issue16687

أتمنى أن تُعطى أهمية كبرى لدور المحرر األدبي في الوطن العربي الثقافة CULTURE 18 Issue 16687 - العدد Monday - 2024/8/5 االثنني أنطولوجيا متعددة األجيال ضمت أحد عشر كاتبا وكاتبة عام من القصة التشيلية 100 بصدور أنطولوجيا القصة التشيلية املعاصرة، املـــوســـومـــة بــــ«لـــو ملــســت أوتــــــار قــلــبــي» - دار خـطـوط ، يــكــون املــتــرجــمــان املـغـربـيـان 2024 - وظـــــال، عـــمّـــان سعيد بنعبد الــواحــد وحـسـن بوتكى قـد أضـافـا إلى املـكـتـبـة الـعـربـيـة كـتـابـا جــديــرًا بـالـتـنـويـه واالهــتــمــام. وهـو يجيء ضمن سلسلة إنجازاتهما ومبادراتهما املتميزة، بشكل فــردي أو مشترك، فـي مـجـال ترجمة األدب املكتوب باإلسبانية أو البرتغالية إلى العربية. تكمن أهمية هذه األنطولوجيا، بالدرجة األساس من الحاجة إليها، ملجهولية فن القصة التشيلية، للقارئ العربي عموما، على الرغم من أهمية املنجز القصصي التشيلي وتــمــيــزه، حـتـى بالنسبة إلـــى واقــــع القصة فــي بقية دول أمـيـركـا الـاتـيـنـيـة، وكـمـا تـؤكـد مقدمة األنطولوجيا، فإن «القليل هم من يعرفون إسهام األدب التشيلي في تطوير جنس القصة القصيرة في أميركا اللتينية»، أي ما يعطي لهذا األدب دور الريادة. من هنا يكتسب عمل مثل هــذا أهمية مضاعفة، ففضل عـن مهمة التعريف بـهـذا الجانب الحيوي مـن األدب التشيلي، وتقديم نـمـاذج قصصية مهمة فـي ذاتها، فــإنــهــا مــثّــلــت فـــي اآلن نــفــســه، فـــتـــرة زمــنــيــة شـاسـعـة زادت على الـقـرن. وإذا ما بـدا عـدد الكتاب املختارين محدودًا، وهم أحد عشر كاتبا وكاتبة، بواقع قصة لكل كاتب، فإن ذلك لم يحُل دون تمكني القارئ من إطللة بانورامية على املشهد القصصي التشيلي املترامي زمنيا، حتى مع اإلقــرار بوجود بعض النقص، مثال ذلـــك غــيــاب كــاتــب مـهـم وأســـاســـي فـــي املـشـهـد األدبـــي التشيلي هــو الـــروائـــي والـــقـــاص «مــانــويــل روخــــاس» الـذي تعرّف عليه القارئ العربي من قبل عبر روايته املهمة «ابــن لــص». لكن تبقى لكل مختارات ظروفها وأسبابها في حضور كاتب وغياب آخر. اسـتُــهـلّــت األنـطـولـوجـيـا بـالـكـاتـب «بـالـدومـيـرو لـــيـــو»، وهــــو أحــــد رواد الــقــصــة الــتــشــيــلــيــة، إذ صــدر أربــــع مـجـمـوعـات قـصـصـيـة، وهـو 1904 لـــه مـنـذ عـــام يُــحــســب، نــقــديــا، عــلــى املــذهــب الطبيعي، واهتم في نصوصه بـــ«مــواضــيــع اجـتـمـاعـيـة، مثل الـظـلـم، واســتــغــال الـعـمـال في املــــنــــاجــــم، والــــحــــيــــاة الـــقـــرويـــة الـــقـــاســـيـــة»، وســـــوى ذلـــــك، كما جــــاء فـــي الـصـفـحـة الـتـعـريـفـيـة املـوجـزة بالكاتب التي سبقت قــصــتــه، والـــتـــي ذكـــــرت أيــضــا، بــــــأنــــــه يـــــصـــــف الــــــــواقــــــــع بــــدقــــة بُـــغـــيـــة فـــضـــحـــه. وهـــــو مــــا