــراحــــل األخــــيــــرة مـن حياة إرنـسـت همنغواي. مــاذا يقول صديقه الشخصي في هذه الرسالة التي قلبت األمور رأسًا على عقب. إنه يقول ما معناه: في أحد األيام اتصل بي همنغواي وهو في حالة من االضــطــراب ال تُــوصــف. وقـــال لـي بـأنـه متعب جدًا من الناحية النفسية والجسدية. وفهمت مـنـه أنـــه يعيش حـالـة هـلـع وأنـــه بـحـاجـة ألن يراني. فذهبت فورًا للقياه وعندئذ كشف لي السر الخطير الـذي يؤرقه ويقض مضجعه. قـــال لـــي: أنــتــم ال تــعــرفــون مــــاذا يـحـصـل لـي؟ أنــا فـي خطر يـا جـمـاعـة. أنــا مـ حـق مـن قبل املـخـابـرات لـيـ نـهـارًا فـقـط. تليفوني مراقب وبريدي مراقب وحياتي كلها تحت الرقابة. أكاد أجن! ثم يضيف صديقه في الرسالة قائالً: ولــكــن املــقــربــن مـنـه لـــم يـلـحـظـوا وجـــود أي بــرهــان عملي عـلـى ذلـــك. ولــذلــك اعـتـقـدوا أنــــه أصــيــب بــمــرض الـــبـــارونـــايـــا: أي الـــذُهـــان الهذياني أو الهلوسات الجنونية. لقد غرق الكاتب الشهير في هوس اإلحساس الوهمي بأنه مالحق من قبل أجهزة املخابرات. فأين هي الحقيقة إذن؟ هل كان مالحقًا فعال أم أنه كان موسوسًا عقليًا ومتوهمًا بأنه مالحق؟ ومعلوم أن أحـد النقاد كـان قـد اتهمه سابقًا بـــعـــد أن تـــعـــرف عــلــيــه بـــأنـــه مـــصـــاب بــمــرض العُصاب الجنوني والهستيريا الشخصية. وإال مـــــن أيـــــــن جــــــــاءت كـــــل هـــــــذا اإلبــــــداعــــــات العبقرية؟ فيما بعد كشفت األرشـيـفـات أن رئيس املخابرات إدغـار هوفر الذي كان يرعب حتى رؤساء أميركا كان قد وضع بالفعل همنغواي تـــحـــت املـــراقـــبـــة والـــتـــنـــصـــت بــتــهــمــة الــتـعــامــل مـــع جــهــة أجــنــبــيــة مـــعـــاديـــة. ولـــذلـــك الحـقـتـه املــخــابــرات فــي كــل مـكـان حـتـى فــي مستشفى األمـــــراض الـعـقـلـيـة، بــل وحــتــى عـلـى شـواطـئ البحار حيث كان يعشق التنزه. لقد أرهقوه فعال باملالحقات حتى جننوه ودفعوه دفعًا إلـى االنتحار. واألنـكـى من ذلـك أنهم اتهموه بــأشــيــاء ال عــ قــة لـــه بــهــا. مــــاذا تستطيع أن تفعل إذا غلطت بــك إحـــدى الـجـهـات ولعنت أســــ فــــك وأنــــــت بــــــريء كــلــيــ مـــمـــا يـــظـــنـــون أو يتوهمون؟ هذا ما حصل إلرنست همنغواي عـلـى مـــا يـــبـــدو. وبـالـتــالــي فـقـد ذهـــب ضحية عبث األقــدار االعتباطية أو غلطات الوجود. لــقــد غــلــطــوا بـــه مـــكـــان شــخــص آخـــــر. املــجــرم الحقيقي نجا بجلده والبريء دفع الثمن! مــاذا نستنتج مـن كـل ذلــك؟ نستنتج ما يلي: أن تكون عبقريًا مشهورًا فهذا يعني أنك قـد دخـلـت فـــورًا فـي الــدائــرة الـحـمـراء للخطر. ســـوف تــنــزل عـلـى رأســــك الـــنـــوازل غـصـبـ عن أبـــيـــك. يــقــول الـفـيـلـسـوف الـفـرنـسـي املــعــروف ميشيل سير: لقد درست سيرة حياة مشاهير 400 عــلــمــاء فــرنــســا وفــ ســفــتــهــا عــلــى مـــــدار سـنـة مـتـواصـلـة ولـــم أجـــد واحــــدًا منهم عـاش مــرتــاح الــبــال. كلهم كــانــوا مـعـرضـن للخطر بـشـكـل أو بـــآخـــر وأحـــيـــانـــ لـخـطـر االغـــتـــيـــال. نستنتج أيضًا أن ضريبة العبقرية والشهرة غــالــيــة جــــدًا. فــالــكــثــيــرون جــنــوا أو عـــانـــوا أو نُـــحـــروا أو انــتــحــروا بـسـبـبـهـا. لـقـد احـتـرقـوا لكي يضيئوا لنا الطريق. وبالتالي فإذا كنا نريد أن نعيش مرتاحي البال فمن األفضل أن نكون أشخاصًا عاديي كبقية البشر ال أكثر وال أقـــل. كنا نعتقد أن العبقرية أو الشهرة نعمة فإذا بها نقمة حقيقية. تقريبًا ال يوجد عبقري واحد إال ودفع ثمن شهرته عدًا ونقدًا بشكل أو بـآخـر: املتنبي قُــتـل فـي الخمسي، ابــــن ســيــنــا مــــات عــلــى األرجــــــح مــســمــومــ في السابعة والخمسي، جـمـال الـديـن األفغاني مات مسمومًا في اآلستانة عند الباب العالي وهو ملا يبلغ الستي، عبد الرحمن الكواكبي قــتــلــه الـــبـــاب الـــعـــالـــي أيـــضـــ فـــي الـــقـــاهـــرة عن طريق فنجان قهوة صغير وهو في السابعة واألربعي. ديكارت مات مسمومًا في السويد وهــو فـي الـرابـعـة والـخـمـسـن، وذلـــك على يد كــاهــن أصـــولـــي كـاثـولـيـكـي دس لـــه الــســم في الـــقـــربـــان املــــقــــدس! الـــدكـــتـــور مــحــمــد الــفــاضــل رئيس جامعة دمشق وأحد أساطي القانون السوري والعاملي سقط مضرجًا بدمائه تحت وابل من رصاص الطليعة املقاتلة لـ«اإلخوان املـــســـلـــمـــن» وهـــــو فــــي الـــثـــامـــنـــة والــخــمــســن. والـقـائـمـة طــويــلــة... عـنـدمـا نكتشف كــل ذلـك نتنفس الصعداء ونحمد الله ألـف مـرة على أننا لسنا عباقرة! هاشم صالح همنغواي في مكتبه ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنّوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها محمد برادة

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==