كـــان فـــي قــصــتــه املـــخـــتـــارة هــنــا من مــــجــــمــــوعــــتــــه األولـــــــــــــى «تــــحــــت األرض»، واملعنونة بـ«البوابة »؛ إذ تــتــعــرّض القصة 12 رقـــم إلى عالم عمال املناجم القاتم، بـــاملـــعـــنـــى الــــحــــرفــــي، فـــالـــظـــام العميق أبعد مـن أن يُــبـدّد بمصابيح هـي على وشك االنـــطـــفـــاء، بـتـعـبـيـر الـــقـــصـــة، والـــســـخـــام الـــــذي يحيط بـالـعـمـال هــو مــن صـلـب األجـــــواء الـخـانـقـة الـتـي نجح الكاتب فـي تصويرها بحرفية وعمق كبيرين، وهو يعالج موضوعاته الرئيسية واملتعلقة بعمل األطفال فــي املـنـاجـم، مــن خـــال شخصية الـطـفـل «بـابـلـو» ذي الـثـمـانـي ســنــوات، ومـــا يعنيه ذلـــك. ويـنـجـح الـكـاتـب، فضل عن وصـف املكان وأجـوائـه، في وصـف املشاعر اإلنسانية املتضاربة لكل من «باولو»، وما ينتابه من خـوف وأفكار حيال املكان، ومـا يبعثه فيه من رهبة، ومن ثم األب ومسؤول العمل، وترددهما في تشغيل الـطـفـل مــن عــدمــه، كـاشـفـا عــن مــقــدرة عـالـيـة فــي سبر نفوس أبطاله، وما يعتمل فيها من هواجس والتعبير عن كل ذلك ببراعة. رهافة وحرفية امتازت القصص اإلحدى عشرة التي شكّلت مادة الكتاب، برهافة الصنعة القصصية وحرفية كتابها العالية، وهو االنطباع األهم الذي يراود القارئ ما إن يفرغ من قراءة كل قصة من القصص. وإذا كان هناك من تفاوت في املوضوعات، بطبيعة الحال، فلم يكن مـن تـفـاوت على صعيد التقنية القصصية املُحكمَة. حتى في حال عدم االتفاق مع الثيمة األسـاس لقصة ما أو الشعور ببطء السرد فيها، كما في قصة الكاتب «خورخي إدواردز»، املعنوَنة «النظام العائلي»، وهي صفحة منه، لكن 30 أطول قصة في الكتاب، فقد احتلّت لم تكن لتخرج، بـدورهـا، عن دائــرة اإلبـــداع واإلحكام التقني، والضرورة أيضا تقتضي هنا اإلشارة إلى أن هذه هي القصة الوحيدة التي يمكن تسجيل امللحظة اآلنــفــة عـلـيـهـا. عـــدا عــن ذلـــك ال يـمـكـن إال وصـــف بقية القصص بالتفوّق وبقوة تأثير املوضوعات املتناولة فيها، التي ال يمكن لقارئها نسيانها ملـا حملته من شحنات إنسانية وملـا اتشحت بـه مـن إهــاب جمالي. وكما تشير املقدمة بما معناه، أن الكتّاب املختارين هنا لم يُولوا اللعب السردي املجاني اهتمامهم، قدر اهتمامهم بما هو إنساني، وكأنهم بذلك «أكثر جدية وأكثر انشغاال بهموم اإلنسان»، من بقية كتاب القصة في مختلف أنحاء القارة اللتينية. فـــي هــــذا الـــشـــأن يـمـكـن اسـتـحــضــار عـــنـــوان أكـثـر مــن قــصــة، وقـــد تــكــون فــي مـقـدمـة ذلـــك قـصـة إيـزابـيـل الليندي، التي منحت عنوانها الشاعري لألنطولوجيا «لــو ملست أوتـــار قلبي»، التي يمكن أن تكون شاهدًا مــتــقــدمــا عــلــى شــعــريــة الـــقـــص، مـــن الــنــاحــيــة الـفـنـيـة، ومــثــاال عـلـى تــوحّــد الـكـاتـبـة هـنـا، أو الـكـاتـب عموما، مـــع قــضــايــا املــجــتــمــع، لـنـاحـيـة املـــحـــتـــوى. لــقــد قـدمـت الليندي من خلل نموذج «أورتينسيا» صورة مروّعة ملا يمكن أن يؤدي إليه االستبداد والفساد من مظالم، و«أورتـــيـــنـــســـيـــا» هــــذه يــمــكــن أن تــصــلــح رمـــــزًا لــواقــع أمـيـركـا الـاتـيـنـيـة، عـمـومـا، حـيـث تُــخـتـطـف وهـــي في سن الخامسة عشرة، وتُحتجز ملا يقارب نصف قرن في قبو من قبل «أماديو بيرالتا»، الذي يمثّل صورة عـن االنـحـال األخـاقـي بوصفه فــردًا ومـثـاال للسلطة املتعسفة، الحـقـا. إذ لفتت انتباهه للمرة األولـــى من خــال عزفها، وهــو مـا قلب حياتها رأســـا على عقب. إن الـسـنـوات املـديـدة التي عاشتها «أورتينسيا» في قبو محرومة من ضوء الشمس ومن الهواء النظيف، بل باألحرى من كل مستلزمات الحياة، حوّلتها إلى نوع من مسخ كما برعت الكاتبة في تصويرها، فقد تحطّم جسدها بالكامل ســوى يديها اللتني سلِمتا بسبب مواصلتهما الـعـزف، ومــا فـي ذلــك مـن رمـزيـة، وهـو شبيه بـاإلشـارة البليغة للكاتبة، لحظة العثور على «أورتينسيا» وتحريرها بأن ما كان يؤكد أصلها اآلدمي فقط هو آلة القانون التي تحضنها. أجيال متعددة لـقـد سـبـقـت اإلشــــــارة بــأنــه ال يـمـكـن لـــقـــارئ هـذه الـــقـــصـــص نــســيــانــهــا، لــطــبــيــعــة مـــوضـــوعـــاتـــهـــا أوالً، ولـإطـار الفني االحـتـرافـي الــذي وضعها فيه كتابها وكـــــاتـــــبـــــاتـــــهـــــا. مــــــن بــــــ هــــذه الــــــقــــــصــــــص قــــــصــــــة «ســـــــيـــــــدة» لـــلـــكـــاتـــب خــــوســــي دونـــــوســـــو، الــذي يتم التعريف به بصفته «أكبر روائـي تشيلي في القرن الــعــشــريــن». بــــدءًا يـمـكـن الـقـول عــن الـقـصـة إنـهـا مـشـوّقـة، ذات طـــابـــع شـــعـــري، ولـــيــس املـعـنـي بــــذلــــك الـــلـــغـــة، فـــمـــســـألـــة الــلــغــة قــابــلــة لـــلـــجـــدل، لــكــن املــقــصــود هنا بالشعري هو بنية القصة ذاتــــهــــا، والـــــــروح املــبــثــوثــة في القص والتفاصيل الحية التي جــــعــــلــــت حــــتــــى مــــــن هــــواجــــس البطل الداخلية وأحلمه شيئا مجسدًا، مرئيا. تتحدث القصة ذات البعد الفلسفي عن شعور البطل الذي هو الـراوي نفسه، بأن املشهد املاثل الذي يعيشه ويصفه للقارئ قد عاشه من قبل أو حلم به. هـــذه الـفـكـرة الـرئـيـسـيـة الـتـي قـامـت عليها الـقـصـة أو انطلقت منها هي فكرة فلسفية باألساس، وقد تعرّض لـهـا سـبـيـنـوزا مــن قـبـل، مسميا هـــذا الـشـعـور «ذكـــرى الحاضر». يستثمر الكاتب طاقة هذا الشعور الخفي لينشئ نصا من أجمل نصوص السرد القصصي، ال سيما العلقة الغامضة والحلمية بني البطل والسيدة املجهولة التي يصادفها في عربة «الــتــرام»، رغـم أنه ليس مـن علقة تنشأ بـ االثـنـ ، ولــم يتبادال حتى مجرد كلمة، لتغدو القصة بكاملها مساحة للتعقب والترقّب من قبل البطل، ويتدفق السرد هادئا حتى النهاية، نهاية السيدة عندما تخيّل البطل موتها حني قرأ في الجريدة نعيا لسيدة تُدعى «إستر أرانثيبيا»، رغــم أنــه ال فكرة لديه مطلقا عـن اسمها، وهــذا أغـرب موقف في القصة، لينتهي إلى القول إنه يُخيّل إليه أنه قد عاش حدثا شبيها بهذا من قبل، كأن الكاتب أراد اإلشارة إلى دورة الوجود الغامضة امللتبسة وحُلمية ما يحيط بالبشر. ومن القصص التي يجدر التنويه بها قصة األعمى للكاتب «إرنستو النخير مورينو»، وهو إضافة إلى كونه قاصا وروائيا فهو شاعر أيضا، وله عديد من الدواوين الشعرية. في قصته «األعمى» التي يفيق بطلها ذات صباح ليجد نفسه وقد استرد بصره، ليكتشف نفسه ويتعرّف على ملمحه ومن ثم العالم، بخروجه إلى الشارع ألول مرة من دون عصاه؛ ليُصدم بالضجيج ولوحات اإلعلنات، في إشارة نقد واسـتـهـجـان، غير أن ذلــك لـم يفسد سـعـادتـه بـوالدتـه من جديد، مبصرًا. إن الفكرة في ذاتها تنطوي على طاقة شعرية، تجعل القارئ يتذوّق العالم، من خلل العينني املستردّتني ألعمى سابق! وهو يصف ما يرى بمزيج مـن الـحـرمـان والـشـغـف. وبعد أن أدّى الكاتب هذه املهمة، أي اكتشاف العالم، بمفارقاته، يعيد بطله كفيفا من جديد، إذ إن واقعة استرداده البصر لم تكن سوى حلم، مع اإليحاء بأنه كان أكثر سلما في حالته األولى! باسم المرعبي الكاتبة المصرية تقول إن الشعر هو الجوهر وكل نص طموح يؤدي إليه هدى عمران: أتسلى بمصير شخصياتي عبر لعبة ذكية مع القارئ تُــولــي الـشـاعـرة والـكـاتـبـة املـصـريـة هـــدى عـمـران شغفا الفتا باملغامرة الفنية، واالنفتاح على التجريب كلعبة تُعيد بها تشكيل الحكاية، واستكشاف عاملها الشعوري، وأسئلتها حول الذات. صـــدر لـهـا أخــيــرًا مجموعتها القصصية «حُــب عنيف» عن «الكتب خان للنشر» بالقاهرة، كما صدرت لها روايـة «حشيش سمك برتقال» التي حصلت على منحة «آفاق»، ولها عدة دواوين شعرية منها «ساذج وسنتمنتالي»، و«القاهرة»، و«كأنها مغفرة». هنا حـوار معها حـول روايتها الجديدة وتنوع الكتابة ما بني الشعر والسرد. في مجموعتك «حب عنيف» تمرُّد على الحدود بني > القصص؛ حيث تبدو بطالتها وكأنهن يتعثرن فـي حيوات بعضهن، فتتقاطع أحالمهن، ويركنب «املركب» نفسه. حدثينا عن لعبة البناء في تلك املجموعة. - لم يكن دافعي التمرد، بقدر اللعب، واهتمامي املــهــووس بـفـكـرة بـنـاء «كـــتـــاب»، والـسـعـي خـلـف فكرة الكُلية، حتى في الكتب التي أقرأها. كقارئة انتقائية ومُــقـلّــة، ال أحتفظ بــأي كـتـاب «حـلـو» فـي مكتبتي، ال يـكـفـي أن تــكــون الـــروايـــة أو املـجـمـوعـة الـقـصـصـيـة أو الـديـوان الشِّعري جيدًا، لكنني أبحث عن الشمولية، عن عالم متكامل ومعنى عميق ومجاز متعدد وفهم مــتــجــاوز لــلــحــيــاة؛ لــذلـــك حـــ أفــكــر وأنـــــا فـــي مـرحـلـة التحرير األولى من أي نص سأنشره في عملية البناء، كيف أنتقل بنصي - ســـواء كــان شِــعـرًا أو ســـردًا - من كونه مجرد «مجموعة» إلى كونه كتابا، فمثل كلمة «الـحـب» فـي حـد ذاتـهـا «ال تعني لـي شيئا بعينه، أو قد تحمل دالالت سطحية»، لكنها تكتسب بُعدًا آخر داخل كتاب متداخل، فتمتزج بمعان أخرى مثل األبوة واإليـــمـــان والـتـطـهـر والـعـنـف واملــــوت والــحــيــاة، وهنا يتشكل الـحـب فـا يصير كــأي حــب، بـل يصبح حُبي الخاص وعنفي املتفرد. لكن تصعب األمور أكثر في «مجموعة قصصية» مـحـكـومـة بـاسـتـقـالـيـة نــصــوصــهــا، فــلــم أرد لـــ«حــب عــنــيــف» أن تـصـيـر مـتـتـالـيـة، ولــــم أرد لــهــا أن تصير مجرد قصص منفصلة ال تشملها فقط وحدة الزمن، لكن أردت لها أن تحتمل شيئا أكبر شاعريا وممتعا، عن ســؤال: «مــاذا لو نقلنا فلنة في حياة فـان، ماذا لــو كــانــت لـلـمـرء حــيــوات مــتــعــددة؟» قــد تـصـبـح لعبة املرايا التي هي شاغل أساسي في تاريخ األدب، ولو أني أعتبرها لعبة أنثوية باألساس. وهكذا أردت أن ألعب لعبة ذكية مع القارئ، على أمل أن أجعله يبحث أكثر داخل هذا العالم. أن أجعله يعود إليه مرة وربما مرات أخرى، وكل مرة يعود يكتشف شيئا جديدًا كان مخفيا عنه. يـبـدو املــن الــســردي فـي املجموعة وكـأنـه هـــارب من > مت فني مواز (لوحة، صورة فوتوغرافية... إلخ) ففي إحدى القصص بدا األبطال وكأنهم يتعرفون على وجودهم في لوحة غوغان، وبطلة أخرى تستعيد إيميلي برونتي، كيف تُطورين تأثرك بالفنون بصورة متواشجة داخل كتابتك؟ - كــكــاتــبــة، أتــســلــى بـمـصـيـر شـخـصـيـاتـي، فـأنـا أيـــضـــا مــؤمــنــة بــــوجــــودي كـشـخـصـيـة خــيــالــيــة داخـــل تـلـك الـفـنـون الـتـي أحـبـهـا. حــ تلمسني وتــؤثــر فــيّ، فتعينني على فهم نفسي، وتجعلني أتــواضــع أمـام جمال الفن وتعدده، ومحدودية قدرتي لخلق كل هذه الـفـنـون، لكن أنــا وغـيـري مـن الفنانني مـا نحن سوى صنيعة هـــذا اإلرث اإلنــســانــي مــن األدب والـحـكـايـات واملـوسـيـقـى والــشِّــعــر. لــي فـنـانـي املـفـضـلـون، أحـــب أن أصحبهم معي في رحلتي. لكن دائما يُنصَح الكاتب بأال يذكر أسماء كتّاب وفنانني مشاهير حتى ال يبدو «مـسـتـعـرضـا»، وليظهر كـإنـسـان طبيعي. كـــأن بذلك تُكتسب املصداقية. لكني في لحظة ما وجـدت هؤالء األصـدقـاء يـأتـون بطرقهم التلقائية الطبيعية داخـل القصص، دون تدخل كبير مني. ال أنفصل عـن ذاتـــي حـ أكـتـب، فالكتابة كلها منبعها أسئلتي الذاتية، وأدواتــي املعرفية، وميولي وانـحـيـازاتـي الفكرية واإلنـسـانـيـة. لكنها ال تأخذني إلـى مـــدارات شخصية إال نـــادرًا، فل أكتب عن مواقف حياتية واقعية، فأفرق جيدًا بني الذاتي والشخصي؛ ألنني لست منغلقة على نفسي، وذاتـي هي وسيلتي الـــوحـــيـــدة الــتــي أمـتـلـكـهـا ألنــفــتــح عــلــى الــعــالــم وعـلـى اآلخر، للبحث عن املعرفة، والبحث عن معنى الحياة؛ لذلك طبيعي جـدًا أن أرى إيميلي برونتي أو غوغان وغيرهم يصاحبون الشخصيات الـتـي أنسجها في قصصي. في املجموعة احتفاء بنبرة الحكاية، فـاألم تجمعها > بابنها آصـرة خاصة عبر الحكايات، وهناك تناص مع «ألف ليلة» بغرابة حكاياتها وتحوالتها كما في قصة «صداقات خطيرة» مثالً. ماذا تحمل تلك اللمحات من عالقتك بالحكايات التراثية؟ - الـــحـــكـــايـــات مُــــكــــوّن أســـاســـي فـــي شـخـصـيـتـي، ليست فقط «الليالي العربية»، بقدر تربيتي في عائلة تجل الحكايات والسِّيَر الشعبية وتتغنى بها. وهذا لـيـس شـيـئـا اسـتـشـراقـيـا كـمـا يــبــدو لـبـعـض املثقفني، الذين كبروا في أحضان الطبقة الوسطى، لكنه شيء بديهي وفطري في بيئة صعيدية أو في أجواء الدلتا على ما أظن. وكان تحديا كبيرًا بالنسبة لي أن أكسر القواعد والنصائح املتعارف عليها في عالم األدب؛ ال تكتب حكاية داخل النص، ال تكتب حلما داخل النص، ال تكتب أسامي املشاهير، ال ال ال... وغيرها. هذه النصائح لها وجاهتها، وكسرها مغامرة، قد تنقل النص الجيد ملنطقة الرديء. لكن املثل يقول: «من غير املخاطرة مفيش متعة». وهكذا بروح عنيدة، رُحت أكسر كل تلك املحظورات، لكن في الوقت نفسه بأرق املسؤولية أال أقع في فخ االستسهال أو الرداءة. وُصِـــفـــت روايـــتـــك «حــشــيــش ســمــك بـــرتـــقـــال» بـأنـهـا > قصيدة نثر طويلة، ونلتقي في ديوانك «كأنها مغفرة» بشكل «القصة القصيدة»، هل تجدين في التحرر من النوع األدبـي وتصنيفاته ملحة من هُويتك األدبية؟ - أظن أن هذا الوصف عن روايـة «حشيش سمك برتقال» هو أكثر وصـف أسعدني، رغـم ما قد يعنيه من متلفظه باعتباره نقدًا سلبيا، لكنني أنحو تجاه رأي كبير يقول إن السرد الطموح يتلمس الشّعر. وهذا التلمس ال يكون بنحت اللغة، لكن بفهم أعمق لجوهر الشِّعر باعتباره مجازًا كُليا، وتكثيفا شعوريا لسؤال النص، فإن أردت أن أطرح سؤاال عن الوحدة، كما في الرواية، فليس من الشطارة إغـاق اللغة على نفسها لتصير قطعة أدبية منفصلة، لكن بشحذ هذه اللغة، ناحية الشعور واملعنى والبناء، لتؤدي جميعها إلى مجاز شامل عن الوحدة. قد يختار كاتب غيري كتابة الحكاية بأخذ مسافة محسوبة عن النص. ال عيب في أي من األسلوبني. الفيصل عندي هو األصالة. هــــذا يـحـيـلـنـا لـــســـؤال عـــن أســـلـــوب الـــفـــنـــان، وأنـــا شـاعـرة - باملعنى الــذي أسلفته - فـي رؤيـتـي وفهمي للعالم. وال أتخلى عنه لصالح ذائقة بعينها، تتوجس من الشعراء الذين يكتبون الروايات! وهكذا فإني أرى الشِّعر فـي كـل نـص وبكل طريقة. وأسـمـح لنفسي أن أكتب أي شـكـلٍ، ســواء كانت سـطـورًا أو كُــتَــا سردية، وبهذه الطريقة أدخل إلى نصوصي. الشِّعر عندي هو الجوهر، وكل نص يؤدي إليه. «العنف» ثيمة تلتقطها كتابتك بمزيج من الهشاشة > والتعقيد؛ حيث «غضب يخبئ الضعف، وعنف يخبئ العنف، وعنف يخبئ الحب»، كيف تستكشف أعمالك العنف؟ - العنف سؤال أساسي في أعمالي. وقد أتوسع فـيـه داخـــل رســالــة املاجستير الـتـي أحـضـرهـا حاليا. يمكن بنظرة أنثوية على العنف، باعتباره شيئا أكبر من حضوره املــادي، لكن بمعناه الـرمـزي، كما يعرفه املفكر الفرنسي بيير بيرديو، حـول علقات الهيمنة والسلطة، وفرض رؤية للعالم. وأحب أن أشرحه بعقل شاعر وفنان، فأجسده في قصصي باعتباره طريقة للتواصل والهزيمة والعاطفية واملتعة. ال من منطقة الرثاء على الذات أو الرثاء على املرأة. رغـــم انـتـمـائـك واعـــتـــزازك بـأصـولـك الـصـعـيـديـة، فـإن > الـعـاصـمـة الـقـاهـرة تـبـدو مـركـزيـة فــي أعــمــالِــك، هــل تجدينها مُعادال ملشاعِر الوحدة والتهميش؟ - ال أعتبر القاهرة معادال للوحدة والتهميش، بل أراها ملعبا كبيرًا، نلهو ونحيا فيه، تحتمل كل معنى وكل شعور، بداية من الوحدة، مرورًا باألُلفة والعنف والفن إلى املعاني األكبر كجدوى الوجود ذاتـه؛ لذلك أنا أدخل لعالم القاهرة بقلب دَخيل ومندهش ومغامر دائما. بـــــدأت ديـــــوان «كــأنــهــا مــغــفــرة» بـالـحـديـث عـــن املـحـو > والنسيان، وصــوال لنقطة «كـل ما أريــده هو استعادة الزمن، امتالكه مـن جـديـد كــأن كـذلـك تـكـون املــغــفــرة»... حدثينا عن مجاز الحياة واملغفرة بني املحو واالستعادة هنا. - تشغلني دائما فكرة «املغفرة» كمعنى أساسي لــــوجــــودي. وكـــنـــت ســابــقــا أفـــكـــر فـــي أن الــنــســيــان هو وسـيـلـتـي؛ لــذلــك أنــحــو إلـــى املــحــو وتـضـيـيـع األشــيــاء واملــــوجــــودات. لـكـن رحـلـتـي داخــــل الـــديـــوان جعلتني أستكشف دوراني حول الزمن، في محاولة الستعادة لحظات الشقاء والـحـزن واستبدالها بالشِّعر والفن. ولــتــمــام صِـــدقـــي، فـهـمـت أن عــلــي املــغــفــرة مـــن منطقة التسليم بضآلة وجودنا في الحياة، وبحقيقة فنائنا، ومـــحـــاولـــة الــســيــر مـــع الـــزمـــن ال بــاســتــدعــاء املـــاضـــي. شــعـور غـيـر مــســتــدرك، قــد يُــضـيِّــع الـشِّــعـر نـفـسـه؛ ألن هذه الحقيقة تدعو إلى التخلي. لكن يمكنها أيضا أن تضعنا في منطقة أكثر تواضعا وعزاءً. تعملني محررة أدبية، كيف تنظرين إلى الجدل حول > أهمية دور املحرر األدبـي الذي ال يزال يُثار في عاملنا العربي إلى اليوم؟ - أتــمــنــى أن تُــعــطــى أهــمــيــة كــبــرى لــــدور املــحــرر األدبـــــي فـــي الـــوطـــن الــعــربــي، فــاملُــحــرر ال يـعـيـد كتابة النص للكاتب، كما يتخيّل البعض، لكنه عني مُخلِصة تنظر للنص مع الكاتب. وفي أحيان كثيرة حني أقرأ نصوصا أحس بأنها كان ينقصها تلك العني. بعني طـائـر، كيف تتأملني صوتك ومفاوضاتك مع > الكتابة، مع بداياتك في «ساذج وسنتمنتالي» وصوال إلى «حب عنيف»؟ - ســــــؤال صــعــب جــــــدًا، لــكــنــي أحـــــب دائــــمــــا تـأمــل كـــل تــجـربــة بــعــد االنــتـــهــاء مــنــهــا، رؤيــــة عـيـوبـهـا قبل مـحـاسـنـهـا. ومــــن املــمــكــن أن أكـــــون قـــد أدركـــــت أن لي صوتا مزعجا، غير مُستأنس، يثير املتاعب؛ ألنه يريد الوصول لحقيقة وجوهر األشياء، لكن الحقيقة ليست لكل البشر. القاهرة: منى أبو النصر هدى عمران

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==